وإني لأزعم أن إحدى العلل الكبرى، التي قيدت انطلاقتنا الفكرية، نحو أن نبدع فكرا جديدا مع المبدعين، هي أننا إذا اكتفينا في معظم الحالات، بحفظ ما كتبه آخرون، من الماضي أو من الحاضر، فدارت بنا الحياة، أو قل إننا قد درنا بحياتنا حول «كلام»، فأفلتت منا حقائق «الأشياء»، وأصبحنا كمن يعيش في ظلالها، ولتوضيح ذلك أقول: أمعن النظر جيدا في تدرج الخطوات الأربع التالية: (1)
هذه تفاحة. (2)
رأى نيوتن تفاحة تسقط من فرعها على الأرض. (3)
قانون الجاذبية بين الأجسام هو أن أي جسمين يتجاذبان بنسبة مطردة إيجابا مع حجم الجسمين، وسلبا مع مربع المسافة بينهما (ومعذرة إذا لم تكن هذه هي الصيغة العلمية في انضباط ألفاظها). (4)
أن الكون موحد بفعل الجاذبية التي تشد كل جزء منه إلى سائر الأجزاء.
فلاحظ ما يأتي في الخطوات الأربع السابقة: فالأولى هي «شيء» نعرفه برؤية لونها وشكلها، وبلمسة سطحها، وبما يذوقه اللسان إذا أكلناها، وهذه كلها «حواس»، ومما تأتينا به حواسنا عن التفاحة، نكون قد عرفناها بنفس القدر الذي أمدتنا به الحواس من خصائصها، والثانية جملة لغوية، لو أنها كانت هي كل ما نعلمه عن التفاحة، أي أننا لم نكن قد تلقينا من خصائصها شيئا بطريق حواسنا، وانحصر علمنا بها فيما تنبئنا به هذه الجملة عنها، لما عرفنا عندئذ إلا «جملة» نقولها أو نكتبها، ويقف بنا أمرها عند هذا الحد، وأما الثالثة فهي خطوة ينتقل بها الإنسان من «الشيء» المعين إلى قانونه العلمي، مع ملاحظة أنه ربما حدث لدارسي هذه الحقيقة العلمية عن جذب الأرض للتفاحة التي سقطت عليها، ألا يكون قد رأى أو أكل تفاحة في حياته، فهو في هذه الحالة يعرف قانونا علميا عن شيء لم يحسه بحاسة من حواسه في دنيا التجربة الذاتية، وأخيرا تجيء الخطوة الرابعة، التي بها يجاوز العقل حدود العلم الواحد، في مجال واحد معين، إلى رؤية كونية شاملة، فتكون الرؤية العقلية في هذه الحالة رؤية فلسفية بنيت على عمد من العلوم المختلفة.
واضح أن من استطاع الصعود على هذه الدرجات الأربع جميعا كان قد أكمل الشوط، فهو قد عرف «الشيء» معرفة مباشرة بحواسه، ثم هو قد عرف «عن» ذلك شيئا لم يره بعينيه، ولكن نقلته إليه «اللغة»، ثم هو بعد ذلك قد جاوز عالم الحس إلى عالم العقل، فعلم القانون العلمي الذي هيمن على حركة الشيء الذي كان قد عرفه وعرف عنه، وأخيرا - في مرحلة العقل - قد انتقل من معرفة جزئية محدودة في شيء واحد معين، أو في مجال معين، إلى الرؤية الفلسفية التي تبنى على محصلة العلوم جميعا.
مثل هذا الرجل الذي يكمل شوط المعرفة بدرجاتها الأربع، فيما يختص بشيء معين، يكون أكمل علما من سواه، ممن وقفوا عند بعض الشوط ولم يكملوا صعود درجاته، وأما أبعد رجل عن الكمال العلمي، فهو ذلك الذي لم ينل من المعرفة الخاصة بشيء ما إلا جملة أو عدة جمل تتحدث عن ذلك الشيء بأخبار وصفات لم يشهد هو منها شيئا ولم يشارك بعقله في العلم وقوانينه المهيمنة على ذلك الجزء من كائنات الدنيا، وخير منه رجل انحصرت معرفته في خطوة إدراك الأشياء بحواسه، حتى ولو لم يكن قد سمع عنها جملة واحدة أو قرأ عنها جملة واحدة؟ وأما المرحلة الثالثة، التي هي مرحلة «العلم» وصياغة قوانينه، فهي وإن قصرت دون استكمال الرؤية الشاملة في الخطوة الأخيرة، إلا أنها تتضمن الخطوتين السابقتين عليها، وأعني خطوة الإدراك الحسي، وخطوة التعبير باللغة عن ذلك الإدراك.
وبعد هذا التصوير الشارح لدرجات المعرفة الأربع، أدعوك لنتدبر معا: في أي خطوة، أو عند أي مرحلة ، تقع الكثرة الغالبة من محصولنا المعرفي، كما يتبدى فيما نقوله أو نكتبه؟
إننا نتحدث هنا عن حياتنا العلمية والفكرية، وذلك يخرج من حساب أعمال الناس الحرفية، التي قامت على التدريب العملي، الذي يؤديه جيل الآباء نحو جيل الأبناء، كما هي الحال في فلاحة الأرض، وفي كثير جدا من الحرف الصناعية، فحديثنا هنا يتناول ما قد يكون هناك أو لا يكون، من أبحاث علمية، ومن أنشطة نظرية، وراء الأعمال الحرفية؛ لأن مثل هذه الرابطة بين الإبداع العلمي والفكري من أعلى، وتسرب نتائج ذلك الإبداع شيئا فشيئا إلى ميادين العمل التطبيقي، أمر ضروري للتقدم، ويبدو أن ذلك الذي يتقدم حقا، هو «العلم» في شتى ميادينه، فيتبع ذلك - على الأرجح - تقدم في الصناعات المختلفة، بما في ذلك صناعة الزراعة، وأما إذا ارتكزت الصناعات على خبرة عملية «فقط» ينقلها سابق إلى لاحق، فقد تبلغ تلك الصناعات درجة عالية من الإتقان، لكنها لا «تتقدم»، وإن تقدمت جاء تقدمها في بطء شديد، وانظر إلى الصناعات في الحضارة المصرية القديمة تجدها عالية المستوى، لكنها مع ذلك تبدو فيما يخيل إلى كاتب هذه السطور وكأنها درجة متقاربة خلال فترة طالت حتى بلغت آلاف السنين، وتعليل ذلك - إذا صدق - هو أنها صناعات قائمة على «خبرة» وتدريب، دون أن يكون وراءها رصيد من علوم نظرية.
অজানা পৃষ্ঠা