عربة عم جمعة إلى جوار الجامع الكبير كانت إحدى محطاتنا الرئيسية في رحلة الليل، ولأن وقفتنا حولها كانت غالبا ما تطول، فقد تعرفنا على بعض زبائنه، وغالبا ما كان هذا التعارف سطحيا على هامش النكات والقفشات وقضم أرغفة الفول، أما لقاؤنا بسعيد قصاقيص فقد كان مختلفا تماما.
كنا نهم بالانصراف عندما ألقى علينا سعيد السلام، فاستوقفنا عم جمعة معربا عن رغبته في أن نتعرف بسعيد، ثم أشار إليه ولم يكمل حتى رأينا سعيد ينحني مبتسما: محسوبكم سعيد. وأكمل بالإنجليزية: «بت نوت هابي.» (وهو يعني بهذا أن اسمه سعيد لكنه ليس سعيدا). واستفسر ضاحكا: البعدا مش كده برضه؟
وعلت ضحكاته تقلق سكينة الليل.
لاحظ عم جمعة امتعاضنا فتدخل قائلا: الأستاذ سعيد مدرس أول الرياضيات بالمدرسة الثانوية.
عقب أحدنا متعمدا أن يكون سمجا: مساء الهندسة يا عم.
رد سعيد: ده تفاضل منك.
وواصل ضحكاته المتقطعة الحادة. تركنا المكان غير معقبين، وواصلنا سيرنا، وأدركنا سعيد بعد عدة أمتار، وضاحكا أيضا قال: أشكالكم تثير فضولي وأنا مصر على صحبتكم، لنمض سويا إذن. وتأبط ذراعي!
ضحكته علامة مسجلة تنطلق بنغمة واحدة، وترتسم على وجهه بنفس الملامح في كل مرة مهما تغيرت المواقف، وكأنها قناع استعاره من شخص آخر أو اشتراه من أحد المتاجر. كنا مرغمين على صحبته في اليوم الأول، ثم برضانا تواعدنا على اللقاء مجددا في اليوم التالي، وسريعا ما ذابت الفواصل بيننا وأصبح عضوا في جماعتنا. قارئ جيد، لماح، ويسخر من كل شيء، يبدو بسيطا وشديد التواضع، ناقما بشدة على الأثرياء لكنه ليس بشكاء ولا بكاء. يستمع أحيانا إلى فيروز، ويمل سريعا من مشاهدة مباريات كرة القدم. لا يتابع بانتظام نشرات الأخبار والبرامج السياسية كما نفعل، ويدعي أنه غير مهتم بشئون السياسة والحكم. يطيل الإصغاء لحديث جاد ولا ينسى أبدا أن يعقب في النهاية بكلمة إنجليزية قد تكون غير ملائمة شكلا للموقف لكنها بإيجاز توحي برأيه في الأمر، يعقبها بضحكته المعهودة وما يجري على لسانه اللاذع الخفيف الظل . ينطق بالحكمة تارة وعابثا يطلق النكات تارة أخرى. أنيق في غير إسراف أناقة الشباب في أوروبا وأمريكا، وفيما عدا ملابسه فمظهره يوحي باللامبالاة والعبث؛ نظرة عينيه وشعره ولحيته ووقفته وجلسته ومشيته وحديثه وضحكاته.
تعرف واحد منا على زميل لسعيد يعمل في نفس المدرسة، فأخبرنا بما لم يخبرنا به سعيد عن نفسه: سعيد قصاقيص زعيم الرياضيات بلا منازع، عبقري لا يدانيه في الرياضيات حتى مستشار المادة في الوزارة؛ ولذا يتجنب الموجهون مناقشته في المادة العلمية ويخشون من إبداء الملاحظات على أدائه، وهم لا يستريحون إليه ويقدمون عليه من هم دونه في التقارير السنوية، ويرشحون غيره للترقية. أما زملاؤه من المعلمين فهم على العكس يحبونه ولا يخجلون من طلب مشورته في الرياضيات؛ ربما لأنه ليس منافسا لهم في الدروس الخصوصية، فهو لا يسعى إليها، وأغلب من درس له الرياضيات من التلاميذ لا يستمرون معه، فلا يبقى معه إلا النوابغ، وهم قليلون، وبعضهم أحرز مراكز متقدمة على مستوى الجمهورية في الثانوية العامة. يرفض العمل في مدارس البنات والتدريس للفتيات، ويتجنب تماما التعامل مع زميلات المهنة. يصر دائما ألا يعطي درسا خاصا لتلميذ واحد بمفرده، وأيا كان الأجر الذي يعرض عليه فهو يرفض بشكل قاطع أن يذهب إلى تلميذ في منزله، وقد عرضه هذا الموقف المتشدد لبعض المشاكل مع أولياء الأمور من وجهاء المال والسلطة.
ويتناقل زملاؤه حكايته الشهيرة مع المحافظ؛ فقد أرسل إليه المحافظ من يتفق معه على درس خصوصي لابنته، وبالطبع طلب منه أن يكون الدرس في فيلا سيادته، والأمر من كل الوجوه كان صادما للأستاذ سعيد فلم يتردد في الاعتذار. حذره البعض من مغبة هذا الرفض، وكالعادة كان هازئا يرد: هيسخطوك يا قرد يعملوك إيه؟ ناظر! أما المحافظ فقد ظن أنه معتوه، أو هكذا يخمن البعض.
অজানা পৃষ্ঠা