فابتسمت الماكرة في رقة ودلال، وكشفت عن وجه ددف الجميل وقالت: هل يليق هذا المكان بمثل هذا الوجه الحسن؟
فقال المفتش: كلا ... ولا بك يا زايا.
فاحمر وجهها وأسبلت جفنيها حتى مست أهدابها نقرتي خديها، فقال الرجل: إن لي ذلك القصر الذي تريدين، ولعله يريدك أيضا. - إني رهينة إشارة مولاي. - لقد ماتت زوجتي تاركة لي ابنين، وعندي من الجواري أربع، فهل تكونين الخامسة يا زايا؟
ومنذ ذلك اليوم انتقلت زايا وطفلها ددف من حي البائسات إلى حريم مفتش الهرم بشارو بقصره الجميل الذي تمتد حديقته حتى تبلغ مجرى النيل المقدس، وانتقلت إليه كجارية ذات حظوة ليست لغيرها. ووجدت الجو خاليا لمكرها وسحرها؛ لأن القصر كان بدون ربة مسيطرة، ولأن ابني المفتش كانا حبيبين صغيرين، فعملت على أسر لب سيدها، ونجحت في مسعاها حتى حملته على الزواج منها، وسرعان ما صارت زوج المفتش بشارو وربة قصره والمشرفة على تنشئة ابنيه خنى ونافا، ولم تكن زايا يخونها المكر أبدا؛ فمنذ تسنمت مكانتها العالية أقسمت فيما بينها وبين نفسها لتحسنن معاملة الصبيين، وتكونن لهما نعم الأم الحنون.
وهكذا ابتسم الحظ لزايا بعد تقطيب، وأقبلت عليها الدنيا بعد إدبار.
9
ذلك هو القصر الذي قضت الأقدار بأن يكون مرتع طفولة ددف رع. وقد تمتع الطفل بطفولة خالصة ثلاث سنوات كاملة - كما جرت العادة بمصر على أيامه - لم يفارق فيها حضن أمه إلا حين النوم، وقد ترك - في تلك السنوات الثلاث - أثرا على صدر زايا لم يمح منه طيلة العمر، فملأه أمومة ورضع منه حنانا ومحبة، ولا نستطيع أن نحدث عن طفولة ددف الأولى بأكثر من مس ظواهرها، لأنها - ككل طفولة - سر مغلق وسعادة في قمقم لا يعرف كنهها إلا الآلهة التي تحوطه بالعناية وتلهمه النجوى، وقصارى ما يقال إنه كان ينمو سريعا كما تنمو أشجار مصر تحت أشعة شمسها المشرقة، وإن نفسه كانت تتفتح كاشفة عن حسنها، كما تتفتح الوردة إذا سرى في عودها دفء الحياة، وانبعث فيها روح الجمال، وإنه كان سعادة زايا ونور عينيها كما كان لعبة نافا وخنى الثمينة المفضلة، يتخاطفانه ويقبلانه ويعلمانه الأسماء والنطق والمشي. وإنه ختم طفولته الأولى تلك بعلم لا يستهان به؛ فتعلم كيف يقول لزايا: «أماه» وعلمته المرأة أن يقول لبشارو: «أبتاه» وكان الرجل يتقبلها منه بحبور، وكان يتفاءل بوجهه الصبوح الجميل الذي يكتسب رونقه من بهاء اللوتس. وما زالت أمه به حتى تعلم كيف ينطق رع، وكانت تطلب إليه النطق بها قبيل النوم وعقب الاستيقاظ؛ لتستدر عطف الرب على ابنه الحبيب.
وحين بلوغه الثالثة هجر حضن زايا ومضى يحبو في حجرة أمه، أو يسير متوكئا على المقاعد والدواوين ما بين البهو والحجرات، ودلته غريزة الاستطلاع على نقوش الوسائد وزخرف المناضد ورسوم الجدران والتحف المنثورة والمصابيح المدلاة، فعبثت يده بما استطاعت الوصول إليه، ومد قبضته للعزيز الممتنع، حتى إذا أعياه القصد صاح رع، أو نفس عن صدره الصغير بآهة عميقة، واستأنف السير وأخذ في البحث والاستكشاف، ثم أتاه المفتش بشارو بثروة عظيمة من اللعب: كالحصان الخشبي، والتمساح الفاغر فاه، والعربة الحربية الصغيرة. فكان يعيش معها في دنيا غير الدنيا، دنيا يخلق فيها الحياة، ويسيطر على المصائر، ويقول للشيء كن فيكون، فكان للحصان الخشبي حياته وآماله، وللتمساح الفاغر فاه حياته وأطماعه، بل كان للعربة نفسها حياتها ومطالبها، وكان يحادثها فتحادثه، ويأمرها فتطيعه، وتكشف له في كل حين من أسرار الجماد ما تخفيه عادة عن الراشدين.
وعلى ذلك العهد ولد جاموركا من أبوين عريقين من سلالة أرمنت، وقد استقبله ددف رع استقبالا حفيا، ووهبه حجره يأوي إليه، وتوثقت عرا المودة بينهما منذ ذلك العهد المبكر، وقد قضت محبة ددف لصديقه أن ينشأ هذا نشأته الأولى في حضنه، وأن يتبعه في أثناء نومه كظله، وأن يلقن اسم جاموركا بلسانه الحلو، وأن يكون أول نباحه نداء عليه، وأول تحريك ذيله القصير حفاوة به، ولكن وا أسفاه، لم تخل طفولة جاموركا من عذاب، فكان التمساح الفاغر فاه واقفا له بالمرصاد، ينغص عليه سعادته ويكدر صفوه، وكان إذا رآه نبح وبرقت عيناه، وتصلب جسمه وكر وفر، ولا يهدأ حتى يخفي ددف تمساحه المخيف.
وكانا لا يكادان يفترقان، فإذا أوى ددف إلى سريره رقد جاموركا إلى جانبه، وإذا قعد ساكنا - وقليلا ما يفعل - جلس قبالته وبسط ذراعيه، أو مضى يلعق خديه ويديه كيف شاء حنانه واقتضت مودته، وكان يتبعه إلى مماشي الحديقة، ويركب معه القارب إذا حملتهما زايا إليه للتريض في بركة القصر، فكانا يطلان برأسيهما من حافة القارب، وينظران إلى صورتيهما في الماء، أما جاموركا فلا يسكت عن النباح، وأما ددف فيعجب لذلك الصغير الجميل الذي يشبهه ويعيش في باطن البركة.
অজানা পৃষ্ঠা