فرواية حياتي - يا صديقي - هي رواية فكر وأفكار سايرته مهنة قوامها دراسة وتدريس، ونتج عن الخطين المتعاونين قلم يكتب وينشر لستين عاما خلت، ما أظنه قد استراح منها عاما، وإنها لرواية - كما ترى - ارتكز بناؤها على رءوس ثلاثة: أولها فكرة وثانيها موقف يجسدها، وثالثها نشر لها فيتلقاها من يتلقى وعند الله حسن الجزاء.
على سبيل الفكاهة
بدأت الطريق جادا، وانتهيت هازلا، إنه إذا ثقلت الكارثة على قلب المكروث، أخذ بادئ ذي بدء أخذ المحزون، فإذا استعصت حتى رزح تحت همومها، تفجر صدره عن ضحكات بلهاء الرنين، قد تتحول إلى قهقهة الجنون، تدمع لها العينان دموعا ، تمهد لدخوله في غمرة البكاء، وبين أصوات الضحك وأصوات البكاء شبه قريب، حتى ليحدث لنا أن نظن الباكي ضاحكا، ونسمع الضاحك فنحسبه باكيا، وقديما قال المعري: «وشبيه صوت النعي بصوت البشير.»
كانت جلسة جلستها إلى مكتبي، كما أفعل عندما أعد نفسي للكتابة، فالموضوع في رأسي، والورق أمامي، والقلم في يدي، ولم يبق إلا أن أمسك عدسة مكبرة بيسراي تهديني إلى الأسطر فيسطر القلم، لكني تركت العدسة ملقاة إلى جوار الورق، وسرحت سرحة كان أمرها عجبا، سألت بعدها ساعتي كم طالت، فأجابت بأنها زادت على ثلاث ساعات، وأما وقعها في حساب النفس، فكان كوقع الطيف، بغير صوت وبلا كثافة، يظهر ويختفي في أقل من نبضة واحدة ينبض بها قلب، وفيم سرحت تلك السرحة الطويلة القصيرة؟
لقد كان الموضوع الذي هممت بالكتابة فيه، هو ذلك التناقض في حياتنا كما أراها، فحياتنا في حقيقتها الواقعة، مترامية الأطراف، كثيرة الحركة، منوعة المناشط، لكني لا أملك - بالطبع - إلا أن أراها بمنظاري، فلا أرى منها إلا ما ينتسب إلى الكتب والكتابة، والفن والأدب، والرواية والمسرح، والنحت والعمارة، وهي رؤية تجاوز - بطبيعتها - فواصل الزمن، فالماضي حاضر مع الحاضر، وهما معا يتجاوران مع صورة مستقبلية لا مكان لها إلا في خيال صاحبها، وهي كذلك رؤية تتخطى حواجز المكان، فليس ما يمنع فيها أن ترى الأفكار قد وفدت إليك من بعيد ومن قريب، وكلها عندك سواء، تكتسب وهي في خاطرك حق «الجنسية» لا فرق فيها بين فكرة وفكرة إلا بقوة الحق الذي حملته في جوفها، فإذا نظرت إلى «حياتنا» من هذه الزوايا، رأيت منها ما أحيا به وما أحيا من أجله، ولقد كنت هممت ألا أكتب في «حياتنا» التي أصبحت أراها متقاطعة الخطوط، مسكوبة الماء، شاردة هنا وهنا وهناك كأنها هوامل البعران في صحراء، فإذا سألنا سائل: أين الثمرة؟ أسقط في أيدينا، ولم نحر جوابا.
وليس الذي يحيرنا في الإجابة عن سؤال السائل: أين الثمرة؟ هو أنه لا ثمار، كلا، كلا، فثمارنا - والحمد لله - كثيرة، ومنها الرفيع الجيد. كل في موضوعه، لكني كنت أتحدث عما أراه في حياتنا من تقاطع الخطوط تقاطعا يكاد يجعلها تلغي بعضها بعضا، فهي إلى ذلك أقرب منها إلى أن تحدث زخرفا متكاملا، أو أن تقيم شكلا هندسيا، إن المربع - مثلا - هو خطوط أربعة، لكنها تتكامل جميعا في شكل واحد، أما ما يصنعه طفل صغير لاعب حين يعثر على ورقة وقلم فيضرب على الورق بالقلم ضربا مجنونا، فهناك ترى الخطوط، مستقيمة ومنحنية ومتعرجة ومن كل شكل، لكنها خطوط لا تبني شيئا وعندئذ إذا سأل سائل: ما هو الشكل الذي أنتجته الخطوط؟ أخذتنا الحيرة ولم نستطع الجواب، وذلك هو ما قصدت إليه من حيرتنا أمام من يسألنا عن حياتنا: أين الثمرة؟
وليكن أمر ذلك ما يكون، فلقد أردت الكتابة فيما أراه من صورة حياتنا، وأمسكت بالقلم، لكن خاطرا دعاني أن أتمهل قليلا، لأستعرض في ذهني عددا من المحاور في تلك الحياة متمثلة تلك المحاور في أشخاص بأعينهم، أو في أعمال بذواتها، لكي يجيء ما أكتبه مستندا - في رأسي على الأقل - إلى شواهد من واقع تلك الحياة، إلا أنني عندما شخصت ببصري إلى لا شيء، غفوت ذهنا، فسرحت خيالا، وهي سرحة بدأت - فيما يبدو - حين تخيلت أني أجوب المدينة باحثا عن المحاور التي كنت أريدها، ثم رأيتني وكأنني أنسحب من المدينة، وشيئا فشيئا أخذت ضجة المدينة تخفت صوتها، حتى لم يبق منها سوى طنين خفيف، ولم يلبث ذلك الطنين أن زال، فساد صمت أين منه صمت القبور. آه! - هكذا صحت لنفسي في سرحتي - ألا يذكرك هذا الذي حدث لضجة المدينة بشيء؟ وما الذي حدث لضجة المدينة مما تعنيه؟ - هكذا سألت نفسي - وجاءني جوابها: كنت أعني أنها ضجة تصم أذنيك وأنت في قلبها، حتى إذا ما بعدت عنها قليلا وقليلا، نقص حجمها، وقل شأنها بمقدار ما بعدت عنك أو بعدت عنها، فعدت إلى سؤال نفسي، وما الذي ذكرتك به - يا نفس - تلك الزيادة وهذا النقصان؟
وأجابت النفس إجابة أذهلتني بغرابتها أولا، وبصدقها ثانيا؛ إذ قالت: إن ذلك قد ذكرني بما يحدثه البعد الزمني بأحجام الرجال، فهم في حياتهم يضجون ويصيحون، ويهرجون، ويمرحون، و«أشطرهم» هو أعلاهم صوتا، وأكثرهم هرجا، وأشدهم مرحا، حتى إذا ما انزلق الحاضر منبطحا على ظهره ليصبح ماضيا، ثم أخذ الماضي القريب ينأى عن الناس ليصبح ماضيا بعيدا، أخذت قامات هؤلاء الرجال تتغير في أنظار الناس أطوالا؛ فرب عملاق صار قزما، ورب قزم صار عملاقا، ثم يزداد عصرهم بعدا، فتأخذ أعداد هؤلاء الرجال، عمالقتهم وأقزامهم على السواء، تقل، وتقل إلى أن يجيء يوم للناس - وا عجبا - لا يذكر فيه من هؤلاء الرجال رجل واحد، فقد غاصت أصواتهم جميعا في هوة العدم، اللهم إلا أن يكون فيهم واحد من أبناء عبقر، فذلك العبقري يبقى أبد التاريخ رغم الألوف.
مهلا! مهلا! هكذا همست لنفسي، وكنت لم أزل في سرحتي، أتريد أن تجعل سيرة التاريخ أفرادا جبابرة، يحملون العلم والفن والفكر والأدب على أكتافهم، فأين دور «الجمهور» في حركة التاريخ، إنك حين وجدت ضجة المدينة الصاخبة قد أخذت تخفت رويدا رويدا، كلما بعدت أنت عنها قليلا قليلا، قفز إلى ذهنك التشابه بين موت الإعصار الصوتي مع بعد المكان، وموت الأسماء التي لمعت إبان عصرها في دنيا العلم والثقافة مع بعد الزمان، ورأيت أنه لا يغلب العدم ويقهره من تلك الأسماء إلا أفراد قلائل من أسرة عبقر، فكنت بهذا التشبيه كمن يقول إن المعول في الحياة الثقافية بجميع أطرافها هو على «أفراد» نوابغ، فأين دور «الجمهور» الذي كان هو - في الحقيقة - صاحب الضجة الصاخبة في شوارع المدينة؟ ومن الذي صنع أولئك «الأفراد» النوابغ، إذا لم يكن كل منهم صنيعة أمته؟ لكني لم ألبث إلا قليلا، بعد أن طرحت على نفسي تلك الأسئلة - وكنت لم أزل في سرحتي الغافية - حتى وجدت الإجابة، وما دمت قد اتكأت على تشبيهات أوضح بها المعاني، فلألجأ إلى الوسيلة ذاتها في توضيح الإجابة، فالأمر في العلاقة بين جمهور الناس ومن يعلو منهم برأسه ليجاوز حدودهم، فينخرط في زمرة العمالقة على المستوى «الإنساني» العام الذي لا يعرف الفواصل بين جمهور معين من الناس وجمهور آخر، أقول إن الأمر في العلاقة بين جمهور ومن ينبغ من أفراده، هو كالأمر في العلاقة بين المحيط وموجه العاتي، فلتصمد الموجة الجبارة حتى تبلغ أن تكون كرواسي الجبال، لكنها ستظل ماء من ماء المحيط، وإلا فمن أين جاءت بكل ما يقيمها من مقومات، إذا لم تكن قد انبثقت من المحيط جزءا منه، وإن العبقري في جبروته من علم أو فن أو أدب أو ما شئت، لتراه في ساعات هدوئه وسكوته، يحيا على مستوى واحد مع سائر الأفراد، كأن لا فرق بينه وبين أي فرد آخر، ولكم قرأنا وسمعنا عن زائر غريب يزور موطن نابغة من هؤلاء النوابغ، فيدهش كل الدهشة أن يراه واحدا من الناس، يمشي على الأرض، ويسكن البيت، ويأكل الطعام! نعم إن العبقري واحد من أفراد الجمهور في أمته يكابد ما يكابده الآخرون، وينعم بما ينعم به الآخرون، لكنه في الوقت نفسه - دون الآخرين - قد أراد له ربه سبحانه وتعالى، بما ألهمه من مواهب وقدرات؛ أن يصبح في أمته عقلها وقلبها ولسانها.
وبرغم تميز العبقري عن سائر مواطنيه، فهو ما يزال واحدا منهم، يتلقى ما يتلقاه الآخرون من مؤثرات، لكن الذي يختلف بعدئذ بينه وبين الآخرين هو طريقة الاستجابة لتلك المؤثرات، ولا تقتصر هذه المقارنة على دنيا التعبير في عالم الفن والأدب، بل إنها مقارنة نراها قائمة في مجال العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية، وذلك أمر يدعو إلى العجب، لكنه حقيقة واقعة، فكأنما صدور الناس في العصر الواحد، وبسبب الظروف المعينة، تختلج بإرهاصات من نوع معين، تتطلب ما يعينها على أن تولد كيانا مجسدا في عالم الوجود، فما هو إلا أن يتحقق ذلك على يدي عبقري موهوب بقدرة تعينه على أداء ما هو مطلوب أداؤه، وإذا لم يكن هذا هكذا فكيف تفسر الحالات الكثيرة، التي يحدث فيها أن يتوارد الخاطر الواحد في العصر الواحد على أحد العلماء النوابغ في بلد ما، وعلى عالم نابغ آخر في بلد آخر؟ ففي العصر الواحد، وفي الأمة الواحدة، تحدث أحداث يكون لها وقعها في نفوس الناس جميعا، موهوبا وغير موهوب، فيدب فيهم قلق يريد ألا يستريح إلا إذا وجد مخرجا من مأزقه، لا فرق في ذلك بين الحياة العلمية، والحياة السياسية والحياة الاجتماعية، فيكاد يكون محتوما عندئذ، أن يخرج من الجمهور المأزوم من يقدم له الحل الذي يريد؛ ولذلك كان أغلب الظن عند هذا الكاتب، أن بين جمهور معين ونوابغه، موقفا استدلاليا متبادلا، وأعني أن من عرف ما كانت تضطرب به صدور الناس في فترة معينة، استدل نوع المواهب القادرة التي لمع بها أصحابها من أفراد، والعكس صحيح أيضا، وهو أنه إذا عرف باحث من هم النوابغ في أمة معينة إبان عصر معين، استطاع أن يستدل منهم آمال تلك الأمة وآلامها وهمومها واهتماماتها في ذلك العصر.
অজানা পৃষ্ঠা