قالت: «إنما نجاه عدوك الخبيث.»
قال: «وأي أعدائي تعنين؟ فإنهم كثيرون.»
قالت: «صدقت. إنهم كثيرون، ولكنني أعني أشدهم حسدا لك، وأكثرهم سعيا في أذاك، ووشاية بك. ألم تعلم من هو؟»
قال: «أظنك تعنين الفضل بن الربيع؟»
قالت: «إياه أعني.» وأجهشت بالبكاء.
فحمي غضب جعفر لبكائها، وكاد يمزق ثوبه غضبا وكيدا، وقال: «الفضل بن الربيع! قبحه الله من وغد زنيم. ألم يخف من سطوتي؟ ألم يرهب حد سيفي؟ ما الذي جرأه على هذه الوقاحة؟»
قالت: «جرأه أنه مقرب من محمد بن زبيدة، وأنت تعلم نفوذ كلمتها عند أخي، واتفق وجوده في دار الرقيق لابتياع بعض الجواري المغنيات لذلك الغلام الخليع، وبينما هو خارج رأى جندنا يهمون بالقبض على أبي العتاهية فاستنجد به، وقد رأته جاريتي عتبة يشير إليه بعينيه كأنه يعده بكشف سر يهمه، فأنقذه واستعان على ذلك برجاله وهدد رجالنا، فتركوا أبا العتاهية وعادوا فقصوا علي الخبر فكدت أتقد بثيابي، ولم أعد أدري ماذا أعمل، فأشارت علي تلك الجارية الأمينة أن أطلعك على الواقع، وذهبت هي إليك بتلك البطاقة وأنت تلعب بالكرة والصولجان، فعهدت بها إلى غلامك حمدان الذي تعودت إنفاذه إلي، وهو أوصلها إليك. وقد قضيت في انتظارك ساعات هي أطول علي من الدهر حتى جئت الآن، وهذا هو ما أردت أن أخبرك به، فما رأيك؟ لقد أصبحت لا آمن البقاء هنا ساعة، ويخيل إلي أن أحجار بغداد ومياه دجلة تعلم بسري، وكأن خدمي وجواري جند يهمون بالقبض علي. ولو كان الخطر علي وحدي لهان مصابي، لكنني أخاف عليك من غضب أخي وشدة بطشه.» قالت ذلك وأخرجت منديلها تمسح به عينيها وقد استغرقت في البكاء.
وكان جعفر يسمع حديثها، وعيناه شاخصتان إليها، وقلبه يخفق بشدة، ولحيته ترقص غضبا، فلما فرغت من كلامها هاجت عواطفه، وحمي غضبه، فلم يتمالك أن وقف بغتة وقال: «لا تخافي يا حبيبتي، إنهم لن ينالوا منك شعرة قبل أن تزهق أرواحهم جميعا.»
فأمسكت بطرف ردائه وأجلسته وهي تقول له: «لا تجعل للغضب عليك سلطانا؛ فإن الأمر يحتاج إلى التأني والتبصر؛ لأن عدوك الخليفة أمير المؤمنين، وبنو هاشم وسائر العرب وأحزابهم وأجنادهم، ولك حساد يتوقعون منك كبوة يجعلونها حجة؛ لذلك أخشى إذا أخذت الأمر عنوة أن تعرض نفسك للخطر.»
الفصل التاسع عشر
অজানা পৃষ্ঠা