فما أكثر ما تتحجر في عقول الناس أفكار، فتظل ثابتة عندهم ثبات الحجر، وهنا يتسلل الخطأ الخطير، وهو أن يفسر ذلك الثبات عند الناس بأنه ثبات الحق، متأثرين في ذلك بثبات المبادئ في الدين: فماذا يصنع من يريد للناس أن يغيروا من أفكارهم ما لا بد أن يتغير، فلا هي من مبادئ الدين فيجب أن تثبت وأن تدوم، ولا هي في مجال العلم حيث لا يجد العلماء مبررا لقيامها حتى ولو تبين منها وجه الخطأ، إنه مضطر إلى التسلل وراء الجدران المنهارة ليدكها بالديناميت، قبل أن تتهاوى على رءوس الناس، وعلى غرار ما يقال عن الشعر وشيطان الشعر الذي يلهم الشاعر بما يقوله، فكذلك للساعين إلى حرية الإنسان من دواعي جموده على خطأ وضلال، شيطان يلهم المصلحين إلى طريق الخلاص.
رواية وراويها
أتذكر يا صاحبي، ذلك اليوم البعيد البعيد، عندما كانت الشمس الغاربة قد أوشكت على الغروب، تجر وراءها أذيالا من الشفق، امتدت وراءها حتى اكتسبت بها رقعة تبلغ من السماء ثلثها أو ما يزيد على الثلث، وقد جلسنا معا فوق الصخرة الناتئة على شاطئ البحر؟ أتذكر كيف نظرنا معا إلى ذلك الشفق الجميل وهو يزف الشمس إلى مغيبها، فقلت أنت إنه نار تأجج أوارها، ورددت عليك قائلا: بل هو فرش من أوراق الورد؟ أتذكر يا صاحبي تلك اللحظة من ذلك اليوم البعيد؟ ألم نلحظ معا كيف جاء اختلافنا في الوصف ، دليلا على اختلافنا في رؤية الأشياء وتأويلها؟
ولقد امتدت بنا الأعوام، بعد تلك اللحظة البعيدة، فطوحت بك في شرق وطوحت بي في غرب، نلتقي آنا هنا أو هناك لقاء قصيرا عابرا ثم نفترق سنوات، لكن رؤيتك للدنيا لم تزل رؤيتك، ورؤيتي لم تزل رؤيتي، فما تراه نارا حارقة أراه وردا، والشيء المرئي هو هو ذاته الذي تراه أنت وأراه، إن دنيانا وأحداثها - يا صاحبي - هي كأحرف الهجاء كل يصنع منها الرواية التي يشاء، ولقد صنعت أنت من أحرفك رواية يائسة حزينة، وصنعت أنا من أحرفي رواية راجية راضية مستبشرة، والعجب هو أننا متصاحبان على طريق الحياة، ونحرص على أن نبقى متصاحبين، ولعلك أنت الذي قلت لي ذات يوم، أن بتهوفن، وهو على فراش مرضه وقد جلس بجواره بعض أصدقائه الأقربين، قد التفت إليهم وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة وقال: هيا الآن يا أحبائي، أنزلوا الستار فقد انتهت الملهاة - قالها وأسلم الروح.
وأذكر أن حوارا جادا قد دار بيننا، حول ذلك الذي رويته لي عن بيتهوفن وما نطق به عند موته، فسألتك بعد لحظة صامتة: أيمكن حقا أن تكون حياة الإنسان «ملهاة»، ودع عنك أن يكون ذلك الإنسان هو بيتهوفن، أو أيا ممن دارت حياتهم على أفلاك العظماء، كما دارت حياة بيتهوفن؟ نعم لقد أدرنا بيننا يومئذ حديثا مسترخيا خفيفا لكنه جاد، حين بادرتني - كعادتك - بسؤال تريد به أن تتقصى الأمور إلى منابتها، فقلت لي: لماذا تفرق في وصفك للحياة بين ملهاة ومأساة؟ أتحسب أن الملهاة ضحك ليس وراءه إلا الضحك، وأن المأساة بكاء ليس وراءه إلا البكاء؟ الملهاة والمأساة كلتاهما تصوير للإنسان الأولى تصوره في متناقضاته، وتصوره الثانية وهو يسعى إلى حتفه بظلفه، فيوجه مسيره نحو التهلكة، ظانا أنه يصعد به إلى مجد، وربما قصد بيتهوفن بقولته تلك: أن عظمة موسيقاه حين تنتهي بصاحبها إلى موت، إنما تشير إلى تناقض كالتناقض الذي تبنى عليه الملهاة، وكان ذلك الرجل العظيم لم يفرق بين موتين: أن يموت هو وأن تموت موسيقاه، فالعمل العظيم باق مع الناس، وأما صاحبه فهو فان بجسده حتما محتوما ، ولا تناقض في ذلك؛ لأن العمل العظيم ليس ملكا لصاحبه بقدر ما هو ملك للناس أجمعين.
قلت: لا عليك يا صاحبي من بيتهوفن وما حكم به على حياته لحظة خروجه منها بأنها كانت ملهاة، حتى طلب من أصدقائه الذين جلسوا بجواره خاشعين وهو يحتضر أن يسدلوا ستار المسرح؛ لأن الملهاة قد بلغت ختامها، لا عليك يا صاحبي فقد قال بيتهوفن ما قاله وهو في برزخ بين عالم الفناء وعالم الخلود، فهو وأمثاله من شوامخ الرجال - ربما عن غير وعي منهم - قد تحقق لهم الخلود مرتين: مرة أولى حين رسمت أسماؤهم في قلوب البشر، ومرة ثانية حين نقشت أسماؤهم بالنجوم على صفحة السماء، ولنوجه أبصارنا إلى أمثالنا ها هنا على هذه الأرض وفي زحمة الناس، نعم فلنوجه أبصارنا إلى من هم مثلك ومثلي من ملايين الرجال والنساء، الذين لا هم بلغوا من درجات الصعود ما بلغه بيتهوفن وأبو العلاء، ومن هم على هذه الشاكلة التي تتحول حياتها إلى نور يقشع الظلام أينما كان، ولا هم نزلوا على درجات السلم حتى تسطحت حياتهم مع أديم الأرض، وإنما هم بقدراتهم المتوسطة معلقون بين أرض وسماء، فلا هم يريدون أن يقروا على الأرض مع عامة الناس ولا سماء الخلد تريد أن تفتح لهم الأبواب، إنهم كطائر هيض له جناح وبقي جناح فلم يعد يعرف له مكانا: أهو مع الطير محسوب، أم هو محسوب مع ذوات الرجلين؟ أو هو كمن بترت له ساق فوقف على رجل واحدة لا يعرف الناس أهو مقعد يحملونه؟ أم هو ماش فيسير؟
إنه لا إشكال في العمالقة، ولا إشكال في الأقزام؛ فالعملاق في ميدانه عملاق يرغم الناس من حوله إرغاما على أن يثنوا رقابهم، حين يتجهون بأبصارهم إلى أعلى، إذا أرادوا رؤيته أو التحدث إليه، والقزم في ميدانه قزم لا حيلة لمن أراد النظر إليه إلا أن يتجه ببصره إلى أسفل، أما الإشكال فهو في «الأواسط» فأمرهم كثيرا ما يختلط على المشاهدين، فتارة يتوهم مشاهدوهم أنهم أعلى، وتارة يتوهمون أنهم أسفل، وإن ذلك ليذكرنا برواية «رحلات جالفر» للكاتب الإنجليزي «جوناثان سويفت»، وهي رواية مشهورة تلقى إعجابا عند الكبار وعند الصغار على حد سواء، ففيها أخبار «جالفر» إذ وجد نفسه خلال أسفاره بين قبيلة من عمالقة الأجسام، بحيث كان الواحد منهم يحمل جالفر على كفه، فلم يكن يزيد على إصبع واحدة، وهكذا أخذ العمالقة يلهون بتلك الأعجوبة البشرية، فلما شاء الله أن ينجو من تلك المحنة، واستأنف السفر وقع على قبيلة من الأقزام، فانعكس الوضع هذه المرة؛ إذ كان هو العملاق الذي أخذ يلهو بتلك الأجسام الصغيرة، يضع الواحد منهم على كف يده، أو في جيب صداره، لقد كان «جوناثان سويفت» يريد بتلك الرواية سخرية بالحياة السياسية في إنجلترا على أيامه «إبان القرن الثامن عشر»، لكنها سرعان ما جاوزت هدفها الأساسي لتكون متعة للأطفال وتسرية للهم عند الكبار، ومشكلة «جالفر» في أسفاره سواء أكان مستصغرا بين العمالقة أم كان مستضخما بين الأقزام، هي بعينها مشكلة «الأواسط» الهوامل في عالم الفكر والفن والأدب في حياتنا، محنة هؤلاء «الهوامل» هي أن حقيقة أقدارهم لن يكشف عنها نقابها، إلا على أيدي أجيال آتية، فإما رفعتهم تلك الأجيال إلى حيث يستحقون من رفعة، وإما خفضتهم إلى حيث يستحقون من حضيض.
ومضت بيني وبين صاحبي بضع دقائق صامتة، فلا أنا مضيت فيما كنت أتحدث فيه، ولا هو علق على حديثي بشيء، فعدت إلى خطابي إليه قائلا: لقد خطر لي خاطر ذات يوم، وكنت عندئذ أسير في شارع مزدحم بالمشاة وبالراكبين، وهو أن كل واحد من هؤلاء الناس، إنما يضمر في دخيلته «رواية»، هي رواية حياته التي عاشها، ولست أدري كم مجلدا ضخما تملؤه رواية كل منهم، فالأحداث التي مرت به والأحاديث التي دارت على مسمع منه، شارك فيها أم لم يشارك، والمشاهد التي رآها والأنباء التي سمعها عن الآخرين، إنما هي أكداس فوق أكداس، أين منها مخزونات أي جهاز إلكتروني حاسب؟ وإني لأتمنى حقا أن أصادف روائيا قديرا يعد في بلده من «الهوامل» الذين ترفعهم الأقدار وتخفضهم كما تشاء الأوهام والأغراض، لا كما يشاء الحق والإنصاف، أقول: إني لأتمنى أن أصادف مثل هذا الروائي القدير من فئة «الهوامل» ليروي لي رواية حياته، فهو بالفن الروائي يستطيع أن يستخلص من أكداس الحوادث هيكلا فيه اختصار وفيه شمول في آن واحد، فمثل هذه الصورة الهيكلية الصادقة هي تصوير لما يعانيه الهوامل من عنت وظلم وتجاهل أحيانا، أو ما ينعمون به أحيانا أخرى من رواج وشهرة وتقدير، والأمر في كلتا الحالتين لا يرتكز على حق يستحقه من يعاني أو من ينعم، بل هو معتمد على مهارة صاحب المصلحة أو خيبة أمله وضعف حيلته، أقول إن ذلك كله مما يلاقيه الهوامل من إقبال وإدبار ومن سعود ونحوس، هو من أصدق الشواهد شهادة على صحة الحياة في المجتمع أو مرضها، فالعمالقة محكوم لهم بغير إشكال، والأقزام محكوم عليهم بغير إشكال كذلك، ويبقى «الأواسط» الهوامل وحدهم نهبا لأحكام متسرعة بإنصاف أو بإجحاف.
وإنك يا صاحبي لهو ذلك الروائي القدير من جماعة الهوامل، ففي مقدورك أن تحقق لي ما تمنيت له أن يتحقق، وهو أن ترسم لنا صورة مكثفة لكنها وافية لرواية حياتك، فلعلها تشير إلى أي نوع من مجتمع ثقافي يعيشه هذا البلد الحبيب، فتردد صاحبي ضاحكا أو ضحك مترددا، ثم قال: إنك إذا طلبت من صانع السيارة أن يصف لك كيف صنعت فما أيسر عليه أن يذكر أجزاء السيارة جزءا جزءا، ومراحل تركيبها مرحلة مرحلة، فترى الحلقات كيف تتابعت منذ بدأت مع خام المعدن، حتى أصبحت سيارة تجري على عجلاتها، لكن مثل هذه التجزئة وهذا التتابع بفواصل حادة بين جزء وجزء، غير وارد في تكوين الكائن الحي وتتابع المرحل في نضجه ونمائه، فمهما دق التحليل العلمي بالعلماء، فمحال عليه أن يرسم الخطوط الفاصلة، يقول إن في الساعة الفلانية من اليوم الفلاني، انتهت مرحلة الطفولة وبدأت مرحلة المراهقة، وأكثر منه استحالة أن تروي عن إنسان، أو يروي إنسان عن نفسه، قائلا: إنه في اليوم الفلاني من السنة الفلانية، وردت على ذهنه الفكرة الفلانية، فأصبحت تلك الفكرة بعد ذلك ملازمة في تفكيره، أو أنها تبخرت كما تتبخر قطرة الماء في وقدة الشمس، فتختفي كأن لم تكن، وما أبلغ الآيات الكريمة التي قارنت كلمة طيبة بشجرة طيبة؛ فالكلمة هنا «فكرة» خصبة، ولود تنسل لصاحبها أفكارا، وتتجسد الأفكار في أعمال وتنتهي الأعمال إلى ثمر، فانظر إلى الشجرة الطيبة تلك، وافرض جدلا أنها قادرة على التعبير عن حياتها الداخلية، تعبيرا يحدد لنا كيف نمت وتطورت وأثمرت، فماذا هي قائلة؟ إن الذي هو في وسعها أن تقوله هو ما قالته عنها الآيات الكريمة وهو منحصر في ثلاثة أطراف، فهناك أصلها الثابت في الأرض وهنالك فروعها التي ارتفعت فبلغت السماء، وهنالك الثمر الطيب الذي تخرجه حينا بعد حين، وهي أطراف ثلاثة تشير إلى مقابلات لها في حياة الصالحين؛ إذ هي حياة تنفع أهل الأرض في دنياهم، وهي في الوقت نفسه حياة ترضي ربها يوم الحساب، فنفع الناس هنا مشروط بأن يكون في حدود ما يرضي الله سبحانه وتعالى، وليست هي بالحياة التي تنفع الناس، وترضي الله مرة واحدة ثم تجمد وتعقم، بل هي حياة منتجة في هذا السبيل نتاجا يبقى ويتكرر ما دامت هي حياة سليمة معافاة، لكن هل تستطيع تلك الشجرة الطيبة - إذا فرضنا فيها النطق - أن تصف كيف اعتملت فيها الحياة من داخلها، منذ كانت بذرة، حتى نمت وتفرعت وارتفعت فروعها، ثم أثمرت ثمرات تعاقبت حينا بعد حين؟ لا أظن ذلك وحتى لو فرضنا فيها تلك القدرة لما كانت بذات نفع للسامعين.
ورواية حياتي كما تسعني روايتها، يمكن أن توصف على هذا النحو الإطاري الواضح، الذي هو في غنى عن ذكر الأحداث الصغرى مفصلة حدثا بعد حدث، فهي حياة - في جملتها - من ذلك النوع الذي يسير به صاحبه في مراحل ثلاث: فكرة فموقف يجسدها، فمستقبلون يقبلون أو يرفضون، وإنه لتتابع مألوف في الحياة الفكرية أينما ظهرت، ولا يعني ذلك شيئا بالنسبة إلى «مستوى» تلك الحياة الفكرية ، فقد تكون حياة يطير بها حاملها، أو تطير هي بحاملها إلى أعلى عليين، ولكنها كذلك قد تكون فكرية على مستوى متواضع، فهذا التفاوت في الدرجة، لا ينفي الصفة العامة التي تتميز بها حياة فكرية كيفما كانت، وتلك الصفة العامة هي أنها أولا: تنفع الناس في اعتقاد صاحبها، وثانيا: يرضى عنها الله سبحانه، وثالثا: هي حياة متواصلة الأثمار على فترة طويلة من العمر.
অজানা পৃষ্ঠা