وفيما عدا هاتين المسألتين لم يكن من أبي بكر في حق علي وفاطمة إلا أحسن المجاملة والإجمال، ولم يكن منه تقصير قط في تعهد البيت النبوي بما يصون وقاره، ويحمي جواره، بل كان منه في حق أهل البيت كل ما يرضي ويريح.
وجرى أبو بكر في معاملته لصحابة النبي على طبعه الذي فطر عليه، وهو الرفق والمروءة والحياء، فأحسن صحبتهم وأثبت لهم ما أثبته النبي لهم في حياته، ولم يكن منه في حقهم ما يشكونه إلا ما شكا منه بعضهم حين التسوية بينهم وبين العبيد والنساء في حصة بيت المال، وذلك رأي له قدمنا حجته فيه، فأقدارهم عند الله يجزيهم عليها الله، وهذا معاش تحسن فيه المساواة بين الناس.
وكان أقربهم إليه وأجمعهم لثقته وحسن ظنه عمر بن الخطاب؛ عرفه على حقيقته التي جهلها بعض الصحابة، وعرف ما في باطن نفسه من رحمة تخفيها خشونة ملمسه وشدته في عمله. فلما سأل عنه عبد الرحمن بن عوف أجابه: «إنه أفضل من رأيك فيه، ولكن فيه غلظة» فقال عن خبرة به: «هو كذلك لأنه يراني رقيقا، ولو أفضي الأمر إليه لترك كثيرا مما هو فيه.»
وقد آثر أبو بكر أن يبقى عنده نخبة الصحابة في المدينة فلا يقصيهم في الولايات ولا يفرقهم بين الأقطار؛ لأنهم أحق الناس أن يستشيرهم ويرجع إليهم ويشركهم معه في رقابة العمال والولاة، وسئل في أهل بدر: لم لا يوليهم عملا فقال: أكره أن أدنسهم بالدنيا، ولعله يريد بالتدنيس تعريضهم لفتنة الدنيا وشهوة الحكم وغواية المال والمتاع.
ولا ندري على التحقيق أي الصاحبين كان صاحب الفكرة الأولى في هذه السياسة التي اتفقا عليها ولم ينحرفا عنها قط في عهديهما إلا لضرورة نادرة. ونعني بها سياسة الإقلال من إسناد الأعمال إلى كبار الصحابة.
فعمر كان مشتدا في اتباع هذه السياسة حتى ليخطر على البال أنه هو صاحب الفكرة السابقة فيها، وكان أبو بكر يخالفها حينا فيحاول عمر أن يرده إليها. قال: «لما خرج معاذ بن جبل إلى الشام أخل خروجه بالمدينة وأهلها في الفقه وما كان يفتيهم به، ولقد كنت كلمت أبا بكر رحمه الله أن يحبسه لحاجة الناس إليه، فأبى علي، وقال: رجل أراد جهادا يريد الشهادة فلا أحبسه، فقلت: والله إن الرجل ليرزق الشهادة وهو على فراشه.»
إلا أن أبا بكر كان يحاذر انطلاق بعض الصحابة محاذرة الرجل الذي امتلأ بيقين رأيه ولم يستمده من مشورة غيره. فلم ينس أن يحذر عمر هذا التحذير في وصيته إياه بعد استخلافه حيث قال: «واحذر هؤلاء النفر من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الذين انتفخت أجوافهم، وطمحت أبصارهم، وأحب كل امرئ منهم لنفسه، وإن منهم لحيرة عند زلة واحد منهم، فإياك أن تكونه، واعلم أنهم لن يزالوا منك خائفين ما خفت الله ...»
وفاض هذا الرأي من لسانه حين أحس من بعض المهاجرين طمعا في الاستخلاف دون عمر بن الخطاب، فقال لعبد الرحمن بن عوف وقد دخل عليه يعوده: «... ما لقيت منكم أيها المهاجرون أشد علي من وجعي، إني وليت أمركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر دونه، ورأيتم الدنيا قد أقبلت، ولما تقبل، وهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج وحتى يألم أحدكم بالاضطجاع على الصوف الأذربي كما يألم أحدكم إذا نام على حسك السعدان. والذي نفسي بيده لأن يقدم أحدكم فيضرب عنقه في غير حد خير له من أن يخوض غمرات الدنيا. ثم أنتم غدا أول ضال بالناس يمينا وشمالا، لا تضيعوهم عن الطريق. يا هادي الطريق جرت!»
অজানা পৃষ্ঠা