44

ومن المهام التي ندب لها في حياة النبي مهمة يمتزج فيها الشك بالأمل، والرفق بالشدة، والترغيب بالترهيب؛ لأنها بعثة إلى أناس غلابين مجتمعي الرأي أولي عصبة وبأس وحنكة ولهم سمة يخالفون بها سمة العرب في معظم أنحاء الجزيرة وهم بنو الحارث بن كعب بنجران.

أرسله إليهم وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام ثلاثة أيام، فإن استجابوا قبل منهم وإن لم يفعلوا فله أن يقاتلهم، فخرج إليهم وبعث الركبان فيهم يبشرون بالدين الجديد ويبصرونهم بفضائله وأحكامه، فاستجابوا له ودخلوا فيما دعوا إليه.

وأقبل وفد من عظمائهم على النبي - بأمره عليه السلام - فقال حين رآهم: من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند؟ قيل: يا رسول الله، هؤلاء رجال بني الحارث بن كعب، ثم سلموا ونطقوا بالشهادتين، فقال لهم عليه السلام: أنتم الذين إذا زجروا استقدموا؟ وأعادها ثلاثا وهم لا يجيبون، فلما أعادها الرابعة قال زعيمهم يزيد بن عبد المدان وفيه شوس وخيلاء: نعم يا رسول الله، نحن الذين إذا زجروا استقدموا، وكررها أربعا، فقال النبي: لو أن خالدا لم يكتب لي أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا لألقيت رءوسكم تحت أقدامكم، فانطلق ابن عبد المدان يقول: أما والله ما حمدناك ولا حمدنا خالدا. قال: فمن حمدتم؟ قالوا: حمدنا الله عز وجل الذي هدانا بك يا رسول الله.

قال: صدقتم، ثم سألهم: بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية؟ قالوا متغضبين: لم نكن نغلب أحدا، قال: بلى. كنتم تغلبون من قاتلكم، فعادوا يقولون: كنا نغلب من قاتلنا يا رسول الله، أنا كنا نجتمع ولا نتفرق، ولا نبدأ أحدا بظلم.

قال: صدقتم ... وقفلوا إلى ديارهم، فأرسل إليهم عمرو بن حزم يفقههم في الدين ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام ويأخذ منهم الصدقات. •••

وقد شهد خالد مع النبي - عليه السلام - غزوتين لم يجر فيهما لقاء واشتباك، وهما غزوة الطائف وغزوة تبوك.

وكانت غزوة الطائف تتمة لوقعة حنين، لاذت بها القبائل بعد فرارها وامتنعت وراء أسوارها، وجمعت من الميرة ما يكفيها إلى السنة القابلة، فأحاط المسلمون بالأسوار فرماهم المشركون بالنبل كأنهم أسراب الطير، وقتلوا وجرحوا وهم متمكنون في أسوارهم، فبرز خالد لهم يدعوهم إلى النزال ولا يجيبه أحد، ثم صاح به عبد ياليل عظيم ثقيف: «لا ينزل منا أحد ولكن نقيم في حصننا، فإن فيه من الطعام ما يكفينا سنين، فإن أقمت حتى يفنى هذا الطعام خرجنا إليك بأسيافنا جميعا حتى نموت عن آخرنا.»

فضربهم المسلمون بالمنجنيق وتقدم نفر من الصحابة تحت دبابتين من جلود البقر يفتحون ثغرة في الحصن. فأرسل عليهم المشركون سكك الحديد المحماة فأحرقت الدبابتين وصدتهم عن السور.

وأمر عليه السلام بكرومهم ونخيلهم فقطعت وهم يصيحون: دعها لله والرحم. فقال عليه السلام: «أدعها لله والرحم»، واستشار نوفل بن معاوية الديلي في أمرهم فأجابه: «يا رسول الله. ثعلب في حجر إن أقمت أخذته وإن تركته لم يضرك.»

وفي الطريق، قسم النبي غنائم حنين قسمة لم ترض أناسا، فغضب رجل من المنافقين وصاح في حضرته: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. فاحمر وجهه عليه السلام غضبا وقال له: ويحك، من يعدل إذا لم أعدل؟ ووثب خالد وعمر يستأذنانه في ضرب عنقه فأبى وقال: لا ... لعله أن يكون يصلي، فقال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ فعاد النبي يقول: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أن أشق عن بطونهم.

অজানা পৃষ্ঠা