إن من أهم ما جعل علوم الرياضة تبلغ ما تبلغه من الدقة حتى لقد ظلت العلوم الطبيعية - ودع عنك العلوم الإنسانية - قرونا طويلة لم ينفك فيها أصحابها عن البحث، لعلهم يقعون على الطريقة التي يطبقونها في علومهم تلك، لعلها تظفر بمثل اليقين الذي ظفرت به العلوم الرياضية، أقول: إن من أهم ما حقق ذلك اليقين الجازم في العلوم الرياضية، هو أن «أفكارها» من نوع يسهل تحديده وتعريفه، بحيث لا يتداخل أبدا مع نوع آخر، فمحال أن يختلط علينا الأمر بين «مثلث» و«مربع» و«دائرة»، ومحال أن يختلط علينا المعنى بين العدد «صفر» والعدد «1» والعدد «2»، أو بين عدد وعدد آخر في سلسلة الأعداد؛ لأن لكل منها تعريفا حاد الفواصل، يضمن له ألا يختلط فيه الأمر مع سواه، ومثل هذا الفصل الحاسم القاطع بين معنى ومعنى، أو بين نوع ونوع، هو الذي طمع العلماء في دوائر العلوم الأخرى أن يحققوه بعلومهم، ولم يكن الأمر يسيرا، لصعوبة تلك التحديدات الحاسمة في أنواع الكائنات التي تبحث فيها العلوم الطبيعية، ودع عنك العلوم الإنسانية وما تتخبط فيه من تداخل المعاني واختلاط الأنواع، ولعلي قد أنبأتك في مناسبة سابقة، لا أدري أين ومتى، كيف كانت أهم المواقف الفكرية التي أسدلت الستار على عصر مضى، لترفع الستار عن بشائر عصر جديد آت، هي قيام نابغة يضع بين أيدي الناس طريقة جديدة تحدد بها المعاني، أي تحدد بها أنواع الكائنات، تحديدا لا يسمح باختلاط بعضها في بعض، فيقع الناس في مثل الحيرة التي وقع فيها أولئك الذين ذهبوا إلى سوق الصيد، فوجدوا أن الحابل قد اختلط بالنابل.
وكان سقراط أحد أولئك النوابع الذين أقاموا الحدود بين معنى ومعنى، في أصعب المجالات انصياعا إلى مثل ذلك التحديد، وهو مجال المعاني «الأخلاقية»، فما أسهل على المتحدثين أن يتبادلوا الأحاديث حول «الأمانة» و«الصدق» و«العدل» و«التقوى» إلخ، لكن ما أصعب على أي منهم أن يرسم الحدود الحاسمة، التي تفصل معنى عن معنى في هذا الباب، وذلك ما جاء سقراط ليبين طريقته، فقيل فيما بعد عنه إنه قد نجح في «ترييض» الأخلاق (وأقصد بالترييض إخضاع المعاني الأخلاقية للمنهج الرياضي في ضبطه ودقته)، وكان «ديكارت» نابغا آخر، افتتح بمنهجه عصرا فكريا جديدا، هو الذي يصفونه بالعصر الحديث، ويكفيني هنا أن أجتزئ من منهجه جزئية واحدة، تلائم هذا السياق الذي نسوق فيه حديثنا هذا، وأعني بها ضرورة أن تتصف الفكرة المعينة «بالوضوح» و«التمييز»، مشيرا إلى خطوتين لا بد أن تكمل إحداهما الأخرى، وإلا تعرضت الفكرة المطروحة للغموض والخلط، فلا يكفي أن تقيم الحدود الحاسمة التي تحدد مجال الفكرة التي تتقدم بها، مهما بلغ ذلك التحديد من «الوضوح»، بل لا بد أن تكمل هذا الوضوح بخطوة أخرى، تبين بها موضع الاختلاف الذي تختلف به تلك الفكرة مع غيرها، فلا يكفي - مثلا - أن تبين معنى «العدل» ما حدوده وجوهره، فذلك هو «الوضوح» لكن يبقى عليك أن تبين موضع تمايزه مما ليس عدلا، وذلك هو التمييز، وواضح لنا أن هذه الخطوة الثانية في منهج التفكير الصحيح، لم تكن ظاهرة في المنهج السقراطي، حتى وإن تكن متضمنة فيه فجاء ديكارت ليبرزها حتى لا تفلت ممن أراد لنفسه فكرا صحيحا.
كان الذي أدى إلى فوضى الأفراد والأشياء مما انطلق به لسان القائل لتلك العبارة المعروفة، «اختلط الحابل بالنابل» هو - في عمقه النظري - ذلك الذي شرحناه؛ إذ كان الذي أدى إلى الفوضى، هو إن تداخلت دائرتان، لم يكن ينبغي لهما أن يتداخلا لاختلاف المدلول في إحداهما، عن المدلول في الأخرى، ومثل هذا الخلط بين مختلفين هو ذاته ما يحدد لنا معنى «الخطأ»، وربما كان تحديد معنى «الخطأ» أعسر منالا من تحديد معنى «الصواب»؛ لأن الخطأ في التفكير، لا يحدث إلا إذا أخذت معرفة الإنسان تزداد وتكثر، فلو فرضنا جدلا أن إنسانا ما، يعرف «معلومة» واحدة بسيطة (وأعني ببساطتها عدم قابليتها للتحليل إلى عناصر في تكوينها) فلا يكون في مثل هذه الحالة مجال للخطأ، أما إذا ازدادت معرفته، فأصبحت «معلومتين» بدأ الاحتمال بأن يختلط الأمر عليه في أيهما الصواب، طفل رضيع - مثلا - لم تقع عيناه على شخص إلا أمه، فتحدث الرابطة بينه وبينها في غير حيرة، ثم يحدث أن يرى امرأة أخرى تصاحبها آنا بعد آن، فتبدأ معه حيرة التميز بين خطأ وصواب.
الخطأ ليس صفة مما يمكن أن يوصف به شيء واحد قائم برأسه، لا رابطة بينه وبين سواه، إنك لا تنظر إلى شجرة - مثلا - وتقول إنها خطأ، ولا تنظر إلى لفظة منفردة وحدها؛ كأن تصادف كلمة «هواء» منطوقة أو مقروءة،
بروابط جعلتها لا تطابق الواقع، فإذا قلت لك جملة كهذه: «الشمس تطلع من الغرب». قلت: هذا خطأ، وليس الخطأ هنا منصبا على «الشمس» قائمة بذاتها، ولا على «الغرب» مأخوذا وحده، بل ينصب الخطأ على الصورة الذهنية التي تكونت، عندما جاءت العلاقة التي أشارت إليها كلمة «تطلع» لتربط بين الطرفين .
إنني أقدم إليك هذه المقدمات كلها، تمهيدا للغاية التي قصدت إليها والتي سأطالعك بها بعد حين، ومن أهم ما يهمني أن يلتفت إليه النظر، هو نتيجة تترتب على الحقيقة الأخيرة التي ذكرتها لك عن «الخطأ» وعلى أي شيء يقع، وتلك النتيجة هي أهمية «ترتيب» العناصر؛ فمعظم ما يتعرض له الإنسان من صعوبات ومشكلات، ليس ناشئا عن الأشياء في ذاتها بل عن «الترتيب» الذي رتبت به تلك الأشياء، بما في ذلك مواضعها التي وضعت فيها لينشأ بوضعها هناك موقف معين، فإذا رأيت ترابا تعفرت به غرفتك، فليس الخطأ في «التراب» من حيث هو شيء من أشياء الدنيا، بل الخطأ في أن تكون الغرفة مكانا له يستقر فيه، فلو نقل ذلك التراب إلى حقل زراعي، لما كان في موضعه ذاك مجاوزة لما ينبغي أن يكون، واضرب لنفسك أي أمثلة شئت لمواقف اعترضت حياتك فأساءت إليها، تجد قلب المشكلة كامنا في الطريقة التي رتبت بها عناصر ذلك الموقف، ولو أعيد ترتيبها على صورة أخرى، أو حذف فيها عنصر أو أضيف إليها عنصر، لانجلت المشكلة وصحح الخطأ الذي كان سببا في قيامها، فأين الخطأ مثلا فيمن نصفه «بالتطرف» الفكري أو الديني، إنه قد لا يكون في أية معلومة من معلوماته مأخوذة على حدة، بل إنه قد لا يكون في اجتماعها معا في رأسه؛ لأنه ربما أحالك إلى كتاب استمد منه تلك المعلومات، فتكون معلوماته صحيحة بالنسبة إلى ذلك الكتاب، فالذي في رأسه مساو للذي في ذلك الكتاب، لكن «التطرف» أضاف إلى الموقف عنصرا هو الذي رجح به نحو التطرف، وذلك أنه وضع في رأسه اعتقادا بأن مصدره هو وحده المصدر، وأن محصوله المعرفي هو وحده المحصول، فدخل «الخطأ» مع دخول ذلك العنصر المضاف.
ونتوسع في هذا المعنى قليلا ليزداد وضوحا، فنقول إنه ليس هناك شيء في هذه الدنيا، يمكن «فهمه» إلا إذا وضح جزءا من سياق يحتويه، فأي مفرد لغوي لا يكتسب معناه إلا وهو جزء من جملة مفهومة؛ وذلك لأن الجملة ستربطه بما يوضح معناه، خذ فردا من الناس، فهل لو ظللت تنظر إليه تكون قد عرفت من هو، لا، بل تبدأ معرفتك به حين تأخذ في كشف العلاقات التي تربطه بأطراف أخرى، فاسمه كذا وأبوه فلان، وهو طالب في الجامعة الفلانية، ويسكن مع أسرته في المنزل الفلاني، وهكذا كلما اتسع السياق الذي يوضح فيه اتسع علمك به، إن الحقيقة المعينة في أي ميدان من ميادين المعرفة، لا تفهم لمن لا يفهمها إلا إذا انتسبت إلى أسبابها؛ فقد يرى التلميذ الصغير المطر، ولا يفهم لماذا أو كيف ينزل المطر، فيكون سبيل إفهامه أن نضع له الظاهرة في إطار أسبابها - من رياح جاءت حارة على محيط الماء - ومن حرارة مقدارها كذا، إلى آخر العوامل التي إذا اجتمعت كان المطر، إن الجريمة من الجرائم تظل لغزا أمام القاضي، إلى أن يجتمع له من شهادات الشهود ما يرسم له صورة متسقة الأجزاء لما قد حدث، وعندئذ «تفهم» الجريمة.
ونلخص ما أسلفناه على ضوء ما بدأنا به من قصة اختلاط الحابل بالنابل، فنقول: إن سر الفكر الصحيح، هو في تحديد الفكرة المعينة تحديدا لا يجعلها تتداخل في فكرة أخرى، لا من حيث معناها المدرك في الأذهان، ولا من حيث الأشياء في عالم الواقع التي أريد للفكرة أن تشير إليها، فلو كان الحابلون من الصيادين قد وضعوا صيدهم في مكان لا يتداخل في المكان الذي وضع فيه النابلون صيدهم، لما اختلط حابل بنابل، وتعذر البيع والشراء، والذي يساعد على تحديد الفكرة المعينة، متمثلة في اللفظ الذي يحملها - هو أن توضع في سياق يبين صلاتها بأطراف أخرى.
وهنا ننتقل إلى الغاية التي قصدنا إلى الوصول إليها؛ ففي حياتنا الاجتماعية اليوم تفكك للعرى التي كانت موصولة بين الأفراد، وهو تفكك يكاد يجمع عليه الرأي العام، وتلتقي عليه المشاهدات وتؤيده أبحاث علمية كثيرة، مما يقوم به الباحثون الجامعيون من طلبة الدراسات العليا، وهو يتخذ صورا مختلفة باختلاف المجال الاجتماعي الذي يحدث فيه، فمنه صورة في تفكك الروابط داخل الأسرة الواحدة، بحيث لم تعد العلاقة بين والد وولد، بالوضوح نفسه الذي كان في أجيال سبقت، ومنه صورة أخرى بين الأستاذ والطالب، ومنه صورة ثالثة بين صاحب العمل والعامل، ومنه صورة رابعة بين الصديق وصديقه، وخامسة بين الجار وجاره، وبين المواطن والمواطن، بصفة عامة على أن هذه الصور كلها تتلاقى في أس واحد، إذا نحن حفرنا الأرضية الاجتماعية وجدناه ألا وهو انحباس الفرد في حدود نفسه، وما ينفعها نفعا عاجلا، وبهذا يضعف عند كل فرد إحساسه بوجود الآخرين، أنه يتصرف كما لو كان المجتمع الذي يعيش فيه قائما على التصور الذي تصوره «تومس هوبز» في جماعات الأفراد قبل أن ينخرطوا في بناء اجتماعي موحد، وهو أن ينظر كل فرد إلى كل فرد آخر على أنه عدو محتمل، أو قل إن كل فرد يتصرف كما يتصرف ساكن عمارة قيل عنها إنها وشيكة السقوط، إذن فليجمع من المتاع أكبر كمية ممكنة في أقل وقت ممكن، ولقد أشار بعض الباحثين في الحياة الاقتصادية والاجتماعية في بلدان العالم الثالث، التي هي بلاد - في كثير منها - قد نالت استقلالها وحريتها ممن كان يستعمرها منذ وقت قريب، وآلت مزايا الحاكم الأجنبي - وأعني به من يتولون مقاليد الأمور على تتابع المستويات في الهرم الاجتماعي - آلت تلك المزايا لأبناء الوطن، فشاع في نفوس أكثرهم شعور بالقلق، خشية أن تتغير الحال فيعود كما كان، ومن هذا الشعور القلق اشتد إحساسه بذاته والخوف عليها، بقدر ما وهن إحساسه بذوات الآخرين ورعاية مصالحها.
واختر أمثلة مما وقع لك في خبرتك الخاصة، لترى كم بلغت بالأفراد درجة الانفراد - حتى بالنسبة إلى ذويهم الأقربين: كثر تمرد الأبناء على الآباء - فإن صلح الولد صلح بالمصادفة، وإن فسد فسد بالمصادفة كذلك، أي أن البناء النسقي في الأسرة الذي كان فيما مضى ضمانا مؤكدا تقريبا، بأن يبقى الولد في قبضة أبيه ومؤتمرا بأوامره ومنتهيا بنواهيه، وبترت العلاقة بترا بين المدرس والتلميذ على كل مستويات التعليم؛ ففي مراحل التعليم فيما قبل الجامعة لا يكون لقاء شخصي بين مدرس وتلميذ إلا في حدود الدرس الخصوصي، وأما في الجامعة فلا لقاء، ويندر أن تنعقد بين أستاذ وطالب صلة إنسان مرشد بإنسان يسترشد، وأما صلة الصداقة فقد اتخذت عند الصديقين معنى آخر، ينزع منها لبها، ولبها هو «الصدق»، فأصبحت الصلة بينهما مقصورة على أن يتسلى كل منهما بلقاء أخيه، على أن يكون كل منهما على حذر من خديعة تأتيه من حيث ظن أنه في مأمن يعين ولا يغدر، وهكذا قل في بقية الروابط الثنائية، وليس أسعد لي من لحظة يقول فيها قارئ بحث أمثلة مأخوذة من حياته، إنه وجدها على خلاف الصورة التي قدمتها، وبالطبع هذا حكم - كسائر الأحكام التي تطلق على العلاقات الإنسانية - يكون المعول فيه على الترجيح لا على اليقين.
অজানা পৃষ্ঠা