1
وكان إسكندر هزيلا، وكان كل من ولهلم وفيكتورية وفيكتور إمانويل متوسط الحال، فلا يستطيع أن يضطلع بأعباء السياسة معتمدا على وسائله الخاصة، وكان كل من غلادستن وديسرائيلي غير مدرك لذروة سلطانه، وكان غورشاكوف مغترا، وكان كافور ذو القدر بين أضرابه قد مات حين جاء بسمارك إلى الجبهة، وفي بروسية وحدها كان يوجد عبقري سياسي من نوع آخر، وكان اسمه فرديناند لاسال، ولاسال مع عدم انتسابه إلى حزب ومع أنه ثوري ومع عطله من قوة أو مماثلة أفكار يغري بها خصمه العظيم لم يعتم أن اعترف به هذا الخصم، وجاذبية العبقرية وحدها هي التي دانت بين بسمارك ولاسال.
كان بسمارك ذا بسطة في الجسم والعقل، وكان ذا رأس على شكل القبة ، وكان يتقدم إلى الأمام على مهل بعد استهلال طويل، وكان ينظر إلى عدة سنوات مقبلة كأعاظم بناة الألمان الذين يعملون مدى حياتهم فيما يسروا له، وكان يخضع خياله لواقعيته فيزن كلامه ويهيئ أفعاله، وكان في حسابه يفضل عظائم الأمور على الصور، وكان بسمارك - الذي هذا هو أمره - في الخمسين من سنيه حينما بدأ عمله العظيم، وكان لاسال أهيف نحيفا رعيشا كحصان عربي جامح، وكان ساميا مستطيل الرأس ضيق الهامة لامعا، وكان مصورا قديرا موهنا لغريزته في الوصف الباهر، وكان رجلا خياليا متأملا، وكان يتملص من مدرسة الأفكار إلى عالم الأعمال، وكان يكافح حتى في عالم الأعمال، بفصيح الكلمات أكثر مما بالضربات، وكان ينظر إلى المستقبل على الدوام، وكان لاسال الذي هو أمره في الأربعين من سنيه حينما دنا من نهاية عمله العنيف، وترعرع بسمارك مالكا فكان فارس طبقته، وقضى بسمارك شباب مغامرة، فعاد إلى حياة مقيدة وإلى عيش المالكين الذين ظهر منهم، وبدا القطب السياسي بسمارك غير عاطفي، فكان مستعدا للعمل مع أية أمة وأية دولة إذا ما لاءم هذا هدفه، ولاسال لما كان من يهوديته وعطله من وطن، ارتقى بفضل ما بذله من عمل عنيف في فتائه، ولاسال حارب طبقته وكافح وراثته، ولاسال كان فؤاده يشتعل بسهولة من أجل قضية أمة لا ينتسب إليها عرقا، ومن أجل قضية طبقة لا ينتسب إليها مولدا، ولم يضح بسمارك بشيء في البداءة، وجازف لاسال بكل أمر، ووطد بسمارك مقامه بارتقائه، وخسر لاسال في السجن حريته وصحته، وإذا كان بسمارك قد دخل المعترك في الثانية والثلاثين من سنيه وفق أساليب بيئته فإن لاسال بدأ ينكر - في الوقت نفسه، وحينما كان في الثانية والعشرين من سنيه - مبادئ عشيرته.
ومهما يكن الأمر فقد كان يحفز كل واحد منهما عوامل واحدة، أي كان يحث اليهودي الاشتراكي والمالك البوميراني زهو وإقدام وحقد، وقد أوجبت هذه العوامل فيهما ميلا إلى السلطان، وما كان الخوف ليجد إليهما سبيلا، وما كان أيهما ليطيق وجود من هو أعلى منه، وما كان أيهما ليحب حبا حقيقيا. وكما أن كره بسمارك للنمسة القوية أشد من حبه لبروسية التي هي أقل من النمسة قوة كان لاسال أقل حبا للشعب من بغضه للطبقة الوسطى؛ ولذا لم ينشد كل منهما، ولم يجد أصدقاء له، فلم يكن لبسمارك أصدقاء بين الشرفاء، ولم يكن للاسال أصدقاء بين زعماء الأحزاب، ولم يعش بسمارك عيش البلاط، ولم يعش لاسال عيش الشعب، وكان كلا الرجلين يتميز من الغيظ لضيق طبقته، وكان كل من الرجلين يشابه الآخر تهكما واستخفافا.
وبسمارك - لثبات أصله - مضطر إلى خدمة الملك التي اختارها ما دام حيا، ولاسال اختار خدمة الجمهور، وكان بسمارك يسكن حصنا، ولكن مع سماعه فوق رأسه على الدوام خطا رجل يتوقف عليه مصير حياته، وكان لاسال لا يسمع إنسانا فوقه، ولكنه كان ذا حصن خيالي وكانت ريح المستقبل تهز أعصابه بأشد من فرك الحقائق التي كانت تهد أعصاب بسمارك، وكان كلا الرجلين ذا مزاج فني فيلعب أسنهما لعبة الشطرنج ضد الدولة الأخرى ويمثل أحدثهما رواية هزلية، وكان الطموح يدفع أحدهما وكان الغرور يحرك الآخر على الخصوص، وكان يمكن لاسال أن يثمل بما يعلل به نفسه من ضروب الفوز والآمال التي يبصر بها مستقبلا أبعد مدى مما يبصر بسمارك الراغب فيما هو دون ذلك مع الحقائق الملموسة والموطن نفسه على الصبر، وفي هذا سر ما اتفق لبسمارك من العمر ما هو ضعف عمر لاسال، وفي هذا سر ما اتفق للاسال من أوقات الهناءة ما لم يتفق لبسمارك.
ولم يكد بسمارك ولاسال يلتقيان حتى عرف كل منهما للآخر قيمته قبل أن يعرفها العالم، ولو خر بسمارك صريعا في سنة 1863 في المبارزة التي تحدى بها فيرشوف ما زاد صيته على ما ناله رادوويتز ولنسيه الشعب منذ طويل زمن، وعلى ما كان من نقص سن لاسال عن سن بسمارك بعشر سنين في ذلك الحين؛ مات لاسال في مبارزة عند بدء عمله الذي كان يحيق به خطر النسيان، واسم لاسال مع ذلك يترنم به ملايين الآدميين من جميع الأمم في أغنية الائتلاف، ولا مراء في أنه سقط، ولكنه صار مشهورا في العالم؛ لما كان من رغبته في تحقيق مبادئ يوم لم يكن فجره قد لاح، وقد بلغ بسمارك غاية غده، فيبقى تمثاله قائما في بلده ألمانية.
والأمر الذي يقرب بين الرجلين هو الكفاح ضد الطبقة الوسطى، وأراد بسمارك السلطان ليناهض الدستور، وأراد لاسال تعبئة الجماهير، والسلاح قبضة بسمارك، ويجهز بسمارك الرجال بالسلاح كرها، والرجال قبضة لاسال، ويصرخ الرجال من أجل السلاح على غير جدوى، ويود كل من الرجلين الحكم المطلق لنفسه، ويزدري كل من الرجلين حرية مبادلة السلع والأفكار، ولا يقل عن ذلك ازدراؤهما لأبطال حرية المبادلة الأحرار، ويتماثلان حتى في كلماتهما الجامعة؛ فقد قال بسمارك في سبتمبر سنة 1862: «يسهل على مسائل الحق أن تصبح مسائل قوة.» وقد قال لاسال في أبريل سنة 1862: «ليست مسائل الدستور مسائل حق في الأساس، بل مسائل قوة، وليس للدساتير المكتوبة قيمة ولا ديمومة إلا لأنها عنوان علاقات القوة العتيدة في المجتمع.» وما كان جواب لاسال حينما هوجم من أجل تلك الكلمة غير جواب بسمارك، فقد قال إنه لا يضع القوة فوق الحق، وإنه لا يجعل من هذا مبدأ مسلما به، وإنما يسجل ظاهرة تاريخية، وكان لاسال كبسمارك من القائلين بسياسة القوة، فجعل سيكنجن، الذي هو صورة له، يقول في رواية تمثيلية: «بالسيف تنال عظائم الأمور.»
وليس من العجيب إذن أن وافقه كونتات بروسية في مجلس الأعيان، وأن قالت جريدة كروززايتنغ: «أولئك رجال حقيقيون، مع أن الأحرار ليس لديهم حراب ولا لكمات ولا فتون العبقرية.» وذلك لأن هدف الرجعيين في هذه الأيام هو استمالة طبقة العمال وفصل هذه الطبقة عن التقدميين، ومن قول المحافظين: «وهل نحار من عدم ميل العمال إلى شد عضد حكومة لا تعمل من أجلهم شيئا؟» ولم يعتم بسمارك أن تبنى الفكرة فعين لجنة للبحث في إعانة الشيب وتحسين حال العمال، وتوصي هذه اللجنة «بأن يعرف عزم الحكومة على تنظيم حال عمالها بصفتها مستصنعة، فتكون قدوة لأرباب المصانع الآخرين»، ويتكلم بسمارك حول ضرورة الإنذار لأمد بعيد قبل التسريح، وحول تنظيم الأجور ومقاسمة الأرباح وإسكان العمال والتحكيم عند الخلاف في أمور العمل، وحول جمعيات العمال التعاونية والتسليف وصناديق للإعانة عند المرض، وشركات للتأمين على الحياة، فهذا هو برنامجه الاجتماعي بعد خمسة أشهر من نصبه رئيسا للوزارة، ولا تجد لهذا البرنامج مثيلا في أي مكان آخر بأوروبة سنة 1860، وجميع هذه التدابير موافقة لمطاليب لاسال.
ولم يصدر ذلك عن حب بسمارك للشعب، وإنما نشأ عن بغض للطبقة الوسطى، وبسمارك لما كان من رفض الشعب سياسته، يحاول أن يستميل الشعب إلى وجهة نظره بانتحاله إصلاحات اجتماعية، وفيما كان الأغنياء في اللندتاغ يظهرون الصداقة للشعب كان لاسال يهزأ بهم في رسائله وخطبه لثنائية أخلاقهم، فلا يسر إنسانا بمقدار ما يسر رئيس مجلس الوزراء، وكان مؤسس اتحاد عمال الألمان العام لاسال قد نعت بأنه آلة الرجعية، وقد أنذره لوتار بوشر بقوله: «حذار! نراك تساعد الحكومة في ذلك المضمار، وستترك وشأنك حينا من الزمن ثم تبسط الأيدي إليك!»
ولاسال كبسمارك يبلغ أسباب الرجولة في أيام الثورة، وتدع هذه سمة ثابتة في أخلاقه، ويترفع عن الحذر، فلا ينظر إلى لون حليفه ويصافح عدو عدوه، ولاسال يجرؤ على ذلك مع اشتراكيته، فيدنو جهرا من وزير الخارجية البغيض. ونظرة كلا الرجلين في السياسة الخارجية واحدة على الدوام، وذلك عدا ما كان من سبق لاسال لبسمارك في القول بالوحدة الألمانية، ويسخر لاسال من لابسي المعاطف الذين سافروا في سنة 1849 من فرانكفورت إلى بوتسدام ليطالبوا بألمانية لملك بدلا من أن يقرروا وجود ألمانية. ولاسال إذ كانت الجماهير لا الأمراء قبلته، عد الوحدة الألمانية مسألة عرق لا مسألة بيت مالك، وتجعل السنوات العشر التي حلت بين سنة 1850 وسنة 1860 بسمارك برلمانيا، وتحفزه برلمانيته إلى كتابة مذكرته حول إقامة برلمان ألماني، ويعترف لاسال في ذلك الحين بإمكان تحقيق الوحدة الألمانية مع الأمراء، ويقف بسمارك ولاسال ضد النمسة وهنغارية حيث يعارض ستة وعشرون مليونا من السكان قيام الوحدة الألمانية، على أن كل واحد منهما يسلك سبيله الخاصة وصولا إلى غايته، وما كان لاسال ليبصر سياسة بسمارك الخارجية بواسطة سفرائه، وما كان بسمارك محتاجا إلى قراءة رسائل لاسال ليتأثر بها في رأيه حول المسألة النمسوية.
অজানা পৃষ্ঠা