ثم يموت الملك المجنون فردريك ولهلم في أوائل سنة 1861، وينادى بالأمير ولهلم ملكا، وولهلم هذا قد انتظر أكثر من ثلاثين عاما، والآن يصل إلى الثالثة والستين من سنيه، فيبدو كل شيء مرتبكا له، وهو يبلغ من إزعاج الأحرار له بحملتهم على خططه الجديدة حول الجيش ومن إعيائه بجدال زوجه وابنه؛ ما يفكر معه أن يتنزل عن العرش لابنه فردريك الذي كان في الثلاثين من عمره، ويرتجف جميع المحافظين - أي جميع رجال البلاط - لما يرونه من إسراع فردريك عند وقوع ذلك إلى معاهدة الأحرار بتأثير زوجته الإنكليزية، وكان ألبرخت فون رون ظهير الملك الأول وقتئذ، وكان هذا العضد المعين جنديا صادقا فيسمو على جميع الحاشية بعلو شرفه، وكان شهما هماما رزينا متواضعا تقيا أنوفا من المظاهر والهتافات مبرأ من الغيرة ممتازا عائشا وفق شعاره: «اصنع ما يجب واحتمل ما يقتضي»، وهذا هو الرجل الذي يصهر سلاح بروسية، وهذا الرجل، مع شديد مقته للحرب، شب مع من ينظرون إلى الأمور بعين الجندية، فيفكر بها، وكان الملك الجديد عسكريا أيضا، ويدعو هذا الملك حين كان وصيا على العرش رون ليعيد تنظيم الجيش، ويذكر رون ولهلم بأجداده، وينصح رون ولهلم عند التتويج بأن يسير على غرار أجداده المطلقين فيطالب رعاياه بيمين الولاء، ويقاوم الوزراء الآخرون الحائرون ذلك، ويعرف رون رجلا واحدا حازما يصلح لمنصب شلينتز، يعرف رون رجلا يمكنه أن يصر بحزم على يمين الولاء تلك مع القدرة على إصلاح الجيش حتى في دولة دستورية حين الاعتراك، يعرف رون بسمارك.
ويجتنب الملك ذلك، ويبدي الملك أن أقصى ما يوافق عليه في أمر بسمارك هو تعيينه وزيرا للداخلية؛ لاتصافه بحب النضال والجبروت، لا وزير خارجية لنزعته «البونابارتية» ويحتج بسمارك على هذه التهمة في كتاب خاص يقول فيه: «إذا ما بعت روحي من الشيطان بعتها من شيطان توتوني، لا من شيطان غولي!» وبهذا يعترف بسمارك بأنه ألماني لأول مرة مجتنبا استعمال كلمة «بروسي»، وبسمارك حينما يصنع هذا ينتحل تلك الكلمة الكلاسية
7
التي كان يسخر منها في شبابه، ويعلق رون كبير أهمية على يمين الولاء إذن، ويدعو بسمارك إلى برلين ويطلب منه أن يبرق بقراره إذن؛ وذلك «لأن الملك يتوجع إلى الغاية، ولأن أقرب أفراد آله يبدون ضده ويقولون بسلم فاضحة»، والآن بعد ستة أشهر يظهر بسمارك الذي كان في الشتاء شديد الشوق إلى وزارة الخارجية قانطا من ذلك الاقتراح الذي يقصيه عن أعز أمانيه، فلا يبرق وإنما يجيب عن ذلك بكتاب مع الحذر، قال بسمارك: «يرن أمركم «إلى الحصان» بقسوة حين تتجه مشاعري إلى الدجاج البري من ناحية وإلى رؤية الزوجة والأولاد من ناحية أخرى، وأجدني هامدا كاسدا خائر العزم منذ فقدت صحتي الجيدة»، وتلوح يمين الولاء له غير ذات خطر، ويعرض عن وزارة الداخلية؛ لأن النظام البروسي ديمقراطي في الداخل شديد المحافظة في الخارج، مع أن العكس هو الذي يجب أن يكون. وهو إذ يحمل هذه الأفكار يدبج يراعه أعمق ما قيل عن الألمان حول ذلك: «فلنا ما للفرنسيين من غرور، فإذا ما قنعنا بوجود نفوذ لنا في الخارج احتملنا أمورا كثيرة في الداخل» وإلى هذا يضيف بسمارك قوله: «أخلص لمليكي كما في فنده،
8
ولكنني لا أشعر بميل إلى رفع خنصري في سبيل الآخرين، فهذا هو طراز تفكيري، وإني لأخشى بهذا التفكير أن أكون بعيدا من تفكير مولانا المعظم فلا يجدني أهلا لمقعد في مجلس التاج»، ثم يختم كلامه بغتة بقوله: «وإذا انحرف المليك قليلا إلى وجهة نظري قمت بالعبء مسرورا.»
ويفسر هذا الرفض الناقص وهذا الأسلوب الضارع بالعناد أكثر مما بالمرض؛ فهو من حسن الصحة ما يفيق معه من نومه في منتصف الليل ليذهب إلى صيد الدجاج البري؛ ولذا نجد صحته من الأسلحة التي يتذرع بها في النضال السياسي، والحق أن بسمارك يبصر من خلال التباس تلك الدعوة غير الرسمية أن ذلك يجعله في وضع غير مناسب، ويجيء إلى برلين في نهاية الأمر، ويرى أن عدوته القديمة أوغوستا كسبت الشوط، فقد أذعن الملك راضيا بتتويج بسيط «كان قد أمر بإعداد حلله في شهر فبراير، فصار الملك - كما روى رون - خاضعا للملكة وتوابعها أكثر مما في أي وقت كان، فإذا لم يشتد الملك نشاطا ضاع كل شيء وغدونا تحت نير البرلمانية والجمهورية.»
وبسمارك - مع ذلك - يذهب إلى بادن بغتة ليواجه الملك ولهلم «ويحار الملك كارها؛ لاعتقاده أنني لم أحضر إلا بسبب الأزمة الوزارية» ولا يعود إلى الملك لطفه إلا بعد اطمئنانه إلى مؤامرات ميفيستوفل،
9
ويحاول تلميذ ألماني أن يقتل الملك في تلك الأثناء؛ لما كان من عدم جهاد الملك في سبيل الوحدة الألمانية، ويقاسم بسمارك وجهة نظر الجاني وإن قام اصطياده للملك على الأفكار، ويرى بسمارك الإفادة بسرعة من تلك الفرصة، فقد أثر في الملك ما كان من نجاته ومن اعتراف الجاني بالسبب، ويشرح بسمارك أفكاره الخاصة للملك ولهلم الذي كان للمؤامرة أبعد الأثر في نفسه، ثم يدون أفكاره هذه في مذكرة يكتبها في عطلة الصيف برينفيلد فتنسخها حنة، وفي هذه المذكرة يقيد بسمارك تغييرا قاطعا ثمينا في أفكاره، وهو يعنى فيها بتفصيل رأيه الأساسي حول الإمبراطورية الألمانية، قال بسمارك: «لا يمكن بروسية أن ترضى بأن تكون تحت الوصاية في ألمانية، وللحكومة الاتحادية من السلطان البالغ ما ليس للحكومات التي تتألف منها؛ لما لها من النفوذ العظيم في الأمور المشتركة بينها. ويبلغ هذا الهدف على ما يحتمل بتمثيل الألمان القومي لدى الدول التي تتألف منها الجامعة، فتكون بذلك موازنة لميول الأسر المالكة التي تقوم سياستها على الانفصال، والشعب إذا مثل في جميع الدول الألمانية تعذر عد مثل هذا النظام أمرا ثوريا. وقد يضمن الانسجام والبقاء لمثل هذا النظام التمثيلي عند انتخاب أعضائه من مجالس اللندتاغ، لا من الشعب رأسا. وتفسح الخصومات الثانوية في مجالس الدولة مجالا لعمل رجال الدولة الأكثر اكتراثا لمصالح الألمان العامة.» ولكل دولة أن تحافظ على سلطانها الخاص في داخلها، ولا أمل في الوصول إلى ذلك النظام بالبندشتاغ الراهن ما دامت النمسة معارضة له، «وقد يكون عمليا أكثر من سواه أن يصار، كما وقع في أمر الاتحاد الجمركي، إلى إقامة نظم قومية من طراز آخر»، ولا بد من إعلان هذه الخطط؛ «ليكون لها ما يجب من الأثر المضاعف، فيهدأ - من جهة - بال أمراء الألمان حول دائرة خططنا ويعرفوا أننا لا نهدف إلى الضم، وإنما نريد موافقة الجميع، ويزال من جهة أخرى قلق الشعب بأن يحمل على الاعتقاد بأن بروسية تسعى إلى ارتقاء ألمانية الذي لا ينتهى إليه بالبندشتاغ العتيد».
অজানা পৃষ্ঠা