وربما كان البر بالخدمة في هذا المقام أكرم وأنفى للهوان من البر بالخدم. فالبر بالخادم عطف عليه أما البر بالخدمة فارتفاع بالخادم إلى مقام السادة حيث لا يأنف السادة من خدمة أنفسهم بأيديهم، وذلك هو البر بالخدمة كما عنيناه، وذلك هو دأب النبي الذي جرى عليه في بيته وبين أهله وخدمه.
فقد كان يحلب شاته ويخصف نعله ويخدم نفسه ويعلف ناضحه، أي البعير التي يستقي عليه الماء. فإذا رأى الخدم لهم عملا في البيت يماثل عمل سيدهم ومالك أمرهم، فتلك هي المساواة التي تمسح ضير الخدمة وتجبر كسرها، ولا تقتصر على العطف والرحمة.
ولم يقبل عليه السلام خدمة من خادم يأنف الأحرار أن يقضوها له شاكرين. فما كان في رجالات المسلمين كابر ابن كابر إلا كان يتمنى أن يؤدي لنبيه تلك الخدمة التي تطوعت بها نفوس مواليه وأتباعه، وهذا ضرب آخر من ضروب البر بالخدمة والتسوية فيها بين مقام الخادم ومقام المريد. فكان عمل الخادم عنده عمل التلميذ الذي يجلس إلى قدمي أستاذه، حبا لا خنوعا، وتوقيرا لا مذلة، وأدبا يفرضه على نفسه وليس بضريبة مكتوبة يفرضها عليه العرف والتأديب.
وعلى هذا كان النبي عليه السلام يكره أن تقبل يداه مخافة أن تجري العادة بهذا بين الناس فتحمل بينهم على محمل الذلة والخضوع. قال أبو هريرة - رضي الله عنه: «دخلت للسوق مع النبي
صلى الله عليه وسلم
فاشترى سراويل، وقال للوزان: زن وأرجح. فوثب الوزان إلى يد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقبلها، فجذب يده وقال: هذا تفعله الأعاجم بملوكها، ولست بملك، إنما أنا رجل منكم. ثم أخذ السراويل فذهبت لأحملها فقال: صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله.»
ولقد يصح أن يقال إن حصة النبي من خدمة نفسه كانت أعظم من حصة خدمه، وإن تعويلهم عليه كان أكبر من تعويله عليهم، وإنه جعل الخدمة على سنته ضربا من توزيع الأعمال، أو ضربا من تعاون أبناء البيت الواحد فيما يستطيعه كل منهم من تدبيره وقضاء شئونه:
إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد.
অজানা পৃষ্ঠা