ويحاول آخرون أن يزعجوا الرئيس البصير بالاستقالة، وقد كان محافظ شليسويغ صاحبا قديما لبسمارك وصديقا للملك فيلتمس السماح له بالاستقالة لتعبه من تدخل وزارة الخارجية المستمر في المسائل الجزئية، فاسمع جواب بسمارك: «إنني مستعد لأعرض على الملك ما أنتم فيه راغبون، ولكنني أعدكم بتنفيذ سياستكم تنفيذا وثيقا وبألا أزيد متاعب الوزارة إذا ما عينكم الملك وزيرا للخارجية وجعلني محافظا لشليسويغ. وإذا حدث أن أعلنت نصبي في تلك الحال فنلت ما أصبو إليه من الاعتزال أضعت راحة الضمير الذي أطمئن به إلى قدرتي على خدمة الملك والوطن؛ فلذا أطلب إليكم من صميم فؤادي أن تقبلوا هذا الكتاب دليلا على الثقة الأخوية التي أحملها لكم على رءوس الأشهاد.»
وهل هذا هو رجل الحديد والدم؟ هذا هو بسمارك الغاوي.
وغير ذلك لهجته تجاه أعدائه الأحرار، فهنا يترجح بين الازدراء والسخرية، وشأن بسمارك في ذلك هو كشأن كل طاغية من طغاة القرن التاسع عشر في إلباس ما يصنع لباس العدل والقانون، فهو يبدأ «بتفسير» الدستور الذي يود خرق حرمته في سبيل الجيش، وفي الدستور يجد من الدقائق ما يهزأ به في نفسه، وفي الدستور عوامل ثلاثة غير متطابقة إذا أريد المخرج. وبسمارك يتكلم عن حقوق التاج التي لم ينص عليها الدستور فيعيد النظام الذي غضب حين أبصره ينهار في مارس سنة 1848، وبسمارك يصرح أمام اللندتاغ بأن تحل المعضلة كما جاء في قوله: «بما أن الجهاز الحكومي لا يمكن أن يقف فإن المنازعات القانونية تنقلب إلى منازعات قوة، فهنالك يسير صاحب القوة وفق أفكاره.»
ولم تلبث هذه الكلمة أن فسرت بكلمة «القوة فوق الحق»، وبسمارك وإن اعتقد هذا في الأوقات الحاسمة لم يكن من الجنون ما ينطق معه بها، وما كان جوابه عن ذلك التفسير إلا قوله: «لم آت بأي حل كان، وإنما أشرت إلى أمر واقع.»
وبوثبة خطرة كتلك يصل بسمارك وحده إلى حافة الهوة التي يود أن يقع الصدام فيها، ثم يحمل مجلس الأعيان على إقرار الميزانية كما هي، ويقرر مجلس النواب عدم دستورية ذلك القرار، وينهض بسمارك في مكانه ويدعو النواب إلى القصر في الساعة الثالثة، وهنالك يخبرهم بأن الملك عزم على تنفيذ الإصلاحات، ويفض اللندتاغ، ويعلو صراخ جميع صحف بروسية، ويطالب بعضها بالقبض على هذا الوزير ، ويرى المحافظون أن الخير في عزله، وقد بقي من هؤلاء أحد عشر شخصا مع ذلك، وكان يمكن حزمهم في عربة نقل كما يقول أهل برلين!
وتحل الدورة الآتية بعد ستة أشهر، ويتخذ من التدابير ما هو أقسى من التدابير السابقة، وفي أثناء ذلك يشتد الصدام في الجرائد وفيما يلقى من الخطب، ويصفه لوسيوس من فوق المنبر ب «أنه كان يلبس بزة مدنية، وأنه كان ذا شاربين كثيفين أشقرين نحاسيين كما بقي من شعره، وأن قوامه الطويل كان قويا مؤثرا على المقعد الوزاري، وأن رصانة وضعه وما يبديه من حركات وما ينطق به من كلام أمور تنطوي على التحريض، وأنه كان يضع يده اليمنى في جيب سرواله الزاهي، وأنه كان يذكرني كثيرا بضجيج الحضور في مباريات التلاميذ.» وما في كلامه من الإثارة فمثل ما في سلوكه، ويتكلم بذلاقة أعظم مما في الأسابيع الأولى حين كان مترجحا بين الحكم مع اللندتاغ أو ضده، وفي ذلك يقول شلوزر: «إنه كان يتلعثم فيفلت زمام كل كلمة منه حينما كان يحاول أن يركب حصانين دفعة واحدة!»
والآن يتكلم من عل؛ «فالحكومة ستشهر كل حرب تراها ضرورية، سواء على المجلس أرضي عن ذلك أم لم يرض»، ويقول في وقت آخر: «إن مملكة بروسية لم تقم برسالتها بعد مع أنه ولد منذ أربع سنوات - وفي مثل هذا اليوم - وارث لعرشها، ولم تعد هذه المملكة بعد لتعمل عن زينة بأسلوبكم الدستوري.» وكان الملك قد رجا منه في الصباح أن يتكلم بذلك المعنى، وكان هذا في اليوم السابع والعشرين من شهر يناير. ووارث العرش الذي كان في الرابعة من عمره في ذلك الزمن والذي أشار بسمارك إلى قادم سلطانه هو الذي سيدعى ولهلم الثاني بعد حين.
وبسمارك في السنوات المقبلة يثبت أنه أعلى من أولئك الذين يكافحونه في تلك القاعة، ومن يود أن يتبين ذلك بإنصاف فليقرأ تاريخ السنين الخمسين القادمة التي صارت الآن من سنوات الماضي، وما وفقت أوروبة لنيله حتى ذلك الحين، وما حدث في جميع البلدان قبل الحرب العالمية وبعدها؛ فقد كان منصوصا عليه في برنامج الحزب البروسي التقدمي الفتي الذي كان لا يرغب في غير «جمهورية يرأسها ملك» على غرار حكومة الشعب في إنكلترة؛ فرجال هذا الحزب وحلفاؤهم الديمقراطيون الاشتراكيون هم الذين كان بسمارك يخشاهم - على الخصوص - في كتابه إلى صديقه موتلي، حيث وصفهم بقلة الخبرة في السياسة الخارجية، وما كان من عدم تدريب الشعب الذي ظل حتى الأمس خاضعا لملك مطلق والذي سارت الدولة والثقافة فيه على طريقين منفصلين فأمر بدا طبيعيا لدى الأحزاب الحرة في أوائل أمرها، وعلى ما كان من إخلاص أعضاء هذه الأحزاب وحسن تعليمهم تجدهم غير عمليين عاطلين من الابتداع فكان هؤلاء الخياليون يجلسون على تلك المقاعد شاخصة أبصارهم إلى المستقبل تجاه ذلك الواقعي الذي ينعم النظر في الحاضر بعينه النفاذة، فيحاول أن يهيمن عليه بوسائل الماضي.
وكان فيرشوف أكثر التقدميين إمتاعا، وكان أحدث من بسمارك سنا ببضع سنين، وكان صغير الجسم دقيق البدن تجاه بسمارك النشيط العملاق، ونشأ فيرشوف في بيئة فقراء الطبقة الوسطى محبا للتعليم طامحا في شبابه أكثر من بسمارك مماثلا له في التحليل، وإذا ما قابلنا بين الكتب التي دبجها يراعه في العقد الثالث من عمره والكتب التي كتبها بسمارك في مثل تلك السن حول موضوعات واحدة؛ وجدنا ذلك الطبيب الشاب الناهض الباحث خلف هذا الشريف الخلي العدمي المتواني، فكل شيء في فيرشوف مبهم وهمي طائش، وكل شيء في بسمارك وليد تأمل ورصانة، ويقول فيرشوف لأبيه دوما إنه ذو مشاعر، ولكنه كاتم لها، فهل كان يحن إلى المشاعر على هذا الوجه؟ إن في فيرسوف ثقة قوية بنفسه فتغمرها أفكار غير عملية مقتبسة من سواه فتتدحرج تحت الموج، «ولا أستطيع أن أكون غير جمهوري؛ لأنني عالم طبيعي، فتحقيق الرغائب التي توجبها سنن الطبيعة والرغائب التي تنشأ عن طبيعة الإنسان لا يكون إلا في نظام جمهوري.» والحق أن تلك السنن الطبيعية تسوقه إلى النتيجة الفاضحة القائلة: «إنني شرحت ألف جثة، فلم أجد للروح أثرا فيها.»
وتبصر رسائل بسمارك حافلة بأشخاص وأشياء مشاهدة مغربلة محقرة عادة، مجربة دوما، وتبصر رسائل فيرشوف حافلة بألفاظ باهرة، وما كان من وعده بترك الاضطراب السياسي في سبيل منصبه في خدمة الدولة فصواب كتنكر بسمارك بحلق ذقنه في أيام مارس سنة 1849، وكلا الرجلين يبدو هاويا للسياسة في الثلاثين من سنيه، ولكن بسمارك بينما كان مالكا من الدرجة الثانية كان فيرشوف حجة في التشريح المرضي، فضلا عن أنه كان ناقدا اجتماعيا على مقياس واسع حتى في فتائه، ثم يدرس بسمارك علم السياسة درسا أساسيا مدة خمس عشرة سنة، على حين يدرس فيرشوف علم الحياة، فلا عجب إذا ما قهر فيرشوف من قبل بسمارك المطلع على جميع أمور أوروبة، ولو كان فيرشوف ذا عبقرية سياسية.
অজানা পৃষ্ঠা