وقلت لكم، عند إشفاقي عليكم: «إنّ للغنى سكرا، وان للمال نزوة، فمن لم يحفظ الغنى من سكر الغنى، فقد أضاعه؛ ومن لم يرتبط المال بخوف الفقر، فقد أهمله» .
فعبتموني بذلك؛ وقال زيد بن جبلة «١»: «ليس أحد أفقر من غنّي أمن الفقر، وسكر الغنى أشدّ من سكر الخمر» .
وقلتم: «قد لزم الحثّ على الحقوق، والتزهيد في الفضول، حتى صار يستعمل ذلك في أشعاره، بعد رسائلة، وفي خطبه، بعد سائر كلامه؛ فمن ذلك قوله في يحيى بن خالد:
عدوّ تلاد المال فيما ينوبه ... منوع إذا ما منعه كان أحزما!
ومن ذلك قوله في محمد بن زياد:
وخليقتان: تقى وفضل تحرّم ... وإهانة، في حقه، للمال!
وعبتموني حين زعمت أنّي أقدم المال على العلم؛ لأن المال به يغاث العالم، وبه تقوم النفوس، قبل أن تعرف فضيلة العلم. وأن الأصل أحق بالتفضيل من الفرع، وأني قلت: «وإن كنا نستبين الأمور بالنفوس، فإنا بالكفاية نستبين، وبالخلّة «٢» نعمى» . وقلتم: «وكيف تقول هذا، وقد قيل لرئيس الحكماء ومقدّم الأدباء: العلماء أفضل أم الأغنياء؟ قال: بل العلماء قيل: فما بال العلماء يأتون أبواب الأغنياء، أكثر مما يأتي الأغنياء أبواب العلماء؟ قال: لمعرفة العلماء بفضل الغنى، ولجهل الأغنياء بفضل العلم» . فقلت: حالهما هي الفاصلة بينهما؛ وكيف يستوي شيء ترى حاجة الجميع إليه، وشيء يغني بعضهم فيه عن بعض»؟.
وعبتموني حين قلت: «إن فضل الغني على القوت، إنما هو كفضل الآلة
1 / 33