(بسم الله الرحمن الرحيم) [١]
ــ
«من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» [٢]
" بسم الله الرحمن الرحيم [٣]
يقول العبد الفقير أحمد بن محمد الصاوي المالكي: الحمد لله الذي استخلص العلماء بعنايته وجميل لطفه من غياهب الجهالات، وجعلهم أمناء على خلقه يقومون بحفظ شريعته حتى يؤدوا إلى الخلق تلك الأمانات، فهم مصابيح الأرض وخلفاء الأنبياء، يستغفر لهم كل شيء حتى الحيتان في البحر، ويحبهم أهل السماء. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أستفتح بمددها أبواب العنايات. وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله سيد السادات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وشيعته وحزبه في كل الأوقات، صلاة وسلامًا دائمين متلازمين نستمطر بهما غيوث السعادات.
أما بعد: فإنه لما كان الاشتغال بالعلم من أفضل الطاعات، وأولى ما أنفقت فيه نفائس الأوقات، خصوصًا علم الفقه العذب الزلال، المتكفل ببيان الحرام من الحلال، وقد كان مذهب مالك أهلًا وحقيقًا بذلك، كان أحسن ما ألف فيه من المختصرات متنًا وشرحًا مختصر شيخنا وشيخ مشايخنا شيخ الوقت والطريقة، ومعدن الشريعة والحقيقة، أبي البركات أحمد بن محمد بن أحمد الدردير العدوي مالك الصغير - الذي سماه أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك "؛ أمرني من لا تسعني مخالفته خليفته ووارث حاله أخونا في الله الشيخ صالح السباعي: أن أكتب عليه كتابة تناسبه في السهولة؛ فأجبته لذلك راجيًا الفتح من القادر المالك، وسميتها:
بلغة السالك لأقرب المسالك "
لينتفع بها إن شاء الله تعالى أمثالي من القاصرين، مشيرًا بحاشية الأصل لحاشية شيخنا وقدوتنا الشيخ محمد الدسوقي على شرح شيخنا المؤلف على مختصر العلامة أبي الضياء الشيخ خليل، وبالأصل لشرح المؤلف المذكور وشيخنا في مجموعه لمجموع شيخنا وقدوتنا أبي محمد محمد بن محمد الأمير، وبالحاشية لحاشية شيخ المشايخ على الإطلاق أبي الحسن علي بن أحمد الصعيدي العدوي على الخرشي. وأشير لباقي أهل المذهب كما أشارت أسلافنا للشيخ البناني بصورة (بن)، وللشيخ مصطفى الرماصي محشي التتائي بصورة (ر)، وللعلامة سيدي محمد الحطاب بصورة (ح)، وللشيخ عبد الباقي بصورة (عب)، وللعلامة الشيخ إبراهيم الشبرخيتي بصورة (شب)، وإن أسندت لغير هؤلاء صرحت به.
وأسال الله التوفيق لكمالها والنفع بها كما نفع بأصلها وهو حسبي ونعم الوكيل.
قوله: [بسم الله الرحمن الرحيم]: افتتح كتابه بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز والآثار النبوية والإجماع، لافتتاح الكتاب بها وقوله ﵊: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم - كما في رواية - فهو أبتر
_________
[قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة]
[١] زاد بعدها في ط المعارف: (قال الإمام الدردير).
[٢] زاد بعدها في ط المعارف: (حديث شريف).
[٣] زاد بعدها في ط المعارف: (مقدمة صاحب الحاشية).
1 / 2
الحمد لله على إفضاله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وصحبه وآله (أما بعد) فهذا شرح لطيف على كتابنا المسمى بأقرب المسالك لمذهب الإمام مالك، اقتصرت فيه على بيان معاني ألفاظه، ليسهل فهمه على المبتدئين،
ــ
أو أقطع أو أجذم» أي ناقص وقليل البركة.
والباء: للاستعانة أو المصاحبة التبركية متعلقة بمحذوف تقديره أؤلف ونحوه، وهو يعم جميع أجزاء التأليف فيكون أولى من أفتتح ونحوه، لإيهام قصر التبرك على الافتتاح فقط. والله: علم على الذات الواجب الوجود فيعم الصفات.
والرحمن: المنعم بجلائل النعم كمية أو كيفية. والرحيم: المنعم بدقائقها كذلك.
وقدم الأول وهو الله لدلالته على الذات، ثم الثاني لاختصاصه به ولأنه أبلغ من الثالث، فقدم عليه ليكون له كالتتمة والرديف.
إذا علمت ذلك فينبغي تتميم الكلام عليها من الفن المشروع فيه فنقول: إن موضوع هذا الفن أفعال المكلفين لأنه يبحث فيه عنها من جهة ما يعرض لها من وجوب وندب وحرمة وكراهة وإباحة، ولا شك أن هذه الجملة فعل من الأفعال، وحينئذ فيقال إن حكم البسملة الأصلي الندب لأنها ذكر من الأذكار؛ والأصل في الأذكار أن تكون مندوبة، ويتأكد الندب في الإتيان بها في أوائل ذوات البال ولو شعرًا، كما انحط عليه كلام ح، وقولهم: الشعر لا يبتدأ بالبسملة، محله إذا اشتمل على مدح من لا يجوز مدحه أو ذم من لا يجوز ذمه، وقد تعرض لها الكراهة وذلك في صلاة الفريضة على المشهور من المذهب، وعند الأمور المكروهة كاستعمال ذي الروائح الكريهة، وتحرم إذا أتى بها الجنب على أنها من القرآن لا بقصد التحصن، وكذا تحرم عند الإتيان بالحرام على الأظهر، وقيل: بكراهتها في تلك الحالة، وارتضاه في الحاشية، وتحرم في ابتداء براءة عند ابن حجر، وقال الرملي: بالكراهة، وأما في أثنائها فتكره عند الأول وتندب عند الثاني. قال ح: ولم أر لأهل مذهبنا شيئًا في ذلك وليس لها حالة وجوب إلا بالنذر، فلا يقال: إن البسملة واجبة عند الذكاة مع الذكر والقدرة؛ لأننا نقول الواجب مطلق ذكر الله لا خصوص البسملة كما عليه المحققون.
بقي شيء آخر وهو أنه هل تجب بالنذر ولو في صلاة الفريضة بمنزلة من نذر صوم رابع النحر، أو لا تجب؟ واستظهر اللزوم خصوصًا، وبعض العلماء من أهل المذهب يقول بوجوبها في الفريضة، وهذا إذا كان غير ملاحظ بالنذر الخروج من الخلاف، وإلا كانت واجبة قولًا واحدًا، والظاهر أنها لا تكون مباحة لأن أقل مراتبها أنها ذكر، وأقل أحكامه أنه مندوب، وقول الشيخ خليل: وجازت كمتعوذ بنفل يوهم ذلك وكذا قول الشاطبي:
ولا بد منها في ابتدائك سورة ... سواها وفي الأجزاء خير من تلا
فحملوا كلًا من الجواز والتخيير على عدم تأكد الطلب ونفي الكراهة، فلا ينافي أصل الندب، وأن الإنسان إذا قالها حصل له الثواب، وكون الإنسان يذكر الله ولا ثواب له بعيد جدًا. اهـ بتصرف من حاشية الأصل وشيخنا في مجموعه.
قوله: [على أفضاله]: أي إحسانه لعباده في الدنيا والآخرة، وفيه رد على من يقول بوجوب الصلاح والأصلح.
قوله: [شرح]: في الأصل مصدر إما بمعنى شارح أو ذو شرح، أو أطلق عليه بالمعنى المصدري مبالغة على حد ما قيل في زيد عدل، ومعناه موضح ومبين والإسناد له مجاز عقلي من الإسناد للسبب.
قوله لطيف: يطلق اللطيف على صغير الحجم، وعلى رقيق القوام، وعلى الذي لا يحجب ما وراءه، والمراد منه هنا السهولة، فأطلق الملزوم وهو أحد المعاني الثلاثة وأراد لازمه وهو سهولة المأخذ.
قوله: [على بيان معاني ألفاظه]: البيان: الإظهار، والمعاني جمع معنى: وهو ما يعنى ويقصد من اللفظ، وإضافة معاني للألفاظ من إضافة المدلول للدال، وإضافة الألفاظ للضمير من إضافة الجزء للكل، بناء على أن الكتاب اسم للألفاظ المخصوصة الدالة على المعاني المخصوصة.
قوله: [ليسهل فهمه]: اللام للتعليل علة لقوله اقتصرت، والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها والفهم، الإدراك.
قوله: [على المبتدئين]: جمع مبتدئ وهو الشارع في العلم الذي لم يقف على أصوله، فإن وقف على الأصول وعجز عن الأدلة يقال له: متوسط، فإن عرف الأصول والأدلة يقال: له منته،
1 / 3
وشرحه وقراءته لمن شاء بمشيئة رب العالمين، فأقول وبه أستعين: (يقول العبد الفقير المنكسر الفؤاد من التقصير أحمد بن محمد بن أحمد الدردير): القول اللفظ الدال على معنى وضع له ذلك اللفظ ولو في ثاني حال، فيشمل المجاز كأسد للرجل الشجاع، والعبد المراد به المملوك لله تعالى، والفقير: المحتاج إليه تعالى في جميع أحواله، والمنكسر: الحزين، والفؤاد: القلب، وإسناد الانكسار بمعنى الحزن إليه مجاز، وقوله: من التقصير علة لانكسار فؤاده، والمراد به: قلة العمل والتقوى؛ فهو كقول الشيخ - رضي الله تعالى عنه - المنكسر خاطره لقلة العمل والتقوى، وأحمد: بيان للعبد، والدردير: لقب اشتهر به كأبيه وجده بين الناس.
وكان الوالد - رحمه الله تعالى - رجلًا صالحًا عالمًا متقنًا للقرآن، فقد بصره في آخرة [١] عمره، فاشتغل بتعليم الأطفال كتاب الله تعالى، فحفظ القرآن على يده خلق كثير، وكان يعلم الفقراء حسبة لله تعالى لا يأخذ منهم صرافة ولا غيرها، بل ربما واساهم من عنده، وكان كثير السكوت لا يتكلم إلا نادرًا، وورده - في غالب أوقاته صلاة سيدي عبد السلام بن مشيش -رضي الله تعالى عنه-، وكان يبشرني في صغري بأن أكون عالمًا.
مات ﵀ شهيدًا بالطاعون سنة ثمان وثلاثين بعد الألف ومائة،
ــ
وإنما خص المبتدئين لأن غيرهم لا يتوقف فهمه عليه، بل يتعاطى أي كتاب شاء.
قوله: [وشرحه]: بالرفع عطف على فهمه، ومتعلقه محذوف تقديره علي.
قوله: [وقراءته]: بالرفع معطوف على فهمه أيضًا.
وقوله: [لمن شاء] [٢]: متعلق بقراءته، وبمشيئته إلخ راجع للجميع، والمعنى اقتصرت في هذا الشرح على إظهار معاني ألفاظه لأجل سهولة فهمه على المبتدئين القاصرين، ولسهولة شرحه علي، ولسهولة قراءته لمن شاء أن يقرأه، وهذه السهولة تحصل بمشيئة رب العالمين.
قوله: [فأقول]: جواب أما. قوله: [وبه أستعين] السين والتاء للطلب، وقدم المجرور ليفيد الحصر.
قوله: [يقول]: أصله يقول استثقلت الضمة على الواو فنقلت إلى ما قبلها.
قوله: [العبد]: يطلق على معان مشهورة اقتصر الشارح فيما سيأتي على أحدها. قوله: [اللفظ الدال]: احترز به عن اللفظ المهمل كديز مثلًا فلا يقال له قول، ويطلق القول على الرأي والاعتقاد، كما يقال قال أبو حنيفة: كذا أي رأى واعتقد.
قوله: [وضع له ذلك اللفظ]: دخل المعنى المطابقي والتضمني، وخرج المعنى الالتزامي، كعلمنا بحياة المتكلم من وراء جدار، فليس موضوعًا له اللفظ.
قوله: [فيشمل المجاز]: مفرع على قوله ولو في ثاني حال، ووجه ذلك: أن الحقيقة موضوعة وضعًا أوليًا، أي كلمة استعملت فيما وضعت له من أول الأمر، والمجاز موضوع وضعًا ثانويًا لأنه كلمة استعملت في غير ما وضعت له، لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي: كأسد فإنه في الأصل موضوع للحيوان المفترس، ثم تستعمله في الرجل الشجاع، فتقول: رأيت أسدًا في الحمام مثلًا، فكل من المجاز والحقيقة موضوع وضعًا لغويًا، لكن الحقيقة وضعها أصلي لا يحتاج لقرينة ولا لعلاقة، والمجاز وضعه عرضي يحتاج لعلاقة وقرينة.
قوله: [المراد به المملوك لله تعالى]: إنما اقتصر على ذلك المعنى لشموله وعمومه قال تعالى: ﴿إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا﴾ [مريم: ٩٣]، أي مملوكًا وهو المسمى بعبد الإيجاد.
قوله [٣]: [المحتاج إليه تعالى إلخ]: هذا التفسير يصلح لكون الفقير صفة مشبهة أو صيغة مبالغة، ولا يخلو عبد منهما دنيا ولا أخرى، ولو وكلنا مولانا طرفة عين لأنفسنا لهلكنا.
قوله: [المنكسر الحزين]: يشير بذلك إلى أن في كلام المصنف استعارة تبعية، حيث شبه حزن القلب بالانكسار الذي هو تفرق أجزاء الشيء الصلب بجامع التلف والتشتت في كل، واستعار اسم المشبه به للمشبه، واشتق منه منكسر بمعنى حزين، والقرينة إضافته للفؤاد.
قوله: [مجاز]: أي عقلي من إسناد ما للكل للبعض الذي هو الفؤاد، وإنما خص الفؤاد دون سائر الأعضاء لأنه محله، ولذلك قال علماء البيان: إذا أسند ما للكل للجزء لا بد أن يكون لذلك الجزء مزية تميزه، إذا علمت ما تقدم من الاستعارة، وما هنا من المجاز العقلي، ففي كلامه مجاز على مجاز.
قوله: (علة لانكسار فؤاده): أي حزنه إنما جاء من رؤية التقصير في حقوق الله، وهذا سنة العارفين بربهم لا يرون لأنفسهم عملًا، كما قال السيد البكري: إلهي إني أخاف أن تعذبني بأفضل أعمالي.
قوله: [كقول الشيخ إلخ]: المراد به الشيخ خليل.
قوله: [بيان] أي عطف بيان، ويصح أن يكون بدلًا لأن نعت المعرفة إذا تقدم عليها يعرب بحسب العوامل، وتعرب منه بدلًا أو عطف بيان، بخلاف نعت النكرة إذا تقدم عليها فيعرب حالًا، وتعرب هي على ما كانت عليه كقول الشاعر:
لمية موحشًا طلل
قوله: [في غالب أوقاته]: وهي الأوقات التي لم يكن مشغولًا فيها بالقرآن.
قوله: [عبد السلام إلخ]: هو شيخ أبي الحسن الشاذلي، وناهيك بشيخ، الشاذلي تلميذه، ومشيش -بشينين معجمتين وأوله ميم أو باء موحدة - وأخبرنا الأستاذ الشارح عن والده المذكور، أن زوجته كانت تدخل عليه فتجد عنده شموعًا موقدة في أوقات الظلام، فتسأله عن ذلك فيقول: إنها أنوار الصلاة على النبي ﷺ، وأخبرنا أيضًا أنهم كانوا في ضيق عيش فتوضع الصحفة فيها الطعام القليل بين يديه، فيقرأ عليها سورة قريش، فيبارك فيها ويأكل منها الناس الكثيرون. قال الشيخ فصرت أقرأ
_________
[قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة]
[١] في ط المعارف: (آخر).
[٢] زاد بعدها في ط المعارف: (لمن شاء).
[٣] ليست في ط المعارف.
1 / 4
وعمري نحو عشر سنين، وشوهدت له كرامات.
(الحمد لله مُولي النعم والشكر له على ما خص منها وعم) الحمد هو الوصف بالجميل اختياريًّا أم لا فعلًا أم لا على فعل جميل اختياري، والشكر ما دل على تعظيم المنعم لإنعامه من قول أو فعل أو اعتقاد، وشكر المنعم واجب بالشرع،
ــ
تلك السورة على الأبواب المغلقة فتفتح [١] بغير مفتاح، فشاع عني - وأنا صغير - أني أفتح الأبواب بغير مفتاح.
قوله: [وعمري نحو عشر سنين]: فيكون مولد الشيخ سنة ثمان وعشرين ومائة، وكانت وفاته ليلة الجمعة لثمان خلون من ربيع الأول سنة مائتين وواحد بعد الألف؛ فسنه ثلاث وسبعون سنة، ودفن بمشهده المشهور بالكعكيين، وكراماته في الحياة وبعد الممات أظهر من الشمس في رابعة النهار. وأقول كما قال بعض العارفين:
لي سادة من عزهم ... أقدامهم فوق الجباه
إن لم أكن منهم فلي ... في حبهم عز وجاه
قوله: [وشوهدت له كرامات]: قد تقدم لك بعضها.
قوله: [الحمد لله]: لما افتتح بالبسملة افتتاحًا حقيقيًا افتتح بالحمد له افتتاحًا إضافيًا، وهو ما تقدم على الشروع في المقصود بالذات جمعًا بين حديثي البسملة والحمدلة، وحمل البسملة على الابتداء الحقيقي، والحمدلة على الابتداء الإضافي لموافقة القرآن العزيز، ولقوة حديث البسملة على حديث الحمدلة، وهو قوله ﷺ: «كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم»، وهناك أوجه أخر مشهورة لدفع التعارض.
وجملة الحمد لله إلى آخر الكتاب مقول القول في محل نصب لأن القول لا ينصب إلا الجمل أو المفرد الذي في معنى الجملة، أو المفرد الذي قصد لفظه ما لم يجر مجرى الظن، فينصب المفردات كما هو معلوم من قول ابن مالك:
وكتظن اجعل تقول إن ولي ... مستفهمًا به ولم ينفصل
إلى أن قال:
وأجري القول كظن مطلقا ... عند سليم نحو قل ذا مشفقا
وأل فيه قيل للجنس وقيل للاستغراق وقيل للعهد وهو حمد المولى نفسه بنفسه أزلًا، لأنه لما علم عجز خلقه عن أداء كنه حمده حمد نفسه بنفسه أزلًا، ثم أمرهم أن يحمدوه بذلك الحمد، واللام في لله قيل للملك أو للاستحقاق أو للتعليل، فعلى الأول معناه جميع المحامد مملوكة لله، وعلى الثاني مستحقة لله، وعلى الثالث ثابتة لأجله، وجملة الحمد خبرية لفظًا إنشائية معنى، وكانت اسمية للدلالة على الثبوت والدوام واقتداء بالكتاب العزيز، وأصل الحمد لله أحمد حمد الله فحذف الفعل لدلالة المصدر عليه فبقي حمد الله، ثم عدل من النصب إلى الرفع لدلالة الثبوت والدوام، فصار حمد لله، ثم أدخلت الألف واللام لقصد الاستغراق أو الجنس أو العهد كما تقدم.
قال الفاكهاني في شرح الرسالة: ويستحب الابتداء بها لكل مصنف ومدرس وخطيب وخاطب ومتزوج ومزوج، وبين يدي سائر الأمور المهمة، وكذا الصلاة على رسول الله ﷺ اهـ باختصار.
قوله: [هو الوصف إلخ]: شروع في معنى الحمد والشكر اللغويين، ولم يتعرض لمعناهما الاصطلاحيين، ومعلوم أن الحمد الاصطلاحي هو الشكر اللغوي، والشكر الاصطلاحي هو صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله، وإنما اقتصر الشارح على المعنى اللغوي في كل لأنه الذي يحمل عليه الشرع إذ لم يكن له اصطلاح خاص، وأما قولهم الحمد اصطلاحًا والشكر اصطلاحًا، فالمراد اصطلاح الناس لا اصطلاح الشرع، فإنه موافق للمعنى اللغوي في كل، ومعنى الوصف الذكر وهذا التعريف سالم من جميع ما يرد على التعريف المشهور، لأن قوله الوصف بالجميل يشمل أقسام الحمد الأربعة المشهورة، وظهر من هذا التعريف أن مورد الحمد خاص ومتعلقه عام، ومورد الشكر عام، ومتعلقه خاص لتقييده بقوله لإنعامه، والنسب بين المعاني الأربعة معلومة.
قوله: [اختياريًا أم لا إلخ]: تعميم في المحمود به إشارة إلى أنه لا يشترط أن يكون اختياريًا، وقوله على فعل جميل اختياري هو المحمود عليه، وفيه إشارة إلى أنه يشترط أن يكون اختياريًا اهـ من تقرير الشارح.
قوله: [واجب بالشرع]: أي لا بالعقل خلافًا للمعتزلة الذين حكموا العقل في الحسن والقبح، بل الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع، ومعنى كونه واجبًا أنه يتحتم على كل مكلف اعتقاد أن كل نعمة ظهرت في الدنيا والآخرة فهي منه تعالى، بل هذا
_________
[قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة]
[١] في ط المعارف: (فتفتتح).
1 / 5
والمولي بكسر اللام: المعطي، والنعم جمع نعمة بكسر النون بمعنى العطية الملائمة، وقوله منها بيان لما والضمير عائد على النعم، فالمعنى على نعم خصها بنا أي قصرها علينا معاشر الأمة المحمدية من الإيمان بمحمد ﷺ، ومعرفة كثير من الأحكام التي جاء بها، وكذا النعم المخصوصة بالشخص في ذاته كشكله ولونه وصورته التي يتميز بها عن غيره في جميع أحواله، فإنها من أعظم النعم.
وقوله وعم أي النعم التي تشملنا وغيرنا كنعمة الوجود الشاملة لكل موجود، ونعمة العقل والعلم والسمع والبصر، وغير ذلك.
ويشمل ذلك كله قول الشيخ والشكر له على ما أولانا من الفضل والكرم، وإنما جعلنا المعنى على النعم التي خصها بنا ولم نجعله على النعم التي خصنا بها ليكون العائد المحذوف ضمير نصب متصلًا، وهو شائع لا شذوذ فيه بخلاف التقدير الثاني.
(والصلاة والسلام على النبي الأعظم وعلى آله وأصحابه وأمته أشرف الأمم) هذه جملة خبرية لفظًا إنشائية معنى قصد بها طلب الصلاة والسلام على أعظم الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وهو سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ﷺ، فإنه أفضل الأنبياء إجماعًا، وأمته جماعته وهم من آمن به إلى يوم القيامة وكانوا أشرف الأمم لأنهم أتباعه.
والتابع يشرف بشرف المتبوع (وصل اللهم على جميع الأنبياء والمرسلين وعلى آلهم وصحبهم أجمعين) يجوز عطف الفعلية الإنشائية على الاسمية كذلك، وهذه الجملة أعم متعلقًا مما قبلها لشمولها النبي وآله وأصحابه؛
ــ
من عقائد الإيمان، ومن اعتقد خلاف ذلك فهو كافر، وأما شكر الأعضاء الظاهرية فتارة تكون واجبة وتارة تكون مندوبة على حسب ما أمر الشارع كما هو معلوم من الشرع.
قوله: [بكسر اللام]: أي مع ضم الميم اسم فاعل، وأما بفتحهما فهو المالك أو المعتق أو الصاحب أو القريب، وأما بضم الميم وفتح اللام فهو المعطى اسم مفعول.
قوله: [بكسر النون]: وأما بضمها فالفرح والسرور وبفتحها التنعم. قال تعالى: ﴿ونعمة كانوا فيها فاكهين﴾ [الدخان: ٢٧].
قوله: [الملائمة]: أي الموافقة لتمني النفس، ولم يقل تحمد عاقبتها شرعًا لأجل شموله نعم الكفار الدنيوية، فإن الكفار منعم عليهم في الدنيا. والحاصل أنهم اختلفوا في تعريف النعمة، فقال بعضهم هي كل ملائم تحمد عاقبته شرعًا، ومن ثم لا نعمة لله على كافر، وقال بعضهم: كل ملائم، فالكافر منعم عليه في الدنيا وإن لم تحمد عواقب تلك النعم، واقتصار الشارح يؤيد الثاني.
قوله: [خصها بنا]: الباء داخلة على المقصور عليه، وهذا خلاف الغالب كما قال الأجهوري:
وباء الاختصاص فيه يكثر ... دخولها على الذي قد قصروا
وعكسه مستعمل وجيد ... قد قاله الحبر الهمام السيد
قوله: [أي قصرها علينا]: أي ولسنا مقصورين عليها.
قوله: [كشكله ولونه إلخ]: قال تعالى: ﴿ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين﴾ [الروم: ٢٢].
قوله: [ليكون العائد إلخ]: أي لقول ابن مالك:
والحذف عندهم كثير منجلي ... في عائد متصل إن انتصب
إلخ قوله: [بخلاف التقدير]: أي ففي حذف العائد شذوذ لعدم استيفائه الشروط التي قال فيها ابن مالك:
كذاك حذف ما بوصف خفضا
إلخ إذا علمت ذلك فظاهر كلام الشارح أن المعنى واحد، وإنما التخالف في شذوذ حذف العائد وعدمه وهو كذلك، غير أن الباء على الوجه الذي تركه الشارح تكون داخلة على المقصور على مقتضى الكثير فيها، وإنما تركه لما قاله تأمل.
قوله: [والصلاة إلخ]: لما أثنى على الله ﷾ وشكره على نعمه أداء لبعض ما يجب إجمالًا، وكان ﷺ هو الواسطة بين الله وبين العباد، وجميع النعم الواصلة إليهم التي أعظمها الهداية للإسلام إنما هي ببركته وعلى يديه، أتبع ذلك بالصلاة والسلام عليه ﷺ أداء لبعض ما يجب له ﷺ، وامتثالًا لقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما﴾ [الأحزاب: ٥٦]، وعملًا بقوله ﵊: «كل كلام لا يذكر الله فيه فيبدأ به وبالصلاة علي فهو أقطع ممحوق من كل بركة»، والصلاة من الله رحمته المقرونة بالتعظيم، ومن العبيد طلبهم ذلك، والسلام من الله الأمان أو التحية، بأن يحيي الله نبيه بكلامه القديم، كما يحيي أحدنا ضيفه، ومن العبيد طلب ذلك.
قوله: [على النبي الأعظم]: أي من كل عظيم.
قوله: [إنشائية معنى]: أي ولا يصح أن تكون خبرية لفظًا أو معنى خلافًا لما مشى عليه يس.
قوله: [والتابع يشرف بشرف المتبوع]: لما ذكروه في الخصائص عند قول البوصيري:
ولك الأمة التي غبطتها ... بك لما أتيتها الأنبياء
إن الله جمع في نبينا جميع ما تفرق في الأنبياء من الكمالات، وجمع في أمته جميع ما تفرق في الأمم
1 / 6
والكلام في الآل والصحب مشهور.
(وبعد فهذا كتاب جليل اقتطفته من ثمار مختصر الإمام خليل) الكلام في بعد واسم الإشارة مشهور،
ــ
منها، وكفاهم قوله تعالى: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس﴾ [آل عمران: ١١٠] الآية.
قوله: [مشهور]: أما الآل في مقام الزكاة فهم عندنا بنو هاشم لا المطلب، وأما في مقام الدعاء فكل مؤمن ولو عاصيًا، وأما في مقام المدح فكل تقي لما في الحديث الشريف: «آل محمد كل تقي»، وأصحابه كل من اجتمع به في حياته بعد البعثة وهو مؤمن وتفصيل ذلك يطول.
قوله: [الكلام في بعد واسم الإشارة مشهور]: أي فلم يتكلم عليه لشهرته، ولنذكر لك زبدة ذلك ليطمئن بها الخاطر؛ فبعد يتعلق بها تسعة مباحث: الأول في واوها، الثاني: في موضعها، الثالث: في معناها، الرابع: في إعرابها، الخامس: في العامل فيها، السادس: في أصلها، السابع: في حكم الإتيان بها، الثامن: في أول من تكلم بها، التاسع: في الفاء بعدها. فأما الواو فإما أن تكون لعطف ما بعدها على ما قبلها عطف قصة على قصة، وإما أن تكون نائبة عن أما التي هي لمجرد التأكيد، وقد تكون للتأكيد مع التفصيل في غير ما هنا. وأما موضعها فيؤخذ من قولهم هي كلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر، أي من غرض إلى آخر، فلا تقع بين كلامين متحدين، ولا أول الكلام ولا آخره، فإن وقعت بين كلامين متغايرين بينهما عدم مناسبة سمي اقتضابًا محضًا، وإن كان بينهما مناسبة كلية سمي تخلصًا، وإن كان بينهما نوع مناسبة كما هنا، سمي اقتضابًا مشوبًا بتخلص، فمثال الاقتضاب المحض قول الشاعر:
لو رأى الله أن في الشيب خيرا ... جاورته الأبرار في الخلد شيبا
كل يوم تبدي صروف الليالي ... خلقًا من أبي سعيد غريبا
ومثال التخلص قول الشاعر أيضًا:
أمطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا ... فقلت كلا ولكن مطلع الجود
وأما معناها فهو نقيض قبل، وتكون ظرف زمان كثيرًا ومكان قليلًا، وهي هنا للزمان لا غير، وقولهم إنها للمكان باعتبار الرقم بعيد كما حققه الشارح ﵁.
وأما إعرابها فلها أربعة أحوال: تعرب في ثلاثة وتبنى في حالة كما هو مشهور. وأما العامل فيها فهو على أن الواو عاطفة مقدر ب أقول ونحوه، وعلى أنها نائبة عن أما، فإن قلنا: إنها من متعلقات الشرط فالعامل فيها فعل الشرط، والتقدير مهما يكن من شيء بعدما تقدم، أو العامل فيها الواو النائبة عن أما النائبة عن مهما، وإن قلنا: إنها من متعلقات الجزاء كانت معمولة للجزاء، والتقدير مهما يكن من شيء فأقول بعدما تقدم، وجعلها من متعلقات الجزاء أولى لأنه يكون وجود المؤلف معلقًا على وجود شيء مطلق. وأما أصلها فهو أما، وأصل أما مهما يكن من شيء، كما تقدم، وهذا الأصل على أن الواو نائبة، وأما على أنها عاطفة فالأصل، وأقول بعد إلخ. وأما حكم الإتيان بها فالاستحباب اقتداء بالنبي ﷺ لأنه كان يأتي بأصلها وهو أما بعد في خطبه ومكاتباته.
وأما أول من تكلم بها فقد نظم الخلاف فيه بعضهم بقوله:
جرى الخلف أما بعد من كان بادئا ... بها خمس أقوال وداود أقرب
وكانت له فصل الخطاب وبعده ... فقس فسحبان فكعب فيعرب
وأما الفاء بعدها فإن قلنا إن الواو عاطفة فالفاء زائدة على توهم وجود أما، وإن قلنا إنها نائبة عن أما فالفاء رابطة للجواب. وفي هذا القدر كفاية. وأما اسم الإشارة ففيه احتمالات سبعة أبداها السيد الجرجاني: وهي إما أن يكون عائدًا على الألفاظ أوالنقوش أو المعاني أو الألفاظ والمعاني، أو المعاني والنقوش أو الألفاظ والنقوش، أو الثلاثة. اختار السيد الجرجاني منها أنه عائد على الألفاظ
1 / 7
والكتاب اسم للنقوش الدالة على الألفاظ الموضوعة لمعانيها، وجليل نعت له، ومعناه عظيم الشأن، لما اشتمل على الأحكام النفيسة مع سهولة الألفاظ وعذوبتها واختصارها اختصارًا لا يخل بالمعاني. ومعنى اقتطفته إلخ أخذته وجمعته من معاني مختصر الإمام الجليل أبي الضياء خليل بن إسحاق، كان مع وفور علمه من الأولياء العارفين بالله تعالى كشيخه الإمام سيدي عبد الله المنوفي - رضي الله تعالى عنهم - وعنا بهم، وقد شبه المختصر المذكور بروضة مثمرة.
وذكر الثمار تخييل للمكنية (في مذهب إمام أئمة دار التنزيل) في مذهب نعت للمختصر المذكور أي الكائن ذلك المختصر في مذهب إمام أئمة دار التنزيل، وهي المدينة المنورة، والتنزيل: القرآن العظيم، والمراد به مالك بن أنس،
ــ
الخارجية الدالة على المعاني المخصوصة فبحث فيه بأنها أعراض تنقضي بمجرد النطق بها، والحق أنه عائد على ما في الذهن، واسم الإشارة في كلام المصنف مبتدأ وكتاب خبر. وإن قلت ما في الذهن مجمل والكتاب اسم للمفصل فلا يصح الإخبار. أجيب بأن في الكلام حذف مضاف أي مفصل هذا كتاب. فإن قلت: ما في ذهن المؤلف جزئي والكتاب اسم لما في ذهن المؤلف وغيره فيلزم عليه الإخبار بالكلي عن الجزئي. أجيب بأن في العبارة حذف مضاف ثان. أي مفصل نوع هذا كتاب. والإشكال الأول لا يرد إلا على تسليم أن الذهن لا يقوم به المفصل، وعلى تسليم أن الكتاب لا يكون اسمًا للمجمل، وعلى تسليم عدم صحة الإخبار بالمفصل عن المجمل، وإلا فلا يحتاج لتقدير المضاف الأول، والإشكال الثاني مبني على ما اشتهر من أن أسماء الكتب من قبيل علم الجنس، وأسماء العلوم من قبيل علم الشخص، والحق أن يقال إن كان الشيء لا يتعدد بتعدد محله فالكل من قبيل علم الشخص، وإن كان الشيء يتعدد بتعدد محله فالكل من قبيل علم الجنس، والفرق تحكم وكون الشيء يتعدد بتعدد محله أوهام فلسفية لا يعتد بها، فإذا علمت ذلك فلا حاجة لتقدير المضاف الثاني أيضًا.
قوله: [اسم للنقوش إلخ]: فعلى هذا يكون الشارح اختار أن اسم الإشارة عائد على الثلاثة وهو أحد الاحتمالات السبعة المتقدمة.
قوله: [ابن إسحاق]: بن موسى وهذا هو الصواب كما في الحطاب وغيره، وقد وهم ابن غازي في إبدال موسى بيعقوب.
قوله: [من الأولياء العارفين]: أي لكونه كان مجاهدًا لنفسه في طاعة الله مكث عشرين سنة بمصر لم ير النيل لاشتغاله بربه، وكان يلبس لبس الجند المتقشفين، وله ولشيخه كرامات ذكر الأصل بعضها.
قوله: [بروضة مثمرة]: أي وطوى ذكر المشبه به وذكر الثمار تخييل كما قال الشارح، والاقتطاف ترشيح والجامع بين المعنيين الانتفاع التام في كل، فإن الروضة بها انتفاع الأجساد وبالمختصر انتفاع الأرواح.
قوله: [في مذهب]: هو في الأصل محل الذهاب كالطريق المحسوسة، والمراد منه هنا ما ذهب إليه مالك من الأحكام الاجتهادية، فقد شبه الأحكام التي ذهب إليها واعتقدها بطريق يوصل إلى المقصود، واستعار اسم المشبه به للمشبه على طريق الاستعارة التصريحية الأصلية، والجامع بينهما التوصل للمقصود في كل، على حد قوله تعالى: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ [الفاتحة: ٦].
قوله: [أئمة]: جمع إمام وهو في اللغة المقدم على غيره، وفي الاصطلاح من بلغ رتبة أهل الفضل ولو صغيرًا، وأصل أئمة: أأممة نقلت كسرة الميم الأولى إلى الهمزة الثانية، ثم أدغمت الميم في الميم فصار أئمة بتحقيق الهمزتين أو بتسهيل الثانية.
قوله: (دار التنزيل): أي القرآن لنزول غالبه بها.
قوله: [وهي المدينة المنورة]: أي بأنوار المصطفى لأنه أنارها حسًا ومعنى، ولها أسماء كثيرة أنهاها بعض العلماء إلى تسعين، منها ما ذكره المتن والشرح، منها قبة الإسلام، ومدينة الرسول، وطيبة، وطابة، والراحمة، والمرحومة، والهادية، والمهدية، وأما تسميتها بيثرب فمكروه وما في الآية حكاية عن المنافقين.
قوله: [مالك بن أنس]: هو أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بفتح الغين المعجمة أوله بعدها مثناة تحتية ساكنة ابن خثيل - بالمثلثة مصغر أوله خاء معجمة ويقال بالجيم كما في القاموس - من ذي أصبح بطن من حمير فهو من بيوت الملوك وعادة ملوكهم يزيدون في العلم ذا تعظيمًا: أي صاحب هذا الاسم. وأم الإمام اسمها العالية بنت شريك الأزدية، وقيل طليحة مولاة عامر بنت معمر، وكان أبو الإمام وجده من فقهاء التابعين، وجده مالك أحد الأربعة الذين حملوا عثمان ﵁ إلى قبره ليلًا ودفنوه بالبقيع، وأبوه أبو عامر صحابي شهد المغازي كلها مع رسول الله ﷺ خلا بدرًا، والإمام تابع التابعين وقيل تابعي لأنه
1 / 8
وإذا كان إمام أئمة المدينة - مع عظم شأنهم - كان إمامًا لغيرهم بالأولى. فهو إمام الأئمة لا بمجرد الدعوى، بل بشهادة العقل والنقل. يحكم بذلك كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (اقتصرت فيه على أرجح الأقاويل) هذا نعت لكتاب؛ أي كتاب اقتصرت فيه عند الاختلاف في حكم على القول الراجح عند الأشياخ. فلم يقع فيه ذكر القولين إلا قليلًا حيث لم يظهر ترجيح لأحدهما.
(مبدلًا غير المعتمد منه به،
ــ
أدرك عائشة بنت سعد بن أبي وقاص - وقيل بصحبتها - ولكن الصحيح أنها ليست صحابية. وهو عالم المدينة. لم تشد الرحال لعالم بها كما شدت له حتى يحمل عليه. وناهيك ما اشتهر: لا يفتى ومالك بالمدينة. روى الحاكم وغيره بروايات متعددة: «يخرج ناس من المشرق والمغرب في طلب العلم فلا يجدون أعلم من عالم المدينة» وخرجه الترمذي بلفظ: «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل». ويروى: «آباط الإبل يطلبون العلم فلا يجدون عالمًا أفقه من عالم المدينة» قال سفيان: كانوا يرونه مالكًا. قال ابن مهدي: يعني سفيان بقوله كانوا يرونه: التابعين الذين هم من خير القرون. ويروى: «لا تنقضي الساعة حتى يضرب الناس أكباد الإبل»، إلخ انظر (ح). وبالجملة متى قيل: هذا قول عالم المدينة، فهو المراد. وفي (ح) أيضًا: ما أفتى مالك حتى أجازه أربعون محنكًا. والتحنيك في العمامة شأن الأئمة. وعن مالك: جالست ابن هرمز ست عشرة سنة في علم لم أبثه لأحد، ومذهبه عمري؛ سد الحيل واتقاء الشبهات. ولم يعتزل مالكي قط وعليه أهل الغرب الوارد بقاؤهم على الحق. وألف السيوطي كتابًا يسمى "تزيين الممالك في ترجمة الإمام مالك" أثبت فيه أخذ الإمام أبي حنيفة عنه. قال: وألف الدارقطني جزءًا في الأحاديث التي رواها أبو حنيفة عنه. بل روى عن الإمام من هو أكبر سنًا من أبي حنيفة وأقدم وفاة، كالزهري وربيعة، وهما من شيوخ مالك وأخذا عنه، فأولى قرينه. ومن شيوخ مالك من غير التابعين: نافع بن أبي نعيم القارئ؛ قرأ عليه مالك القرآن. وروى هو عن مالك، وهو غير نافع التابعي مولى ابن عمر. وحملت بالإمام أمه ثلاث سنين. وكانت ولادته سنة ثلاث وتسعين من الهجرة على الأشهر بذي المروة؛ موضع من مساجد تبوك على ثمانية برد من المدينة. وكانت وفاته على الصحيح يوم الأحد لتمام اثنتين وعشرين يومًا من ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة. وصلى عليه عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وكان يومئذ واليًا على المدينة. ودفن بالبقيع وقبره مشهور وعليه قبة، وبجانبه قبر لنافع؛ قيل: نافع القارئ أو هو مولى ابن عمر. ومناقبه وفضله أظهر من الشمس في رابعة النهار ﵁ وعنا به.
قوله: [قلب]: أي عقل كامل.
وقوله: [أو ألقى السمع] إلخ: أي صغى بسمعه وهو حاضر بقلبه لما يذكر من مناقب الإمام، وفيه اقتباس من الآية الكريمة. قوله: [أرجح الأقاويل]: أي أقواها إن وجد راجح وأرجح، وعلى الراجح إن وجد راجح ومرجوح. فأفعل التفضيل في كلامه ليس على بابه دائمًا كما يفيده حل الشارح. والراجح عندهم: ما قوي دليله والمشهور: ما كثر قائله. ولكن مراد المصنف بالأرجح والراجح: القوي والأقوى؛ إما لقوة دليله أو لكثرة قائله، لأنه ليس ملتزمًا لاصطلاحات المختصر.
مسألة: للمفتي إذا استفتي في مسألة فيها قولان أن يحمل المستفتي على أيهما.
وقيل: بل يخبره بالقائلين، فيقلد أيهما أحب كما لو كانوا أحياء. وهذا إذا لم يكن فيه أهلية للترجيح، وإلا فليرجح أحد الأقوال - انظر الأجهوري.
مسألة أخرى - في الحطاب: أن من أتلف بفتواه مجتهدًا لا يضمن، ومقلدًا يضمن إن انتصب أو تولى فعل ما أفتى به، وإلا - فغرور قولي لا ضمان فيه، ويزجر وإن لم يتقدم له اشتغال بالعلم، أدب وتجوز الأجرة على الفتيا إن لم تتعين. وذكر عن ابن عمر تقديم الشاذ في المذهب على مذهب الغير، والأشياخ على عكسه.
مسألة أخرى - في (شب): أنه يمتنع تتبع رخص المذاهب. وفسرها بما ينقض به حكم الحاكم من مخالف النص وجلي القياس. ولغيره: أن معناه رفع مشقة التكليف باتباع كل سهل. وفيه أيضًا منع التلفيق.
والذي قاله شيخنا الأمير عن شيخه العدوي عن شيخه الصغير وغيره: أن الصحيح جوازه، وهو فسحة. لكن لا ينبغي فعلها في النكاح، لأنه يحتاط في الفروج ما لا يحتاط في غيرها.
قوله: [مبدلًا]: أي معوضًا.
قوله: [غير المعتمد]: أي غير القوي.
وقوله: [به]: أي بالمعتمد، بمعنى القوي سواء كانت قوته لرجحانه
1 / 9
مع تقييد ما أطلقه وضده، للتسهيل) مبدلًا، حال من فاعل اقتصرت، أي حال كوني مبدلًا غير المعتمد من المختصر بالمعتمد، مع تقييد الحكم الذي أطلقه الشيخ - وحقه التقييد - ومع إطلاق ما قيده - وحقه الإطلاق. وهو معنى قولي: (وضده). وقوله: للتسهيل: علة لما ذكر من الإبدال وما معه. أي فعلت ذلك لأجل أن يسهل الأمر على الطالب المستفيد؛ لأن ذكر القول الضعيف والتقييد في محل الإطلاق - وعكسه - فيه خفاء وصعوبة على الطالب، لإيجابه اعتقاد خلاف الواقع.
(وسميته: أقرب المسالك لمذهب الإمام مالك) المسالك جمع مسلك: أي محل السلوك أي الذهاب، فالمسلك الطريق المسلوك فيه. والمراد بها هنا الكتب المؤلفة في المذهب. وسماه بذلك ليطابق الاسم المسمى؛ إذ الكتب المؤلفة في المذهب لا تخلو عن صعوبة، وهذا الكتاب سهل منقح.
يقرب الأقصى بلفظ موجز ... ويبسط البذل بوعد منجز
وقوله: (لمذهب): متعلق بالمسالك. (وأسأل الله أن ينفع به كما نفع بأصله إنه علي حكيم، رؤوف رحيم) سأل الله تعالى النفع بهذا الكتاب لأنه لا يُسأل إلا الله وحده. والنفع ضد الضر. وحذف المعمول لإفادة العموم. أي ينفع به كل من قرأه أو كتبه أو حصله، كما نفع بأصله الذي هو مختصر الشيخ. واعلم أني متى أطلقت لفظ الشيخ في هذا الكتاب أو أتيت بضمير الغائب لغير مذكور فالمراد به المصنف صاحب المختصر.
باب في بيان الطهارة
ــ
أو لشهرته -ومعناه أن الأصل- الذي هو الشيخ خليل - إذا مشى على طريقة قال الأشياخ بضعفها، أبدلها مصنفنا بما اعتمدته الأشياخ.
قوله: [مع تقييد ما أطلقه] إلخ: كقول المختصر وسقوطها في صلاة مبطل، فهذا الإطلاق حقه التقييد بشروط تأتي، فقيده مصنفنا ﵁ بتلك الشروط وقوله: [ومع إطلاق ما قيده] إلخ: كقوله في الوضوء: وإن عجز، ما لم يطل، فحقه - حيث كان العجز حقيقيًا - الإطلاق، وقد أطلقه المصنف ﵁، وهكذا فلتقس.
قوله: [وسميته] إلخ: أي وضعت ذلك التركيب اسمًا له؛ لأن من سنة المؤلفين تسمية أنفسهم وكتبهم لأجل الرغبة والانتفاع بها، لأن المجهول لا يرغب فيه، والضمير البارز في [سميته]: مفعول أول لسمى، و[أقرب]: مفعوله الثاني، ومادة التسمية تارة تتعدى للثاني بنفسها أو بالباء.
قوله: [والمراد بها هنا الكتب]: أي فقد شبه الكتب المؤلفة في المذهب بطرق توصل إلى مدينة مثلًا، واستعار اسم المشبه به للمشبه على طريق الاستعارة التصريحية. وإضافتها للمذهب قرينة مانعة. ولك أن تجعل [في المذهب]: بمعنى الأحكام؛ استعارة بالكناية، بأن يقال: شبه مذهب مالك بمدينة يتوصل إليها بطرق عديدة، وطوى ذكر المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه - وهو المسالك - على سبيل الاستعارة بالكناية وذكر المسائل تخييل.
قوله: [يقرب الأقصى] إلخ: مقتبس من قول ابن مالك:
تقرب الأقصى بلفظ موجز ... وتبسط البذل بوعد منجز
وإسناد التقريب للكتاب: مجاز عقلي من الإسناد للسبب. والأقصى صفة لموصوف محذوف؛ أي المعنى الأبعد الذي في غاية البعد، ومن باب أولى البعيد. والموجز: المختصر، والبسط: التوسعة. والبذل: العطاء أي المعطى. والوعد: ما كان بخير ضد الوعيد. والمنجز: المبرم. وبالجملة فقد شبه كتابه بشخص كريم ذي عطايا واسعة يعد ولا يخلف. وطوى ذكر المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو البسط والبذل والوعد، فالبذل تخييل، والبسط والوعد ترشيحان.
قوله: [كما نفع بأصله]: ما مصدرية تسبك مع ما بعدها بمصدر. والجار والمجرور صفة لموصوف محذوف مفعول مطلق والتقدير: وأسأل الله النفع به نفعًا كائنًا كالنفع بأصله. قوله: [إنه علي] إلخ: بكسر الهمزة على الاستئناف المضمن معنى التعليل،
والعلي: المنزه عن كل نقص. والحكيم: ذو الحكمة والصنع الذي يضع كل شيء في محله، والرؤوف: شديد الرحمة، والرحيم: ذو الرحمة. وحكمة توسله بهذه الأسماء: إفادتها أن الله منزه عن الأغراض في الأفعال والأحكام يعطي من غير علة ومن غير تهيؤ العبد للعطايا يعطي الحكم؛ وهي العلوم النافعة لشدة رأفته ورحمته. قوله: [لأنه لا يسأل إلا الله وحده]: هذا الحصر مأخوذ من قوله: [إنه علي حكيم] إلخ.
(باب):
هو في العرف معروف. وفي اللغة: فرجة في ساتر يتوصل بها من خارج إلى داخل وعكسه حقيقة في الأجسام؛ كباب الدار ومجاز في المعاني كما هنا. وفي الاصطلاح: اسم لطائفة من المسائل المشتركة في أمر.
والباب في كلام المؤلف إما مرفوع مبتدأ خبره محذوف، أو خبر لمبتدأ محذوف أو منصوب بفعل محذوف أو موقوف على حد ما قيل في الأعداد المسرودة. واعترض الإعراب الأول: بأنه يلزم عليه الابتداء بالنكرة، ويجاب: بأن المسوغ للابتداء بها هنا وقوع الخبر جارًا ومجرورًا. وهو إذا وقع خبرًا عن نكرة وجب تقديمه عليها ليسوغ الابتداء بها فيقدر مقدمًا عليها.
قوله: [في بيان الطهارة]: بفتح الطاء، وأما بضمها فهو ما يتطهر به، وأما بكسرها فهو ما يضاف إلى الماء من صابون ونحوه.
1 / 10
وأقسامها، وأحكامها، والطاهر، والنجس. وما يتعلق بذلك [١] ويسمى كتاب الطهارة.
وبدأ بالكلام على الطهارة. وما تتحصل به من الماء المطلق، وما يتعلق به الأحكام.
فقال: (الطهارة صفة حكمية يستباح بها ما منعه الحدث أو حكم الخبث).
أقول: الطهارة القائمة بالشيء الطاهر صفة حكمية؛ أي يحكم العقل بثبوتها وحصولها في نفسها
ــ
وابتدأ بالكلام على الطهارة لأنها مفتاح الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين. والكلام في الشرط مقدم على المشروط. وقدم ما يكون به الطهارة وهو - الماء في الغالب - لأنه إن لم: يوجد هو ولا بدله، لا توجد الطهارة؛ فهو كالآلة. واستدعى الكلام فيه الكلام على الأعيان الطاهرة والنجسة لكي يعلم ما ينجس الذي يكون به الطهارة، وما لا ينجسه وما يمنع التلبس به من التقرب بالصلاة وما في حكمها، وما لا يمنع من ذلك وهذه طريقة أكثر أهل المذهب. واعلم أنه قد جرت عادتهم في هذا الباب أن يتعرضوا لبيان حقائق سبعة، وهي: الطهارة والنجاسة والطاهر والنجس والطهورية والتطهير والتنجيس، واقتصر المصنف على تعريف الطهارة. ولنذكر لك الباقي على طبق تعريف المصنف الآتي.
فتعريف النجاسة: صفة حكمية يمتنع بها ما استبيح بطهارة الخبث. والطاهر الموصوف بصفة حكمية يستباح بها ما منه [٢] الحدث أو حكم الخبث. والنجس -بكسر الجيم- المتنجس: هو الموصوف بصفة حكمية يمتنع بها ما أبيح بطهارة الخبث. وأما بفتحها: فهو عين النجاسة، وتقدم تعريفها. والطهورية بفتح الطاء: صفة حكمية يزال بما قامت به الحدث وحكم الخبث. وهذا الوصف لا يطرد إلا في الماء المطلق.
والتطهير: إزالة النجاسة أو رفع الحدث.
والتنجيس: تصيير الطاهر نجسًا.
وقوله: [وأقسامها]: قال الأصل الطهارة قسمان: حدثية وخبثية، والأولى مائية وترابية، والمائية لغسل [٣] ومسح أصلي أو بدلي. والبدلي اختياري أو اضطراري.
والترابية بمسح فقط، والخبثية أيضًا مائية وغير مائية، والمائية بغسل ونضح، وغير المائية بدابغ في كيمخت فقط، ونار على الراجح فيهما. إذا علمت ذلك فقولهم: الرافع هو المطلق لا غيره، فيه نظر بناء على الراجح. وعلى التحقيق من أن التيمم يرفع الحدث رفعًا مقيدًا، والقول بأنه لا يرفعه وإنما يبيح الصلاة لا وجه له، إذ كيف تجتمع الإباحة مع المنع أو الوصف المانع؟ نعم الأمران معًا - أي الحدث وحكم الخبث - لا يرفعهما إلا الماء المطلق، وأما غيره فلا يرفعهما معًا لأن التراب إنما يرفع الحدث فقط والدباغ والنار إنما يرفعان حكم الخبث فقط.
قوله: (وأحكامها): وهي الوجوب إذا توقفت صحة العبادة عليها أو الندب أو السنية إن لم تتوقف.
قوله: [والطاهر]: سيأتي في قوله: الطاهر ميتة ما لا دم له والحي ودمعه إلخ.
وقوله: [النجس]: بينه أيضًا في باب الطاهر وفي باب إزالة النجاسة.
قوله: [وما يتعلق بذلك]: اسم الإشارة عائد على الطهارة وما بعدها، وأفرد باعتبار ما ذكر.
قوله: [ويسمى كتاب الطهارة]: أي كما يسمى بباب الطهارة وهي تسمية قديمة.
قال في الحاشية: قال ابن محمود شارح أبي داود: قد استعملت هذه اللفظة زمن التابعين، يعني لفظة باب، قال في الحاشية أيضًا وانظر لفظة كتاب، قال شيخنا في مجموعه وانظر لفظة فصل.
قوله: [الطهارة]: هذا شروع في معناها اصطلاحًا. وأما معناها لغة فهي النظافة من الأوساخ الحسية والمعنوية كالمعاصي الظاهرة والباطنة. قال في حاشية الأصل: والحاصل أن الطهارة من التحقيق كما اختاره ابن راشد، وتبعه العلامة الرصاع والتتائي على الجلاب والشبرخيتي وشيخنا في حاشيته، موضوعة للقدر المشترك وهو الخلوص من الأوساخ أعم من كونها حسية أو معنوية خلافًا لما قاله (ح) من أنها موضوعة للنظافة من الأوساخ، بقيد كونها حسية، وأن استعمالها في النظافة من الأوساخ المعنوية مجاز، ويدل للأول قوله تعالى: ﴿ويطهركم تطهيرا﴾ [الأحزاب: ٣٣]، والمجاز لا يؤكد إلا شذوذًا كما صرح به العلامة السنوسي في شرح الكبرى وغيره عند قوله تعالى: ﴿وكلم الله موسى تكليما﴾ [النساء: ١٦٤].
قوله: [صفة]: دخل تحتها أقسام الصفات الثلاثة: المعاني والمعنوية والسلبية، فلذلك أخرج المعاني والسلبية بقوله حكمية.
قوله: [بالشيء الطاهر]: أي حيوانًا أو جمادًا كان الحيوان عاقلًا أو لا.
قوله: [يحكم العقل]
_________
[قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة]
[١] قوله: (وما يتعلق بذلك) ساقط من ط المعارف.
[٢] في ط المعارف: (منعه)، ولعله الصواب.
[٣] في ط المعارف: (بغسل).
1 / 11
فهي من صفات الأحوال عند من يقول بالحال، أو من الصفات الاعتبارية عند من لا يقول بالحال؛ كالوجود والظهور والشرف والخسة؛ فإنها صفات حكمية، أي اعتبارية يعتبرها العقل. أو أنها أحوال: أي لها ثبوت في نفسها، وليست وجودية كصفات المعاني، ولا سلبية بأن يكون مدلولها سلب شيء كالقدم والبقاء.
وقوله: (يستباح): أي يباح فالسين والتاء للتوكيد. وقوله: (ما): كناية عن فعل أي يباح بها فعل؛ كصلاة وطواف ومس مصحف. (منعه): أي منع منه الحدث الأصغر أو الأكبر، أو منع منه حكم الخبث، والخبث: عين النجاسة.
والمانع من التلبس بالفعل المطلوب: حكمها المترتب عليها عند إصابتها الشيء الطاهر؛ وهو أثرها الحكمي الذي حكم الشرع بأنه مانع. فالطهارة قسمان: طهارة من حدث، وطهارة من خبث، فأو في قوله: (أو حكم الخبث) للتنويع: لا للتشكيك أو الشك فلا يضر ذكرها في الحد.
واعلم أن الحدث لا يقوم إلا بالمكلف.
وهو قسمان: أصغر وأكبر.
فالأصغر يمنع الصلاة والطواف ومس المصحف. ويزيد الأكبر منع الحلول بالمسجد، فإن كان جنابة منع القراءة أيضًا، وإن كان عن حيض أو نفاس منع الوطء.
وأما حكم الخبث فيقوم بكل طاهر من بدن أو ثوب أو مكان أو غيرها. وهو يمنع الصلاة والطواف والمكث في المسجد. ثم إن أريد بالمانع ما يشمل التحريم والكراهة، شمل التعريف الأرضية، والاغتسالات المندوبة والمسنونة. كما يشمل طهارة الذمية ليطأها زوجها المسلم. ولا يرد الوضوء المجدد لأنه ليس فيه تحصيل طهارة، وإنما فيه تقوية الطهارة الحاصلة، فقد علمت أن تعريفنا الطهارة أخصر وأوضح وأشمل من تعريف ابن عرفة المشهور.
(ويرفع: بالمطلق): ضمير يرفع يعود على الحدث وحكم الخبث، وأفرده لأن العطف بأو. والحدث وصف تقديري قائم بالبدن أو بأعضاء الوضوء.
وقوله: (يرفع): أي يرتفع ويزول برفع الله له بسبب استعمال الماء المطلق على الوجه المعروف شرعًا الآتي بيانه من غسل أو مسح أو رش.
ــ
تبعًا للشرع، لأن المدار عليه.
قوله: [فهي من صفات الأحوال] إلخ: وهي على هذا القول صفة ثبوتية لا توصف بالوجود بحيث يصح أن ترى، ولا بالعدم بحيث لا تدرك إلا في التعقل، بل هي واسطة بين الوصف الوجودي والاعتباري.
قوله: [أو من الصفات الاعتبارية] إلخ: هذا هو الحق. لأن الحق أن لا حال. والحال محال، كما هو مبين في علم الكلام.
قوله: [كالوجود] إلخ: هذه الأمثلة لما فيه الخلاف.
قوله: [فإنها صفات حكمية] إلخ: توضيح للخلاف الذي ذكره أولًا.
قوله: [للتوكيد]: أي زائدتان للتوكيد وليستا للطلب.
قوله: [فعل كصلاة]: يصح قراءته بالإضافة والتنوين.
قوله: [أي منع منه]: إشارة إلى أن في كلام المصنف حذفًا وإيصالًا، أي حذف الجار، وإيصال الضمير.
قوله: [عين النجاسة]: أي وهو يزال بكل قلاع فلا تحصل بإزالته الطهارة الشرعية إلا في مسائل، كالاستجمار ونحوه.
قوله: [فلا يضر ذكرها في الحد]: أي التعريف، لأن المضر أو التي للشك أو التشكيك وهي التي قال فيها صاحب السلم:
ولا يجوز في الحدود ذكر أو ... وجائز في الرسم فادر ما رووا
قوله: [واعلم] إلخ: إنما قال ذلك لأن التعريف للماهية وهي مجملة، فلم يكتف به وذكر هذا الحاصل للإيضاح.
قوله: [إلا بالمكلف]: هذا الحصر مشكل، لأن المكلف هو البالغ العاقل إلخ. فيقتضي أن الصبي المميز لا يقوم به الحدث، وليس كذلك. ويجاب بأن المراد بالمكلف: ما يشمل المكلف بالمندوب والمكروه فقط فيدخل المميز. وأورد أيضًا أنه يقتضي أن المجنون والنائم لا يقوم بهما الحدث، مع أنه ليس كذلك. وأجيب بأن المراد بالحدث هو الذي يتأتى رفعه. لأن المجنون حال جنونه، والنائم حال نومه لا يخاطبان برفعه، وإنما الذي يخاطب به المكلف.
قوله: [وإن كان عن حيض] إلخ: أي وإن كان الأكبر ناشئًا عن حيض أو نفاس منع الوطء، أي لا القراءة مدة سيلان الدم، وأما بعد انقطاعه وقبل الغسل فتمنع القراءة لقدرتها على إزالة مانعها. انتهى تقرير الشارح.
قوله: [الأرضية والاغتسالات] إلخ: كالوضوء لزيارة الأولياء، وللدخول على السلطان، ووضوء الجنب للنوم، وغسل الحائض والنفساء للإحرام والوقوف. فإن هذه الأمور منعها الحدث منع كراهة والوضوء والغسل أباحها. وأما غسل الجمعة والعيدين للمتوضئ فلم يستبح بهما ما منعه الحدث، بل هما خارجان من التعريف كالوضوء المجدد.
قوله: [ويرفع بالمطلق]: أي لا غيره لأن التراب وإن رفع الحدث لا يرفع الخبث، والنار والدباغ وإن رفعا الخبث لا يرفعان الحدث كما تقدم.
قوله: [والحدث وصف تقديري] إلخ: وقد يطلق على نفس المنع سواء تعلق بجميع الأعضاء كالجنابة، أو ببعضها كحدث الوضوء، لكن تسمية المنع حدثًا فيه بشاعة لأنه حكم الله فلا يليق أن يسمى بذلك، ورفعه بهذا المعنى باعتبار تعلقه بالأشخاص فيرجع لمعنى الصفة الحكمية؛ وأما باعتبار قيامه بالله فهو واجب الوجود فلا يتصور ارتفاعه، ويطلق في مبحث الوضوء على الخارج المعتاد من المخرج المعتاد، وفي مبحث قضاء الحاجة على خروج الخارج فله إطلاقات أربع كما علمت.
قوله: [أي يرتفع ويزول برفع الله]: أي يحكم الله بالرفع.
قوله: [من غسل]: أي في طهارة حدث أو خبث.
قوله: [أو مسح]: أي في حدث.
قوله: [أو رش]: أي في إزالة النجاسة
1 / 12
(وهو ما صدق عليه اسم ماء بلا قيد): يعني أن الماء المطلق الذي يرفع الحدث وحكم الخبث هو ما صدق عليه اسم ماء من غير قيد؛ أي ما صح إطلاق لفظ الماء عليه من غير ذكر قيد؛ بأن يقال فيه: هذا ماء. فخرج ما لم يصدق عليه اسم الماء أصلًا من المائعات؛ كالخل والسمن. وما لا يصدق عليه اسمه إلا بالقيد كماء الورد وماء الزهر وماء البطيخ ونحوها. فهذه الأشياء ليست من الماء المطلق، فلا يصح التطهير بها، بخلاف ماء البحر والمطر والآبار، فإنه يصح إطلاق الماء عليها من غير قيد فيصح التطهير بها.
(وإن جمع من ندى أو ذاب بعد جموده): هذا مبالغة في قوله يرفع إلخ.
أي أن الحدث وحكم الخبث يرتفعان بالماء المطلق، ولو جمع المطلق من الندى الساقط على أوراق الأشجار أو الزرع، أو كان جامدًا كالبرد والجليد، ثم ذاب بعد جموده.
(ما لم يتغير [١] لونًا أو طعمًا أو ريحًا بما يفارقه غالبًا من طاهر، أو نجس مخالط أو ملاصق، لا مجاور): يعني أن الماء المطلق يرفع الحدث وحكم الخبث مدة كونه لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه بشيء شأنه مفارقة الماء غالبًا من طاهر - كلبن وسمن وعسل وحشيش وورق شجر ونحوها - أو نجس - كدم وجيفة وخمر ونحوها. فإن تغير بشيء من ذلك سُلب الطهورية فلم يرفع ما ذكر. ومحل سلبه الطهورية إن خالط شيء مما ذُكر الماء، بأن امتزج به أو لاصقه، كالرياحين المطروحة على سطح الماء، والدهن الملاصق له، فنشأ من ذلك تغير أحد أوصاف الماء، لا إن جاوره، فتكيف الماء بكيفية المجاور، فلا يضر. ومن المجاور: جيفة مطروحة خارج الماء فتغير ريح الماء منها، أو بخرت الآنية ببخور وصب فيها الماء بعد ذهاب الدخان، أو وضع ريحان فوق شباك قلة بحيث لم يصل الماء فتكيف الماء بريح ذلك، فإنه لا يضر. بخلاف ما لو صب الماء
ــ
كما سيأتي في قوله وإن شك في إصابتها لثوب وجب نضحه.
قوله: (وهو ما صدق عليه إلخ): الصدق معناه الحمل؛ أي ما حمل عليه اسم ماء إلخ.
قوله: [بلا قيد]: أي لازم غير منفك عنه أصلًا، فكلامه شامل لما إذا صدق عليه اسم ماء بلا قيد أصلًا أو مقيدًا بقيد غير لازم كماء البئر مثلًا كما يفيده الشارح في الحل.
قوله: [يعني أن الماء المطلق] إلخ: أي ففرق بين قولهم الماء المطلق ومطلق ماء، فالأول ما علمت.
والثاني صادق بكل ماء ولو مضافًا، وهذا اصطلاح للفقهاء ولا مشاحة فيه.
قوله: [أي ما صح إطلاق] إلخ: أي الحمل عليه والإخبار عنه.
قوله: [والآبار] إلخ: أي ولو آبار ثمود، فماؤها طهور على الحق وإن كان التطهير به غير جائز. فلو وقع ونزل وتطهر بها وصلى فهل تصح الصلاة أو لا؟ استظهر الأجهوري الصحة وفي الرصاع على الحدود عدمها، واعتمدوه كما ذكره في الحاشية. وعدم الصحة تعبدي لا لنجاسة الماء لما علمت أنه طهور. وكما يمنع التطهير بمائها يمنع الانتفاع به في طبخ وعجن لكونه ماء عذاب، ويستثنى منها البئر التي كانت تردها الناقة فإنه يجوز التطهير والانتفاع بمائها، وكما يمنع التطهير بمائها يمنع التيمم بأرضها أي يحرم، وقيل بجوازه وصححه التتائي. وما قيل في آبار ثمود يقال في غيرها من الآبار التي في أرض نزل بها العذاب كديار لوط وعاد انتهى من حاشية الأصل.
قوله: [وإن جمع من ندى]: أي ولو تغيرت أوصافه لأنه كالقرار، ولا يخص بتغير الريح ولا بما جمع من فوقه خلافًا للأصل والخرشي.
قوله: (أو ذاب إلخ): أي تميع سواء كان بنفسه أو بفعل فاعل.
قوله: (كالبرد): هو النازل من السماء جامدًا كالملح قال تعالى: ﴿وينزل من السماء من جبال فيها من برد﴾ [النور: ٤٣].
قوله: والجليد: هو ما ينزل متصلًا بعضه ببعض كالخيوط. وأدخلت الكاف الثلج وهو ما ينزل مائعًا ثم يجمد على الأرض.
قوله: [ما لم يتغير لونًا] إلخ: ما مصدرية ظرفية، أي مدة عدم تغيره. و"لونا" و"ما" عطف عليه منصوب على التمييز المحول على الفاعل، كما يفيده الشارح في الحل. ولون الماء الأصلي البياض. وأما قولهم في تعريفه: الماء جوهر سيال لا لون له يتلون بلون إنائه، فإن ذلك في مرأى العين لشفافيته. وقول السيدة عائشة ﵂: «ما هو إلا الأسودان الماء والتمر» تغليب للتمر أو للون إنائه، وأما قوله: [أو ريحًا] قال ابن كمال باشا من الحنفية: لا بد من التجوز في قولهم تغير ريح الماء؛ إذ الماء لا ريح له أصالة أي فالمراد طرو ريح عليه. (انتهى بالمعنى من شيخنا في مجموعه).
وحاصل الفقه في المتغير أحد أوصافه بالمفارق غالبًا -إن كان مخالطًا أو ملاصقًا- أن يقال: إما أن يتحقق التغير أو يظن أو يشك أو يتوهم، فهذه أربع صور مضروبة في الأوصاف الثلاثة باثني عشر، وهي مضروبة في المخالط والملاصق؛ فالحاصل أربع وعشرون صورة. فإن كان التغير محققًا أو مظنونًا ضر فالخارج اثنا عشر. فإن كان مشكوكًا أو متوهمًا فلا يضر، فهذه اثنا عشر أيضًا. وأما المجاور فلا يضر التغير به مطلقًا في اثني عشر وهي تغير أحد أوصافه تحقيقًا أو ظنًا أو شكًا أو توهمًا، فالجملة ست وثلاثون صورة، وقد علمتها. وخلاف هذا لا يعول عليه، انتهى بالمعنى من حاشية الأصل.
قوله: [من طاهر]: أي وحكمه كمغيره، وكذلك قوله أو نجس.
قوله: [فتغير ريح الماء منها]: بل ولو فرض تغير الثلاثة لا يضر، وإنما اقتصر الشارح على الريح لكونه الشأن.
قوله: [وصب فيها الماء] إلخ: ما قاله الشارح في هذا
_________
[قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة]
[١] في ط المعارف: (يتغيره).
1 / 13
قبل ذهاب دخان البخور أو وصل الريحان للماء فإنه يضر.
(لا إن تغير بمقر أو ممر من أجزاء الأرض؛ كمغرة وملح، أو بما طرح منها ولو قصدًا): هذا معطوف بلا النافية على مفهوم قوله ما لم يتغير إلخ. كأنه قيل: فإن تغير بما يفارقه غالبًا ضر تغيره، لا إن تغير الماء بمقر الماء أو تغير بممره أي بما مر عليه حال كون المغير من أجزاء الأرض، كالمغرة بفتح الميم والملح والكبريت والتراب، فإنه لا يضر. وكذا لا يضر التغير بما طرح فيه من أجزاء الأرض كالملح أو الطفل ونحو ذلك ولو قصدًا. وقول الشيخ: والأرجح: السلب بالملح ضعيف.
(أو بمتولد منه أو بطول مكث): لا يضر تغير الماء بشيء تولد منه، كالسمك والدود والطحلب بفتح اللام وضمها، وكذا إذا تغير الماء بطول مكثه من غير شيء ألقي فيه، فإنه لا يضر.
(أو بدابغ طاهر كقطران، أو بما يعسر الاحتراز منه؛ كتبن أو ورق شجر): يعني أن الجلود التي أعدت لحمل الماء كالقرب والدلاء التي يستقى بها، إذا دبغت بدابغ طاهر كالقطران والشب والقرظ، ثم وضع فيها الماء لسفر أو غيره فتغير من أثر ذلك الدابغ، فإنه لا يضر؛ لأنه كالمتغير بقراره. وكذا إذا تغير بما يعسر الاحتراز منه، كالتبن وورق الشجر الذي يتساقط في الآبار والبرك من الريح، وسواء كانت الآبار أو الغدران في البادية أو الحاضرة؛ إذ المدار على عسر الاحتراز.
وما في كلام الشيخ مما يخالف ذلك ضعيف. بخلاف ما لو تغير بالتبن أو ورق الشجر في الأواني أو بما ألقي منهما في الآبار بفعل فاعل، فإنه يضر لعدم عسر الاحتراز منه.
(ولا إن خف التغير بآلة سقي من حبل أو وعاء أو تغير بأثر بخور أو قطران كجرمه إن رسب): هذا معطوف على قوله: لا إن تغير. أي: وكذا لا يضر تغير الماء إذا كان التغير خفيفًا بآلة سقي؛ من حبل ربط به قواديس السانية، أو علقت به الدلاء أو تغير بنفس الوعاء، كالدلاء والقواديس وكذا. إذا تغير بأثر بخور بخر به الإناء ثم زال دخانه وبقي الأثر، فوضع فيه الماء، أو بأثر قطران دهن به الإناء من غير دبغ به. وكذا إذا رُمي القطران في الماء فرسب في قراره فتغير الماء به، فإنه لا يضر على الأصح. لأن القطران كانت تستعمله العرب كثيرًا في الماء عند الاستقاء وغيره، فتسومح فيه؛ لأنه صار كالتغير بالمقر، وليس غير المتغير بآلة.
ــ
المثال مثله في الحاشية تبعا للأجهوري، وبحث فيه شيخنا في مجموعه بقوله قد يقال إن الإناء اكتسب الريح وهو ملاصق.
قوله: [قبل ذهاب دخان] إلخ: أي ولو بكبريت ونحوه من أجزاء الأرض كما قال (عب) واعتمده في الحاشية.
قوله: [لا إن تغير بمقر]: أي قرار أقام عليه الماء. وقوله: أو [ممر]: أي موضع مر عليه الماء ومثل ذلك أواني الفخار المحروق والنحاس إذا سخن الماء فيها وتغير.
قوله: [وقول الشيخ] إلخ: حاصله أن المتأخرين اختلفوا في الملح المطروح قصدًا.
فقال ابن أبي زيد: لا ينقل حكم الماء كالتراب وهذا هو المذهب. وقال القابسي: إنه كالطعام فينقله واختاره ابن يونس وهو المشار له بقوله والأرجح إلخ.
وقال الباجي: المعدني كالتراب والمصنوع كالطعام. فهذه ثلاث طرق للمتأخرين. ثم اختلف من بعدهم: هل ترجع هذه الطرق إلى قول واحد؟ فيكون من جعله كالتراب أراد المعدني ومن جعله كالطعام أراد المصنوع؟ وحينئذ، فقد اتفقت الطرق على أن المصنوع يضر، وهذا هو الشق الأول من التردد في كلام الشيخ خليل، وهو قوله: "وفي الاتفاق على السلب به إن صنع تردد". وأما إن كان غير مصنوع، ففيه الخلاف المشار له بقوله: [ولو قصدًا] أو ترجع [١] هذه الطرق إلى ثلاثة أقوال متباينة: فمن قال: لا يضر، مراده: ولو مصنوعًا، ومن قال: يضر، مراده: ولو معدنيًا. فالمصنوع فيه خلاف كغيره. وهذا هو الشق الثاني من التردد، وهو المحذوف في كلام خليل تقديره: وعدم الاتفاق، وهو صادق بالأقوال الثلاثة (انتهى من حاشية الأصل). فإذا علمت ذلك، فما قاله شارحنا هو المعول عليه. فلا ضرر بالملح ولو مطروحًا قصدًا أو مصنوعًا -ما لم يكن من النبات- كما ذكره شيخنا في مجموعه.
قوله: [كالسمك] إلخ: أي حيث كان حيًا فلا يضر التغير به ولو تغيرت أوصافه الثلاثة. ولو طرح قصدًا، وأما إن مات فيضر اتفاقًا، وأما خرؤه فنظر فيه الأجهوري واستظهر بعض تلامذته الضرر وبعضهم عدمه.
قوله: [والطحلب]: أي ما لم يطبخ.
قوله: [يعني أن الجلود] إلخ: لا مفهوم لها بل كل ما فيه مصلحة لأواني الماء حكمه كالدباغ لا يضر التغير به مطلقًا لونًا أو طعمًا أو ريحًا [٢] فاحشًا أو لا.
قوله: [على عسر الاحتراز]: وكل هذا ما لم يكن التغير بروث المواشي والدواب وبولها وإلا ضر كما ذكره خليل وشراحه.
قوله: [ولا إن خف التغير]: لم يفرق بين البين وغيره إلا في هذه المسألة؛ وهي تغير الماء بالآلة التي يخرج بها. وفي (ابن [٣]): اعلم أن التغير إما بملازم غالبًا، فيغتفر. أو بمفارق غالبًا ودعت إليه الضرورة - كحبل الاستقاء؛ ففيه ثلاثة أقوال ذكرها ابن عرفة: قيل: إنه طهور وهو لابن زرقون. وقيل، ليس بطهور، وهو لابن الحاج.
والثالث لابن رشد: التفصيل بين التغير الفاحش وغيره وهو الراجح. ولذا اقتصر عليه خليل وتبعه المصنف.
قوله: [بآلة سقي]: هذا أشمل من قول المختصر حبل السانية فإنهم قالوا لا مفهوم لحبل ولا لسانية، بل متى تغير الماء بآلته ولم تكن من أجزاء الأرض يفصل فيها بين الفاحش وغيره.
قوله: [فتغير الماء به]: أي ريحه، أو ما لونه أو طعمه فيضر حيث لم يكن دباغًا كذا في الأصل.
_________
[قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة]
[١] قوله: (أو ترجع) في ط المعارف: (وترجع).
[٢] قوله: (أو طعمًا أو ريحًا) في ط المعارف: (وطعمًا وريحًا).
[٣] في ط المعارف: (بن).
1 / 14
(أو شك في مغيره: هل يضر؟): يعني إذا [١] كان الماء متغيرا، وشك في مغيره، هل هو من جنس ما يضر؟ كالعسل والدم، أو هو من جنس ما لا يضر؟ كالمغرة والكبريت وطول المكث؟ فإنه لا يسلب الطهورية ويجوز التطهير به.
(أو في ماء جعل في الفم، هل تغير؟ أو فيما خلط بموافق، هل يغير لو خالف؟): يعني إذا جعل الماء في الفم، وحصل شك فيه هل تغير بالريق أو لا، فإنه يجوز التطهير به. وأولى إذا ظن عدم التغير. بخلاف ما إذا ظن التغير، فإنه لا يجوز التطهير به. وكذا إذا شك في الماء المخلوط بشيء موافق لأوصافه؛ كما لو خلط بمياه الرياحين المنقطعة الرائحة، هل تغيره لو كانت غير منقطعة الرائحة أو لا تغيره لقلتها وكثرة الماء؟ فإنه لا يضر، فقوله: أو في ماء جعل، عطف على قوله: في مغيره، أي أو شك في الماء الذي جعل في الفم، وقوله هل تغير؟ تفسير للشك. وكذا يقال فيما بعده.
(كتحققه على الأرجح): هذا تشبيه في عدم الضرر. يعني أن الماء المخلوط بموافق لا يضر التطهير به، ولو جزمنا بأنه لو كان ما خالط مخالفًا له لغيره على الأرجح. وجميع ما في كلام الشيخ مما يخالف هذا ضعيف عند الأشياخ.
(وحكمه كمغيره): يعني أن الماء المتغير بما يفارقه غالبًا حكمه في الاستعمال وعدمه كحكم مغيره، فإن تغير بطاهر فالماء طاهر غير طهور يستعمل في غير الطهارة. وإن تغير بجنس [٢] فالماء متنجس لا يستعمل في طهارة ولا غيرها إلا في نحو سقي بهيمة أو زرع كما سيأتي.
(وكره ماء يسير استعمل في حدث،
ــ
قوله: [أو شك] إلخ: هو بالبناء للمفعول أي وقع التردد على حد سواء في هذا المغير. ومفهوم شك أنه لو ظن أو تحقق أن مغيره يضر أنه يعمل على ذلك. والوهم أولى من الشك في عدم الضرر.
فقوله: [هل يضر] تصوير لقوله: [أو شك].
قوله: [أو في ماء جعل في الفم] إلخ: حاصل ما قاله المصنف والشارح في الماء المطلق المجعول في الفم إذا حصل فيه شك، هل تغير بالريق أم لا؟ أنه لا يضر وأولى إذا ظن عدم التغير أو تحقق، بخلاف ما إذا ظن التغير فإنه لا يجوز التطهير به، وأولى إذا تحقق التغير، وهذا حمل منه للخلاف بين ابن القاسم وأشهب على اللفظي، وهو المعتمد فقول أشهب بالضرر محمول على ما إذا تحقق التغير أو ظن، وقول ابن القاسم بعدم الضرر محمول على ما إذا شك في التغير أو ظن عدمه أو تحقق.
قوله: [أو فيما خلط بموافق] إلخ: حاصل ما قاله المصنف والشارح فيما إذا خالط الماء المطلق - شيء أجنبي موافق لأوصافه كماء الرياحين المنقطعة الرائحة وماء الزرجون -بفتح الزاي- أي حطب العنب أنه لو قدر مخالفًا ولم يغيره تحقيقًا أو ظنًا أو شكًا لا يضر من غير خلاف، ولو كان يغيره تحقيقًا أو ظنًا لم يضر على الراجح. وأصل المسألة خمس وأربعون صورة لأن الماء المطلق إما قدر آنية الوضوء، أو أقل منها أو أكثر، وفي كل إما أن يخلط بمساو له أو أقل أو أكثر، فهذه تسع وفي كل لو قدر مخالفًا - إما أن يتحقق عدم التغير، أو يظن عدمه، أو يشك، أو يتوهم، أو يتحقق التغير. فهذه خمس مضروبة في التسع بخمس وأربعين صورة منها سبع وعشرون لا ضرر فيها قطعًا؛ وهي ما إذا تحقق عدم التغير. أو ظن عدمه، أو شك. فهذه ثلاث صور مضروبة في التسع وهي داخلة في قول المصنف، وفيما خلط بموافق، هل يغير لو خالف؟ لأن موضوعه الشك في التغير على تقدير المخالفة، فمن باب أولى تحقق العدم وظنه. والثمانية عشر الباقية حاصلة من ضرب تحقق التغير أو ظنه في التسع، داخلة في قول المصنف: [كتحققه على الأرجح]. وهذا الترجيح من المصنف اعتمده في الحاشية وذكره (شب) أيضًا تبعًا لابن عبد السلام بناء على تقدير الموافق غير مخالف. والمخالفة لا تضبط، والشريعة السمحاء تقتضي طرح ذلك. ومقابل الأرجح يقول بتقدير الموافق مخالفًا، ويحكم بالضرر عند تحقق التغير أو ظنه. وقد ارتضاه الشيخ في قراءة (عب) وتبعه شيخنا في مجموعه. وعن الشيخ أبي علي ناصر الدين: أن المخالط إذا كان نجسًا فالماء نجس مطلقًا. اهـ.
قال (بن) نقلًا عن بعض الشيوخ: وهذا هو الظاهر اهـ. ولك أن تقول كلام أبي علي ظاهر حيث كان عند المخالفة يحصل التغير تحقيقًا أو ظنًا. وأما لو شك في التغير فلا وجه لظهوره. وهذا الحاصل زبدة ما قالوه في هذه المسألة فليحفظ.
قوله: [وحكمه كمغيره]: جملة مستأنفة جواب عما يقال إذا كان التغير بالمفارق يسلب الطهورية فهل يجوز تناوله في العادات أو لا يجوز تناوله فيها؟ قوله: [كما سيأتي]: أي في آخر فصل الطاهر، في قوله: وجاز انتفاع بمتنجس في غير مسجد وآدمي.
قوله: [وكره ماء] إلخ: الكلام على حذف مضاف أي استعماله، وقوله: [استعمل]: صفته.
وقوله: [في حدث]: تنازعه كل من استعمال المقدر واستعمال المذكور، فكأنه قال: " وكره استعمال ماء في حدث استعمل في حدث ". وحاصل ما قاله المصنف والشارح أن الماء اليسير الذي هو قدر آنية الغسل فأقل، المستعمل في حدث، يكره استعماله في حدث بشروط ثلاثة: أن يكون يسيرًا، وأن يكون استعمل في رفع حدث لا حكم خبث، وأن يكون الاستعمال الثاني في رفع حدث. فصار المأخوذ من المتن والشرح أن الماء المستعمل في حكم خبث لا يكره له استعماله، وأن الماء المستعمل في حدث لا يكره استعماله في حكم خبث. وهذا ما نقله زروق عن ابن رشد وهو خلاف ما ذكره شيخنا في مجموعه. وحاصل ما ذكره: أن الماء اليسير المستعمل في [٣] متوقف على طهور، ولو
_________
[قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة]
[١] في ط المعارف: (إذ).
[٢] في ط المعارف: (بنجنس)، ولعل الصواب: (بنجس).
[٣] زاد بعدها في ط المعارف: (حدث).
1 / 15
أو حلت به نجاسة لم تغيره، أو ولغ فيه كلب، ومشمس بقطر حار): هذا شروع في المياه المكروهة الاستعمال.
ولا تكون الكراهة إلا في الماء اليسير فيما قبل المشمس.
ــ
غسل ذمية من الحيض ليطأها زوجها - فإنه رفع حدثًا في الجملة - أو غسلة ثانية أو ثالثة، لأنهما من توابع رفع الحدث، حتى قال القرافي ينوي أن الفرض ما أسبغ من الجميع والفضيلة الزائدة، فبالجملة الكل طهارة واحدة، والخبث كالحدث لا نحو رابعة، وغسل ثوب طاهر مما لا يتوقف على طهور يكره استعمال ما ذكر في مثله. اهـ. بالمعنى أي يكره استعماله في حدث ولو غسل ذمية أو غسلة ثانية أو ثالثة أو حكم خبث، وهذا هو المعول عليه. وحاصل الفقه أن صور استعمال الماء المستعمل خمس وعشرون صورة، لأن استعماله أولًا إما في حدث أو حكم خبث، وإما في طهارة مسنونة أو مستحبة، وإما في غسل إناء. وكل من هذه إذا استعمل ثانيًا فلا بد أن يستعمل في أحدها؛ فالمستعمل في حدث أو في حكم خبث يكره استعماله في مثلهما فهذه أربع. وكذا يكره استعماله في الطهارة المسنونة والمستحبة، فهذه أربع أيضًا ولا يكره استعماله في غسل كالإناء، وهاتان صورتان. والمستعمل في الطهارة المسنونة والمستحبة يكره استعماله في رفع الحدث وحكم الخبث. وفي الطهارة المسنونة والمستحبة على أحد الترددين، فهذه ثمانية، لا في غسل كالإناء. فهاتان اثنتان والمستعمل في غسل كالإناء لا يكره استعماله في شيء فهذه خمس اهـ من حاشية الأصل بتصرف.
تنبيه: عللت كراهة الاستعمال بعلل ست.
أولها: لأنه أديت به عبادة.
ثانيها: لأنه رفع به مانع.
ثالثها: لأنه ماء ذنوب.
رابعها: للخلاف في طهوريته.
خامسها: لعدم أمن الأوساخ.
سادسها: لعدم عمل السلف. وأوجه تلك العلل مراعاة الخلاف وهو علة كراهة استعمال الماء القليل الذي حلته نجاسة، وعلة كراهة استعمال الماء الذي ولغ فيه كلب.
مسألة: لو جمعت مياه قليلة مستعملة أو حلتها نجاسة ولم تغيرها فكثرت هل تستمر الكراهة لأن ما ثبت للأجزاء يثبت للكل؟ وهو ما للحطاب. واستظهر ابن عبد السلام نفيها. قيل: وعليه فالظاهر لا تعود الكراهة إن فرق لأنها زالت ولا موجب لعودها، وقد يقال: له موجب وهو القلة، والحكم يدور مع العلة. ويجزم بزوال الكراهة إذا كانت الكثرة بغير مستعمل.
مسألة أخرى: الاستعمال عند أصحابنا بالدلك لا بمجرد إدخال العضو، والظاهر الكراهة في استعماله، وإن لم يتم الوضوء سواء قلنا إن كل عضو يطهر بانفراده أو لا يرتفع الحدث إلا بكمال الأعضاء، خلافًا لما في (عب) من التفصيل. اهـ. بالمعنى من شيخنا في مجموعه. قوله [١]: [أو حلت به] إلخ: حاصل فقه المسألة أن الماء اليسير وهو ما كان قدر آنية الغسل فأقل إذا حلت فيه نجاسة يكره استعماله بقيود ستة:
الأول: أن يكون يسيرًا كما تقدم.
الثاني: أن تكون النجاسة كالقطرة. أي نقطة المطر المتوسطة ففوق.
الثالث: عدم التغيير.
الرابع: أن يوجد غيره.
الخامس: أن يستعمل فيما يتوقف على طهور.
السادس: أن لا يكون له مادة. فإن تغير منع استعماله في العادات والعبادات. وإن اختل [٢] شرط من باقي الشروط فلا كراهة.
قوله: [أو ولغ] إلخ: معطوف على [حلت] وهو بفتح اللام في الماضي والمضارع وحكي كسرها في الماضي؛ أي أدخل لسانه فيه وحركه. فإنه يكره استعماله حيث كان يسيرًا ولم يتغير ووجد غيره، ولو تحققت سلامة فيه من النجاسة، لا إن لم يحرك لسانه، ولا إن سقط منه لعاب في الماء من غير إدخال فلا كراهة. والحاصل أن حكمه حكم الماء الذي حلته نجاسة يكره استعماله فيما يتوقف على طهوره ولا يكره استعماله في العادات.
قوله: [ومشمس]: معطوف على ماء بقطع النظر عن وصفه باليسير، وهو صفة لموصوف محذوف على حذف مضاف تقديره: وكره استعمال ماء مشمس إلخ.
وهذه الكراهة طبية لا شرعية لأنها لا تمنع من إكمال الوضوء أو الغسل، بخلاف ما لو كانت كراهته لشدة حرارته، والفرق بين الكراهتين أن الشرعية يثاب تاركها بخلاف الطبية؛
_________
[قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة]
[١] ليست في ط المعارف.
[٢] في ط المعارف: (أخل).
1 / 16
واليسير: ما كان كآنية المغتسل كالصاع والصاعين والكثير ما زاد على ذلك، أي وكره استعمال ماء يسير [١] في رفع حدث قد كان استعمل أولًا [٢] في رفع حدث.
فالقيود ثلاثة: أن يكون يسيرًا، وأن يكون استعمل في رفع حدث لا حكم خبث، وأن يكون الاستعمال الثاني في رفع حدث. والمراد بالمستعمل في حدث: ما تقاطر من الأعضاء أو غسلت فيه. وأما لو اغترف منه وغسلت الأعضاء خارجه فليس بمستعمل. وعلم أن استعماله في تطهير حكم الخبث غير مكروه، كالذي رفع به حكمه، لم يكره في الحدث إذا لم يتغير. وكذا يكره اليسير الذي حلت فيه نجاسة ولم تغيره لقلتها ولو من خبث.
وقول الرسالة: وقليل الماء ينجسه قليل النجاسة وإن لم تغيره، ضعيف، وإن كان هو قول ابن القاسم. وكذا اليسير الذي ولغ فيه كلب؛ فإنه يكره استعماله، وسيأتي أنه يندب إراقته، وغسل الإناء سبعًا، وهذا ظاهر في كراهة استعماله في الحدث والخبث.
وكذا يكره الماء المشمس أي المسخن بالشمس في الأقطار الحارة كأرض الحجاز، لا في نحو مصر والروم، وقيد بعضهم الكراهة أيضًا بالمشمس في الأواني النحاس ونحوها لا الفخار، وقيل لا يكره مطلقًا.
(كاغتسال براكد): هذا تشبيه في الكراهة؛ أي أنه يكره الاغتسال من الجنابة ونحوها في ماء راكد أي غير جارٍ؛ كحوض ولو كان كثيرًا ما لم يستبحر كبركة وغدير. وما لم تكن له مادة، وإلا لم يكره إلا أن يكون الذي له مادة قليلًا في نفسه فيكره أيضًا.
(وراكد مات فيه بري ذو نفس سائلة ولو كان له مادة. وندب نزح لظن زوال الفضلات، لا إن أخرج حيًا أو وقع ميتًا): قوله: راكد بالرفع عطف على "ما": أي وكره ماء راكد - أي استعماله في حدث أو خبث - إذا مات فيه حيوان بري بفتح الباء نسبة للبر ضد البحر - بقيوده الآتية قبل النزح منه، لأنه ماء تعافه النفوس، ولو كثر أو كانت له مادة كالبئر. وإذا مات الحيوان البري في الماء القليل أو الكثير - له مادة أو لا - كالصهاريج، وكان له نفس سائلة - أي دم يجري منه إذا جرح - فإنه يندب النزح منه بقدر الحيوان من كبر أو صغر وبقدر الماء من قلة وكثرة إلى ظن زوال الفضلات، خرجت من فيه حال خروج روحه في الماء. وينقص النازح الدلو لئلا تطفو الدهنية فتعود للماء ثانيًا. والمدار على ظن زوال الفضلات، ولهذا حذفنا من المتن قول الشيخ: "بقدرهما"، فلو أخرج الحيوان من الماء قبل موته أو وقع فيه ميتًا أو كان الماء جاريًا أو مستبحرًا كغدير عظم جدًا، أو كان الحيوان بحريًا كحوت، أو بريًا ليس له نفس سائلة كعقرب وذباب، لم يندب النزح فلا يكره استعماله كما لا يكره بعد النزح. وهذا ما لم يتغير الماء بالحيوان المذكور. فإن تغير لونًا أو طعمًا أو ريحًا تنجس لأن ميتته نجسة.
(ولو زال تغير متنجس بغير إلقاء طاهر فيه، لم يطهر): يعني إذا تغير الماء بحلول نجاسة فيه ثم زال تغيره لا بصب شيء طاهر فيه بل بنفسه - فإنه يكون باقيًا على تنجيسه. ولا يستعمل في عبادة أو عادة،
ــ
وما قلناه من أنها طبية، هو ما قاله ابن فرحون والذي ارتضاه الحطاب أنها شرعية.
قوله: [كآنية المغتسل]: أي ولو للمتوضئ والمزيل لحكم الخبث.
قوله: [لا حكم خبث]: قد علمت ما فيه.
قوله: [في رفع حدث]: أي أو حكم خبث.
قوله: [فليس بمستعمل]: أي ولم ينو الاغتراف خلافًا للشافعية.
قوله: [غير مكروه]: قد علمت ما فيه أيضًا.
قوله: [لقلتها]: لا مفهوم له بل المدار على عدم التغير.
قوله: [وإن كان هو قول ابن القاسم]: أي فلا غرابة في ضعفه وإن كان.
قوله: [ونحوها]: كالرصاص والقصدير لأنها تورث البرص، فتحصل أن الكراهة بقيود ثلاثة: أن يكون الماء مسخنًا بالشمس في أواني [٣] نحو النحاس من كل ما يمد تحت المطرقة غير النقدين، وغير المغشى بما يمنع اتصال الزهومة بالبلاد الحارة كما يؤخذ من الأصل.
قوله: [كاغتسال براكد] إلخ: حاصل ما فيه أن مالكًا يقول بكراهة الاغتسال في الماء الراكد كان يسيرًا أو كثيرًا، والحال أنه لم يستبحر ولم تكن له مادة سواء كان جسد المغتسل نقيًا من الأذى أو لا، ولكن لا يسلب الطهورية. فإن كان يسلبها منع الاغتسال فيه. فليس عند مالك حالة جواز للاغتسال فيه، بل إما المنع أو الكراهة. وهي عنده تعبدية. وقال ابن القاسم: يحرم الاغتسال فيه إن كان يسيرًا وبالجسد أوساخ؛ وإلا جاز بلا كراهة، فقول المصنف: [كاغتسال براكد] لا يصح حمله على قول ابن القاسم، وإنما يحمل على كلام مالك.
قوله: [مات فيه] إلخ: سيأتي محترز هذا وهو شيئان خروجه حيًا ووقوعه ميتًا أما الأول فمتفق عليه وأما الثاني فقال (بن) عن ابن مرزوق الوقوع ميتًا كالموت فيه، ولكن ما مشى عليه المصنف ظاهر التعليل الآتي وهو زوال الرطوبات التي تخرج عند الموت.
قوله: [في حدث أو خبث]: المراد كل ما توقف على طهور.
قوله: [بقيوده]: متعلق باستعماله، وقبل النزح ظرف له. والقيود الآتية ستة، وهي: مات الحيوان البري في الماء القليل أو الكثير إلخ، وكان له نفس سائلة، ولم يغير كما يأتي في آخر عبارة الشارح.
قوله: [لأن ميتته نجسة]: أي لكونه: بريًا ذا نفس سائلة، وأما لو كان بحريًا أو بريًا لا نفس له سائلة وتغير الماء به، فهو طاهر غير طهور ومفهوم قول الشارح [وكره ماء] أنه لو وقع في طعام ومات فيه أو وقع ميتًا أنه يجري على حكم الطعام الذي حلته نجاسة الآتي. وإن وقع حيًا وخرج كذلك، فإن كان يغلب على جسده النجاسة عمل عليه وإلا فلا ضرر لأن الطعام لا يطرح بالشك
قوله: [لم يطهر]: هذا قول ابن القاسم وقال (بن) الأرجح أنه
_________
[قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة]
[١] في ط المعارف: (سير).
[٢] في ط المعارف: (أو لا).
[٣] في ط المعارف: (أوان).
1 / 17
خلافًا لمن قال إنه إذا زال تغيره بنفسه طهر لأن علة تنجيسه تغيره وقد زالت. وأما لو زال تغيره بصب ماء مطلق فيه ولو قل لعادت له الطهورية. وكذا إذا زال بسقوط شيء طاهر فيه كتراب أو طين فإنه يكون طهورًا إذا زال أثر ما سقط فيه. ومفهوم متنجس: أنه لو زال تغير الطاهر بنفسه لكان طهورًا.
فصل: في بيان الأعيان الطاهرة والنجسة
(الطاهر: الحي، وعرقه، ودمعه ومخاطه، ولعابه، وبيضه، إلا المذر وما خرج بعد موته): الأصل في الأشياء الطهارة. فجميع أجزاء الأرض وما تولد منها طاهر، والنجاسة عارضة. فكل حي - ولو كلبًا وخنزيرًا - طاهر، وكذا عرقه وما عطف عليه، إلا البيض المذر، بفتح الميم وكسر الذال المعجمة، وهو ما تغير بعفونة أو زرقة، أو صار دمًا؛ فإنه نجس بخلاف الممروق: وهو ما اختلط بياضه بصفاره من غير نتونة وإلا ما خرج من الحيوان من بيض أو مخاط أو دمع أو لعاب بعد موته بلا ذكاة شرعية؛ فإنه يكون نجسًا. فهذا في الحيوان الذي ميتته نجسة.
(وبلغم، وصفراء، وميت الآدمي، وما لا دم له، والبحري، وما ذكي من غير محرم الأكل، والشعر، وزغب الريش): البلغم: وهو ما يخرج من الصدر منعقدًا كالمخاط، وكذا ما يسقط من الدماغ من آدمي أو غيره، طاهر. وكذا الصفراء: وهي ماء أصفر ملتحم يخرج من المعدة يشبه الصبغ الزعفراني؛ لأن المعدة عندنا طاهرة فما خرج منها طاهر، ما لم يستحل إلى فساد كالقيء المتغير. ومن الطاهر: ميتة الآدمي ولو كافرًا على الصحيح.
وميتة ما لا دم له من جميع خشاش الأرض؛ كعقرب،
ــ
يطهر وهو قول ابن وهب عن [١] مالك، واعتمد الأجهوري و(عب) أنه لا يطهر. ورجح ابن رشد ما لابن وهب وفيه نظر. اهـ تقرير الشارح
قوله: [لعادت له الطهورية]: أي اتفاقًا.
قوله: [فإنه يكون طهورًا]: قال شيخنا في مجموعه: حاصل ما أفاده الأجهوري وتلامذته والزرقاني وابن الإمام التلمساني: إذا زال تغير النجس بنحو تراب، فإن ظن زوال أوصاف النجاسة طهر، وإن احتمل بقاؤها، غاية الأمر أنها خفيت بالمخالط فنجس. وبعد، فالقياس في غير صب المطلق تخريج الفرع من أصله على ما سبق في المخالط الموافق. وقد سبق أن الأظهر فيه الضرر، فلذا اعتمدنا هنا بقاء النجاسة تبعًا للأجهوري و(عب) و(شب) و(خش) وإن اعتمد (بن) الطهورية. اهـ.
قوله: [لكان طهورًا]: أي اتفاقًا ومفهومه أيضًا أنه لو زال تغير نفس النجاسة كالبول فنجس جزمًا؛ لأن نجاسته لبوليته لا لتغيره، ولا وجه لما حكي عن ابن دقيق العيد من الخلاف فيه كما في (شب) اهـ. شيخنا في مجموعه.
فصل:
هو لغة الحاجز بين الشيئين، واصطلاحًا اسم لطائفة من مسائل الفن مندرجة تحت باب أو كتاب غالبًا.
ولما قدم أن المتغير بالطاهر طاهر. وبالنجس نجس ناسب أن يبين الأعيان الطاهرة والنجسة في هذا الفصل.
قوله: [الطاهر]: بينه وبين المباح عموم وخصوص من وجه، فيجتمعان في الخبز مثلًا، وينفرد الطاهر في السم، وينفرد المباح في الميتة للمضطر. كذا في الحاشية. ويعلم من هذا أن بين النجس والممنوع عموم وخصوص وجهي أيضًا؛ فيجتمعان في الخمر مثلًا، وينفرد الممنوع في السم والنجس في الميتة للمضطر.
قوله: [الحي]: أي من قامت به الحياة وهي ضد الموت، فهي صفة تصحح لمن قامت به الحركة الإرادية.
قوله: [وبيضه]: أي ولو من حشرات.
قوله: [فجميع أجزاء الأرض]: أي لأنها من جملة الجماد. وسيأتي ذكره.
قوله: [وما تولد منها]: أي كالنباتات لأنها من الجماد أيضًا، وجميع الحيوانات لأنها من المني، وهو ناشئ من الغذاء، وهو مما يخرج من الأرض فلذلك فرع عليه قوله "فكل حي" إلخ.
قوله: [فكل حي]: أي ولو كافرًا أو شيطانًا ونجاستهما معنوية. قوله: [وكذا عرقه]: ولو شارب خمر.
قوله: [وما عطف عليه]: الذي هو دمعه ومخاطه ولعابه وبيضه. وهي طاهرة ولو أكل نجسًا، ومحل كون اللعاب طاهرًا إن خرج من غير المعدة. وأما الخارج من المعدة فنجس وعلامته أن يكون أصفر منتنًا.
قوله: [أو صار دمًا]: وأولى ما صار مضغة أو فرخًا ميتًا، وأما وجود نقطة دم غير مسفوح فيه فلا تضر.
قوله: [من بيض]: أي ولو يابسًا.
قوله: [فهذا في الحيوان الذي ميتته نجسة]: وأما الخارج مما ميتته طاهرة -كالسمك والجراد- والخارج بعد الموت بذكاة شرعية، فجميعه طاهر.
قوله: [وميت الآدمي]: بسكون الياء والمشدد للحي قال تعالى: ﴿إنك ميت﴾ [الزمر: ٣٠] قال بعض الأدباء [٢]:
أيا سائلي تفسير ميت وميت ... فدونك قد فسرت ما عنه تسأل
فما كان ذا روح فذلك ميت ... وما الميت إلا من إلى القبر يحمل
هذا هو الأصل الغالب في الاستعمال ولا يكادون يستعملون "ميتة" بالتاء إلا مخففًا اهـ شيخنا في مجموعه.
قوله: [الآدمي]: إنما كان طاهرًا لتكريمه قال تعالى: ﴿ولقد كرمنا بني آدم﴾ [الإسراء: ٧٠].
قوله: [كالقيء المتغير]: ومثله الصفراء المنتنة. قوله: [ما لا دم له]: هو معنى قول غيره: لا نفس له سائلة أي لا دم ذاتي له، بل إن وجد فيه دم يكون منقولًا ويحكم. بنجاسة الدم فقط، فلذلك قال: "لا دم له" ولم يقل: لا دم فيه.
قوله: [خشاش الأرض]: أي وليس منه ما هو كالوزغ والسحالي من كل ما له لحم ودم. واعلم أنه لا يلزم من الحكم بطهارة ميتة ما لا نفس له سائلة، أنه يؤكل بغير ذكاة؛ لقول الشيخ خليل: وافتقر نحو الجراد لها بما
_________
[قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة]
[١] في ط المعارف: (ظن).
[٢] قوله: (قال بعض الأدباء) في ط المعارف: (قيل).
1 / 18
وجندب وخنفس. ومنه البرغوث، بخلاف القمل، وكذا ميتة البحري من السمك وغيره ولو طالت حياته بالبر. وجميع ما ذُكي بذبح أو نحر أو عقر من غير محرم الأكل، بخلاف محرمه؛ كالحمير والبغال والخيل، فإن الذكاة لا تعمل فيه وكذا الكلب والخنزير لا تعمل فيهما الذكاة. فميتة ما ذكر نجسة ولو ذكي. ومن الطاهر: الشعر ولو من خنزير. وكذا زغب الريش وهو ما اكتنف القصبة من الجانبين، وأراد بالشعر ما يعم الوبر والصوف.
(والجماد إلا المسكر، ولبن آدمي، وغير المحرم، وفضلة المباح، إن لم يستعمل النجاسة، ومرارته، والقلس، والقيء إن لم يتغير عن حالة الطعام، ومسك، وفأرته، وخمر خُلل أو حُجر، ورماد نجس ودخانه، ودم لم يسفح من مذكَّى) أي من الأعيان الطاهرة الجماد وهو جسم ليس بحي أي لم تحله الحياة، ولا منفصل عن حي. فشمل النبات بأنواعه وجميع أجزاء الأرض وجميع المائعات؛ كالماء والزيت لا اللبن والسمن وعسل النحل؛ فإنها ليست بجماد لانفصالها عن الحيوان كالبيض، ويستثنى من الجماد: المسكر. ولا يكون إلا مائعًا، كالمتخذ من عصير العنب وهو الخمر. أو من نقيع الزبيب أو التمر أو غير ذلك، فإنه نجس، ويحد شاربه بخلاف نحو الحشيشة والأفيون والسيكران فطاهرة لأنها من الجماد. ويحرم تعاطيها لتغييبها العقل، ولا يحرم التداوي بها في ظاهر الجسد. ومن الطاهر لبن الآدمي ولو كافرًا. ولبن غير محرم الأكل ولو مكروهًا كالهر والسبع. بخلاف محرم الأكل، كالخيل والحمير فلبنه نجس. ومن الطاهر: فضلة المباح، من روث وبعر وبول وزبل دجاج وحمام وجميع الطيور، ما لم يستعمل النجاسة. فإن استعملها أكلًا أو شربًا ففضلته نجسة. والفأرة من المباح؛ ففضلتها طاهرة إن لم تصل للنجاسة ولو شكًا لأن شأنها استعمال النجاسة كالدجاج. بخلاف نحو الحمام فلا يحكم بنجاسة فضلته إلا إذا تحقق أو ظن استعمالها للنجاسة. ومن الطاهر مرارة غير محرم الأكل من مباح أو مكروه، والمراد بها الماء الأصفر الكائن في الجلدة المعلومة للحيوان.
ــ
يموت به. والحاصل أن الخشاش المتولد من الطعام، كدود الفاكهة والمش يؤكل مطلقًا. وغير المتولد إذا كان حيًا وجب نية ذكاته بما يموت به. وإن كان ميتًا فإن تميز أخرج ولو واحدة، وإلا أكل إن غلب الطعام لا إن قل أو ساوى على الراجح. فإن شك هل غلب الطعام أو لا فلا يطرح بالشك. وليس كضفدعة شك أبرية أم بحرية؛ فلا تؤكل كما في (عب) لعدم الجزم بإباحتها. اهـ شيخنا في مجموعه بالمعنى.
قوله: [بخلاف القمل]: أي فميتتها نجسة. خلافًا لسحنون من أنها لا نفس لها سائلة. فهي كالبرغوث عنده.
قوله: [وكذا ميتة البحري] إلخ: وفي الحديث «أحلت لنا ميتتان السمك والجراد» فعلى المذهب فيه تغليب السمك على الجراد لكون ذكاته بما يموت به مطلقًا اهـ من شيخنا في مجموعه.
قوله: [ولو طالت حياته بالبر]: أي ولو مات به على أظهر الأقوال، ولو على صورة الخنزير والآدمي، ولا يجوز وطؤه لأنه بمنزلة البهائم، ويعزر واطئه.
قوله: [وجميع ما ذكي] إلخ: لم يقل وجزؤه كما قال خليل لأن حكمه كالكل في مثل هذا.
قوله: [من غير محرم الأكل]: أي فيشمل مكروهه كسبع وهر، فإن ذكي لأكل لحمه طهر جلده تبعًا له، لأنه يؤكل كاللحم، وإن ذكي بقصد أخذ جلده فقط جاز أيضًا أكل لحمه بناء على أن الذكاة لا تتبعض وهو الأرجح.
قوله: [لا تعمل فيه]: أي على مشهور المذهب عندنا في الثلاثة، ومقابله ما نقل عن مالك من كراهة البغال والحمير والكراهة والإباحة في الخيل.
قوله: [وكذا الكلب]: أي على القول بحرمة أكله، وأما على القول بكراهته فتعمل فيه وسيأتي القولان في باب المباح. وأما الخنزير فلا تعمل الذكاة فيه إجماعًا.
قوله [ولو من خنزير]: أي لا تحله الحياة وأما أصول الشعر فكالجلد.
قوله: [والجماد]: معطوف على الحي.
قوله: [ولبن آدمي]: ذكرًا أو أنثى ولو كافرًا ميتًا سكران. لاستحالته إلى صلاح.
قوله: [وغير المحرم]: أي فلبنه طاهر.
قوله: [فشمل النبات]: من ذلك البن والدخان، فالقهوة في ذاتها مباحة ويعرض لها حكم ما يترتب عليها. هذا زبدة ما في (ح) هنا ومثلها الدخان على الأظهر. وكثرته لهو اهـ من شيخنا في مجموعه.
قوله: [وهو الخمر]: أي فهو عندهم المتخذ من عصير العنب.
قوله: [أو من نقيع الزبيب أو التمر أو غير ذلك]: أي كالمستخرج من دقيق الشعير ويسمى بالنبيذ.
قوله: [فإنه نجس ويحد شاربه]: أي فحقيقة المسكر هو ما كان مائعًا مغيبًا للعقل مع شدة وفرح - سواء كان من ماء العنب وهو الخمر، أو من غيره وهو النبيذ - فموجب للحد والحرمة في قليله ككثيره وإن لم يغب عقله بالفعل.
قوله: [بخلاف نحو الحشيشة والأفيون]: أي فليست من المسكر ولا من النجس ولا توجب حدًا، وإنما فيها الأدب إن تعاطى منها ما يغيب العقل.
والحاصل أن المسكر هو ما غيب العقل دون الحواس مع نشوة وطرب. والمخدر - ويقال له المفسد - ما غيب العقل دون الحواس لا مع نشوة وطرب، والمرقد ما غيبهما معًا كالداتورة. فالأول نجس والآخران طاهران ولا يحرم منهما إلا ما أثر في العقل.
قوله: [ولو شكا]: على ما للأجهوري و(عب) وجعله الشيخ في الحاشية: شكًا في المانع، أي فلا يضر، فإن تولد الحيوان من مباح وغيره فكذات الرحم، ما لم يكن على صورة محرم الأكل كخنزيرة من شاة فهي نجسة كفضلتها على كل حال.
1 / 19
ومن الطاهر القلس بفتح القاف واللام، وهو ما تقذفه المعدة من الماء عند امتلائها. وكذا القيء طاهر ما لم يتغير عن حالة الطعام بحموضة أو غيرها، فإن تغير فنجس. ومن الطاهر المسك وفأرته وهو الجلدة المتكون فيها. وكذا الزباد [١] وكذا الخمر، إذا خلل بفعل فاعل أو حجر، أي صار كالحجر في اليبس بفعل فاعل، فإنه يصير طاهرًا. وأولى لو تخلل بنفسه أو تحجر بنفسه. ومن الطاهر رماد النجس، كالزبل والروث النجسين. وأولى؛ الوقود المتنجس فإنه يطهر بالنار. وكذا دخان النجس فإنه طاهر. وما مشى عليه الشيخ ضعيف. نعم. قيد بعضهم طهارة رماد النجس بما إذا أكلته النار وانمحق معه أجزاء النجاسة، بخلاف ما إذا كان رماده له نوع صلابة فباقٍ على نجاسته، وهو ظاهر. ومن الطاهر: الدم غير المسفوح، أي الجاري من المذكى، وهو الباقي بالعروق، أو في قلب الحيوان أو ما يرشح من اللحم لأنه كجزء المذكى. وكل مذكى وجزؤه طاهر، بخلاف ما بقي على محل الذبح فإنه من باقي المسفوح فنجس. وكذا ما يوجد في بطنها بعد السلخ فإنه نجس لأنه جرى من محل الذبح إلى البطن، فهو من المسفوح. وقولي: من مذكى: قيد معتبر أهمله الشيخ.
(والنجس: ميت غير ما ذكر، وما خرج منه، وما انفصل منه أو من حي مما تحله الحياة، كقرن وظفر، وظلف [٢]، وسن، وقصب ريش، وجلد، ولو دُبغ): يعني أن النجس بفتح الجيم، أي الأعيان النجسة الذات: ميت غير الآدمي وما عطف عليه وغيره: كل بري له نفس سائلة، من غنم وبقر وحمار ولو قملة. وقيل، بطهارة ميتتها؛ لأن دمها مكتسب لا ذاتي، وهو ضعيف. نعم يعفى عما قل للمشقة. وكذا كل ما خرج من ذلك الميت بعد موته من بول ودمع ومخاط وبيض وغير ذلك نجس.
ــ
تنبيه:
يستحب غسل الثوب والبدن من فضلات المباح وإن كانت طاهرة، إما لاستقذاره أو مراعاة للخلاف؛ لأن الشافعية يقولون بنجاستها. وذكر شيخنا في مجموعه: ليس من التلفيق الذي قيل بجوازه مراعاة الشافعي في إباحة الخيل، ومالك في طهارة رجيعها، لأن مالكًا عين للإباحة أشياء فتأمل اهـ، وذكر في مجموعه أيضًا: أن فضلات الأنبياء طاهرة حتى بالنسبة لهم لأن الطهارة متى ثبتت لذات فهي مطلقة. واستنجاؤهم تنزيه وتشريع ولو قبل النبوة، وإن كان لا حكم إذ ذاك كالعصمة لاصطفائهم من أصل الخلقة.
وأن المني الذي خلقت منه الأنبياء طاهر بلا خلاف، بل جميع ما تكون منه أصول المصطفى طاهر أيضًا اهـ.
قوله: (ومن الطاهر القلس): أي ما لم يشابه في التغير أحد أوصاف العذرة. فلا تضر حموضته لخفته وتكرره. اهـ. من شيخنا في مجموعه.
قوله: [بحموضة أو غيرها] إلخ: وقيل ما لم يشابه أحد أوصاف العذرة. والمعول عليه ما قاله الشارح. وفي الحاشية: طهارة القيء تقتضي طهارة ما وصل للمعدة من خيط أو درهم. وقالوا بنجاسته كما في كبير الخرشي. وأما الذي أدخل في الدبر فنجس قطعًا كما في (ح).
قوله: [ومن الطاهر المسك] إلخ: أي ولو بعد الموت لشدة الاستحالة إلى صلاح. بخلاف البيض فاندفع ما في الحاشية اهـ من شيخنا في مجموعه.
قوله: [إذا خلل] إلخ: أي إلا لنجاسة به قبل. قوله: [أو حجر]: قيده (ح) بما إذا لم يعد إسكاره بالبل، ورده الأجهوري. وفي (عب): يطهر بالتحجير والتخليل ولو على ثوب، تابعًا في ذلك للأجهوري. واستظهره في الحاشية. وقيل: لا بد من غسله لأنه أصاب حال نجاسته، وهو ما في (شب). وحيث طهر الخمر بالتخليل والتحجير طهر إناؤه، فيستثنى مما يأتي في قوله: [وفخار بغواص]. واختلفوا في تخليلها بالحرمة لوجوب إراقتها والكراهة والإباحة. قوله: [وهو ظاهر]: ولكن المعتمد الطهارة مطلقًا، وهذا ضعيف كما قرره الشارح وغيره من أشياخنا.
قوله: [والنجس: ميت] إلخ: عطف على الطاهر إلخ لأنه لما ذكر الأعيان الطاهرة واستشعر أضدادها، فشرع يتمم الكلام عليها صراحة، وإن تقدم له بعضها صراحة وضمنًا كقوله: [إلا المذر وما خرج بعد الموت]. ومفهوم قوله [من غير محرم] و[إلا المسكر]، ومفهوم قوله إن لم يستعمل النجاسة، ومفهوم قوله إن لم يتغير على حال الطعام، ومفهوم قوله خلل أو حجر ومفهوم لم يسفح.
قوله: [غير الآدمي]: وأما هو فميتته طاهرة على المعتمد كما تقدم خلافًا لابن القاسم وابن شعبان وابن عبد الحكم، والقائل بالطهارة ابن رشد نقلًا عن سحنون.
تنبيه: قد علمت أن في ميتة الآدمي الخلاف. وأما ميتة الجن فنجسة لأنه لا يلحق الآدمي في الشرف وإن اقتضى عموم «المؤمن لا ينجس» أن له ما للآدمي. ولو قيل بطهارة المسلم منهم لكان له وجه وليس الفرع نصًا قديمًا اهـ شيخنا في مجموعه. قال عياض الأمر بغسل الميت وإكرامه بالصلاة عليه يأبى تنجيسه. إذ لا معنى لغسل الميتة التي هي مثل العذرة وصلاته ﵊ على سهل ابن بيضاء في المسجد، وتقبيله عثمان بن مظعون بعد الموت ولو كان نجسًا ما فعل النبي ذلك.
قوله: [ولو قملة]: مبالغة في قوله له نفس سائلة.
قوله: [وقيل إلخ]: هو قول سحنون.
قوله: [نعم يعفى إلخ]: فيستخف منها ثلاث في الصلاة قتلًا وحملًا بعده. ونقل ابن مرزوق عن بعض الصالحين إن احتاج لقتلها
_________
[قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة]
[١] قوله: (وكذا الزباد) ساقط من ط المعارف.
[٢] زاد بعدها في ط المعارف: (وحافر).
1 / 20
وكذا كل ما انفصل منه مما تحله الحياة أو انفصل من حي مما تحله الحياة، كاللحم والعظم والعصب والقرن والظلف وهو للبقر والشاة والحافر، وهو للفرس والبغل والحمار. فأراد بالظلف ما يعم الحافر مجازًا، وهو داخل تحت الكاف. والظفر وهو للبعير والنعام والإوز والدجاج. والسن من جميع الحيوانات. ومنه ناب الفيل المسمى بالعاج، ورجح بعضهم كراهته تنزيهًا. وكذا قصب الريش من حي أو ميت وهو الذي يكتنفه الزغب. وتقدم أن الزغب طاهر كالشعر لأنه لا تحله الحياة. والجلد من حي أو ميت كذلك نجس ولو دبغ، فلا يصلى به أو عليه لنجاسته. وما ورد من نحو قوله ﵊: «أيما إهاب -أي جلد- دبغ فقد طهر» فمحمول على الطهارة اللغوية لا الشرعية في مشهور المذهب؛ وبعض أهل المذهب حمله على الطهارة الشرعية حملًا لألفاظ الشارع على الحقائق الشرعية، وعليه أكثر الأئمة لكنه ضعيف عندنا. وتوقف الإمام في الكيمخت، وهو جلد الحمار أو الفرس أو البغل المدبوغ. ورجح بعض المتأخرين طهارته فيستعمل في المائعات كالسمن والعسل، وتجوز الصلاة به وهو مشكل لعدم الفرق بينه وبين غيره، ثم على القول المشهور من نجاسة الجلد المدبوغ يجوز استعماله في غير المائعات كالحبوب والدقيق والخبز الغير المبلول
ــ
في المسجد ينوي ذكاتها قال (ح): كأنه بناه على قول ابن شاس من عملها في المحرم؛ فإن في "حياة الحيوان" تحريم أكلها إجماعًا. وإن بنى على قول سحنون إن القملة لا نفس لها سائلة لم يحتج لتذكية إلا زيادة احتياط.
تنبيه: إذا صارت القملة عقربًا، فالظاهر النظر لتلك العقرب. فإن كان لا نفس لها سائلة طهرت لاستحالة الحال كدود العذرة والحكم يتبع العلة اهـ شيخنا في مجموعه.
قوله: [وكذا كل ما انفصل]: أي أو تعلق بيسير جلد مثلًا.
قوله: [والعظم]: أي فتحله الحياة لظاهر قوله تعالى: ﴿قال من يحيي العظام﴾ [يس: ٧٨].
قوله: [والدجاج]: وما يأتي من أن الدجاج ليس من ذي الظفر فالمراد به الجلدة بين الأصابع والظفر هنا ما يقص.
قوله: [ورجح بعضهم] إلخ: أي والفرض أن الفيل غير مذكى، وإلا فلا كراهة اتفاقًا. وسبب هذه الكراهة أن العاج - وإن كان من ميتة لكنه ألحق بالجواهر النفسية في التزين، فأعطي حكمًا وسطًا وهو كراهة التنزيه.
قوله: [كالشعر]: خلافًا للشافعية القائلين بنجاسة شعر الميتة ولو دبغ جلدها.
قوله: [والجلد] إلخ: من ذلك ثوب الثعبان إذا ذكي بعد تمام ما تحته لا يطهر على الأظهر، وكذا إذا سلته وهو حي ومنه أيضًا ما ينحت من الرجل بالحجر بخلاف ما نزل من الرأس عند حلقه فوسخ منعقد، فعلى القول بنجاسة ميتة الآدمي يكون نجسًا، وعلى المعتمد يكون طاهرًا.
قوله: [ولو دبغ]: أي بما يزيل الريح والرطوبة ويحفظه من الاستحالة. ولا يفتقر الدبغ إلى فعل فاعل، بل إن وقع في مدبغة طهر لغة. ولا يشترط إزالة الشعر عندنا وإنما يلزم إزالته عند الشافعية القائلين أنه نجس. وإن طهارة الجلد بالدبغ لا تتعدى إلى طهارة الشعر، لأنه تحله الحياة، وأما عندنا فالشعر طاهر لذاته لا تحله الحياة. فالفرو إن كان مذكى مجوسي أو مصيد كافر، قلد في لبسه في الصلاة أبو حنيفة، لأن جلد الميتة عنده يطهر بالدباغ والشعر عنده طاهر. والشافعي - وإن قال بطهارة الجلد بالدباغ - فالشعر باق على تنجيسه ومالك. وإن [١] قال بطهارة الشعر فالجلد باق على تنجيسه. فإن أراد تقليد مذهب مالك والشافعي لفق.
قوله: [اللغوية]: أي وهي النظافة.
قوله: [وتوقف الإمام في الكيمخت] إلخ: أي في الجواب عن حكم الكيمخت هل هو الطهارة أو النجاسة لقوله في المدونة: لا أدري؟ واختلف في توقفه هل يعد قولًا أو لا؟ والراجح الثاني. واعلم أن في استعماله ثلاثة أقوال: الجواز مطلقًا في السيوف وغيرها وهو لمالك في العتبية، والجواز في السيوف فقط وهو لابن المواز وابن حبيب، وكراهة استعماله مطلقًا؛ قيل هذا هو الراجح الذي رجع إليه مالك، ولكن ذكر بعضهم أن الحق أنه طاهر وأن استعماله جائز إما مطلقًا أو في السيوف لا مكروه.
قال في الأصل: وجه التوقف أن القياس يقتضي نجاسته لا سيما من جلد حمار ميت، وعمل السلف في صلاتهم بسيوفهم وجفيرها منه يقتضي طهارته. والمعتمد - كما قالوا - إنه طاهر للعمل لا نجس معفو عنه، فهو مستثنى من قولهم: جلد الميتة نجس ولو دبغ. وانظر ما علة طهارته، فإن قالوا: الدبغ، قلنا: يلزم طهارة كل مدبوغ، وإن قالوا: الضرورة، قلنا: إن سلم فهي لا تقتضي الطهارة بل العفو. وحمل الطهارة في كلام الشارع على اللغوية في غير الكيمخت وعلى الحقيقة في الكيمخت تحكم، وعمل الصحابة عليهم الرضا في جزئي يحقق العمل في الباقي. اهـ.
قوله: [وهو مشكل] إلخ: تقدم لك تقرير الإشكال عن الأصل.
قوله: [من نجاسة الجلد]: أي غير الكيمخت.
قوله: [في غير المائعات]: من ذلك لبسها في غير الصلاة والجلوس عليها في غير المسجد لا فيه، لأنه يمنع دخول النجس فيه ولو معفوًا عنه.
قوله: [والدقيق]: أي من غير أن توضع الرحا عليه.
_________
[قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة]
[١] في ط المعارف: (إن).
1 / 21