والموسيقى هي وسيلة أخرى لهدوء الأعصاب، ويدخن ويسير ذهابا وإيابا على حين يعزف كودل من أجله، وله في ذلك بهجة وإن كان يكره الفرق الموسيقية، فلا يذهب إليها أبدا، «ولتعرض الموسيقى عليكم طليقة كالحب، ولا أطيق القعود مضغوطا»، وهو يرغب عن المقامة لأربعة مغنين؛ لما فيها من حصر له، وهو لا يحب التنوع، وهو لا يرتاح إلا إذا عزف الموسيقي عن ظهر القلب؛ فهنالك تتعاقب الصور أمام عينيه، فيرى نفسه دوما، فإذا ما أبان أحاسيسه بعد العزف نم على رجل فعال، وقد قال بعد سماعه الأباسيوناتا (لبتهوفن): «إن هذا هو صراع الحياة البشرية وزفيرها. إنني أبسل
3
كثيرا عندما أسمع هذه الموسيقى.» وقد يذهب به الخيال إلى مدى بعيد، فيرى بعد سماع لحن لمندلسن: «فارسا من فرسان كرومويل يصول تاركا عنان حصانه على عنقه فيظن أنه يبحث عن حتفه»، فيقول : «إن هذا الرجل بائس حقا.» ويقول بعد سماعه توشيحا لباخ: «إن الرجل كان مترددا في البداءة، ثم شق طريقه بالتدريج، فانتهى إلى إيمان ثابت بهيج.»
ويرجع ذلك الرجل الغامض الأمر إلى بتهوفن على الدوام، وقد قال: «إن بتهوفن هو المفضل عندي، وهو أكثر من سواه ملاءمة لأعصابي.» وإننا لننفذ فؤاد بسمارك حينما نسمع قوله معترفا: «تسوقني الموسيقى الجيدة إلى أحد الاتجاهين المختلفين، تسوقني إلى الحرب أو إلى الشعر الرعائي.» وهو في ذلك الدور ينحني إجلالا للموسيقى، ويعزف كودل على البيان ذات مرة، وفيما هو يعزف إذ يرى في المرآة دنو بسمارك من كرسيه رويدا رويدا ومد يديه فوق رأسه لبضع ثوان، «ثم يجلس بسمارك بالقرب من النافذة فيسرح طرفه في الشفق ما دمت أعزف.» ويمكن رد تلك الثواني القليلة التي يقضيها في الوجد والغيوب والتسليم والتجرد إلى نوب سوداء كانت تستولي عليه في الأيام السابقة عندما يكون وحده فتسحره.
وهو لم يدع شبابه يعود إليه إلا في أحوال نادرة، وهو لما زار ثانية فسبادن التي قضى فيها حياة جهل منذ عشرين سنة لم يبد حاملا ذكريات جميلة تجاه النساء اللائي كن يعاشرنه عشرة ذات بهجة، وهو لم يتكلم متحسرا عن سوى «الأيام التي كان رحيق الشباب يجيش فيها على غير جدوى فيترك ثفلا تافها، وأين، وكيف، تعيش إيزابل لورين ومس رسل الآن؟ ولا أدري كيف يمكن إنسانا يفكر في نفسه فلا يعرف - أو لا يريد أن يعرف - شيئا عن الرب، أن يحتمل حياته مع سأمه وغمه؟ ولا أعلم كيف صبرت على ذلك في الماضي، وإذا ما وجب علي أن أعيش الآن كما في السابق بغير الله وبغيرك وبغير الأولاد لم أر لم لا أنزع عني الحياة كقميص قذر، وأشعر بما يشعر الإنسان به في يوم رائع من شهر سبتمبر، حين ينظر إلى اصفرار أوراق الشجر، فأجدني سليم البنية مسرورا مع قليل سوداء وحنين إلى الوطن ورغبة في مشاهدة الغاب والبحر والمروج وشوق إليك وإلى الأولاد ممزوجا بغروب الشمس وإيقاع بتهوفن .»
والآن يبدو الإيمان الديني والشعور المنزلي فيه أقوى مما في أي زمن مضى، وهو إذا ما خشي الكفر فلفزعه من العزلة، وهو ينظر إلى أيام فتائه بحقد غريب وعداء مستهجن يجد بهما ما يعينه على مسامحة تقدمه في السن، ويجيء في كتاب إلى أخيه: «أرتعش تجاه بلوغي الأربعين من عمري، فهذا يعني انتهائي إلى ذروة الجبل ثم انحداري إلى الوادي المؤدي إلى سرداب شونهاوزن، ويخيل إلى المرء دوما أنه في أوائل الحياة وأن أمامه ما جل منها. ويعسر على المرء أن يفرغ من مزاعم الشباب، والمرء إذا ما سجل عمره ب 3، ثم أتبع ال 3 ب 9، كان عنده ما يعين على ذلك الوهم أيضا، وما الحياة إلا كقلع الضروس بمهارة، ولا نفتأ نعتقد أنه لا بد من مجيء ما يطيب إلى أن نبصر مع الحيرة انتهاء ذلك منذ زمن، وإن شئت فسر على غراري فشبه ذلك بظهور اللحم المشوي مع الكوامخ على عجل وإثارة علائم اليأس على وجوه الضيوف.»
هنا تهكم وهنالك لوم يوجهه إلى نفسه، فيحملها على ضرب من الصبر والتسليم يقاوم به عطشه الشديد إلى الحياة، وما يكون من انتظار لب الحياة فيجعل هذا الفاوستي المزاج لا يعفو عن الرب، وعنده أن ما صنعه لا يعدل شيئا، والخلاص كل الخلاص في السلطان، ويبلغ الثانية والأربعين فيسأله كودل: «ألا تشعر بأن أمواج الحياة أقوى لديك مما كانت عليه أيام كنت طالبا؟» ويسود صمت، ويجيب بعد لأي: «كلا ... بلى ... إذا ما استطعت أن أتمتع بالحياة كلها كما أريد ... ولكن من المفزع أن يبدد المرء قواه بإمرة سيد لا يطيعه المرء إلا مستمدا العون من الدين.»
ولا ينم هذا الاعتراف الخفي الذي يسير عليه آخرون من ذلك الطراز على جزع نفسه فقط، بل ينم أيضا على نوع إيمانه الذي يدعمه بولائه للملك حتى يشد كل منهما أزر الآخر، ومن قوله في ذلك الحين: «إن النصرانية وحدها هي التي تستطيع أن تنقذ الأمراء من وجه تفسيرهم للحياة؛ وذلك لأننا إذا ما نظرنا إلى الوضع الذي جعلهم الله فيه وجدنا النصرانية تحفزهم إلى البحث عن الوسائل التي يبلغون بها حياة أطيب مما هم عليها وأحكم.» وهكذا يعن لبسمارك أن يهزأ بمبدأ العروش الشرعية مثبتا أن جميع دول أوروبة من أصل ثوري، وهكذا يرفع بسمارك الرب عند احتياجه إليه ويخفضه إذا ما حال دون سبيله، واليوم يحاور زوجته التقية فيجرؤ على القول لها: «قد أطعم عدوي إذا جاع، ولكنني إذا أحببته كان ذلك في الظاهر.» ويود أن يقوم الأسطول بهجوم على غير مسوغ حقيقي، ويعتذر عن رغبته هذه بقوله القاسي: «إن ما يزهق بذلك من النفوس هو ما يزهق قبل أربعين عاما على كل حال.»
ويذعر لودفيغ فون غرلاخ البياتي إذ يرى انتحال ابنه الروحي بسمارك لذلك الأسلوب المكيافيلي فيبلغ قريبه كليست رستوف إنذاره: «دعوا إيمان بسمارك يكون حارا، ولا تدعوا زهو الدنيا يستهويه؛ فبسمارك من رخام كارار
4
অজানা পৃষ্ঠা