كأنما كان يمتح على رأس بئر،
30
ثم تنفس نفسا عميقا كأنما خرج من جب، وراح يقلب عينيه بين الأمير وصاحبه صامتا، والأمير وصاحبه يتبادلان نظرات لا تكاد تفصح عن معنى. •••
وقال الأمير لصاحبه وقد أخذا طريقهما إلى المدينة: هل فهمت مما وصف الراهب شيئا يا أبا عتيبة؟ - قليلا يا مولاي، وغاب عني الكثير! - أفتدري ما المائتان والمائتان والثلاثمائة؟! - أحسبه يعني الذين يستشهدون منا قبل أن تدين القسطنطينية بالفتح. - أكذلك تزعم؟ - وماذا تكون هذه السبعمائة إلا ذلك! - ظننته يحصي الأيام أو الأسابيع، فإن كان ذلك فإن بيننا وبين الفتح عامين، أو أربعة عشر عاما ... - أو بضعة وخمسين!
31 - وي!
32 - بلى، فما أراه - إن كان يحصي الأزمان - إلا حاسبا حساب الأهلة،
33
لا الأسابيع ولا الأيام. - ذلك كثير يا أبا عتيبة! - ولكنه في عمر الدول قليل يا مولاي. - أخطأ حدسك؛ فإني أزعم أن سيكون ذلك في عهد سليمان،
34
وتفتح عليه بلاد لم يطأها عربي، أفترى سليمان يعمر بضعة وخمسين؟ - أفذلك قوله لابن داود: «ارفع الغطاء عن المائدة للضيفان.» - ظننته كذلك. - لقد كان لسليمان بن داود يا مولاي ملك لا ينبغي - في بني إسرائيل - لأحد من بعده، فما أحرى هذا أن يكون بشرى لسليمان بن عبد الملك أن تفتح عليه كنوز الدنيا! - ويكون اللواء في يدي يا أبا عتيبة! - ويكون أبو عتيبة في ظل لواء الأمير! - ونبلغ عرش قسطنطين الأكبر، ونطأ بساطه، ونحطم أصنامه، وأدفع إليك عشرة من بطارقته تحتز رءوسهم ثأرا لأخيك. - سيدي! - ماذا يا نعمان؟ - لقد تحدث الراهب عن الضالة وناشدها حديثا لم أعه! - أفلم يقل إنني سأشهد عاقبة أمرك ضاحك السن؟ - بلى ... - فماذا يعنيك من سائر هذيانه وخلطه؟ - أتراه يهذي ويخلط يا مولاي؟ فلماذا يصدق في الحديث عنك، ويخلط في الحديث عني؟! - أفظننت هؤلاء الرهبان يا نعمان يصدقون في كل ما يحكون؟ - ولم لا ...؟ - فهبهم قد علموا من كتبهم غيب الملوك والأمراء، فمن أين لهم غيب سائر الناس؟ - وماذا يحمله على أن يكذب؟ - ذلك يا نعمان كل ما بقي في أيدي هؤلاء القساوسة من الجاه في هذه البلاد بعد أن أظلها الإسلام، أفتحسبهم ينزلون طائعين عن هذا الجاه، فيقولون لبعض العامة: لا ندري! - قد فهمت. - بل ما تزال بعيدا عن الفهم. - ماذا؟! - أريد أن أقول لك: إني لم أصدق حرفا واحدا من حديث ذلك الراهب الشيخ، وما قصدته مؤمنا مصدقا، وإنما أردت أن ألتمس إلى التسلية سببا، وأنشد راحة نفس، فدع عنك حديثه ذلك كله كأن لم تستمع إليه، ولم تجلس بين يديه. - قد سمعت!
অজানা পৃষ্ঠা