وكانت روح الاستهتار تستأثر به في تلك اللحظة فقال: هذا حق يا صاحبة السمو، ولكن ما حيلتي إذا كانت هذه التقاليد تعقل لساني عن البوح بما يضطرم في فؤادي؟ أنا ذاهب غدا، وقد تمنيت على الآلهة أن أراك قبل ذهابي ... فأدنت إلي أمنيتي، وما كان ينبغي لي أن أجحد العطف الإلهي بالصمت والجبن. - يحسن بك أن تتعلم فضيلة الصمت! - بعد أن أقول كلمة واحدة. - ماذا تريد أن تقول؟
فتبدى على وجهه الجميل الهيام وقال: إني أحبك يا مولاتي. قد أحببتك حين وقع نظري عليك، وهي حقيقة رهيبة ما كانت تؤاتيني الشجاعة على البوح بها لسموك لولا قوتها الخارقة في نفسي ... عفوا يا صاحبة السمو. - أهذا ما تسميه كلمة واحدة؟ ومع هذا فما كان أغناك عن قولها؛ لأني سمعتها يوما قهرا على شاطئ النيل.
فاهتاجته الذكرى وهزته قولتها «شاطئ النيل» فقال: لا أمل قولها دقيقة من حياتي يا مولاتي؛ فهي أجل ما نطق به لساني، وأجمل ما سمعت أذناي.
وكانا قد بلغا الأدراج الرخامية فتولاه الجزع وقال بتوسل: أما من كلمة وداع؟
فالتفتت إليه وقالت: أستودعك الآلهة أيها القائد، سأدعو بتاح العظيم أن يحقق على يديك النصر لوطننا المحبوب ...
ثم هبطت أدراج السلم إلى السفينة في تؤدة ومهابة.
وتركت ددف يرنو إليها بعينين حزينتين، ويشهد بقلب خفاق السفينة إذ تبتعد عن الشاطئ رويدا رويدا ... ولبثت الأميرة على سطحها لا تدخل مقصورتها فعلقت بها عيناه، وما زال يرسل ناظريه حتى غيبها عنه منعطف الماء ...
وسار بخطى ثقيلة مهيض الجناح تتجمع في صدره ثورة جامحة وغضبة كاسرة، على أنه كان لددف فضيلة لا تخونه في الملمات، وهي أنه لا يخضع لانفعال خضوعا يضل به الصواب، ويتنكب به عن السداد، وعلمه أخوه خنى كيف يراجع نفسه ويلزمها الحق والإنصاف، فانتحل للأميرة العذر عن قسوتها وجمودها، قائلا إنها إذا لم تصغ جوارحها إلى شكاته، فما ذلك إلا لأنها لا تحبه ، ليست هي ملزمة بحبه، ولا تقع على عاتقها خيبته المريرة، بل ما أحراه أن يقر لها باللطف والرحمة، ألم يقل لها ما لا يقال لأميرة من البيت الفرعوني؟ فماذا صنعت هي؟ لا شيء إلا أن أصغت إليه وعفت العفو الجميل، ولو شاءت لقضت عليه بالهوان وردته أسفل سافلين! فصرفت مراجعته لنفسه الثورة عن قلبه، ولكنها لم تعزه عن خيبته شيئا، فانطوى على ألم حزين صامت ... •••
وأمضى مساء ذلك اليوم في بيت بشارو ليودع أهله، وحاول ما استطاع أن يظهر بمظهر الفرح والمرح، الذي عهدوه فيه، واجتمعوا جميعا حول مائدة العشاء: بشارو وزايا وخنى ونافا وزوجه مانا، وتوسط المائدة القائد الشاب، وتناولوا طعاما شهيا وشربوا الجعة، ومضى بشارو يتحدث في أثناء الأكل بلا انقطاع، غير مبال بالفتات الذي يتطاير من فمه الأهتم، وقص عليهم كثيرا من قصص الحروب وخاصة الحروب التي خاض غمارها في شبابه، وكأنما أراد أن يطمئن زايا التي دل شحوب لونها على ما يعتلج في صدرها من المخاوف، فقال: إن أوزار الحرب تلقى في الأغلب على عاتق الجنود، وأما القواد فيحتلون مكانا آمنا يفكرون ويرسمون الخطط.
وفطن ددف إلى مرماه، فقال: صدقت يا والدي، ولكن ترى هل أبليت بلاءك الحسن في حرب النوبة ضابطا صغيرا أم قائدا كبيرا؟
অজানা পৃষ্ঠা