فأجاب: «قل له إن أمير المؤمنين أحب أن تتناول معه العشاء في هذا المساء، ولا تقل غير ذلك.»
فقال: «سمعا وطاعة.» وخرج.
وكانت الشمس قد قاربت المغيب، فلما جاء صاحب الطعام قال له: «أعد مائدة أتناول عليها العشاء مع الوزير، ولتكن فاخرة.»
فأشار مطيعا وخرج. ومكث الرشيد وحده، فعادت إليه أفكاره وقد تعب منها، فأحب أن يلهو إلى أن يأتي جعفر، فخطر له أن يخرج إلى حديقة القصر يمتع فيها نظره، فأمر برداء تزمل به، وجاء غلام ألبسه النعال وسواها بقدميه، فخرج الرشيد إلى الحديقة ومشي بين الأشجار والرياحين إلى حيث لا يعلم.
فما لبث أن وجد نفسه بجانب أقفاص السباع، وكان بينها أسد قد تعود الرشيد أن يلهو بمداعبته وهو داخل القفص، فلما وقع نظره عليه شعر بشيء لفت انتباهه؛ وهو ارتياح طبيعي في الإنسان إذا رأى الأسد أو غيره من السباع في قفص. ولعل سببه الإعجاب بقوتها، والدهشة من منظرها، غير ما يجيش في النفس من حب التمثل بها. ومنظر السباع يهيج ثورة النفس في الإنسان، فكيف إذا كان ثائرا؟ فوقف الرشيد عند القفص وأمر حارس السباع أن يرمي للأسد طعامه، فأتي بخروف كان قد ذبحه وقطعه قطعا صغيرة، فرمى له قطعة منها، فوثب الأسد عليها والتقمها دفعة واحدة؛ لأنها صغيرة، ووقف ينتظر أخرى، فنهى الرشيد الحارس أن يرمي إليه شيئا، فراح الأسد يزأر ويمشي في القفص ذهابا وإيابا وذيله كالقوس فوق ظهره، ينظر إلى الحارس بعينين يكاد الشرر يتطاير منهما، والحارس يريه اللحم عن بعد. فلما استبطأ الطعام أقبل يضرب قضبان القفص الحديد برأسه تارة، وبمخالبه تارة أخرى. يحدق في قطعة اللحم وهي في يد الحارس، ويزأر ويكشر عن أنيابه، والحارس يضحك، والرشيد يشارك الأسد في الغضب، وقد ازداد عبوسا، وازدادت أساريره انقباضا، حتى كاد يفتك بالحارس عنه، وكأنه تصور نفسه شريكا له في ذلك الغضب؛ لأن حاله مع جعفر مثل حال الأسد مع حارسه.
ولكن الوحوش ليس لها ما يمنعها من إظهار إحساسها، فتغضب وتقلق وهي في أقفاصها. أما الرجل العاقل فيتحكم في غضبه ويمسك نفسه عن الفتك بفريسته وهي بين يديه، كما كان الحال مع وزيره في ذلك اليوم، فرأى نفسه أسدا عاقلا، فإذا لم يستطع إمساك نفسه كان حيوانا أعجم.
كان الرشيد يفكر في ذلك، والحارس ينتظر أمره ليرمي قطعة اللحم للأسد حتى زأر الأسد زأرة نبهت الرشيد، فأشار إلى الحارس، فرمى له قطعة اللحم فانقض عليها، وعاد إلى الزئير حتى رمى القطعة الثالثة والرابعة، وهكذا حتى شبع، فربض ووضع رأسه بين ساعديه ولم يتحرك، ولكن عيناه ما زالتا تبرقان والحنق ظاهر فيهما.
قضى الرشيد ساعة يلهو بذلك المنظر حتى سرى عنه، وزاد تمكنا من اعتقاده في أن رابط الجأش من الناس إذا كان ذا سلطان وأمسك غضبه كان أسدا عاقلا، وأراد أن يكون هو ذلك الأسد في تلك الليلة.
فلما غابت الشمس وأخذت الظلال تتكاثف فوق قصور بغداد وبساتينها، رجع الرشيد إلى قصره وهو يسير بين الأشجار بثوبه الموشى، وعمامته المزركشة، والغلمان يتباعدون عنه احتراما له، وقد لاحظوا غضبه وعرف بعضهم سببه، والرشيد يحسب أن سره لا يعرفه أحد. وبينما هو في ذلك إذ سمع دبدبة وصهيلا، وصلصلة وضوضاء بباب القصر، فعلم أنه موكب جعفر، فتجاهل وظل ماشيا حتى إذا دنا من باب الخاصة لقيه مسرور فأخبره بأن الوزير ينتظره في تلك الدار.
فقال له: «ادعه لموافاتي إلى القاعة التي كنا فيها في أصيل هذا اليوم.»
অজানা পৃষ্ঠা