ولكن إسلام أبي بكر لم يكن من هذا القبيل، ولم يكن الدين الذي تحول عنه كالدين الذي يؤمن به المسلم في هذه الأيام.
لم يكن دين المشركين من قريش دينا من أديان الروح وعقيدة من عقائد الضمير.
لم يكن له شأن بالحياة الصالحة ولا بالحياة الباقية ولا بالنظر إلى الكون في أسرار خلقه ولا بالجماعة الإنسانية في قوام أمرها ومناط الخير والشر فيها والصلاح والفساد بين رجالها ونسائها.
ولم يكن التابعون له ينظرون إليه هذه النظرة أو ينظرون هذه النظرة إلى دين آخر أو عقيدة أخرى.
ولكنهم كانوا ينظرون إلى عقائدهم نظرتهم إلى الموروثات المألوفة والعرف المتفق عليه، أو نظرتهم إلى العادات التي ترتبط بها مصالح العيش ومصالح السيادة والجاه، وكان يعز عليهم أن يقال لهم: إن آباءهم وأجدادهم هالكون، وإن الدين الذي نشئوا عليه وماتوا دين سخف ومهانة وضلال. فكانوا في ثورتهم على الدعوة الجديدة أشبه الناس بأبناء القرى والمدن الذين يثورون على رجل يبتدع في الولائم والأفراح والجنائز بدعة تخالف المألوف وتهدد مصالح الوجهاء أو ما يسمونه «شرف الأسرة» وسير البلدة وعادات الناس، وتهدد مع تهديدها الوجهاء مصالح العاملين في شئون الزواج وشعائر الوفاة، وما إلى ذلك من الرسوم والعادات.
وكان المشركون لا يبالون أن يخرج على دينهم من يخرج عليه ناجيا بروحه خاليا بنفسه بينه وبين ربه، فعاش بينهم اليهود والمسيحيون والمتهودون والمتنصرون وهم في دعة وأمان إلا من أذى الأقارب المخالفين لهم في قليل من الأحيان، وإنما كانوا يثورون على الدعوة العامة التي تبدل العرف كله، وتخرج الجماعة من مألوفاتها وقواعدها التي استقرت عليها. فكان الثائرون في وجه الدعوة المحمدية من مشركي قريش بين رجل من ثلاثة لا يعدوهم إلى رابع: رجل صاحب سيادة تتصل سيادته ببقاء الأمور على ما هي عليه، ورجل من الأذناب الذين لا يعقلون ولا يحسون الظلم والفساد ولا يفعلون إلا ما يأمرهم به السادة المسيطرون، ورجل لم يصغ إلى الدعوة الجديدة حق الإصغاء، ولم يتسع له الوقت للتفرقة بينها وبين العرف القديم.
وما عدا هؤلاء جميعا فهو قريب من الدعوة المحمدية لا يمنعه مانع أن يتجه إليها متى أصاب الوجهة التي تهديه في طريقه، وليس معنى ذلك أن التغلب على العرف الجاهلي كان من الهنات الهينات أو كان أهون من التغلب على سائر العقائد والأديان، فليس أصعب ولا أعضل في الحقيقة من التغلب على عرف ترتبط به مصالح السيادة وغباوة الدهماء وتراث الأجداد والآباء، وإنما معناه أن الأمر لا يعم جميع المشركين ما لم يكن واحدا من أولئك الثلاثة، وهم ألوف وألوف.
وأبو بكر رضي الله عنه لم يكن واحدا من هؤلاء.
وكان مع هذا رجلا يحس بالروح والضمير، ويحس الخواء الذي تتركه العقائد الجاهلية في حياة الروح والضمير.
وقد عافاه الله من سبب قوي من أسباب الثورة على الدعوة المحمدية بين المشركين المعتزين بالآباء والأمهات. «أأبي على الضلال؟ أأمي مع الهالكات؟» تلك خاطرة كانت تهجس في نفس المشرك من قريش فيغضب ويثور ويحسب الدعوة الجديدة في عداد السباب الموجه إلى أقرب الناس إليه وأعزهم عليه.
অজানা পৃষ্ঠা