أروح إلى القصاص كل عشية
أرجي ثواب الله في عدد الخطا
قالت العجوز الثكلى: إني لأجد ريح عتبة والنعمان، وأسمع رجع غنائهما، فانظروا لي من ذلك الذي يرجع هذا الصوت، وإني به لبعيدة عهد.
قالت نوار: ذاك عتيبة، ما يزال منذ أيام يرجع هذا الصوت غاديا ورائحا ... - رحم الله أباه وعمه، وبورك لي فيه وفي بشير، لقد أذكرني غناؤه أباك وعمك يا نوار؛ إذ كانا يرددان هذا الصوت كلما غدوا على المسجد أو راحا ، فإن هؤلاء القصاص الذين يغشون مساجد المصر للوعظ، والتذكير، ورواية الأخبار والنوادر ليوهمون من يغشى حلقاتهم من الفتيان أن يوما في مجلسهم ذاك خير عند الله من سبعين صلاة، فما يزالون يجتذبونهم بهذا الخيط الدقيق حتى يلزموا حلقاتهم، ثم لا يزالون ينفثون في عقدهم من سحر القول حتى يسوقوهم إلى المنايا باسم الجهاد في سبيل الله.
ودخل عتيبة خفيف الخطا، فسمع، فقال: ماذا تقولين يا جدة؟ أحرام أن نغشى المساجد، وأن نستمع إلى القصاص، وأن نخرج مجاهدين في سبيل الله؟! - لم أقل هذا يا بني. - فما هذا الذي سمعت من قولك؟ - لقد قلت إن في عتيبة ملامح من أبيه، وفي صوته أيضا، وكان أبوك ينشد هذا الشعر إنشادك كلما غدا على المسجد أو راح، ثم ذهب إلى الميدان البعيد، فلم يعد، كما ذهب أخوه من قبل، طار على جناح شاعر، ثم وقع ... - ولكن عتيبة سيطير فلا يقع. - لقد هممت إذن؟ - نعم. - وتعرف سبيكة أنك ذاهب لحرب الروم؟ - قد عرفت. - وطابت بذلك نفسا؟ - قد طابت نفسا ورضيت. - حسبتها تأبى أن يشرع ولدها سيفا لحرب الروم. - ولمه؟ - لأن ... لأنها قد عرفت ما حرب الروم. - لم أفهم! - أعني أنها كانت خليقة بأن تشفق عليك. - علي؟ ... - وعلى غيرك. - من تعنين؟ - رجوت أن تشفق أمك عليك وعلينا، من سوء ما ينالنا به فراقك. - بل عنيت معنى آخر يا أم! - أي معنى؟ - تسألينني؟ - لقد ظننتني أضمر وراء كلماتي معنى غير ما فسرت لك، فسألتك ... - بل إنك لتضمرين معنى آخر ...
وكانت نوار صامتة تستمع إلى ما يدور بين الفتى وجدته من حوار بدأ رفيقا هينا، ثم أوشك أن يكون خصاما، فقالت في رقة: إن جدتك لتعرف حميتك يا ابن عم، ولكنها تشفق عليك وتجزع لفراقك، وإنك لتذكر ما قلت لك قبل أن تتحدث إليك جدتك ...
فاعتدلت الجدة في مجلسها، ونظرت إلى نوار قائلة: هل قلت له؟ - حاولت يا أم أن أحول بينه وبين ما اعتزم، فلم يستمع إلي. - أكذلك يا عتيبة؟ - نعم. - ورضيت أمك ؟ - كانت أدنى إلى الرضا من نوار، ومنك. - وأذنت لك أن تشرع سيفك لحرب الروم؟ - وإذنت لي طيبة النفس. - ولم يسؤها أن يفارقها ولدها إلى حيث تتوزعها الهواجس والهموم، وتصطرع في نفسها المخاوف؟ - بلى، قد ساءها، ولكنها قد علمت أنه حق البطولة على كل عربي.
قالت نوار: بل حق البطولة على كل أم عربية.
قالت الجدة: قد صدقت سبيكة وبرت.
ثم أطرقت وهي تقول، وقد جال في عينيها الدمع: فاذهب مأجورا يا عتيبة والله يكلؤك.
অজানা পৃষ্ঠা