وما امتحن صدقه بشيء إلا كان صدقه أثبت وأقوى. فخطب رسول الله ابنته عائشة حين ذكرتها له خولة بنت حكيم. وكان المطعم بن عدي قد خطبها قبل ذلك لابنه، فقال أبو بكر لزوجه أم رومان: «إن المطعم بن عدي قد كان ذكرها على ابنه، والله ما أخلف أبو بكر وعدا قط ...» ثم أتى مطعما وعنده امرأته، فسأله: ما تقول في أمر هذه الجارية؟ فأقبل الرجل على امرأته ليسألها: ما تقولين؟ فأقبلت هي على أبي بكر تقول: لعلنا إن أنكحنا هذا الصبي إليك تصبئه وتدخله في دينك الذي أنت عليه. فلم يجبها أبو بكر وسأل المطعم بن عدي: ما تقول أنت؟ فكان جوابه: أنها تقول ما تسمع.
فتحلل أبو بكر عند ذلك من وعده، ولم يتحلل منه قبل ذلك على ما في نسب الرسول من شرف، وما في قلبه من إعزاز له يفوق كل إعزاز.
وكانت شجاعته كفاء صدقه ووفائه بوعده: سواء منها شجاعة الرأي وشجاعة القتال. فلما أسلم لم يبال أن يعلن إسلامه وأن يجهر بصلاته ودعائه، يصيبه في ذلك ما يصيب، ولما وجب القتال كان هو أقرب المقاتلين إلى رسول الله في كل غزوة وكل مأزق من مآزق الجلاد، وانهزم كثير من الشجعان في بعض الملاحم الحازبة، ولم تذكر له قط هزيمة في ساعة من ساعات الشدة، ولا ثبت نفر قط حيث يصعب الثبات إلا كان هو بين أول الثابتين. ولم تكن وقعة قط أشد على المسلمين من وقعتي أحد وحنين، ولى فيهما من ولى، واستشهد من استشهد، وتردد في صفوف العسكرين أن الرسول عليه السلام كان بين المستشهدين. فذعر الضعيف وقال القوي: ما تصنعون بالحياة بعده؟ فموتوا على ما مات عليه رسول الله.
ففي وقعة أحد - أشد هاتين الوقعتين - كان أبو بكر في طليعة الثابتين، ونظر إلى حلقة من درع قد نشبت في جبين صديقه وصفيه ونبيه فشغله أن يصاب هذا المصاب، وانكب عليها لينزعها، لولا أن أقسم عليه أبو عبيدة ليسبقنه هو إلى نزعها، فجذبها بثنيته جذبا رفيقا حتى نزعها وسقطت ثنيته. •••
وعلى هذا الحظ الوافر من المزايا الخلقية كان له قسط محمود من المزايا العقلية التي يمتاز بها ذوو الأقدار من أهل زمانه، فقيل فيه وفي صاحبه أبي عبيدة: إنهما «داهيتا قريش.» وأثر عنه أنه كان أسرع الناس إلى الفطنة لما يوحي به النبي عليه السلام بالتلميح دون التصريح. ومما جاء في الحديث الشريف عن علمه وفطنته أنه عليه السلام قال: كأني أعطيت عسا مملوءا لبنا فشربت منه حتى امتلأت، فرأيتها تجري في عروقي بين الجلد واللحم، ففضلت منها فضلة فأعطيتها أبا بكر. قالوا: يا رسول الله! هذا علم أعطاكه الله، حتى إذا امتلأت فضلت فضلة أعطيتها أبا بكر. قال
صلى الله عليه وسلم : «قد أصبتم.» •••
وكان لأبي بكر حظ وافر من الملكة الروحية إلى جانب ما عنده من هذه الملكة الذهنية، وتلك الملكة الخلقية، ونعني بالملكة الروحية ما نسميه اليوم بيقظة الضمير.
ومناط الضمير أن يرعى الإنسان حق غيره، وأن يحسن ولا يسيء وهي خصلة كانت ملحوظة في أبي بكر من أيام الجاهلية قبل أن يدين بالدين الذي يأمر بالخير وينهي عن الشر، ويدعو إلى اتباع الحق واجتناب الباطل. فلما جاء هذا الدين بنى منه على أساس قديم، وبلغت به نفسه قصارى ما تبلغه نفس طيبة من رعاية حقوق الناس: ومن كلف بالخيرات وسخط على الشرور.
قال ربيعة الأسلمي: «جرى بيني وبين أبي بكر كلام فقال لي كلمة كرهتها وندم، فقال: يا ربيعة! رد علي مثلها حتى يكون قصاصا. قلت: لا أفعل! قال: لتقولن أو لأستعدين عليك رسول الله
صلى الله عليه وسلم . فقلت: ما أنا بفاعل. فانطلق أبو بكر وجاء أناس من أسلم فقالوا لي: رحم الله أبا بكر، في أي شيء يستعدي عليك وهو الذي قال لك ما قال؟ فقلت: أتدرون من هذا: أبو بكر الصديق؟ هذا ثاني اثنين، وهذا ذو شيبة في الإسلام. إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله
অজানা পৃষ্ঠা