قضى في تلك الخواطر وأمثالها حينا وهو يقف تارة، ويمشي أخرى، وعليه تلك الملابس الفخمة، وإذا بالحاجب يدخل وهو يقول: «إن الشعراء والندماء بباب العامة منذ الصباح؛ لأنه يوم الجلوس لهم. فهل يأمر أمير المؤمنين ببقائهم أو بصرفهم؟»
فلما سمع الرشيد قوله انتبه لنفسه كأنه هب من النوم، وتحير في أمره؛ لأنه في حال لا يروق له معها مجالسة الندماء والشعراء، وإنما يفضل الخلوة، ولكنه استنكف أن يشعر أحد بقلقه إذا صرف الشعراء فقال: «من بالباب من هؤلاء؟»
قال: «هم كثيرون، وفيهم المقيمون في بغداد من أهل الرواتب المعينة والأرزاق الجارية، وفيهم الوافدون للاستجداء من أطراف البلاد.»
فقال: «أما الوافدون فنأذن لهم في وقت آخر. اصرفهم الآن، وقل لصاحب بيت المال أن يسخو لهم في العطاء ويطيب خواطرهم. ومن بالباب من أهل الرواتب؟»
فقال: «فيهم من العلماء: الأصمعي، والكسائي، وأبو عبيدة.» فقطع كلامه وأشار إليه بيده ولسان حاله يقول: «دعني من العلماء واذكر غيرهم.»
فقال: «أما الشعراء فمنهم الحسن بن هانئ (أبو نواس)، وأبو العتاهية، ومروان بن أبي حفصة، وأما ...»
فأشرق وجه الرشيد عند سماع اسم مروان؛ لأنه كان يستطيب شعره؛ لما فيه من الطعن على العلويين، ولكنه لم يجد في نفسه ميلا لسماع الشعر أو الأدب، وأدرك أنه لا يجلو ما في خاطره غير الغناء، فقال: «دع هؤلاء الشعراء الثلاثة فقط يدخلون إلى قاعة الشراب في هذا القصر، وأخبرني هل ببابنا أحد من الندماء والمغنين؟»
فقال: «أما المغنون فرأيت منهم بعض أصحاب مولانا إبراهيم بن المهدي؛ أخي أمير المؤمنين، الذين هم على طريقته في الغناء؛ كابن جامع، وابن نابه، وابن أبي العوراء، ويحيى الملكي، ورأيت بعض أصحاب إسحاق الموصلي المعجبين بطريقتها، وسمعتهم يتقارعون في أي الطريقتين أفضل.»
فقطع الرشيد كلامه وقال: «دعنا من هذه الطبقات؛ فإني لا أرى الاجتماع للمناظرة في طرق الغناء اليوم؛ فادع برصوما الزامر، وأبا زكار الربابائي الأعمى، وحسينا الخليع. وأما الغناء فأحب سماعه من قيان القصر.» ثم أطرق وقال: «ولكن ذلك لا يحلو إلا بوجود إبراهيم الموصلي. ادع لي مسرورا الخادم.»
فأشار مطيعا وخرج، ثم أتى مسرور بسيفه وفظاظته وحيا، فقال له الرشيد: «إلي بإبراهيم المغني على عجل.»
অজানা পৃষ্ঠা