فماذا يقول وقد تقدمت به السنون، إذا ما نظر حوله فرأى شبابنا الآن وقد تحولوا من سلبية النقل والمحاكاة في حركة البعث، إلى سلبية أخرى خانقة حتى الموت؟ إنهم يرفضون العصر، ثم هم لا يفهمون الماضي، وبين هذا الفهم الغائب وذلك الرفض الغبي البليد، يقضون حياتهم في وخم متثائب حينا، أو في سخافات ينشطون بها نشاط من يهدم وليس نشاط من يبني، ولسنا نريد بهذا أن نغمط حق مئات الألوف، استغفر الله، بل ربما بلغت تلك الألوف حدود الملايين، من شبابنا الذين عمروا لنا الأرض بما زرعوا وما صنعوا، والذين ضاقت بهم ساحة الوطن فهاجروا، لينبغ منهم من نبغ، كلا ولكن هؤلاء وأولئك - في الأعم الأغلب - ما زالوا يقفون ذلك الموقف الناقل المحاكي، الذي أسخط ذلك الشاب وأقلقه، ثم زاد علينا في مرحلتنا الحاضرة، ملايين أخرى ممن أخذهم الضعف، فأخذهم العجز، فلجئوا إلى تطرف جاهل مجنون، ينحازون به إلى اليمين مرة وإلى اليسار مرة، غير عابئين بما ينطوي عليه هذا التردد بين الطرفين، من تناقض في الفكر وتخبط في العمل.
ويتذكر الشيخ شبابه القلق، الحائر، الساخط، المتسائل: لماذا هم يبدعون ولماذا نحن محاكون وناقلون؟ يتذكر الشيخ ذلك، حين يتذكر شبابه ماشيا بخطواته الوئيدة، على جسر النيل، فيما بين القريتين الشقيقتين، خلال إجازات الصيف، فيبتسم أسفا وحسرة؛ إذ يرى الليلة أشبه بالبارحة، لا، لا بل إن الليلة لم تعد تشبه البارحة؛ لأن البارحة وإن تكن قد ركنت في نشاطها إلى الأخذ عن الآخرين بغير عطاء إلا القليل، فلم تكن ترفض الحاضر وتشد ركابها قافلة إلى وراء، وينظر الشيخ كما نظر سلفه الشاب، ليقارن شبابا هنا بشباب هناك، فيرى في ناحية، قعودا، وخمولا، وتراخيا، وفي ناحية أخرى لا يخلو قط أن يرى أمثلة تشد الانتباه شدا، وتدعو إلى عجب وإعجاب، من وعي متيقظ، ونشاط متوفر، ومغامرة طموح، ورغبة جامحة للكشف عن مجهول من أسرار هذا الكون العظيم.
إنك لترى روح الأمة، في أي عصر من عصورها، منعكسة في منجزات أبنائها وبناتها، ولا يعني ذلك أن نتوقع الإنجاز العظيم من كل فرد من أفرادها، فذلك ضد طبائع الأشياء بل يكفيك أن يشهد على روح الجماعة نسبة عددية من أعضائها، فنحن إذ نقول - مثلا - إن القرن الرابع الهجري قد شهد ذروة الثقافة العربية في تاريخها القديم، لا نعني أن كل عربي كان نابغا في ناحية من نواحي الحياة الثقافية ، بل نعني أن روح الأمة العربية قد تمثلت في قمم، وكل قمة منها - بالطبع - تلحق بها درجات دونها متفاوتات، فهنالك - مثلا - في دنيا الشعر المتنبي وأبو العلاء، لكن هناك أيضا عشرات من شعراء دونهما، لا يبلغون الذروة، وأن يكونوا أكبر قدرا من أن يهملهم تاريخ الشعر العربي، وفي الفكر الفلسفي إبان القرن الرابع الهجري، تجد قمما مثل الفارابي وابن سينا، لكن هنالك كذلك عشرات دونهما، تتفاوت درجاتهم، وهكذا قل في كل حياة ثقافية ناهضة، في أي عصر من العصور الناهضة، أما إذا ركدت الحياة بحيث خلت من قوة الإبداع الضخم، فهنالك قد تجد الوهاد الوطيئة، ولكنك لن تجد القمم العالية، هذا هو ما نراه في حياتنا اليوم: فهي بالطبع لا تخلو من سهول ووديان، لكنها يقينا تخلو من القمم العالية في أي ميدان تختار أن تضعه موضع النظام، فالقمم البشرية، شأنها في ذلك شأن قمم الجبال، يراها الناس من بعيد، أي أن العظيم حقا هو من عظم قدره للعالم كله فيما يدفع الإنسانية إلى الأمام من جانب في جوانب حياتها، ولقد كان أهم ما ضاق له صدر ذلك الشاب الغاضب، أن رأى أمته تخلو من أمثال تلك القمم العالية، دون أن ينكر عليها نوابغها فيما دون الذرى، حتى إذا ما تقدم العمر به إلى شيخوخة تحيا في أيام الناس هذه، رأى السفوح العليا - ودع عنك القمم العالية - قد خسفت لتنبسط في أسطح تستوي مع أسطح الماء انخفاضا، فليس الأمر - إذن - هو أنه لا فكر، ولا فن، ولا أدب، ولا طب ولا هندسة، لا فكل ذلك موجود بدرجات، وإنما الذي غاب هو القمم العليا أولا، والسفوح المرتفعة ثانيا، وربما بقيت لنا بعض السفوح السفلى مع مسطحات السهول، ومنخفضات الوديان.
إن جبال الأرض، التي شمخت بذراها حتى اخترقت بها كبد السماء، لم تفعل فعلها ذاك إلا بعد أن ارتج جوف الأرض بمخاض عنيف، تفجرت به البراكين الثائرة، فأرسلت أنفاسها الحرى حمما، فلما بردت نارها، كانت قد تركت خلفها تلك القمم العالية التي نراها، وكذلك تكون الحال في قمم البشر العمالقة العباقرة، فهؤلاء لا يظهرون من فراغ، بل تسبق ظهورهم روح تسري في عامة الناس، تستجيب للتحدي من أي ناحية جاء، سواء أجاء من عدو يعتدي، أم جاء من طبيعة تتحدى بصلابتها وعنادها، فإذا رأينا أمة قد انطفأت الجذوة في شبابها، بحيث تكثر حولهم عوامل التحدي فلا يتحرك منهم جمع ليستجيب، علمنا أن الفرصة لولادة القمم قد ضاقت، ومن هنا رأينا شاب الأمس البعيد وقد أخذه القلق، حين راح يتساءل: لماذا هم في الغرب كذا وكذا؟ ولماذا نحن على امتداد الوطن العربي كيت وكيت؟ وما قد أقلق شاب الأمس البعيد، ما زال يقلق شيخ اليوم، كلما رأى هناك شبابا يتوقد طموحا في مواجهة الصعاب، بل إنه ليخلق الصعاب خلقا لتسنح له فرصة للمجاهدة والكفاح، وإن هذا الشيخ ليتابع بروح قلقة شفقة على أبنائه الشباب، أقول إنه يتابع ما يحدث هناك وما يحدث هنا، فلا يجد هنا من معالم الطموح المكافح إلا قليلا جدا، إذا ما قيس إلى ما يجده هناك، ولنضرب أمثلة قليلة مما سمع عنه هناك في صيف واحد «صيف 1987م»: شاب يحاول - وحده - خلال أشهر الصيف، أن يشق الطريق الثلجي في المحيط المتجمد الشمالي، لعله أن يجد سبيلا مباشرا يربط المحيط الأطلنطي بالمحيط الهادي، ب «تخريمة» قصيرة عن طريق القطب الشمالي، ولقد كان هذا العام عامه الثالث في مغامرته تلك، ويقرأ الناس - أو يسمعون - وصفا لما يلاقيه، وشرحا لما يتغلب به على ذلك الذي يلاقيه، وأن الأخطار العنيفة المخيفة لتحيط به عند كل خطوة يخطوها، فما الذي دفع شابا كهذا أن يترك المراقص والملاهي والمصايف، حيث كان يستطيع أن يلهو ويعبث ويسترخي، ليواجه الثلوج جبالا جبالا، ولتعصف به العواصف القواحف عصفا؟! وذلك شاب آخر يتأهب لمحاولة أخرى يحاول بها تسلق الجانب الشمالي الشرقي من جبال الهملايا، وهو جانب لم يتسلقه إنسان بعد، ويعرف عنه العارفون أنه عنيد، ويسأله سائلون: فيم إصرارك أنت وزملائك على هذه المخاطرة عاما بعد عام؟ فيجيب الشاب - وعمره نحو عشرين عاما - بقوله: إن جوابي هو نفسه ما كان أجاب به «مالوري» عن سؤال كهذا من الخمسينيات، عندما نجح في وصوله إلى قمة «إفرست» من جبال الهملايا، وهي أعلى قمم الدنيا جميعا، حيث قال إنني جاهدت لأبلغ تلك القمة «لأنها هناك»، أي أن مجرد وجود الشيء المستعصي، كفيل وحده بأن يتحداه الإنسان ليقهره، وذلك شاب ثالث ضرير، واسمح لي بأن أكرر القول بأنه شاب «ضرير»، قد أعد عدته ليعبر المحيط الأطلنطي وحده في سفينة، فإن لم يكن هو أول «إنسان» يعبر وحده ذلك المحيط، إلا أنه سيكون أول إنسان «أعمى» يفعل ذلك، ويسأله سائلون: وماذا وراء مغامرتك تلك؟ فيجيب بأن الذي وراءها هو أن الإنسان بروحه القوي، لا بعينيه، وقد أراد بعضهم أن يعرف كيف يستطيع مفقود البصر أن يغامر مغامرة كهذه، فيشرح الشارحون بأنه سيعتمد على جهاز السمع «رادار»، يتسمع به إن كان في طريقه سفينة أخرى فيجتنبها. هؤلاء جميعا شباب ما زالوا في الجانب الأصغر من مرحلة الشباب، أمامهم عوائق عسيرة في الطبيعة، وكأنها تتحدى قدرة البشر، فيستجيبون هم لهذا التحدي يغالبونه حتى يغلبوه.
وإذا سادت هذه الروح المغامرة الطموح شباب أمة، فهل من عجب أن تظهر فيها القمم الشوامخ بعد قليل؟ إن الأمر في حيوية الشعوب، هو كما قال الشاعر التونسي الشاب:
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
إلا أن الفرق بعيد بعيد بين شعب «أراد» الحياة وشعب «أراد» الموت (وأرجوك أن تقف قليلا عند معنى «أراد» حين تنصب تلك الإرادة على نمط الحياة الذي يريد الإنسان أن يحياه)، لقد أنبأني عميد لإحدى الكليات «العلمية»، أنه أراد أن يكون لنفسه فكرة مأخوذة من الواقع، عما يقرؤه الطالب إذا قرأ، فأخذ يجمع الشواهد مما يقع عليه بين الطلاب، فشاءت له المصادفة أن يكون أول كتاب رآه مع أول طالب يصادفه قارئا، هو كتاب عن «عذاب القبر». فقلت للأستاذ العميد: كفى! كفى! نشدتك الله لا تمض في ذكر الأمثلة؛ لكي أنعم بالظن الواهم ، إن ذلك المثل الذي ذكرته وحيد نوعه، ليس له بين الطلاب ثان وثالث.
لكني أعلم علم اليقين أن لذلك المثل الأول الذي قدمه لما يقرؤه الشباب، ثانيا، وثالثا، ورابعا، وإلى أي عدد تشتهي، وكأنه شباب أراد لنفسه «الموت» أكثر مما أراد لنفسه «الحياة»، فإذا تدرج شاب من هؤلاء على درج العمر، وصار «عالما» أو «طبيبا» أو «مهندسا»، أو ما شئت من مسالك الحياة في أعلى درجاتها - ودع عنك درجاتها فيما دون ذلك - فماذا تتوقع أن ترى؟ إنك لن ترى - في الأعم الأغلب - إلا رجلا وقف عند حدود العلم كما هو موجود، وكما درسه وحفظه مما درس أو قرأ، في الجامعة وما بعد الجامعة، وذلك على أحسن الفروض الممكنة؛ لأن بيننا من لا يتابع المستحدث أولا فأولا حتى في دائرة تخصصه، فيتخلف بعلمه بضع عشرات من السنين عما هو عليه الآن، ومع ذلك فلا علينا الآن من هؤلاء - وهم كثيرون - ولنأخذ بأحسن الفروض، وهو أن علماءنا والصفوة من أصحاب المهن، يتابعون المستحدث أولا فأول، فهلا وقفنا قليلا عند كلمة «يتابعون»، أي أنهم يقفون عند الأبواب، في انتظار ما يكشف عنه الكاشفون، أما أن نشارك نحن بقسط في صنع العلم أو غير العلم من مقومات العصر حضارته وثقافته، فذلك أمر بعيد الحدوث، فمن كان في شبابه يقرأ عن «عذاب القبر»، بعيد عنه بعد ذلك أن يضيف إلى حياة الناس حياة.
كان الشاب القلق الطموح يحلم بأن يكون لنا نصيب يتناسب مع تاريخنا المجيد، في الإبداع الحضاري الجبار، الذي نسمع عنه عند سوانا، والذي نشتري بعض ثماره لنمسها بأطراف الأصابع، ولنذوقها بطرف اللسان، ثم خرج من ذلك الشاب شيخ ما زال يراوده الحلم.
অজানা পৃষ্ঠা