والحقيقة التي يراها المنصف - مسلما كان أو غير مسلم - هي هذه: هي أن فتوح محمد فتوح إيمان، وأن قوة محمد قوة إيمان، وأنه ما من سمة لعمله أوضح من هذه السمة، ولا من تعليل لها أصدق من هذا التعليل. لقد جاء الإغراء الذي أشار إليه العالم الأوروبي وهو داع مهدد في سربه، وجاءه وهو عزيز الشأن بين المؤمنين بدعوته، فما حفل بالإغراء وهو بعيد من مقصده ولا حفل به وهو واصل إليه.
جاءه سيد قومه عتبة بن ربيعة - وهو في مبدأ أمره - فقال له واعدا ملاطفا، بعد أن أعياهم تخويفه متوعدين: «يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من خيارنا حسبا ونسبا، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، وسفهت أحلامهم، وعبت آلهتهم ودينهم، وكفرت من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها.» فقال عليه السلام: قل يا أبا الوليد.
فقال: «يا ابن أخي! إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان الذي يأتيك رئيا من الجن لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه.» فما زاد عليه السلام على أن أجابه بآيات من القرآن الكريم، ثم تركه يعود كما أتى ...
ثم أدرك النبي غاية ما سعى إليه فلم يدخل له المال ولا المتاع في حساب، ولم يكن النعيم المستطاع أفعل في إغرائه من النعيم الموعود، بل كان النعيم المستطاع فوق ما حلم به عتبة بن ربيعة، وكان النبي أزهد فيه من زهده في النعيم الموعود ... فلم كل هذا؟ لم هذا الجهاد؟ ولم هذا العناء؟ ولم هذا الصبر إن لم يكن في سبيل الإيمان؟ وأي نبي له من الإيمان شفاعة أكبر من هذه الشفاعة ورسالة أكبر من هذه الرسالة؟ ... وأي إنسان يعرف تعظيم الأنبياء إن لم تظفر نبوة محمد عنده بالتعظيم؟
التاريخ هو فيصل التفرقة بين محمد وشانئيه؛ حكمه أنفذ من حكم الشانئين والأصدقاء، وأنفذ من حكم المشركين والموحدين، وأنفذ من حكم المتدينين والملحدين ... لأنه حكم الله.
وقد حكم له أنه كان في نفسه قدوة المهذبين، وكان في عمله أعظم الرجال أثرا في الدنيا، وكان في عقيدته مؤمنا يبعث الإيمان، وصاحب دين يبقى ما بقيت في الأرض أديان.
وسيطلع في الأفق هلال ويغيب هلال، وسيذهب في الليل قمر ويعود قمر، وتتعاقب هذه الشهور التي كأنها جعلت لتأريخ ما بين الصدور، لأن الناس لا يؤرخون بها مواسم الزرع ولا مواعد الأشغال ولا أدوار الدواوين والحكومات ولا ينتظرونها إلا هداية مع الظلام وسكينة مع الليل؛ أشبه بهداية العقيدة في غياهب الضمير.
يوم الغار
ستطلع الأقمار بعد الأقمار، وتقبل السنة القمرية بعد السنة القمرية، وكأنها تقبل بمعلم من معالم السماء يومئ إلى بقعة من الأرض هي غار الهجرة، أو يومئ إلى يوم لمحمد هو أجمل أيام محمد، لأنه أدل الأيام على رسالته، وأخلصها لعقيدته ورجاء سريرته، وهو يوم التقويم الذي اختاره المسلمون بإلهام لا يعلوه تفكير ولا تعليم.
لم كان يوم الهجرة ابتداء التاريخ في الإسلام، ولم يكن يوم الدعوة؟ ولم لم يكن يوم بدر أو يوم ولادة النبي أو يوم حجة الوداع يوم ابتداء التاريخ؟ ... كل يوم من هذه الأيام كان في ظاهر الرأي وعاجل النظر أولى بالتأريخ والتمجيد من يوم الفرار بالنفس والعقيدة في جنح الظلام.
অজানা পৃষ্ঠা