أصدقاؤه المحبون
كل هذه المزايا النفسية - بل بعض هذه المزايا النفسية - خليق أن يتم لصاحبه أداة الصداقة أوفى تمام، وأن يجعله محبا لمن حوله جديرا منهم بأحسن حب وولاء. فلم يعرف في تاريخ العظمة - لا بين الأنبياء ولا غير الأنبياء - إنسان ظفر بنخبة من الصداقات على اختلاف الأقدار والبيئات والأمزجة والأجناس كالتي ظفر بها محمد، ولم يعرف عن إنسان أنه أحيط من قلوب الضعفاء والأقوياء بما يشبه الحب الذي أحيط به هذا القلب الكبير.
تقدم في بعض فصول هذا الكتاب حديث زيد بن حارثة الذي خطف من أهله وهو صغير، ثم اهتدى إليه أبوه واهتدى هو إلى أبيه على لهفة الشوق بعد يأس طويل، فلما وجب أن يختار بين الرجعة إلى آله وبين البقاء مع سيده «محمد» اختار البقاء مع السيد على الرجعة مع الوالد، وشق عليه أن يحتجب عن ذلك القلب الذي غمره بحبه ومواساته، وهو ضعيف شريد لا يرى ذويه ولا يدري من هم ذووه.
وكان لا يغني من لازموه أن يلزموه في الحياة حتى يثقوا من ملازمتهم إياه بعد الممات فضعف مولاه ثوبان ونحل جسمه وألح عليه الحزن في ليله ونهاره، فلما سأله السيد العطوف يستفسره علة حزنه ونحوله قال في طهارة الأبرار: «إني إذا لم أرك اشتقتك واستوحشت وحشة عظيمة، فذكرت الآخرة حيث لا أراك هناك لأني إن دخلت الجنة فأنت تكون في درجات النبيين فلا أراك.» ورويت هذه القصة في أسباب نزول الآية الكريمة:
ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا (النساء: 69).
وأدرك الموت بلالا فأحاط به أهله يصيحون «واكرباه» وهو يجيبهم: «واطرباه ... غدا ألقى الأحبة محمدا وصحبه!»
وقد عنينا مما تقدم بحب الصداقة بين الإنسان والإنسان؛ لأننا لم نقصد حب المؤمن لنبيه في هذا الباب، فقد بلغ من امتلاء قلوب المسلمين والمسلمات بهذا الحب أن المرأة كانت تسمع أنباء المعركة فينعى إليها خاصة أهلها وهي تسترجع وتعرض عن هذا لتسأل عن النبي، وتهتم بسلامته قبل اهتمامها بسلامة الإخوة وبني الأعمام.
إلا أننا عنينا محبة الصداقة في هذا الباب لأنها هي المحبة التي جعلت كثيرا من الناس يؤمنون بمحمد لمحبتهم إياه واطمئنانهم إليه، فكانت سابقة في قلوبهم وأرواحهم لحب العقيدة والإيمان.
عظمة العظمات
إن عطف العظيم على الصغير حتى يستحق منه هذا الحب لفضيلة يشرف بها مقام العظيم في نظر بني الإنسان.
অজানা পৃষ্ঠা