وأتى ددف حركة، ولكن ازداد تعلق المرأة به وتوسلت إليه قائلة: ابني ... ابني ... هل تترك أمك؟
فجمد الشاب في مكانه، وألقى على وجهها نظرة طويلة، فرأى الوجه الذي حرك قلبه من النظرة الأولى، ورآه هذه المرة أعظم طهرا وجمالا وبؤسا، فخفق قلبه وفاضت نفسه حنانا، ومال رأسه نحوها بغير شعور، حتى ضغطت شفتاه على خدها، وتنهدت المرأة بارتياح واغرورقت عيناها بالدموع، ثم انتحبت باكية، فأخذ يهدئ من روعها، وأجلسها على ديوان وجلس إلى جانبها، وكفكف دموعها، وكان لا يزال موزعا بين الذهول وبين هذا الحب الجديد.
ونظرت إليه المرأة وقالت: قل لي: يا أماه.
فقال لها بصوت خافت: أماه ...
ثم قال بحيرة: ولكني لا أكاد أفهم شيئا ...
فقالت له: ستعلم كل شيء يا بني ...
قالت ذلك ثم سردت عليه قصتها الطويلة، وحدثته عن ولادته وما أحاطه بها من التنبؤات الخطيرة، وما أعقبها من الحوادث الجسام، حتى الساعة السعيدة التي ردت روحها إلى صدرها، برؤيته حيا سعيدا جليلا.
32
وساقت الأقدار بشارو إلى سماع قصة رده ديديت عن غير قصد؛ فإنه أراد أن يبالغ في إكرام ضيفة ددف فنزل لاستقبالها بنفسه، وصادف وصوله خروج زوجه زايا جريا كالمجنونة، فأخذه العجب واستولت عليه الحيرة، ودنا من باب الحجرة في حذر فوصل إلى مسمعيه صوت رده ديديت التي كانت تفيض بالحديث في حالة عصبية أنستها أن تخفت من صوتها، فاسترق السمع، وأنصت مع ددف إلى قصة المرأة من مبتداها إلى منتهاها!
ثم انسحب من مكانه في خفة وحذر وقصد إلى حجرته لا يلوي على شيء، وقد اكتسى وجهه بهيئة جد ورزانة واهتمام ندر أن عرفها وجهه إلا في الملمات، ونبا به مقعده فجعل يروح ويجيء مضطرب النفس، مشتت البال مهتاج الخاطر، وكان يفكر فيما سمع ويديره في عقله المبلبل ويقلبه على وجوهه المختلفة، حتى أضنى التفكير المحموم رأسه، وجعله كقطعة الحديد المنصهرة، وقال لنفسه بصوت مسموع كأنه يحدث شخصا غريبا: بشارو! أيها الشيخ البائس. إن الآلهة تبتليك بمحنة شديدة.
অজানা পৃষ্ঠা