شكر وتقدير
مقدمة
1 - منطلق الرئيسيات
2 - تقنية الحراب وعصي الحفر
3 - تقنية النار
4 - تقنيات الملبس والمسكن
5 - تقنية التواصل الرمزي
6 - تقنية الزراعة
7 - تقنيات التفاعل
8 - تقنية الآلات الدقيقة
9 - تقنية المعلومات الرقمية
10 - عالمنا على حافة الهاوية
ملاحظات
المراجع
شكر وتقدير
مقدمة
1 - منطلق الرئيسيات
2 - تقنية الحراب وعصي الحفر
3 - تقنية النار
4 - تقنيات الملبس والمسكن
5 - تقنية التواصل الرمزي
6 - تقنية الزراعة
7 - تقنيات التفاعل
8 - تقنية الآلات الدقيقة
9 - تقنية المعلومات الرقمية
10 - عالمنا على حافة الهاوية
ملاحظات
المراجع
بلا قيود
بلا قيود
تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
تأليف
ريتشارد إل كوريير
ترجمة
دينا عادل غراب
مراجعة
هاني فتحي سليمان
شكر وتقدير
أود أن أعبر عن خالص امتناني لمن ساهموا بطرق ملموسة في إتمام هذا الكتاب بنجاح.
في مرحلة مبكرة من عملية وضع مخطوط الكتاب، ساعدني زملائي من اختصاصيي علم الإنسان، جاك إم بوتر وروبرت بيتس جرابر وريتشارد روبينز وآنك سانكيان، بنصائحهم المفيدة ودعمهم السخي، وهو الأمر الذي أعانني كثيرا في العثور على ناشر جيد. كذلك ثابر ابني جاي كوريير على قراءة مسودة أولية للكتاب ورد بملاحظات غزيرة. علاوة على ذلك، واظب كل من ابني تشاد كوريير وابنتي ريبيكا ماير على تشجيعي على مدار الشهور الطويلة التي قضيتها في كتابة المخطوط، كما ساعدني زوج ابنتي كريستوفر ماير في إنقاذ ملفاتي العزيزة من أن تصير في طي النسيان حين أصاب العطب القرص الصلب في كمبيوتري الشخصي. أما أصدقائي، ريتشارد فولي وأليشا لارسون وتيري لي وايلدر، فقد قرءوا أول مسودة كاملة، وأعطوني ملاحظات مفيدة وفي حينها.
كذلك تكرم علي الكثير من الأفراد والمؤسسات بالسماح لي بإعادة طباعة العديد من أفضل الأشكال في هذا الكتاب، ومنهم فرانس لانتينج وجون ريدر وريتشارد داتون ومايك ستوري، ومجلة «جورنال أوف هيومان إفوليوشن» التي تصدر عن دار نشر إلسيفير، وشركة سكالديجيري، وبرنامج آفاق العلم في جامعة كانتربري في نيوزلاندا، ومركز فلوريدا للتقنية التعليمية، وموقع التحديد المختبري للأمراض الطفيلية التابع لمراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها.
وأتقدم بخالص الشكر إلى ثلاثة أشخاص متميزين، ربما ما كان هذا الكتاب سيرى النور لولاهم . وهم وكيلي روجر ويليامز، الذي لم يشك قط في إمكانية إنجاز مشروع هذا الكتاب، ولم تهتز ثقته ولا حماسته حيال مستقبله بتاتا، وظل يعمل بلا كلل لضمان الحصول على عقد جيد مع ناشر ممتاز. ومحرري كال باركسديل، وقراءته المتروية للمخطوط الأخير، واقتراحاته التحريرية القيمة المتعددة، ودوره المحوري في الوصول إلى العنوان النهائي للكتاب؛ فكل هذا جعل هذا الكتاب أفضل كثيرا عما كان سيصبح من دونه. وأخيرا شريكة حياتي كارا إل كيث، التي لا يمكنني أن أوفيها حقها من التقدير لإسهاماتها الجبارة في هذا الكتاب؛ فقد قرأت المخطوط كاملا عدة مرات - بعين محرر دقيق الملاحظة، وبحساسيتها التي لا تعرف تساهلا إزاء أي شيء غير ضروري أو غير منطقي - وشاركت بطرق لا تحصى في جعل كل فصل محددا وواضحا. كذلك كانت ثقتها اللانهائية هي التي ترفع معنوياتي حين تتأزم الأمور، وهي التي أدين لحكمتها وحبها ودعمها بالفضل الأكبر.
مقدمة
تمر كل الحقائق بثلاث مراحل؛ في المرحلة الأولى تقابل بالسخرية، وفي المرحلة الثانية تعارض معارضة عنيفة، وفي المرحلة الثالثة تقبل كأنها بدهية.
مجهول
1
منذ خمسة وستين مليون عام اصطدم بكوكب الأرض قبالة ساحل جنوب المكسيك كويكب يفوق عرضه ستة أميال، ويطير بسرعة 67 ألف ميل في الساعة، بقوة تفوق قوة القنبلة الذرية التي أسقطت على هيروشيما بخمسمائة مليون مرة. وقد أسفر هذا الحدث عن اختلالات رئيسية في مناخ الأرض، مؤديا في النهاية إلى كارثة بيئية نتج عنها انقراض الديناصورات و75 بالمائة من كل الأنواع الحية على وجه الأرض.
وإننا الآن في خضم عملية انقراض جماعي آخر للنباتات والحيوانات ناتجة عن النشاط البشري، وقد تصبح في النهاية فتاكة، شأنها في ذلك شأن حالات الانقراض الجماعي الخمس التي وقعت في التاريخ الجيولوجي للأرض. ويعتقد أغلب علماء الأحياء أن أكثر من نصف الأشياء الحية ستنقرض خلال القرن أو القرنين القادمين، مع تبعات مجهولة على المستقبل والعدد المتناقص من الأنواع التي ستظل حية.
لم نعد نحن البشر نوعا من الصيادين وجامعي الثمار البسطاء الذين يعيشون داخل حدود عالم طبيعي مستقر، وإنما صرنا بعد تحررنا من الكثير من عقباتنا الطبيعية بفضل التقدم التقني المستمر، سادة الغلاف الحيوي المحررين من القيود.
على مدار الخمسة ملايين سنة السابقة، غيرت ثماني تقنيات العلاقة بين الجنس البشري والبيئة الطبيعية تغييرا بالغا، محررة إيانا من قوى الطبيعة التي تحد حريات كل مجموعات الكائنات الحية الأخرى. وتدريجيا أحدثت كل من هذه التقنيات تحولا أو انسلاخا كبيرا في حياة البشر والمجتمع؛ فطورت هذه التحولات بنية أجسادنا، ووسعت قدرات عقولنا، وأثمرت عن مجتمعات بشرية ليس لها مثيل في حجمها وقوتها.
سيطر الجنس البشري في العصر الحديث على جميع بيئات الأرض الطبيعية تقريبا، وأحدث تحولا جوهريا في الكوكب بأسره ليصبح وحدة إنتاج هائلة من أجل منفعته وحده. وأثناء هذا استولى الجنس البشري حديث التحرر من قيوده على جزء كبير من البيئة الطبيعية، ولوث تربة الأرض ومحيطاتها وغلافها الجوي، وجعل عالمنا على حافة كارثة.
يتفرد الجنس البشري بين كل كائنات الأرض في قدرته على الاستيعاب والتخطيط للمدى الطويل، إلا أننا ما زلنا نتحرك مدفوعين بغرائز حيوانية قديمة، من بينها التوسع والتكاثر لأقصى حد ممكن. أما الكائنات الأخرى فهي محدودة في قدرتها على التكاثر بطبيعة علاقتها الثابتة نسبيا مع البيئة، لكن التكنولوجيا جعلت استمرارية تكاثرنا أمرا ممكنا من خلال تمكيننا من الفرار من قيود قدرنا الحيوي، حتى بعد أن جعلنا العالم قاب قوسين أو أدنى من مستقبل مبهم وربما كارثي.
منذ خمسة ملايين سنة شجعنا استخدام أسلافنا الشبيهين بالقرود الحراب المصنوعة وعصي الحفر على الوقوف والسير والركض ونحن منتصبو القامة. أثمر هذا التطور في النهاية عن إعادة هيكلة جذرية في تشريح الثدييات حررت القوائم الأمامية من مسئوليات الحركة. استطاع أسلافنا باستخدام قوائمهم الأمامية القوية وأياديهم الماهرة أن يسيطروا على النار ويصمموا الملابس ويشيدوا المساكن. وحررتنا هذه التقنيات من الحاجة للعيش في البيئات المدارية حيث نشأنا، وسمحت لنا بأن نسكن المناطق المعتدلة الشاسعة في أوروبا وآسيا.
منذ مائة ألف عام أو أكثر حين بدأنا استخدام الرموز اللفظية والمرئية للتواصل، حررنا أنفسنا من حدود التجربة الشخصية المباشرة، واكتسبنا القدرة على مشاركة المعلومات عبر الزمان والمكان؛ ما مكننا من تجميع معرفتنا مع الآخرين وتنمية الثقافات التي توارثتها الأجيال في تراث شفهي من الأغاني والحكايات والأساطير.
منذ عشرة آلاف عام حررتنا تقنية الزراعة من البحث الدائم عن الغذاء الذي يشغل اهتمام كل الأنواع الحيوانية الأخرى. وفي أثناء ذلك لم نعد مجبرين على التجوال بلا نهاية، الذي طالما كان مصيرنا حين كنا صيادين وجامعي ثمار؛ فبدأنا نزرع غذاءنا، ونعيش في قرى، ونكدس كلا من الثروة المادية والمعرفة والحكمة التي أورثناها إلى نسلنا.
منذ خمسة آلاف سنة خلت اخترعنا تقنيات جديدة قوية للنقل والاتصال، شملت هذه التقنيات سفنا كبيرة عابرة للبحار، وعربات تجرها الدواب، وأشكالا من الكتابة مكنتنا من تدوين المعلومات للأجيال القادمة ومن التواصل مع الآخرين عبر مسافات بعيدة. أتاحت لنا تقنيات التواصل هذه بناء المدن وتكوين الحضارات، واستحداث أشكال متزايدة التطور من الفن والعلوم والتجارة والحروب والدين التي سرعان ما رفعت البشرية إلى موقع جديد من التفوق على كل أشكال الحياة الأخرى.
منذ خمسمائة سنة عتقتنا الآلات الدقيقة من ساعات وسدسيات وبوصلات ومجاهر وتلسكوبات من قيود أعضائنا الحسية المجردة، ومنذ أكثر من مائتي عام بقليل حررتنا تقنية المحركات المترددة من اعتمادنا القديم على القوة البدنية للجسد الإنساني ولدوابنا؛ ونتيجة لهذا أخضعنا العالم بقوى العلم وآلات الصناعة، وأنشأنا أمما واسعة حيث يعيش ملايين الناس ويعملون معا بوصفهم أعضاء في مجتمع إنساني واحد.
ويجرى الآن تحول ثامن تقود إليه تقنية المعلومات الرقمية المهمة، التي جعلت من الممكن لكل البشر التزاور والاتصال بعضهم ببعض في أي مكان على وجه الأرض؛ وهو ما مكننا من إقامة ثقافة ومجتمع عالميين يتخطيان الحدود القومية. سيكون التحدي الذي سيواجه البشرية هو تبني هذه الحضارة العالمية دون التضحية، سواء بالحريات الشخصية أو الهويات العرقية التي نحتاجها جميعا لتحقيق أهدافنا في الحياة والانتماء إلى شيء أكبر من أنفسنا.
لكن قبل أن نبدأ القصة المهمة عن كيفية تحرير التقنية للبشر من قيود أصولهم البدائية ، أود تعريف أربعة مفاهيم أساسية استخدمتها في هذا الكتاب بطرق خارجة عن المألوف قليلا، وتوضيحها. هذه المفاهيم هي: (1) طبيعة التقنية بالمعنى الأوسع للكلمة. (2) قراري استخدام مصطلح «أشباه البشر» بدلا من مصطلح «أسلاف الإنسان» الأكثر رواجا الآن. (3) المراحل الثلاث المتمايزة لتطور البشر كما حدثت على مدار الخمسة ملايين سنة الماضية. (4) الاختلاف الأساسي بين الثورة والتحول.
طبيعة التقنية
في الخطاب الحديث نستخدم كلمة «تقنية» بوجه عام عند الإشارة إلى أعقد آلات الحياة الحديثة وتراكيبها وأدواتها وآلياتها وعملياتها؛ أشياء على غرار المركبات الفضائية والأنظمة الآلية والعمليات الكيميائية والشبكات الحاسوبية والأجهزة الإلكترونية، لكنني استخدمت كلمة «تقنية» في هذا الكتاب كما عرفها اختصاصيو علم الإنسان وعلم الرئيسيات، الذين صادفوا تقنيات سابقة للصناعة في مجتمعات الصيادين وجامعي الثمار القديمة وفي المجتمعات البدائية لقردة الشمبانزي البرية. بناء على هذا وصف اختصاصيو علم الإنسان التقنية - في أوسع وأشمل معانيها - بأنها التعديل المتعمد لأي شيء أو مادة طبيعية بترو لتحقيق غاية محددة أو خدمة غرض بعينه. دائما ما اعتبر اختصاصيو علم الإنسان الأدوات والأسلحة والملابس ومساكن مجتمعات الصيد وجمع الثمار تقنيات حقيقية. ويتبع هذا الكتاب هذه الرؤية التقليدية بحرص.
على عكس التقنيات البسيطة جدا التي يستخدمها الشمبانزي وسائر الحيوانات، تنطوي أغلب التقنيات البشرية على عمليات معقدة ومواد متعددة تستخدم معا لتحقيق غاية محددة. على سبيل المثال كان القوس والسهم المستخدمان فيما قبل التاريخ مصنوعين عادة من رءوس حجرية وريش طيور مثبتة على الطرفين المتقابلين لعود خشبي بصمغ نباتي ومربوطة معا بأوتار حيوان، ولم يكن كل من هذه المواد تشتق من مصدر مختلف فحسب، لكن كانت تحتاج إلى عملية خاصة في استخراجها وتحضيرها أيضا، إلا أننا دائما ما نعتبر القوس والرمح تقنية واحدة. كل من التقنيات الثماني الرئيسية التي جاء وصفها في هذا الكتاب هي في الواقع مجموعة معقدة من الأشياء والعمليات؛ ما يربط كلا منها معا ككيان واحد هو الغرض المشترك الذي اخترع كل منها من أجله واستخدم.
أشباه البشر أم أسلاف الإنسان أم الهومينينا؟
طوال المائتين وخمسين سنة الماضية كانت كل الرئيسيات ذات القدمين والمنتصبة القامة تماما في شجرة العائلة البشرية تسمى أشباه البشر (الهومينيد)
hominids ، وهي كلمة مشتقة من المصطلح اللاتيني
Hominidae (ويعني بالعربية أشباه البشر) الذي عرفه في الأصل عالم التاريخ الطبيعي السويدي كارلوس لينيوس، الذي وضع الطريقة العلمية الحديثة لتصنيف الأنواع. وظل العلماء والكتاب لعقود عدة يستخدمون مصطلح «أشباه البشر» في الإشارة لكل الأنواع ما قبل التاريخية والحديثة، التي تسير وتركض في انتصاب كامل متحررة الذراعين واليدين، على نحو فريد بين الحيوانات العليا، لصنع الأشياء وحملها.
لكن تغير المعنى القديم لمصطلح «أشباه البشر» في تسعينيات القرن العشرين، حين أدخلت تجديدات رئيسية على تصنيف السعادين والقرود التي تنتمي إلى رتبة الثدييات المسماة بالرئيسيات؛ إذ جعلت التطورات في تحليل الحمض النووي في تسعينيات القرن العشرين تقدير المسافة الجينية بين أحد الأنواع ونوع آخر بدقة أمرا ممكنا، ولما تبين أن المسافة الجينية بين البشر والقردة العليا - مثل الشمبانزي والغوريلا - قليلة نسبيا، فقد عدل التصنيف بدرجة كبيرة.
وفي التصنيف الجديد ألغيت البنجيدات - الفصيلة البيولوجية التي ضمت في الماضي الشمبانزي والغوريلا وإنسان الغاب - ووضعت كل هذه الأنواع جميعها مع البشر في فصيلة أشباه البشر؛ لهذا لم يعد مصطلح «أشباه البشر»، في لغة المتخصصين، يعني «فصيلة إنسان العصر الحديث وإنسان ما قبل التاريخ»، وإنما يعني الآن بالمعنى الدقيق «فصيلة إنسان العصر الحديث وما قبل التاريخ والشمبانزي والغوريلا وإنسان الغاب».
وبمجرد أن صار مصطلح الأناسي أو أشباه البشر غير مقتصر على الحيوانات ذات القدمين، بدأ اختصاصيو علم الإنسان وعلماء الحفريات يستخدمون مصطلح «أسلاف الإنسان» في الإشارة إلى بشر العصر الحديث وما قبل التاريخ، لكن مع الأسف لدى مصطلح «أسلاف الإنسان» مشكلة «أشباه البشر» ذاتها بالضبط؛ لأن فصيلة أشباه البشر لا تشتمل فقط على البشر، وإنما الغوريلا والشمبانزي أيضا، ولا تشتمل فصيلة أسلاف الإنسان على البشر فقط، ولكن على الشمبانزي أيضا.
من ثم لا يشير أي من «أشباه البشر» أو «أسلاف الإنسان» بالمعنى الدقيق إلى بشر ما قبل التاريخ والعصر الحديث بصفة حصرية. في الواقع ، المصطلح العلمي الوحيد المتبقي الذي يشير حصريا إلى البشر منتصبي القامة ذوي القدمين، سواء في العصر الحديث أو ما قبل التاريخ، هو فصيلة الهومينينا، لكن يمكننا أن نلتمس عذرا للكتاب والعلماء الذين ما زالوا يواجهون صعوبة مع التغيير من «أشباه البشر» إلى «أسلاف الإنسان» لإحجامهم عن الانتقال مرة أخرى إلى مصطلح «هومينينا» غير المستخدم والمعروف فقط لدى القلة، لا سيما حين نضع في الاعتبار أن فصيلة الهومينينا قد يلم بها المصير نفسه الذي حاق بأسلافها. اقترح بعض العلماء أن يعاد تصنيف الشمبانزي باعتباره نوعا من جنسنا؛ جنس الهومو. إن حدث هذا فحتى الهومينينا سيضم الشمبانزي؛ الحيوان الرباعي الأرجل غير المؤهل للحركة على قدمين على نحو صحيح وغير القادر عليها، والذي لا يمكن إجازته كفرد من أفراد العائلة البشرية في أبعد ضروب الخيال.
2
لكل هذه الأسباب استخدمت المصطلح التقليدي «أشباه البشر» طوال الكتاب باعتباره المصطلح المفضل لكل الأنواع ذات القدمين فيما قبل التاريخ وفي العصر الحديث في شجرة العائلة البشرية. على عكس «أسلاف الإنسان» - الذي صار مؤخرا مصطلحا مفضلا في علم الإنسان القديم وعلم الحفريات الأكاديميين - ظل مصطلح «أشباه البشر» جزءا من القاموس العلمي لقرون، وصار مقبولا وراسخا في الاستخدام العام، وما زال كل القراء المثقفين يعرفونه ويفهمونه. والأهم أنه ليس أقل ملائمة من مصطلح «أسلاف الإنسان»، مع وضع التعريفات الحالية لمصطلحات أشباه البشر والقردة العليا وأسلاف الإنسان في الاعتبار.
المراحل الثلاث المتمايزة لتطور الإنسان
حين نطالع بدايات تطور الإنسان الأولى نستطيع أن نرى أنه جرى في ثلاث مراحل متمايزة. كان لأشباه البشر في كل مرحلة تشريح مميز، وتنوع مميز في أحجام الدماغ، ومجموعة مميزة من الأدوات والأسلحة، وتوزيع جغرافي مميز. يمكن تحديد الأنواع التي تمثل هذه المراحل الثلاث بسهولة بتقسميها إلى ثلاث مجموعات، سأشير إليها في هذا الكتاب بأسماء «أشباه البشر الأوائل» و«البشر الناشئين» و«بشر العصر الحديث».
بدأت المرحلة الأولى - مرحلة أشباه البشر الأوائل - منذ نحو خمسة ملايين عام، حين تطور لدى قردة ما قبل التاريخ تدريجيا القدرة على الوقوف والسير والركض بقامة منتصبة تماما. البقايا الأحفورية الشهيرة للوسي، واحدة من أقدم أشباه البشر الأوائل هؤلاء، كانت من نوع أوسترالوبيثيكوس أفارينسيس، وحاليا يعرف علماء الحفريات خمسة أنواع أخرى على الأقل.
صنع أشباه البشر الأوائل أدوات حجرية بدائية من نوعية «أولدوان»، لكنهم لم يتركوا دليلا على استخدام النار أو العيش في الكهوف. ورغم أنهم كانوا يقفون ويسيرون ويركضون بقامة منتصبة، فقد ظلوا محتفظين بالأذرع الطويلة، وعظام الأصابع المتقوسة، وأصابع الأقدام الطويلة، والأكتاف الضيقة التي تميز بها أسلافهم ساكنو الأشجار. استمرار هذه السمات الشبيهة بالقردة في أشباه البشر الأوائل ذوي القامة المنتصبة لهو دليل مقنع على أنهم استمروا في تسلق أعالي الأشجار حتى يناموا ليلا لتجنب الحيوانات المفترسة الضخمة، خاصة القطط الكبيرة التي كانت أخطر أعدائهم الطبيعيين.
ورغم أن أشباه البشر الأوائل كانوا مبتكرين وواسعي الحيلة، إلا أنه غير مرجح أنهم كانوا أكثر ذكاء من القردة العليا بدرجة كبيرة؛ فمقارنة بدماغ إنسان العصر الحديث الذي يبلغ متوسط حجمه 1400 سنتيمتر مكعب تقريبا، كان دماغ أشباه البشر الأوائل أكبر قليلا من مخ الشمبانزي النموذجي البالغ 375 سنتيمترا مكعبا، ولم تكبر أدمغتهم بدرجة كبيرة قط خلال ملايين السنين التي سكنوا فيها أفريقيا الاستوائية.
لا بد أن يرى التاريخ الطويل لأشباه البشر الأوائل باعتباره التأقلم الموفق لوضع القامة المنتصبة والتحرك على قدمين لدى رئيسيات لديها القدرات الذهنية لقردة شديدة الذكاء. صنعت هذه الكائنات الحراب وعصي الحفر، ونجحت في صيد حيوانات أخرى وقتلها، ودافعت عن أنفسها ضد أعدائها الطبيعيين، وعاشت في ازدهار نحو أربعة ملايين سنة. وهي فترة زمنية أكثر 800 مرة تقريبا من التاريخ الكامل للحضارة المدنية التي بدأت في بلاد الرافدين القديمة منذ خمسة آلاف عام.
في وقت ما في الماضي بعد مرور مليوني سنة، بدأ يظهر في القارة الأفريقية جماعة من أشباه البشر أكثر تطورا بكثير، وذوي أدمغة أكبر حجما بدرجة كبيرة. على مدار المليون سنة التالية تقريبا تفوق هؤلاء البشر الناشئون بالتدريج بأدواتهم الحجرية الأشولية المتقدمة وتقنياتهم، وحلوا محل أشباه البشر الأوائل الأكثر بدائية . ومنذ ما يقرب من مليون عام كانت كل الآثار الدالة على وجود أشباه البشر الأوائل قد اختفت من سجل الحفريات، كانوا قد انقرضوا على ما يبدو.
كان البشر الناشئون أكبر حجما وأطول قامة، بالأكتاف العريضة والخصور النحيفة التي تمتاز بها جماعات بشر العصر الحديث. علاوة على ذلك كانت أصابعهم مستقيمة وليست مقوسة، وأذرعهم أقصر، وأصابع أقدامهم قصيرة وعريضة. وهذا يدل على أن البشر الناشئين لم يعودوا قادرين على التكيف مع تسلق الأشجار للنوم ليلا؛ فقد صار البشر الناشئون يسكنون الكهوف، واستحدثوا استراتيجية مختلفة - استخدام النار - لحماية أنفسهم من الضواري الكبيرة والخطيرة في بيئتهم.
هاجر من أفريقيا الهومو إريكتوس (الإنسان المنتصب)، الأهم والأنجح بين البشر الناشئين، وسكن البيئات المدارية في جنوب وشرق آسيا، واستقر في النهاية في أنحاء الدوائر الشمالية الأبرد في أوراسيا، من الجزر البريطانية حتى الصين. دماغ الإنسان المنتصب التي بلغ متوسط حجمها 650 سنتيمترا مكعبا تقريبا في أقدم الاكتشافات، زاد حجمها حتى وصلت إلى 1250 سنتيمترا مكعبا، يظل في الحد الطبيعي لمقياس إنسان العصر الحديث. كان الهومو إريكتوس هو من عبر في حسم الهوة الفاصلة بين البشرية وسائر عالم الحيوان.
أخيرا بدأ أول بشر العصر الحديث في الظهور في أفريقيا، منذ 250 ألف عام تقريبا، حاملين أدمغة عملاقة بحجم 1300 و1400 سنتيمتر مكعب؛ ثلاثة أضعاف حجم دماغ أشباه البشر الأوائل تقريبا. انتشر الهومو سيبيانز (الإنسان العاقل)، في أرجاء القارة الأفريقية، بينما هاجرت مجموعات أخرى من بشر العصر الحديث إلى أوروبا وآسيا. وضم نسلهم إنسان النياندرتال، الذي اصطاد الماموث الصوفي، ووحيد القرن الصوفي خلال العصور الجليدية الأخيرة والإنسان الحديث تشريحيا، الذي رسم رسومات جدران الكهوف الشهيرة في فرنسا وإسبانيا قبل التاريخ.
في فترة ما بين خمسة وعشرين ألفا وخمسة عشر ألف عام مضت، عبرت بعض قبائل الإنسان الحديث تشريحيا التي كانت تعيش في سيبيريا إلى ألاسكا، وانتشرت سريعا في جميع أنحاء أمريكا الشمالية والجنوبية، وأتمت الغزو البشري لكل قارات الأرض.
هكذا كان أشباه البشر الأوائل والبشر الناشئون والإنسان الحديث الثلاث جماعات السائدة خلال كل من المراحل الرئيسية في تطور البشرية. عاش أشباه البشر الأوائل ما يربو عن أربعة ملايين عام، وعاش البشر الناشئون نحو مليوني عام. ونحن البشر الحديثون بعقولنا «المتفوقة» سكنا هذه الأرض منذ ربع مليون سنة على أكثر تقدير؛ ثمن مدة البشر الناشئين، وسدس مدة أشباه البشر الأوائل. وأمام الإنسان الحديث طريق طويل قبل أن يتساوى مع أقدم أسلافه في طول البقاء.
ثمانية تحولات، عدة ثورات
رغم ظهور ثورات عديدة واختفائها على امتداد التاريخ البشري، لم تمر البشرية إلا بسبعة تحولات أو انسلاخات رئيسية. سميت بعض هذه التحولات ثورات (كثيرا ما يسمى التحول الخاص بالزراعة ثورة العصر الحجري الحديث، ويعرف التحول الخاص بالعلوم والصناعة على نحو شائع بالثورة الصناعية).
لكن تستخدم كلمة «ثورة» أيضا لوصف أي تغير مفاجئ وجذري في هيكل سلطة سياسية معينة أو في مجال ثقافي معين، وهو ما يشمل العلوم والتقنية والفن. أما التحول فيصف تغيرا جذريا في كل جوانب الثقافة والمجتمع؛ الغذاء، والسكن، والعلاقات الاجتماعية، والسلوك الاقتصادي، وحجم المجموعة والتقنيات والضغوط التطورية، بل والتشريح البشري ذاته. حدثت آلاف الثورات خلال تطور البشرية وتاريخها، لكن لم يقع سوى القليل من التحولات الحقيقية.
وقعت التحولات الثلاث الأولى منذ ملايين السنين فعليا بين مجتمعات قردة ما قبل التاريخ وأشباه البشر الأوائل والبشر الناشئين. أدت هذه التحولات إلى صناعة أسلحة فتاكة، وتطور وضع القامة كاملة الانتصاب والحركة على قدمين، وتوسع السلوك الجنسي وتعزيزه، والتحكم في النار، وصناعة الملبس والمسكن، واستحداث ذلك الابتكار الذي تفرد به البشر؛ الأسرة النواة أو المصغرة.
حدثت التحولات الثلاث التالية منذ آلاف السنوات، بين مجتمعات البشر الحديثين بيولوجيا. أدت هذه التحولات لاختراع اللغة، والتواصل بالرموز، ونشأة الهويات القبلية والعرقية، واستئناس النباتات والحيوانات، وميلاد الحضارات، وزيادة ضخمة في سكان الأرض من البشر.
وقع التحول السابع الذي أثمر عن الثورة الصناعية منذ عدة قرون فحسب، وقد وثق توثيقا جيدا بفضل كم هائل من المصادر التاريخية. وقد عزز هذا التحول التقني قدرة البشر على إطعام ذريتهم وحمايتها بدرجة كبيرة ، حتى إن الزيادة السكانية البشرية صارت الآن الخطر الأول المتربص ببيئة الأرض.
حاليا يجري تحول ثامن بدأته التقنية الرئيسية للاتصالات الرقمية؛ فلأول مرة في التاريخ الإنساني صار ممكنا لأي شخص على وجه الأرض أن يتواصل مع أي شخص آخر تقريبا على وجه الأرض، سريعا وبتكلفة معقولة. وسوف يحدث تغيير للمجتمع البشري بهذا التحول الأخير بقدر ما تغير بتقنيات الماضي السبع الرئيسية والتحولات السبعة التي أطلقت لها العنان.
فليكن البقاء للفرضية الأصلح
كان هدفي من تأليف هذا الكتاب هو تحديد التحولات البيولوجية والثقافية الرئيسية - والتقنيات التي أفضت إليها - التي وصل بها النوع الإنساني خطوة خطوة إلى حالة معيشية راقية في الوقت الحاضر، ولكن محفوفة بالمخاطر. أثناء ذلك حاولت فهم السمات التشريحية المميزة المتعددة في فصيلة أشباه البشر التي لا وجود لها في أي موضع آخر في مملكة الحيوان، والتي لم تبد لها دائما فائدة تطورية واضحة.
لماذا اتخذ أسلافنا وضع القامة المنتصبة في المقام الأول؟ لماذا فقدنا سلاح الأسنان الفتاك الذي ورثناه من أجدادنا من الرئيسيات وصرنا غير قادرين على الدفاع عن أنفسنا بدون أسلحة مصنعة؟ لماذا إناث البشر هن الثدييات الوحيدة التي ترتفع أثداؤها وتصير متضخمة بصورة دائمة عند بلوغ النضج الجنسي، بصرف النظر عما إن كن في حالة حمل أو إرضاع؟ لماذا يكاد نشاطنا الجنسي أن يكون مستمرا بدلا من أن يكون متسقا مع فترات الخصوبة، كما هو الحال مع كل الأنواع الأخرى؟ كيف أصبحنا الحيوان الوحيد على الأرض الذي تجذبه النار بدلا من أن تصده؟ لماذا فقدنا الغطاء الطبيعي من الفراء الذي لدى كل الرئيسيات الأخرى وصرنا عرايا؟ لماذا نحن البشر، المنحدرون من مجموعة من الثدييات التي تطورت لتعيش فوق الأشجار، صرنا متكيفين للعيش ليس فقط على الأرض، لكن أسفل الأرض فعليا في بعض الحالات، في كهوف سواء طبيعية أو مصطنعة؟ وكيف تتواءم كل هذه السمات البشرية الفريدة معا ككل متسق؟
حين تقدم جاليليو بنظرية دوران الأرض حول الشمس استنكرته البابوية وعلماء الفلك في عصره، وأدانوه بالهرطقة، وحكم عليه بالإقامة الجبرية في المنزل مدى الحياة. وحين طرح داروين نظرية تطور النوع البشري من أسلاف يشبهون القرود، قابله علماء عصره بالشك والاحتقار والاستهزاء.
وفي العصور الحديثة لم يكن الباحثون والعلماء أقل ميلا لرفض أي تفسير غير تقليدي، إن كان يعارض مسلمات المعرفة العلمية المألوفة. وقد تبين أن الوضع الكامل، الانتصاب والحركة على قدمين، أقدم مما كان يعتقد في الأصل بملايين السنوات. واستخدام النار أقدم مما كان يظن في الأصل بمئات آلاف السنوات. ويصنع الشمبانزي ويستخدم أدوات متنوعة، وهي المقدرة التي كانت تعتبر في الماضي حكرا على البشر. واتضح أن واقعية فن ما قبل التاريخ المدهشة أقدم بعشرات آلاف السنوات مما كان علماء الحفريات القدامى على استعداد لتصديقه.
القراء المطلعون على دراسة التطور البشري سيجدون أن بعض التفسيرات التي قدمتها فيما يتعلق بأصول الإنسان مناقضة للتفكير العلمي التقليدي. هذا في حد ذاته يجب ألا يزعج أحدا، حيث إن التفكير العلمي التقليدي المعني بأصول الإنسان والتطور البشري قد تغير عدة مرات، وفي بعض الحالات صار ما كان بدعة في أحد الأجيال تقليديا في الجيل التالي.
أغلب الحقائق والنظريات حول التطور البشري المقدمة في هذا الكتاب متسقة مع التفكير العلمي الحالي، وحين لا تكون كذلك حاولت أن أبين لماذا أرى أنه لا بد من تفسير بديل. بعض الفرضيات التي قدمتها في هذا الكتاب قد تكون غير تقليدية، لكنها من وجهة نظري تلائم على أفضل وجه كل الحقائق كما نعرفها. وسيكون على الآخرين تقييم صحتها وتحديد ملاءمتها للبقاء في إطار الفهم العلمي لأصول البشر.
الفصل الأول
منطلق الرئيسيات
الأدوات والعادات والأمومة والحروب والوطن
لا بد أن نقر أن الإنسان بكل صفاته النبيلة ما زال يحمل في تكوينه بصمة أصله الوضيع المتعذر محوها.
تشارلز داروين، «نشأة الإنسان»
حين طرح تشارلز داروين لأول مرة الفكرة القائلة بأن الجنس البشري تطور من سلف شبيه للقردة، قوبل بصيحات السخط من رجال الدين والعامة والكثير من علماء ومثقفي عصره؛ فرغم كل أوجه الشبه الملحوظة بين الجسد البشري وأجساد السعادين والقردة ، فقد صور داروين مهرطقا ناقضت نظرياته قصة الخلق في الإنجيل، بل والاعتقاد الشائع بأن الجنس البشري أكثر تميزا بكثير من أن ينشأ من «أصل وضيع» مثل هذا، إلا أنه عند وفاته كانت نظريات داروين عن التطور قد صارت مقبولة بصورة كبيرة، ومنذ عصره وعلماء الحفريات وعلماء الوراثة يدللون على الارتباط بين البشر وقردة ما قبل التاريخ بإسهاب ودقة لم يكن داروين نفسه ليتخيلهما (انظر شكل
1-1 ).
شكل 1-1: رسمة كرتونية شهيرة من العصر الفيكتوري نشرت في «ذا هورنيت»، المجلة الإنجليزية الساخرة، حيث صور تشارلز داروين على شكل «إنسان غاب موقر».
قد يرتبط البشر بالقردة والسعادين بمعنى اشتراكهم في النسب نفسه، لكن البشر متفردون في عدة طرق تفصلهم دون شك ليس عن الرئيسيات فقط، لكن عن أشكال الحياة الأخرى كذلك. يستكشف الجانب الأكبر من هذا الكتاب التغيرات القائمة على التقنية، والتي حولتنا تدريجيا إلى ما هو أكثر من مجرد نوع حيواني آخر، لكن حتى نفهم التعقيدات الغريبة في مجتمع البشر وثقافتهم، علينا أن نبدأ باستيعاب منطلق الرئيسيات؛ تشريح السعادين والقردة وسلوكهما. كان هذان بمثابة نقطتي الانطلاق الوراثية، المواد الخام الطبيعية، التي تطور منها تشريح البشر وسلوكهم الفريدان. بفهم طبيعة لبنات البناء التطورية هذه نستطيع أن نقدر بالتمام كم من مشوار التطور قد قطعنا وما مقدار ما تبقى منه.
بصمة انحدارنا من الرئيسيات واضحة في كل جانب من جوانب تشريح الإنسان؛ فلقد تطورت يد الإنسان بسبب حاجته إلى الإمساك بفروع الأشجار بقبضة قوية ومحكمة، وتطورت كتف الإنسان التي تسمح للذراع بالدوران لتصل إلى وضع قائم تماما من حاجته للتدلي من الفروع العلوية بالذراعين. أما قدم الإنسان التي تكيفت على نحو جميل للسير والركض على ساقين على أرض منبسطة، فقد كانت في الأصل «يدا» قابضة كانت مهمتها تسلق الأشجار.
أما وجه الإنسان، بعيدا عن فمه الصغير نسبيا وجبهته العالية، فهو وجه نموذجي من وجوه الرئيسيات؛ فهو يخلو من الشعر حول العينين والأذنين والأنف والفم، مع حاجبين بارزين.
1
الأنف قصير لأن حاسة الشم ليست مهمة للحياة على الأشجار، وكلتا العينين تقعان في وسط الوجه وليس على الجانبين من أجل الإبصار المتزامن بكلتيهما؛ لأن هذا النوع من الإبصار يمكن الرئيسيات من الحكم على المسافات في فضاء ثلاثي الأبعاد؛ ومن ثم فله دور حيوي في التحرك سريعا وبيسر بين الأشجار.
حتى صوت الإنسان تطور من حاجة الرئيسيات القديمة إلى التواصل مع الأصدقاء والأقارب والغرماء الذين قد يكونون مختبئين بين أوراق الأشجار المدارية الكثيفة. في الواقع كل الرئيسيات لها أصوات، وأغلب الأنواع يصدر عنها أصوات متنوعة، كل منها له معناه الخاص، بل وتبتكر قردة الجيبون في جنوب شرق آسيا أغاني خاصة بها تتغنى بها في الغابة يوميا قبل الفجر. وإن كنا لم نعد قادرين على تسلق الأشجار حتى ارتفاعات كبيرة على العكس من القردة والسعادين التي يسهل عليها ذلك، فما زلنا نجد متعة استثنائية حين نتطلع من أماكن مرتفعة ذات إطلالات واسعة.
بجانب تزويدنا بالسمات الرئيسية لخصائصنا البشرية الجسدية المميزة، يمكن رؤية تأثير انحدارنا من الرئيسيات بوضوح في العديد من عناصر السلوك الإنساني الرئيسية؛ فمثل أغلب الرئيسيات نحن نوع اجتماعي يعيش في مجموعات، وننضج ببطء، ونظل معتمدين على أمهاتنا خلال السنوات الأولى من حياتنا، ونكون مع أمهاتنا وإخوتنا ورفاقنا روابط قوية تستمر عادة طوال حياتنا. كذلك ننظم أنفسنا في تسلسلات هرمية اجتماعية، وداخل هذه التسلسلات الهرمية نتنافس مع أشقائنا وزملاء الدراسة وزملاء العمل المشابهين لنا في المكانة. في الوقت نفسه نذعن لآبائنا ومعلمينا ورؤسائنا الذين يعلوننا في المكانة، ونتوقع الإذعان من أطفالنا وطلابنا وموظفينا الذين نعلوهم مكانة.
حتى قدرة البشر التي يزهون بها كثيرا على تكوين ثقافات مميزة وتوريثها توجد بشكل بدائي بين العديد من الحيوانات العليا الأخرى، من بينها الحيتان والأفيال وحتى كلاب البراري. وقد أكدت الدراسات الميدانية الحديثة التي أجراها اختصاصيو علم الرئيسيات بما لا يدع مجالا للشك أن السعادين والقردة قادرة هي الأخرى على تكوين لبنات البناء الأساسية للثقافة والحفاظ عليها، حيث يستحدث الأفراد عادات وتقاليد، وتنتقل إلى أعضاء آخرين في المجموعة عن طريق المحاكاة والممارسة ، وتورث إلى أجيال لاحقة من الآباء إلى الأبناء. وأخيرا استخدام الأدوات والأسلحة الذي كان يعد في الماضي الفارق المميز بين البشر وكل الحيوانات الأخرى، اكتشف على نحو حاسم أنه جزء من السلوك الطبيعي لأقرب أقربائنا جينيا وهو الشمبانزي.
التضامن الجماعي والوطن
الرئيسيات حيوانات اجتماعية للغاية، وفي أغلب الحالات يقضون نهارهم في صحبة أعضاء آخرين في جماعتهم، مقتسمين أرضا مشتركة أو حيزا حيويا استبعدت منه الجماعات الأخرى، في حين أن أي مجموعة من الرئيسيات تتشارك موطنها طوعا مع أفرادها، إلا أنها تطرد بعنف الأفراد الآخرين من نوعها ذاته الذين ينتمون إلى جماعات من أراض أخرى، وتدافع عن أرضها ضد الجماعات المجاورة، تماما كما نفعل الآن، وكما كان يفعل الصائدون جامعو الثمار قبلنا (انظر شكل
1-2 ).
شكل 1-2: تعكس لغة جسد قرود الشمبانزي في الصورة التضامن والألفة اللتين يشعرون بهما بصفتهم أفرادا في المجموعة الاجتماعية ذاتها (بإذن من
http://www.aidanhiggins.com/images/chimps.jpg ).
لكل جماعة من الرئيسيات ثمة «نحن» و«هم»؛ أي الأفراد الذين ينتمون لجماعة ما ويعيشون على أرضها مقابل الدخلاء الذين ينتمون إلى جماعات أخرى ويعيشون في أراض غريبة. وتدافع كل جماعة من الرئيسيات عن موطنها ضد الجماعات المنافسة في مواجهات صاخبة وعدوانية وأحيانا عنيفة، تقع غالبا على الحدود حيث تلتقي الأراضي المتلاصقة. فيصيح أفراد جماعتين مختلفتين من السعادين أو القردة بعضهم في بعض، ويلوحون بإيماءات الوعيد، ويكسرون فروع الأشجار، ويلقون بالأشياء، ويحاولون إرهاب الطرف الآخر بوجه عام.
كذلك تميز الرئيسيات بين نوعين من الملكية مختلفين اختلافا جوهريا: الملكية الجماعية، والملكية الشخصية. فأرض موطن الجماعة وموارده الطبيعية - يشمل ذلك أشجار النوم وأشجار الفاكهة وأقراص العسل وأعشاش الطيور ومواضع الشرب وما إلى ذلك - تعتبر عامة ملكية جماعية للجماعة ككل، ولأي فرد في الجماعة الحق في استخدامها، لكن عند قطف ثمرة فاكهة محددة، أو صيد حشرة شهية، أو بناء عش من الأغصان في إحدى أشجار النوم، فقطعة الطعام أو هذا العش يصير ملكية للفرد الذي التقطه أو بناه، ونادرا ما يتشاركه مع الآخرين.
تقر كل المجتمعات البشرية بهذين النوعين من الملكية في الممتلكات الشخصية التي تخص الأفراد وحدهم في مقابل الأرض العامة التي يتقاسمها كل أفراد المجتمع (والتي تشمل الشوارع والطرق والحدائق والساحات العامة الأخرى). وأضاف البشر إلى هذين النوعين من الملكية نوعا ثالثا، وهو الملكية العائلية (خاصة الغذاء والمسكن) الذي يتشارك فيه أفراد العائلة، وليس المجتمع كله.
تتنوع جماعات الرئيسيات في الحجم من عدد قليل من الأفراد إلى 150 فردا أو أكثر. هذا التراوح في الحجم هو ذاته الذي وجد بين الجماعات الرحل من الصائدين وجامعي الثمار البشر، التي درسها اختصاصيو علم الإنسان. تقتصر أصغر جماعات الرئيسيات على الأم وابنها، لكن تعيش أغلب أنواع الرئيسيات في جماعات أكبر تضم بالغين وصغارا ورضعا من كلا الجنسين. وبعض الجماعات تتشكل من عدة إناث مع ذكر واحد مسيطر. هذا النمط ينطبق على الغوريلات وقردة اللانجور والقردة الصياحة وقردة البابون.
2
إلا أن ثمة أنواعا أخرى، مثل السعدان الريسوسي والشمبانزي، تعيش في مجموعات من عدة ذكور وإناث. عادة ما ترتبط هذه الأنواع بأمهاتها ارتباطا قويا وطويلا، لكن علاقاتها الجنسية، من وجهة نظرنا البشرية، إباحية؛ أي عرضية جدا وليست مستمرة ولا حصرية.
تتكون كل جماعات الرئيسيات تقريبا من شبكة معقدة من العلاقات التي تربط أفراد الجماعة معا بأربعة أنواع مميزة من العلاقات الاجتماعية، التي هي أيضا لبنات بناء أساسية في كل المجتمعات البشرية. وهذه العلاقات تشمل: (1) علاقة الأمومة بين الأم والذرية. (2) التسلسل الهرمي الاجتماعي الذي يربط بين الأفراد في علاقات من السيطرة والخضوع. (3) الصداقات والتحالفات التي قد تنشأ بين فردين. (4) العلاقات الجنسية التي تتكون بين البالغين من الذكور والإناث ويحافظ عليها.
الأمومة لدى الرئيسيات
غالبا ما تكون علاقة الأمومة أقوى وأشد بين الثدييات مقارنة بالحيوانات الأخرى، والسبب في ذلك ببساطة هو الارتباط الجسدي والعاطفي الذي يتكون أثناء الأسابيع أو الشهور أو السنوات التي تقضيها كل أنثى من الثدييات في رعاية صغيرها، ولأن الرئيسيات متكيفة بوجه خاص على العيش فوق الأشجار؛ فرباط الأمومة بينها أقوى وأبقى من رباط الأمومة داخل أي مجموعة ثديية أخرى . فالأمهات في الرئيسيات وحدهن تقريبا بين الأنواع المتعددة من الثدييات المشيمية لا بد أن يحملن صغارهن معهن، أينما ذهبن، طوال شهور أو سنوات عمرهم الأولى.
يمكن تحديد أسباب هذا العبء الاستثنائي على الأمهات بسهولة؛ حيث إن الرئيسيات متكيفة للعيش على الأشجار، وحيث إن عليها أن تتحرك دائما للبحث عن طعام موسمي تحمله الأشجار؛ فهي لا تستطيع بناء أعشاش أو جحور دائمة. هذا معناه أنها - على عكس الحيوانات الحفارة مثل الفئران أو الأرانب أو الثعالب - لا تستطيع إخفاء صغارها عن الخطر حتى تبلغ السن المناسبة لتترك وحدها. علاوة على ذلك قد تودي زلة أو سقطة واحدة من قمم الأشجار بحياة صغار الرئيسيات بسهولة.
يحتاج القرد أو السعدان الصغير فعليا سنوات من النمو قبل أن يستطيع التحرك بأمان بين قمم الأشجار بمفرده، وحتى ذلك الوقت يظل معتمدا على أمه لتوفر له وسيلة انتقال آمنة من مكان لآخر. وفي هذا اختلاف كبير عن الحيوانات التي تعيش على الأرض، التي يمكن أن تسقط صغارها وتزل مرارا وتكرارا دون أذى أثناء تعلم السير والركض. لهذه الأسباب فإن الاتصال الجسدي الحميم والوثيق بين الأم وصغيرها في الرئيسيات ومدته وأهميته المصيرية يفوق الاتصال الجسدي لدى أي حيوان آخر من الحيوانات العليا.
خلال مرحلة الطفولة يتشبث السعدان أو القرد بفراء أمه بأطرافه الأربعة، متعلقا بها من أسفل خاصرتها في وضع مقلوب بصفة تكاد تكون مستمرة طوال الأسابيع أو الشهور الأولى من حياته. ومع زيادة حجمه وقوته يبدأ الصغير من الرئيسيات الحركة وحده مع توخي الحذر، لكنه يهرع راجعا إلى أمه مع أول بادرة خطر. ومع انقضاء فترة الطفولة ينتقل القرد أو السعدان اليافع تدريجيا من اعتلاء خاصرة أمه بالمقلوب إلى الركوب على ظهرها أو منكبيها، ويستمر هذا شهورا أو سنوات قبل أن يبلغ السن المناسبة للاستغناء عن هذه الحاجة الدائمة للاتصال بأمه.
وهذا الارتباط الذي ينشأ بين صغير الرئيسيات وأمه أثناء هذه الشهور والسنوات الأولى من الاتصال الجسدي الوثيق دائما ما يستمر طوال الحياة؛ ومن ثم ليس من الغريب أن رباط الأمومة محوري في الحياة الاجتماعية لكل أنواع الرئيسيات، بينما يتباين رباط الأبوة، حسب النوع، من الأهمية الشديدة إلى عدم الأهمية على الإطلاق (انظر شكل
1-3 ).
شكل 1-3: يتشبث قرد الباتاس الصغير فطريا بأمه، حيث سيظل يمتطيها بالمقلوب طوال الشهور الأولى من حياته. (من تصوير ريتشارد دوتون.
[email protected] . أعيد طبعها بإذن.)
رباط الأمومة القوي بالفعل لدى الرئيسيات كلها صار أشد قوة مع تطور الرئيسيات ذوات الأربع ساكنة الأشجار إلى بشر يسيرون على قدمين ويسكنون الأرض. ينضج صغار البشر في بطء مقارنة بصغار أي نوع آخر من الرئيسيات؛ من ثم تكون فترة الاعتماد على الأم أطول. وتكتسب الإناث البالغات في مجتمعات القردة والسعادين مقاما وهيبة في الجماعة عند إنجاب صغارها. على غرار هذا يعترف بأعباء الأمومة ومسئولياتها الفريدة، وتلقى التقدير والاحتفاء في كل المجتمعات البشرية من خلال كم وفير من التقاليد الثقافية التي تقدر العلاقة الخاصة المديدة بين الأم وأطفالها. بيد أن البشر يتفردون بالروابط القوية التي تنشأ عادة بين الأب وأبنائه، وهو تطور جذري بين الرئيسيات التي تعيش في مجموعات.
العلاقات الجنسية لدى الرئيسيات
ظهرت الروابط الجنسية المستقرة والعلاقات الجنسية الحصرية، بما في ذلك التعاون بين الذكور والإناث في رعاية الأبناء، منذ زمن طويل في تاريخ الحياة على الأرض. ويمكن رصد مثل هذه العلاقات بين حيوانات بدائية مثل الأسماك، وتكاد تكون عامة بين الطيور التي يظل بعضها، مثل الأوز، مرتبطا بشريكه مدى الحياة، لكن بين الثدييات غالبا ما لا تكون العلاقات الجنسية مستقرة أو حصرية، وتجنح للتدرج بشدة في الصفة والأهمية من نوع لآخر.
فدائما ما تقتصر العلاقات الجنسية بين الماعز والخراف على سبيل المثال على بضعة أفعال قصيرة للجماع. تتمتع الذكور المسيطرة في هذه الأنواع بحقوق جنسية حصرية على قطيعها من الإناث، وتكون في غاية الانشغال بالتزاوج وحماية حقوقها لتساعد أيا من زوجاتها المتعددات في مهمة رعاية صغارهما. هذا هو النمط المعتاد بين الحيوانات التي تعيش في قطعان، مثل الحيوانات العاشبة.
على النقيض من ذلك، ترتبط قردة التيتي في أمريكا الجنوبية بعلاقات جنسية أحادية حصرية في أغلب الحالات، ونادرا ما يغيب أزواج قردة تيتي بعضهم عن أنظار بعض. وأثناء الراحة تجلس قردة التيتي المتزاوجة متجاورة وقد تشابكت ذيولها مع بعضها، وكثيرا ما تبدو أكثر اضطرابا لتعبيرات الضيق لدى أزواجها من تعبيرات الضيق التي تبدو على صغارها. ومن الجدير بالملاحظة أن كلا الجنسين من قرود التيتي يشاركان بهمة في رعاية الصغار، حتى إنه بعد الأشهر الثلاثة الأولى من مرحلة الرضاعة، قد يحمل ذكر التيتي صغيره 90 في المائة من الوقت. من الوهلة الأولى يبدو هذا موازيا لنمط شائع في مجتمعات بشرية كثيرة، لكن على عكس التيتي، تتباين المجتمعات البشرية المختلفة تباينا بالغا في مواقفها من رعاية الذكور للصغار.
تظهر الأنواع المتعددة من القردة والسعادين عدة أنماط مختلفة من العلاقات الجنسية، ولا غرو أن العلاقات الجنسية بصورتها المألوفة بين البشر تختلف اختلافا بينا عن العلاقات الجنسية لدى القردة أو السعادين، لكن رغم كل اختلافاتها تحتوي العلاقات الجنسية البشرية على العديد من العناصر الموجودة في العلاقات النمطية لدى الرئيسيات غير البشرية، ومنها ميل الذكور في كل من البشر والرئيسيات الأخرى للتنافس من أجل الفوز بالإناث النشطة جنسيا، لكن من أهم الاختلافات بين البشر وكل الرئيسيات الأخرى أن النساء وحدهن بين إناث الرئيسيات قادرات على أن يكن نشطات جنسيا بصورة شبه مستمرة منذ البلوغ وحتى الشيخوخة.
عند التبويض تهتاج إناث السعادين والقردة - تسمى علميا الحالة الشبقية - لمدة خمسة إلى سبعة أيام مرة كل شهر تقريبا، ولا تكون الإناث نشطة جنسية إلا خلال هذه الدورات الشبقية الوجيزة نسبيا حيث يكن في مرحلة التبويض والخصوبة. تمتاز الدورة الشبقية في أغلب الرئيسيات بشهية مفاجئة وحادة للجنس، يصحبها انتفاخ في الأعضاء التناسلية للأنثى، لكن حين تنحسر الدورة الشبقية تتوقف العلاقات الجنسية إلى أن تحدث الإباضة مجددا.
في كل الرئيسيات غير البشرية، الإناث غير البالغات أو الحبليات أو المرضعات أو اللواتي صرن عاقرات مع التقدم في العمر لا يأتيهن التبويض ولا تعاودهن دورات شبقية، وباستثناء حالات نادرة لا يجامعن خلال هذه الأوقات . ورغم التباين الكبير بين أنواع الرئيسيات في سن النضج الجنسي، وتواتر الدورة الشبقية وفترتها، وفي كثافة الجماع، فإن كل أنواع الرئيسيات غير البشرية - وكل الحيوانات العليا بالتأكيد - تظهر صورة ما من هذا النمط الجنسي القديم.
يقع الاستثناء الوحيد للقاعدة بين قردة البونوبو أو الشمبانزي القزم، حيث تقع عدة أنواع من المداعبات الجنسية وإثارة الأعضاء التناسلية يوميا بين أفراد من الجنس نفسه أو من الجنسين، بل وبين أفراد من فئات عمرية مختلفة جدا، لكن لا يشمل أغلب هذا السلوك الجنسي جماعا حقيقيا، ويبدو أن صلته سواء بالتناسل أو تكوين روابط بين الذكور والإناث ضعيفة أو منعدمة. عوضا عن ذلك يبدو أن السلوك الجنسي بين قردة البونوبو يستخدم وسيلة لفض النزاع وتقليل التوتر بين الأفراد.
من الملاحظ أنه من بين كل الرئيسيات، يعد البونوبو - الأنشط جنسيا بين الرئيسيات كلها (يتبعه مباشرة الشمبانزي) - الأقرب جينيا إلى الإنسان بوجه عام؛ فلدى قردة البونوبو دورات شبقية طويلة للغاية (ثلاثون يوما في مقابل خمسة إلى سبعة أيام تقريبا لدى أغلب الرئيسيات)، ويراود الشبق البونوبو مرة كل خمسة وأربعين يوما تقريبا، مؤديا إلى مزيد من الفرص للجماع عما هو مألوف لدى الرئيسيات غير البشرية، لكن حتى قردة البونوبو المفرطة في ممارستها الجنسية لا تستمر في الجماع أثناء الحمل أو الرضاع أو بعد انقطاع الطمث، كما يحدث لدى البشر.
تجدر الإشارة أيضا إلى أن كلا من البونوبو والشمبانزي لا يتسمان بالاستئثار أو الاستحواذ الجنسي. وفي هذا تناقض ملحوظ مع البشر الذين يتنافسون بشدة على العلاقات الجنسية، والذين ينزعون بشدة للاستئثار بأزواجهم. سنبحث دلالة هذا الاختلاف الجذري عن السلوك التقليدي لدى الرئيسيات بالتفصيل في الفصل القادم.
في حين تشيع بين القردة والسعادين العلاقات الجنسية المتقطعة التي تسيطر عليها الدورات الهرمونية للتبويض والدورات الشبقية، تتباين بدرجة كبيرة أنماط التزاوج والترابط الجنسي بين أنواع الرئيسيات المختلفة من نوع لآخر.
العلاقة الأحادية، أعم أشكال الترابط الجنسي بين البشر، غير موجودة لدى 97 في المائة من كل أنواع الثدييات، ويندر وجودها بين القردة والسعادين . فيقيم ذكر إنسان الغاب البالغ في جنوب شرق آسيا علاقة جنسية مع اثنتين أو أكثر من الإناث البالغات اللواتي يعشن بعيدا بعضهن عن بعض. وتعيش كل أنثى من إناث إنسان الغاب مع أبنائها الصغار وحدهم في الغابة المطيرة، حيث يتردد عليهم دوريا الذكر البالغ الذي أنجب هؤلاء الأبناء. في أحيان أخرى قد يتردد الذكر البالغ نفسه على زوجاته الأخريات وأبنائهن المقيمين في مناطق قريبة.
تعيش قردة الجيبون وقردة السيامنج الشديدة الشبه بها في جنوب شرق آسيا في أسر مصغرة منعزلة، حيث يلعب ذكر الجيبون دورا نشطا في رعاية الصغار. تمتاز الغابات المطيرة في جنوب شرق آسيا بتناثر مصادر الغذاء على مساحات شاسعة، ويعتقد أن هذا هو السبب في انعدام المجموعات الكبيرة في هذا الموئل، غير أن المجموعات الصغيرة لهذه الدرجة، المكونة من أسرة وحيدة مصغرة بصفة أساسية، غالبا ما تكون نادرة الوجود في عالم الرئيسيات.
ثمة نوعان آخران من الروابط الجنسية بين الرئيسيات أكثر شيوعا بكثير من مجموعة الأسرة المصغرة. النوع الأول هو نظام الحرملك، حيث يكون لذكر واحد مسيطر حقوق جنسية حصرية على مجموعة معينة من الإناث. أما النوع الثاني فهو نظام متعدد الذكور ومتعدد الإناث، حيث تكون العلاقات الجنسية عابرة، ويعد السلوك الجنسي إباحيا وغير حصري بوجه عام.
نظام الحرملك معهود لدى الغوريلات وقردة الباتاس واللانجور وأغلب قردة البابون. وليست مصادفة أن كل هذه الأنواع تعيش على الأرض بدرجة كبيرة، وتقضي أكثر ساعات النهار على الأرض تبحث عن الغذاء. تكون الإناث في هذه الأنواع مجتمعا مستقرا، مع ذكر بالغ مسيطر يحميهن ويتمتع بحقوق جنسية حصرية مع أي واحدة منهن تأتيها الدورة الشبقية. وفي الوقت نفسه الذي يستأثر فيه ذكر بالغ واحد بعدة إناث، يحكم على أغلب الذكور غير الناضجين والكبار البالغين بنوع من «العزوبية»، حيث يعيشون وحدهم أو ضمن مجموعات متغيرة من العزاب الآخرين، حيث ينتظر كل منهم الفرصة (التي لا تسنح لأكثرهم أبدا) لاكتساب حرملك خاص به؛ لذلك لا بد أن يكون الذكر المسيطر متيقظا بصفة دائمة ، ومتأهبا للذود عن مكانته ضد المنافسين الطامحين الكثر القابعين على مقربة في أجزاء أخرى من الموئل.
ومع مرور الزمن وتقدم الذكر المسيطر في السن يواجه منافسة متزايدة، وفي النهاية يحل محله ذكر يصغره سنا ويفوقه قوة كان يعيش في السابق عازبا؛ إذ عادة ما تنتهي سلسلة من المواجهات متفاقمة الشراسة بهزيمة الذكر الأصلي المسيطر ورحيله إن حالفه الحظ بالنجاة في المعارك الأخيرة، ليعيش ما تبقى له من العمر في عزوبية مسنة في طريقها إلى الزوال. في الوقت نفسه تظل الإناث معا مجموعة ويخضعن لسيادة الذكر الجديد المسيطر.
عند تولي الذكر الجديد المسيطر زمام الحرملك عادة ما يقتل الأبناء الذين ما زالوا في طور الطفولة. فنظرا لأن هؤلاء الأطفال انحدروا من الذكر السابق، فقد نشأ هذا السلوك على الأرجح كي يضمن تمكن الذكر الجديد من إنفاق وقته وطاقته في حماية حياة الأبناء الذين يحملون جيناته وليس جينات الذكر السابق. وبمجرد أن ينتهي كبت التبويض بالهرمونات التي يفرزها الجسم أثناء الرضاعة، تبدأ الإناث اللواتي صرن بلا صغار التبويض ثانية، وتأتيهن دورات الشبق، ويصرن نشيطات جنسيا مجددا، وفي النهاية يحبلن في نسل جديد من صلب الذكر الجديد المسيطر.
عند تأمل نمط المنافسة الضارية بين الذكور البالغين في هذه الأنواع لامتلاك إناثهم الخاصة بهم، نجد أن الانتقاء الطبيعي بين مثل تلك الأنواع يميل لإعطاء الحظوة للذكور الأضخم جثة والأعنف والأكثر نزوعا للسيطرة والأخطر. هذا الانتقاء المستمر لصالح القدرات القتالية الأفضل والسيطرة على النساء يعزز الصفات التي ترفع احتمال دفاع ذكور تلك الأنواع عن إناثهم ونسلهم من الضواري الأرضية؛ فحين تهيم جماعة من الرئيسيات بعيدا في أرض عراء ولا تستطيع الفرار بسهولة إلى مكان آمن فوق الأشجار، يكون على الذكور المواجهة والدفاع عن الجماعة من الأسود والكلاب البرية والضباع والضواري الأخرى التي تتوثب للصيد في الأراضي العراء.
قد يكون النظام متعدد الذكور متعدد الإناث هو النوع الأكثر شيوعا لدى جماعات الرئيسيات. هذا النظام يتميز بعيش الذكور والإناث من كل الأعمار معا في بناء جماعي واحد . الشمبانزي والبونوبو، كذلك بابون السافانا وقردة الماكاك، والعديد من قردة العالم القديم الأخرى، كلها تعيش في مجموعات متعددة الذكور ومتعددة الإناث. ولا تكون الروابط الجنسية في مثل تلك الجماعات استئثارية، وينحسر حب الاستحواذ الجنسي بدرجة كبيرة أو ينعدم. ويرتبط كل من الذكور والإناث في علاقات جنسية مع رفاق متنوعين؛ ففي الأنواع متعددة العلاقات الجنسية تقيم الإناث أثناء الدورة الشبقية علاقات جنسية مع عدة ذكور مختلفين، واحدا تلو الآخر غالبا، في حين يجامع الذكر البالغ أي أنثى في دورتها الشبقية في الحال ما دامت تقبل محاولاته التودد إليها.
رغم ذلك كثيرا ما تكون أنثى نشطة جنسيا مع ذكر محدد علاقة أكثر امتدادا تسمى الثنائي المتصاحب بين الأنواع المتعددة الذكور المتعددة الإناث. ويميل الثنائي المتصاحب لفصل نفسهما عن الجماعة والانخراط في الكثير من الجنس والتنظيف المتبادل باستمرار، بل ويتقاسمان الطعام، وهو سلوك نادر جدا بين الرئيسيات؛ في واقع الأمر عرفت الأمهات في الرئيسيات بخطف الطعام من صغارهن وتناوله.
رغم ذلك عادة تكون العلاقة بين الثنائي المتصاحب عابرة؛ إذ تستمر عدة أيام فقط خلال كل دورة شهرية تكون فيها أنثى القرد أو السعدان نشطة جنسيا، لكن يبدو أن علاقة التصاحب قد أعطت نقطة الانطلاق البيولوجية لتطور الأسرة المصغرة البشرية، والأسرة المصغرة القوية المستقرة سمة لا يستغنى عنها في كل الثقافات البشرية الناجحة.
مثل كل الرئيسيات الأخرى، يحدو البشر اهتمام حاد ودائم بالجنس، لكن العلاقات الجنسية المستمرة المعهودة لدى البشر تتجاوز المألوف لدى أي رئيسيات أخرى، أو أي حيوان آخر. سوف أتناول أصول هذا النشاط الجنسي الممتد ودلالاته بالتفصيل في الفصل التالي، لكن أكثر ما يلفت النظر في أنماط الترابط الجنسي البشري هو أنه لا يخضع لأي من الأنواع المتعددة التي وصفت للتو، وإنما يضم عوضا عن ذلك عناصر من كل منها - العلاقة الأحادية والعلاقات المتعددة والعلاقات العابرة - بدرجة أو بأخرى.
العلاقة الأحادية إلى حد كبير هي أكثر العلاقات الجنسية شيوعا بين البشر، لكنها في أغلب الحالات تكون في المجتمعات نفسها جنبا إلى جنب مع أشكال من العلاقات المتعددة الشبيهة بحرملك السعادين والقردة. كثيرا ما تقارن مجموعات الرئيسيات التي تكون حرملك بالمجتمعات البشرية التي تمارس تعدد الزوجات، وهو نوع من العلاقات المتعددة حيث يتاح لرجل واحد الزواج وإنجاب الأطفال من أكثر من امرأة واحدة. كثيرا ما يشار إلى أن عدد الثقافات والمجتمعات التي سمحت بتعدد الزوجات يفوق (أو كان يفوق على الأقل) عدد الثقافات والمجتمعات التي حظرته، لكن ثمة اختلافات مهمة أيضا بين حرملك الرئيسيات غير البشرية وممارسة تعدد الزوجات لدى البشر.
الفرق الأول هو أنه نظرا لأن إناث القردة والسعادين لا تجامع إلا أثناء التبويض والدورة الشبقية، فمن النادر أن تنشط جنسيا أكثر من أنثى من الجماعة نفسها في الوقت نفسه، إلا في حالة هيمنة ذكر مسيطر جديد على جماعة وقتله لجميع صغارها، لكن إناث البشر تميل لأن تنشط جنسيا أغلب الوقت (إلا قبل الوضع وبعده مباشرة، وفي مجتمعات كثيرة أثناء الحيض).
يترتب على هذه الإتاحة الجنسية المستمرة منافسة وغيرة دائمة بين الزوجات اللائي يتشاركن زوجا من أجل أن تحظى كل واحدة منهن باهتمام جنسي ومحاباة منه. ودائما ما يصرح اختصاصيو علم الإنسان الذين يدرسون تلك المجتمعات أن الاحتكاك بين الزوجات اللائي يتشاركن زوجا هو آفة الزيجات المتعددة الزوجات في تلك المجتمعات. وفي الواقع يمارس تعدد الزوجات أكثر الصائدين إنتاجا وأكثر المزارعين رخاء في هذه المجتمعات؛ من أجل الفوائد الاقتصادية الناتجة عن أن يكون لديهم نساء أكثر ليعملن لديهم وأطفال أكثر لإعالتهم عند الكبر، وليس من أجل بلوغ أقصى درجة من إشباع رغباتهم الجنسية.
الفرق الثاني المهم هو أنه حتى في المجتمعات التي تبيح تعدد الزوجات تظل أغلب الزيجات أحادية؛ لأن أكثر الرجال لا يستطيعون ببساطة التكفل بإعالة أكثر من زوجة. على النقيض من ذلك، في مجتمعات الذكر الواحد والإناث المتعددة من الرئيسيات غير البشرية، تنتمي كل الإناث البالغات لحرملك من الإناث اللواتي يتزاوجن مع الذكر الحالي المسيطر في الحالات النادرة نسبيا حين يكن في مرحلة التبويض.
ونشير أخيرا إلى أنه كثيرا ما يتغلب النزوع البشري للعلاقات العابرة حتى على أشد المحظورات الثقافية صرامة، وفي بعض الثقافات المتساهلة جنسيا التي درسها اختصاصيو علم الإنسان كانت تستهجن أنواع معينة من الاستحواذ الجنسي، وفي بعض الحالات كان التشارك في رفاق الجنس لا يعد شيئا مقبولا فحسب، بل إنه يعد في الواقع سلوكا حسنا؛ فكان إسكيمو القطب الشمالي مشهورين بمشاركة زوجاتهم وبناتهم غير المتزوجات مع الذكور الآخرين اللذين يأتون للإقامة زوارا أو ضيوفا؛ فقد كان الاستحواذ الجنسي صفة بغيضة من وجهة نظر الإسكيمو، فلا يصح للرجل من الإسكيمو أن يحرم ضيفه من الاستمتاع بزوجته، كما لا يصح أن يبخل عليه بكرم الضيافة من الطعام والمأوى.
الصداقات بين الرئيسيات
الصداقة موجودة بين الحيوانات في عدة أشكال مختلفة، وفي الرئيسيات قد تتدرج من المعارف العابرة بين أفراد مألوفين في الجماعة إلى تحالفات «سياسية» خاصة بين البالغين الذي قد يتضامنون معا من أجل الدفاع المشترك، أو الذين ربما يتنافسون مع أفراد وتحالفات أخرى على المركز والسلطة. روابط الصداقة موجودة إلى حد ما لدى أغلب الحيوانات العليا، وتلعب روابط الصداقة دورا مهما على الأخص بين الرئيسيات خلال حياتها اليومية.
ختاما، قد ينشأ رباط خاص بين فردين عادة ما يكونان (لكن ليس دائما) عضوين من المجموعة نفسها أو النوع نفسه، وتكتفي أغلب الطيور بعلاقة أحادية خلال موسم التعشيش، حين ينخرط كل من الذكور والإناث في المهام الشاقة لتنشئة الجيل التالي، ومنها بناء العش، وحضانة البيض، وإطعام الصغار وحمايتها، بل وتتزاوج أنواع عديدة مثل الأوز مدى الحياة.
قد تنشئ الأفيال والدرافيل والذئاب والأسود وعدة ثدييات أخرى روابط قوية ومستمرة مدى الحياة مع أفراد آخرين من النوع نفسه. وتستطيع الكثير من الحيوانات المستأنسة، مثل الكلاب والقطط والخيل والخنازير والببغاوات والأوز أن ترتبط ارتباطا قويا مع أنواع أخرى - بما في ذلك البشر - لأسباب تخالف المنطق أحيانا. من المغري الاعتقاد بأن البشر وحدهم هم من يقعون في الحب، لكن الشغف الشديد والانجذاب لفرد آخر - انجذابا كثيرا ما يرقى إلى مستوى الهوس بالفرد الآخر - يحدث بين أنواع كثيرة من الحيوانات، وينسجم كلية مع تعريفنا لمعنى «الحب».
التسلسلات الهرمية الاجتماعية لدى الرئيسيات
دائما ما تكون الحيوانات العليا التي تعيش في مجموعات تسلسلات هرمية اجتماعية، حيث يشغل كل فرد موقعا محددا في نظام سلطوي، فيكون أكثر الأفراد سيادة في القمة ويكون أكثر الأفراد خضوعا في القاع. يستطيع الدجاج الأعلى مرتبة أن ينقر أيا من الدجاج الأدنى منه في التسلسل الهرمي، بينما ينقر الدجاج الأدنى مرتبة من الدجاج الذي يعلوه مرتبة وينقر الدجاج الأدنى منه مرتبة. أما أقل الدجاج مرتبة على الإطلاق فهو ينقر حتى الموت لعدم قدرته على الدفاع عن نفسه أو مهاجمة غيره من الدجاج. ورغم أننا نحن البشر قد نرى هذا التصرف وحشيا، فإن القدرة على تكوين تسلسلات هرمية اجتماعية قائمة على فروق الهيمنة والخضوع بين الأفراد هو في الواقع أمر ضروري للحفاظ على السلام والتضافر داخل الجماعة.
تعزز التسلسلات الهرمية الاجتماعية الاستقرار الاجتماعي بطريقة بسيطة للغاية؛ فهي تضمن عدم انخراط أفراد الجماعة في معارك متكررة وهم يتنافسون على الغذاء والأزواج وأماكن النوم وغيرها من الأشياء المشتهاة. فقد تقع مواجهات عنيفة بين أفراد من المرتبة نفسها، لكنها دائما ما تستمر فقط إلى أن يفوز فرد ويخسر الآخر. ويفرض الفائز سيطرته على الخاسر، الذي يصير ويظل تابعا في العلاقة. ومن ذلك الوقت فصاعدا يذعن الفرد التابع للفرد المسيطر متى أرادا الشيء نفسه، سواء كانت فردا جذابا من الجنس الآخر أو قطعة مشتهاة من الغذاء سقطت على الأرض بينهما؛ فقد سويت الخصومات الأصلية بينهما واستقر الأمر، فلن يحدث المزيد من المواجهات أو المعارك أو الإصابات الجسيمة.
تميل كل الرئيسيات - بما في ذلك البشر - إلى التصرف بخضوع مع من يكبرونها سنا وبسيطرة مع صغارها، وتميل في الوقت نفسه إلى الصراع والتناحر من أجل الهيمنة مع من يماثلونها مكانة، ولا سيما الأفراد من الفئة العمرية نفسها. تشتد هذه الصراعات من أجل السيطرة لا سيما خلال المراهقة والمرحلة المبكرة من البلوغ، مع تأسيس السلاسل الهرمية الاجتماعية للجيل حديث النضج . تقع أخطر هذه الصراعات من أجل السيطرة حين يهدد وضع الذكر المسيطر المتقدم في السن فردا أصغر منه سنا وأقوى منه بنيانا؛ مما يقلب ويزعزع مؤقتا التسلسل الهرمي الاجتماعي المعروف والمألوف الذي ظل قائما لشهور أو سنوات حتى ذلك الوقت.
رغم أنه قد يبدو من المستغرب ظاهريا أن توصف سلوكيات هرمية مثل السيطرة والخضوع بأنها نوع من الترابط، فالحقيقة أن هذه العلاقات الهرمية غالبا ما تكون مستقرة وطويلة الأمد على نحو بالغ. تشيع التسلسلات الهرمية الاجتماعية بين أنواع الحيوانات التي تعيش في مجموعات؛ لأنها تقلل من المشاحنات بين أعضاء المجموعة، كما توفر آلية تسمح للمجموعة كلها باتخاذ إجراء موحد عند الضرورة.
وتماما مثلما تتنافس السعادين والقردة من أجل السيادة والمنزلة الاجتماعية في تسلسلاتها الهرمية الخاصة، نحن البشر نتنافس أيضا من أجل السيادة والمنزلة الاجتماعية داخل تسلسلاتنا الهرمية في مجالات الفن والعلوم والتقنية والتجارة والحكم والموضة والترفيه والرياضة، لكن بينما يتغير اللاعبون تبقى اللعبة كما هي: تسلسل هرمي اجتماعي مستقر؛ حيث يكون لكل فرد مرتبة معينة، وحيث لا تتواتر المعارك المصيرية، وحيث يعرف الفائزون والخاسرون منازلهم، ويظلون في أماكنهم، لكن مع بقائهم مترقبين لفرصة الارتقاء في التسلسل الهرمي الذي ينتمون إليه.
المجتمع الانقسامي الاندماجي
ثمة نمط مميز بشدة من البناء الاجتماعي المعهود لدى أنواع معينة من الرئيسيات - نمط يشيع بوجه خاص في المجتمعات البشرية، وقد طوره البشر لدرجة كبيرة - يسمى المجتمع الانقسامي الاندماجي؛ ففي هذه الأنواع تنزع الجماعة النشطة إلى التنوع في الحجم والبنية من ساعة لأخرى، ومن يوم لآخر، ومن موسم لآخر. يتفرق المجتمع الانقسامي الاندماجي (في مرحلة الانقسام) إلى أفراد ومجموعات أصغر تنتشر في أنحاء موطنها في أوقات معينة من اليوم، أو في مواسم معينة من السنة، ثم تجتمع معا (في مرحلة الاندماج) في موقع واحد في أوقات أخرى لتكون مجموعة واحدة كبيرة جدا. هذا النمط من المجتمع مألوف بين ثلاثة أنواع من الرئيسيات: (1) السعادين التي تكيفت على العيش على الأرض. (2) والقردة الأكثر قربا لفصيلة أشباه البشر، وخاصة الشمبانزي والبونوبو. (3) والبشر .
في المجتمع الانقسامي الاندماجي كثيرا ما يقضي أفراد المجموعة ساعات النهار منتشرين في أرجاء أراضي موطنهم؛ إذ ينطلق كل فرد أو مجموعة صغيرة سعيا وراء نوع معين من الغذاء النباتي أو الحيواني في الصباح، وبعد ذلك يعود الجميع إلى مقرهم مع اقتراب اليوم من النهاية، مجتمعين التماسا للأمان في أشجار النوم أو المنحدرات أو (في حالة البشر) مواقع التخييم والمساكن. ورغم الاختلافات المتعددة بين المجتمعات البشرية في التنظيم الاجتماعي، فإنها كلها تبدي النمط نفسه من السلوك الانقسامي الاندماجي. استمرار هذا النمط واضح تماما في مجتمعنا، حيث ينتشر أفراد الأسرة عادة كل في وجهته المستقلة خلال النهار، ثم يجتمعون نهاية النهار لتناول الطعام والنوم معا في مسكن واحد مشترك.
ومن المحتمل أنه نظرا لأن تركيب المجموعات المختلفة يتغير باستمرار - إذ يتكون كل منها من خليط مختلف من الأفراد الملائمين لوقت من اليوم أو لفصل من السنة - تكون الأنواع التي تمارس هذا النمط الانقسامي الاندماجي أيضا أكثر عرضة للتفاعل بل والامتزاج بمجموعات أخرى من حيز حيوي آخر. تشتهر قردة الشمبانزي بالمناسبات الدورية التي تمارس فيها مجموعتان منفصلتان ومستقلتان نوعا من الاندماج المؤقت وتختلطان كمجموعة واحدة لساعات في كل مرة، فيتفاعل أفراد المجموعتين في حماسة بالغة، ويستعرض الذكور في كل مجموعة مظاهر الهيمنة: بالصياح والصراخ والاندفاع في الأنحاء، وأحيانا بكسر فروع الأشجار والتلويح بها في شراسة أثناء استعراضها. وبعد فترة تفتر الحماسة، ويتفرق أفراد المجموعتين المختلفتين، ويجتمع أفراد المجموعتين الأصليتين من جديد، وتمضي كل مجموعة من المجموعتين إلى حال سبيلها.
ولا تؤدي استعراضات الهيمنة وظيفة تحذير الذكور الآخرين فحسب، وإنما تستخدم أيضا وسيلة لجذب الإناث النشطات جنسيا من المجموعة الأخرى، على أمل إقامة علاقات جنسية مع واحدة منهن. وحين تحدث هذه العلاقات بالفعل قد تستمر حتى بعد أن تجتمع المجموعات الأصلية مجددا وترحل في وجهاتها المختلفة؛ مما يؤدي إلى رحيل الإناث الأصغر سنا الأقل مقاما عن المجموعة التي ولدن فيها للانضمام إلى أزواجهن الجدد في المجموعة الجديدة. وهذه سنة أصيلة في التزاوج بين الرئيسيات تسمى «تزاوج الأباعد» الذي سيناقش لاحقا في هذا الفصل.
الإنويت أو الإسكيمو الذين عاشوا في شمال الدائرة القطبية الشمالية، دأبوا على قضاء صيف القطب الشمالي القصير في البحث عن بيض الطيور والتوت والطرائد الصغيرة في مجموعات أسرية صغيرة متفرقة على مساحات واسعة في أرجاء أراضي التندرا الرخوة، لكن في الشتاء كثيرا ما كان يتطلب صيد الطرائد الكبيرة مثل الوعل والفقمة والفظ التعاون بين أسر عدة. خلال هذا الوقت من العام كان الإنويت يبنون أكواخا جليدية متلاصقة في موقع محمي، مقيمين مخيمات شتوية تضم العشرات أو المئات من الناس الذين كانوا كثيرا ما يجتمعون معا للقيل والقال، ومشاركة الخبرات، ورواية الحكايات الشعبية المتوارثة، وممارسة الطقوس التقليدية لأسلافهم.
كانت قبائل البوشمان - الصيادون وجامعو الثمار في صحراء كالاهاري بأفريقيا الاستوائية - تنتشر في مجموعات أسرية على مساحات شاسعة خلال موسم الأمطار، حين تتوفر المياه ويسهل العثور عليها، لكن خلال موسم الجفاف كانت تلك القبائل تتجمع في مخيمات تضم عشرات الأسر، حيث تستقر بعضها بالقرب من بعض في جوار ينابيع الماء الدائمة القليلة، ويقضي أفراد كل أسرة الوقت في التفاعل مع أفراد الأسر الأخرى، بينما ينتظرون هطول الأمطار مجددا.
في مجتمعنا الحديث كثيرا ما تعيش الأسر الممتدة متناثرة على مساحات جغرافية كبيرة، إلا أنها لا تألو جهدا للاجتماع دوريا من أجل المناسبات الاحتفالية المعتبرة في تقاليدنا الثقافية، مثل العطلات وأعياد الميلاد والأعراس واحتفالات الذكرى السنوية والجنازات؛ فقد خلقت الحضارة الحديثة تنوعا معقدا من المجموعات المتداخلة والمتشابكة المتصلة بمجالات عديدة مختلفة من الحياة البشرية، وقد صار كل هذا ممكنا بفضل التعقيد البشري الهائل في المجتمع الانقسامي الاندماجي.
فنحن أفراد في أسرنا المصغرة المكونة من أبوين وأبناء، وكذلك في الأسر الأكبر الممتدة التي تضم الأجداد والعمات والأعمام وأبناء وبنات العمومة وبنات الأخ والأخت وأبناء الأخ والأخت والأحفاد، كما ننتمي إلى عدة مجموعات أخرى تحددها المجتمعات التي نعيش فيها، والمدارس التي نرتادها، والمهن والتخصصات التي نزاولها، والمؤسسات التي نعمل لديها. ونحن نولد في أسرة ذات هوية عرقية معينة (أو خليط من الهويات العرقية)، وكل من هذه الهويات العرقية يتصل بإقليم جغرافي ولغة وتاريخ ودين وغذاء ومنظومة قيم ونمط ملبس معين.
3
أخيرا، نحن نعبر عن فرديتنا، ونشبع اهتماماتنا الشخصية الفريدة بالانضمام عمدا إلى واحدة أو أكثر من آلاف الجماعات التطوعية التي انتشرت في العصور الحديثة، ومنها الجماعات الدينية والأحزاب السياسية والمنظمات الخيرية والنوادي الاجتماعية والجمعيات المهنية المتعددة التي نشأت في مجالات العلوم والطب والتكنولوجيا والتجارة والرياضة والترفيه والفنون، وكل مجال آخر من مجالات السعي الإنساني.
لكل من هذه الجماعات البشرية المتعددة متطلبات للعضوية والتزامات محددة تطلب من أعضائها. لم يكن المجتمع البشري كما نعرفه ليوجد لولا الشغف الفطري لدى الرئيسيات بهوية الجماعة، وبالتضامن جنبا إلى جنب مع مرونة المجتمع الانقسامي الاندماجي؛ إذ تسمح لنا غريزة الهوية الجماعية بتكوين جماعات ذات تماسك كاف للتآزر مع شعور بالتضامن والعمل معا لتحقيق أهداف مشتركة. وتسمح غريزة الانقسام والاندماج لجماعات عديدة بالانتشار داخل مجتمع واحد، مع تعريف كل منها بطريقة مختلفة، وتلبية كل منها لمجموعة مختلفة من الاحتياجات الاجتماعية.
حين نتتبع تطور الإنسان الحديث وتطور مجتمعات بشرية متزايدة التعقيد، نرى كيف أتاحت مرحلة الاندماج من دورة الانقسام والاندماج لنوعنا صوغ أشكال جديدة من التضامن داخل جماعات بشرية متزايدة الحجم. تضم الأمم الحديثة والحركات السياسية آلاف أو ملايين الأعضاء، لم ولن يلتقي أغلب أعضائها، إلا أنهم يعرفون أنفسهم مجتمعين على أنهم ينتمون للجماعة نفسها ويعيشون في دائرة واحدة من الثقة.
لقد تميز تاريخ نوعنا في واقع الأمر بأنماط متزايدة الحجم من الاندماج، بدأت تظهر حين نشأت هويات قبلية لدى الصائدين جامعي الثمار، وتوسعت ثانية حين بدأ أفراد القبائل المختلفة يعيشون معا في قرى وبلدات ودول مدن، وتوسعت أخيرا لتبلغ حجمها الحالي حين تحولت آلاف من الدول المدن إلى نحو مائتي دولة قومية، حيث من المألوف أن يصل عدد أعضاء جماعتنا إلى ملايين وعشرات الملايين.
تزاوج الأباعد وحظر سفاح المحارم لدى الرئيسيات
رغم تضامن الجماعة المعهود في الرئيسيات - والعلاقات العدائية التي تنشأ بين مجموعات الرئيسيات - تتزاوج أغلب الرئيسيات بانتظام مع أفراد المجموعات المنافسة؛ إذ دائما ما يترك الحيوان المراهق من رتبة الرئيسيات جماعة أمه ويبحث بهمة عن صداقات وعلاقات جنسية مع أفراد جماعة أخرى، وينال القبول بصفته عضوا دائما في النهاية. يسمى هذا تزاوج الأباعد - أي «التزاوج من خارج الجماعة» - والذكور بين أغلب الرئيسيات هم الذين يغادرون جماعتهم الأصلية من أجل الانضمام لجماعة أخرى، وهذه هي الظاهرة المعروفة بتزاوج الأباعد الذكوري.
من ثم، أكثر أنواع جماعات الرئيسيات شيوعا تتكون من نواة أساسية من الإناث اللواتي تربطهن ببعضهن بعضا صلة قرابة كأمهات وأخوات وبنات. تقضي هؤلاء الإناث حياتهن كلها معا، ويألف بعضهن طبائع بعض، ويبحثن معا عن الغذاء، ويتشاركن بعض أطفالهن معا، وقد أنشأن منذ زمن طويل تسلسلا هرميا اجتماعيا مستقرا يعزز التعاون والعلاقات السلمية داخل المجموعة.
لكن بعض أنواع الرئيسيات - وعلى الأخص قردة الشمبانزي - تمارس العكس تماما: تزاوج الأباعد الأنثوي. فيظل ذكور الشمبانزي في المجموعة التي ولدوا فيها، وتربطهم علاقات دائمة ليس مع أمهاتهم فقط، وإنما مع آبائهم وأخواتهم وأبنائهم أيضا. أما إناث الشمبانزي فيهممن بالانسحاب بالتدريج بعيدا عن مجموعتهن الأصلية عند بلوغ مرحلة النضج، ويسعين لإقامة علاقات جنسية وصداقات أخرى مع أعضاء جماعة مختلفة تماما، وعند الاستمرار في هذا يكسبن في نهاية المطاف قبول الذكور وإناث الجماعة الجديدة، وأخيرا يصرن حبليات وينجبن أطفالا. وبينما تكبر بناتهن وترحل بعيدا يبقى أبناؤهن بصحبتهن ما تبقى لهن من العمر.
تنعكس ممارسة الرئيسيات العامة لزواج الأباعد على التكوين الاجتماعي لكل المجتمعات البشرية، وإن كان يتخذ عدة أشكال مختلفة، من بينها زواج الأباعد الذكوري والأنثوي. مارست المجتمعات الريفية التقليدية في الصين والهند شكلا صارما من أشكال زواج الأباعد القروي على أساس مكان الإقامة؛ ففي هذه القرى الزراعية كان الذكور يمتلكون كل الأراضي والمساكن ويورثونها لنسلهم من الذكور حصرا. بناء على هذا لم يكن الرجال يغادرون القرى التي ولدوا فيها قط، في حين كانت النساء - اللواتي كانت أملاكهن مقتصرة على مقتنيات قابلة للحمل مثل الملابس والمصاغ والأثاث - يغادرن قراهن الأصلية للأبد عند الزواج، ويقضين بقية حياتهن في قرى أزواجهن. لكن في قرى جزر بولينيزيا التقليدية، كانت النساء يمتلكن الأرض والمساكن ويورثنها لنسلهن من الإناث حصرا؛ ومن ثم كان الذكور هم من يرحلون عن قراهم الأصلية عند الزواج لقضاء بقية حياتهم سكانا في قرى زوجاتهم.
بالإضافة إلى هذه الأشكال من زواج الأباعد القائم على أساس مكان الإقامة، تستلزم كل الثقافات البشرية شكلا من زواج الأباعد ينطبق على علاقات القرابة، وهو حظر البشر بوجه عام لسفاح المحارم. يقتضي حظر سفاح المحارم أن يختار الرجال والنساء شركاء من خارج مجموعة أقاربهم. وتعرف مجموعة الأقارب في مجتمعنا تعريفا دقيقا جدا بأنها الأسرة المصغرة المكونة من الوالدين والأبناء، وبدرجة أقل إلى حد ما الأسرة الممتدة من الأعمام والأخوال والعمات والخالات وأبناء وبنات الأعمام والأخوال، لكن في الثقافات القبلية حيث علاقات القرابة أهم وأعقد منها في مجتمعنا، كثيرا ما يقوم حظر سفاح المحارم على انتماءات قبلية قد تصف المئات بل وآلاف العلاقات الجائزة بأنها سفاح قربى؛ ومن ثم تحظرها تماما.
يفيد زواج الأباعد مجتمعات الرئيسيات بطريقتين؛ فهو أولا يضمن استمرار التمازج الجيني بين الجماعات التي تعيش في مناطق متجاورة، حتى وإن كانت هذه الجماعات يعادي بعضها بعضا، وهذا من شأنه أن يقلل تزاوج الأقارب، بآثاره الضارة. وثانيا يضمن زواج الأباعد أن يكون داخل كل جماعة الكثير من البالغين الذين ولدوا في جماعات أخرى وتربطهم بالفعل علاقات بأصدقائهم وأفراد أسرهم الذين هم أعضاء في جماعات أخرى.
وتساعد هذه الصلات بين الجماعات المختلفة وكثيرة التناحر على تقليل المشاحنات والعنف بين جماعة وأخرى. وفي العديد من المجتمعات القبلية والريفية اعتادت بعض العشائر والقرى أن تتصاهر مع بعض العشائر والقرى الأخرى. كان من شأن هذا العرف الذي استمر لأجيال أن ينتج شبكة من العلاقات الاجتماعية تربط بين الجماعات، وتقلل المشاحنات بينهم، وتوفر لهم حلفاء مهمين في حالة التعرض لهجوم من جماعات معادية.
الصيد والحروب لدى الرئيسيات
كانت السعادين والقردة تعتبر قديما جامعات للثمار مسالمة تعيش على نظام غذائي نباتي تكمله أحيانا بالحشرات أو بيض الطيور أو الزواحف الصغيرة، لكن في السنوات الأخيرة اكتشفت الدراسات الميدانية التي أجريت على الرئيسيات في موائلها الطبيعية أن عددا منها - بما يشمل الفرفت والماكاك والميمون والبابون وإنسان الغاب والشمبانزي - يصطاد ويقتل حيوانات أخرى من ذوات الدم الحار، ومن بينها رئيسيات أخرى.
قد تكون قردة الشمبانزي أنجح الصائدين بين كل الرئيسيات غير البشرية؛ فقد رصدت قردة الشمبانزي وهي تصطاد وتقتل تسعة عشر نوعا على الأقل من الثدييات، منها الخنازير البرية والظباء وعدة أنواع من القردة (فريستها المفضلة). فقد وجد أن إحدى مجموعات الشمبانزي تقتل بصورة روتينية أكثر من عشرة في المائة من قردة كولوبس الحمراء التي تعيش في منطقتها كل عام، وهو معدل قتل مساو لمعدل القتل لدى الضباع والأسود. عادة ما ينفذ عملية الصيد مجموعة من الذكور البالغين، الذين يتعاونون في ملاحقة الفريسة ومحاصرتها حتى يتمكنوا من الاقتراب منها لدرجة كافية ليجهزوا عليها. هذه إجمالا هي الطريقة نفسها التي يستخدمها الصيادون من البشر حول العالم، مع اختلاف واحد مهم: يجب أن يقتل الشمبانزي فريسته عن طريق عضها بأنيابه الطويلة الحادة كالموس وتمزيقها بأياديه المجردة، أما الإنسان فيقتل فريسته بأسلحة مصنعة يمكنها إيقاع إصابات قاتلة عن بعد؛ تجنبا لمخاطر التلاحم.
حتى وقت قريب كان يعتقد أن البشر وحدهم بين جميع الرئيسيات يشاركون في العنف القتالي ضد أفراد من نوعهم، وكان يعتقد في وقت سابق أن السلوكيات من عينة القتل والحرب وأكل المثيل غير معروفة بين مجتمعات القردة والسعادين التي هي نباتية بدرجة كبيرة (والأكثر مسالمة حسبما يفترض)، لكن دحضت الدراسات الميدانية التي أجريت على الرئيسيات في موطنها الطبيعي الرأي السابق دحضا تاما؛ فعلى مدى عشرة أعوام روقبت مجموعة عدوانية للغاية من قردة الشمبانزي في أوغندا وهي تقتل ثمانية عشر عضوا في جماعات منافسة، وهو معدل قتل أكبر بعدة أضعاف من متوسط معدل القتل لدى البشر من الصيادين وجامعي الثمار. وقد وثقت دراسات أخرى عديدة عدة حالات من القتل وقتل الأطفال وأكل المثيل بين مجموعة متنوعة من أنواع الرئيسيات.
من بين كل السلوكيات العنيفة التي كان يعتقد في الماضي أن البشر ينفردون بها، ربما كان الأكثر إدهاشا هو اكتشاف قدرة جماعات معينة من قردة الشمبانزي على شن حملات متواصلة من العنف ضد جماعات مجاورة هدفها النهائي احتلال أجزاء من أرضها وادعاء ملكيتها لها. هذا النوع من «الحروب» مشابه إلى حد لافت للغارات التي كان يقوم بها الصيادون جامعو الثمار والقرويون المزارعون حول العالم.
تعيش إحدى مجموعات الشمبانزي شديدة الضخامة والشراسة في منطقة نجوجو في حديقة كيبالي الوطنية في أوغندا. درس هذه المجموعة فريق من اختصاصيي الرئيسيات الأمريكان في الفترة من 1999م حتى 2008م، فاكتشفوا أن الذكور البالغين من مجموعة نجوجو يشاركون في غارات ممنهجة على أراضي المجموعات المجاورة، للانقضاض على قردة شمبانزي أخرى في هذه المجموعات والقضاء عليها بصفة دورية.
عادة ما تتحرك قردة الشمبانزي في حيزها الحيوي في عصابات محدثة جلبة وصخبا، حيث يمكن للأفراد الانتشار في أنحاء الغابة بعضهم على مسمع من بعض، لكن تغير سلوك قردة شمبانزي منطقة نجوجو للغاية عندما شرعت في شن غارة على أرض مجموعة أخرى.
فبمعدل مرة واحدة كل عشرة إلى أربعة عشر يوما تقريبا، كان يخرج نحو عشرين ذكرا من نجوجو للإغارة على أحد جيرانهم، فكانوا يلزمون الصمت ويسيرون في طابور واحد وهم يعبرون الحدود بين أرضهم وأرض جيرانهم. ومع توغلهم أكثر في «أرض العدو» كانوا يتفحصون بعناية قمم الأشجار بحثا عن آثار للعدو، ويستجيبون في توتر لأقل صوت.
حين كانوا يلقون مجموعة من المدافعين تفوقهم عددا، كان ذكور نجوجو يتفرقون عن صفوفهم ويفرون راجعين إلى أرضهم، لكنهم حين كانوا يصادفون ذكرا سيئ الحظ وحده في الغابة، كانوا يلاحقونه ويقيدونه ويوسعونه ضربا حتى الموت. أما إن وقعت أنثى في الفخ، فكانت دائما ما يطلق سراحها، لكن دائما ما كان يقتل أطفالها ويؤكلون. كانت أغلب حالات قتل شمبانزي نجوجو موجهة لمجموعة بعينها كانت تعيش في الشمال الشرقي، وبعد عدة سنوات من الهجمات انتقلت مجموعة نجوجو إلى جزء كبير من أرض جيرانها واستولت عليها؛ لتتسع مساحة نطاقها الحيوي بنسبة 22 في المئة.
تشيع ممارسة قتل الرضع أيضا بين عدة أنواع من الرئيسيات، وغالبا ما تقع حين ينتزع ذكر جديد السيطرة على حرملك من ذكر مسيطر كان يملكه قبل ذلك. يقتل الذكر الجديد بطريقة ممنهجة كل الرضع الذين أنجبهم سلفه؛ مما يجعل الإناث اللواتي صرن بلا صغار على استعداد للتزاوج مرة أخرى؛ ومن ثم تستأنف الدورة الشبقية والنشاط الجنسي. يستطيع الذكر الجديد المسيطر عن طريق التزاوج مع الإناث الجدد أن ينجب صغارا من صلبه؛ مما يزيد من عدد ذريته؛ وبهذا ينشر جيناته لأقصى درجة ممكنة.
أدوات الرئيسيات وأسلحتها
في شهر أكتوبر من عام 1960، كانت اختصاصية الرئيسيات جين جودول في السنة الأولى من بحثها التاريخي حول سلوك قردة الشمبانزي البرية، حيث أقامت في معسكر مراقبة في محمية طبيعية على ضفاف بحيرة تنجانيقا في شرق أفريقيا. وذات صباح ممطر في أحد أيام شهر أكتوبر، وبينما هي مبتلة ومنهكة من البحث دون جدوى لساعات في الوديان التي غمرتها مياه الأمطار عن شمبانزي حتى تراقبه، رأت بغتة حركة وسط الحشائش الطويلة وركزت منظارها على الموقع. وحين تعرفت على أحد الذكور البالغين في المجموعة التي كانت تدرسها تقدمت بحذر.
كان الذكر البالغ جالسا بجوار عش نمل أبيض، يدخل ساق كلأ طويلة في العش من خلال فتحات الدخول مرارا وتكرارا. وبعد كل مرة كان يخرج الساق وقد صارت مغطاة بالنمل الأبيض المتشبث بها، فيلعق النمل الأبيض من على الساق ويأكله. وعند انحناء طرف الساق كان يقضمه ليصبح لها طرف جديد، أو يتخلص منها ويلتقط ساقا أخرى. وهكذا ظل يتغذى على النمل الأبيض طوال ساعة ثم تجول بعيدا.
أقامت جودول موقع مراقبة بالقرب من عش النمل الأبيض، وسريعا ما تسنى لها مراقبة أفراد آخرين في المجموعة نفسها وهم يبحثون عن النمل الأبيض، غير مقتصرين في ذلك على استخدام سيقان الكلأ القريبة في متناول اليد، وإنما استخدموا أيضا الغصون والأفرع التي جلبوها من على بعد عدة ياردات، وقد تعمدوا إعدادها بنزع الأوراق عنها (انظر شكل
1-4 ).
شكل 1-4: أدى اكتشاف أن قردة الشمبانزي تصنع الأدوات وتستخدمها إلى ثورة في التفكير العلمي حول أصول استخدام الأدوات. يستخدم هذا الشمبانزي عودا لاصطياد النمل الأبيض من داخل عشه. (اللقطة من تصوير مايك ريتشي. مصرح بالنشر بموجب رخصة المشاع الإبداعي غير الموطن الإصدار 3,0 التي تقتضي نسب المصنف لصاحبه والترخيص بالمثل.)
قبل بحث جودول كان الاعتقاد السائد المقبول لدى علماء السلوك أن البشر هم النوع الوحيد القادر على التأني في صناعة أدوات من مواد طبيعية واستخدامها في أغراض خاصة. في الواقع كان هذا أحد المعايير الرئيسية المستخدمة في تمييز البشر عن كل الحيوانات الأخرى، لكن بحلول عام 1973 كانت جين جودول قد دونت ثلاثة عشر نوعا مختلفا من الأدوات التي تصنعها وتستخدمها قردة الشمبانزي التي كانت تدرسها، ومنذ ذلك الوقت تعرف اختصاصيو علم الرئيسيات الذين يدرسون قردة الشمبانزي في العراء على أكثر من خمسة وعشرين نوعا مختلفا من الأدوات، صنع كل منها من مواد طبيعية ويستخدم كل منها في غرض محدد.
وبجانب المسابير التي يصنعونها لاصطياد النمل الأبيض، ينتقي قردة الشمبانزي الأغصان والعصي الصغيرة وينظفونها ويجهزونها من أجل استخدامات متنوعة، منها جمع العسل، واقتلاع الأجزاء القابلة للأكل من الجوز من قشورها، واستخراج النخاع من عظام فرائسها. وتستخدم إحدى المجموعات مطرقة وسندان بدائيين مصنوعين من الأحجار أو الخشب من أجل فتح جوز الكولا، وتستخدم يد هاون ساحقة مصنوعة من جذع نخلة من أجل تعميق الثقوب في الأشجار. وتلتقط أوراق الأشجار الكبيرة المسطحة لتستخدم أبسطة للجلوس على الأرض الرطبة و«قبعات» تستخدم مرة واحدة عند هطول الأمطار، بينما تمضغ الأوراق الصغيرة حتى تصير كتلة رطبة تستخدمها قردة الشمبانزي كإسفنج لجمع المياه وتنظيف الجروح.
تتضمن تقنيات الشمبانزي أيضا أسلحة مصنوعة من مواد طبيعية في بيئتها؛ فعند ضلوع ذكور الشمبانزي في عروضها التهديدية الدورية، تحطم الفروع وتلوح بها في هياج، بينما تندفع صارخة في أرجاء الغابة. وأثناء هجومها على الآخرين تظل ذكور الشمبانزي تجمع الفاكهة والعصي وحتى الأحجار وتلقي بها على خصومها، وقد رصد أفراد مجموعة واحدة على الأقل من الشمبانزي في غرب أفريقيا وهم يصنعون «رماحا» خشبية؛ فقد كانوا يختارون فرعا مناسبا طوله نحو ثلاث أو أربع أقدام، وينزعون عنه الأوراق والفريعات، ويشحذون أحد طرفيه بأسنانهم، ويستخدمون الرمح في طعن حيوانات الجلاجو وقتلها، وهي نوع صغير بدائي من الرئيسيات تنام دائما في تجاويف الأشجار.
منحت التقنية للبشر نوعا جديدا من السلطة على الطبيعة، لكن لم تبدأ هذه السلطة مع الثورة الصناعية، أو نشأة الحضارات، أو تطور الزراعة، أو حتى اختراع أدوات من الأحجار؛ إذ يشير ثراء تقنيات قردة الشمبانزي وتنوعها إلى أن استخدام البشر للتقنية بدأ مع قردة ما قبل التاريخ التي كانت أسلافا لكل من البشر وقردة الشمبانزي.
ظهرت التقنية باعتبارها قوة في تطور الإنسان منذ ملايين السنين، مع ابتكار أول الأسلحة البدائية التي لم يبتكرها البشر، وإنما ابتكرتها قردة ما قبل التاريخ التي باستخدامها الرماح الخشبية وعصي الحفر وضعت نفسها على أول طريق التطور الذي أنتج البشر في النهاية. وسوف نستعرض الدليل على هذا الافتراض والأساس المنطقي له بالتفصيل في الفصل التالي.
عادات الرئيسيات وتقاليدها، لبنات بناء الثقافة
في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين بدأ مجموعة من اختصاصيي علم الرئيسيات من جامعة كيوتو دراسة طويلة الأجل لمستعمرة من مائة قرد ماكاك ياباني بري كانت تعيش في كوشيما، الجزيرة الصغيرة الواقعة قبالة الساحل الجنوبي لليابان. وحتى تتأتى لهم مراقبة السلوك الاجتماعي للقردة على نحو أفضل، كان العلماء يلقون كميات كبيرة من البطاطا الحلوة على الشاطئ كلما زاروا الجزيرة الصغيرة، فكانت قردة الماكاك تخرج من الغابة وتجمع البطاطا الحلوة، لكن قبل البدء في تناولها كانت تعكف على إزالة الرمل عنها بأيديها، كما هو معهود في هذا النوع.
لكن ذات يوم اكتشفت أنثى صغيرة تدعى إيمو، لا يتجاوز عمرها ثمانية عشر شهرا، أن غسيل البطاطا الحلوة في جدول قريب كان طريقة أسرع وأسهل كثيرا لتنظيفها، وسريعا بدأت أم إيمو تغسل البطاطا الخاصة بها بدلا من تمشيطها، وخلال السنوات القليلة التالية انتشر غسيل البطاطا بين رفاق إيمو في اللعب وأمهاتهم، حتى أصبحت المستعمرة بأسرها في عام 1958 تغسل البطاطا الحلوة إما في الجدول أو المحيط، وظل هذا السلوك المستجد تقليدا في مستعمرة كوشيما، وظلت الأجيال تتوارثه منذ ذلك الوقت.
في وقت لاحق بدأ العلماء يتركون قمحا على الشاطئ الرملي، فيصير القمح والرمل ممتزجين معا. اكتشفت إيمو أنها تستطيع فصلهما بإلقاء حفنة من القمح المختلط بالرمل في البحر، حيث يسقط الرمل تاركا القمح ليطفو على سطح الماء بحيث يمكن اغترافه. بدأ أفراد آخرون في المستوطنة استخدام هذه الطريقة، وانضم غسيل القمح إلى غسيل البطاطا ليصير عادة في هذه المستوطنة وحدها. منذ ذلك الوقت لاحظ علماء الرئيسيات عادات أخرى مماثلة في تناول الطعام في المستعمرات الفردية لقردة الماكاك في جميع أنحاء اليابان، من بينها غسل التفاح، وإخراج الفول السوداني المدفون من الرمل، وفك غلاف حلوى الكراميل، بل وحتى تناول السمك النافق.
تسكن قردة الماكاك اليابانية بيئات واسعة التنوع، بدءا من الغابات شبه المدارية في كوشيما وصولا إلى غابات جبال الألب المغطاة بالثلوج في هونشو. ومن المنطقي جدا أن يكون لمثل هذا النوع القدرة على التأقلم مع البيئات المختلفة باكتشاف غذاء جديد، وابتكار طرق جديدة لتناوله، ونقل هذه العادات لأعضاء آخرين في المجموعة، وللأجيال القادمة من خلال نسله. بهذه الطريقة لا تفيد اكتشافات الأفراد المبتكرين مثل إيمو واختراعاتهم أفرادا آخرين في المجموعة فحسب، لكنها ستحفظ على مر الزمن لتوفر للأجيال القادمة التي ستعيش في الموطن نفسه حلولا جاهزة لتحديات الحصول على الغذاء التي تفرضها تلك البيئة بعينها.
في الواقع، رصدت عادات وتقاليد مشابهة - لبنات بناء الثقافة - بين أنواع أخرى عديدة من الرئيسيات؛ فقد تعلمت مجموعة من قردة الشمبانزي في غينيا، في غرب أفريقيا، أن تفتح القشرة الصلبة جدا لجوز الكولا والباندا باستخدام تقنية «المطرقة والسندان»، وقد انتقلت هذه التقنية الجديدة من أحد أجيال قردة الشمبانزي إلى الجيل التالي. كذلك رصدت أمثلة عديدة أخرى لعادات وتقاليد متمايزة لدى مجموعات قردة الشمبانزي البرية، منها استخدام أنواع مختلفة من الأدوات، وتقنيات تنظيف الجسد، وسلوكيات التحية مثل تشبيك الأيدي، حيث يرفع أفراد المجموعات نفسها أذرعهم ويشبكون أياديهم بعضها في بعض ومعاصمهم حين يلتقون. ومن الملاحظ أنه لا يوجد أي من هذه السلوكيات بوجه عام بين قردة الشمبانزي، وإنما يوجد لدى مجموعات محددة فقط. وهذا يخبرنا أن السلوك ينتقل بالتعلم وليس بعوامل جينية.
نعتبر أنه من المسلم به أن كل ثقافة بشرية لها عاداتها وتقاليدها المميزة، التي تورث من جيل للجيل الذي يليه، لكننا نادرا ما ندرك أن القدرة على الإتيان بسلوكيات جديدة - وتناقلها باعتبارها عادات وتقاليد مجموعة بعينها، من خلال المحاكاة - ليس مقصورا على البشر. كذلك رصدت عناصر مشابهة من ثقافة الحيوانات في الطبيعة بين الحيتان والأفيال والطيور، بل وحتى القوارض. لا شك أن العادات والتقاليد السائدة بين الحيوانات التي تعيش في جماعات، والتي هي بمثابة أسس الثقافة البشرية، ظهرت لأول مرة قبل وجود البشر على الأرض بملايين السنين.
ليس المقصود بهذا أننا البشر لسنا متفردين؛ فتفردنا الذهني والبدني عميق ولا سبيل لإنكاره، لكن العناصر التي تطور منها هذا التفرد ظهرت لا شك منذ زمن طويل في سلوك السعادين والقردة. أوجه الشبه الجسدية بين البشر والرئيسيات الأخرى واضحة، لكن أوجه الشبه السلوكية ليست دائما بهذا الجلاء؛ تضامن الجماعة ومبدأ الوطن، الروابط الاجتماعية التي تتوثق بفعل الأمومة والجنس والصداقة والتسلسل الهرمي الاجتماعي، مرونة المجتمع الانقسامي الاندماجي، مزايا الزواج من الأباعد، مبادئ الصيد والحروب والأدوات والأسلحة والعادات والتقاليد كلها موجودة بين الرئيسيات غير البشرية. هذه هي لبنات البناء الجينية للسلوك البشري، بدونها ما كان المجتمع البشري ليتطور، وما كان للعالم الذي نعيش فيه وجود.
الفصل الثاني
تقنية الحراب وعصي الحفر
انتصاب القامة والحركة على قدمين
ذات يوم، قرب الظهيرة، اعترتني دهشة شديدة عندما أبصرت أثر قدم حافية لبشر على الشاطئ، كان واضحا جدا بحيث يسهل تمييزه على الرمل.
دانيال ديفو، «روبنسون كروزو»
في مساء أحد أيام عام 1976، خرج عالمان للتنزه سيرا بعد يوم من العمل في موقع حفريات عمره 3,6 ملايين عام قرب القرية الأفريقية لايتولي في البلد الذي يعرف اليوم باسم تنزانيا. كان العالمان يتسليان بإلقاء كتل من روث الفيلة أحدهما على الآخر، حين تعثر أحدهما وسقط بوجهه على طبقة من الصخور كانت وحلا بركانيا في البداية منذ ملايين السنين، لكنها تجمدت منذ زمن بعيد لتصير نوعا من الملاط الطبيعي. وهناك، على بعد عدة بوصات من وجهه، كان هناك أثر لا تخطئه عين لقطرات مطر أحفورية.
كشف المزيد من البحث أن الوحل البركاني حمل أيضا آثار أقدام حيوانات متحفرة متعددة، وكشف التنقيب المتأني لهذه الطبقة البركانية على مدى عدة شهور عن آثار أقدام للعديد من حيوانات ما قبل التاريخ التي تراوح حجمها بين الفيلة والجرذان. وأخيرا بعد عامين من عمليات التنقيب الدءوبة واكتشاف المئات من آثار أقدام الحيوانات، توصل علماء الآثار في لايتولي إلى أحد أهم الاكتشافات في تاريخ علم الحفريات؛ أثر خطوات امتد ثمانين قدما، تركه شخصان، شخص بالغ وطفل، كانا يسيران معا عابرين الوحل البركاني منذ أكثر من ثلاثة ملايين سنة (انظر شكل
2-1 ).
1
شكل 2-1: أعطت آثار الأقدام في لايتولي دليلا جازما على أن الهومينيد الأوائل كانوا يمشون على قدمين طوال الوقت، وظلوا هكذا لملايين السنين. (حقوق الطبع والنشر © 2015م، جون ريدر. نسخت بتصريح.)
أعطت آثار الأقدام التي اكتشفت في لايتولي دليلا مباشرا قاطعا على أن الاعتماد الكامل على القدمين في الحركة - القدرة على الوقوف والسير والركض لفترات زمنية ممتدة وعبور مسافات طويلة باستخدام الساقين الخلفيتين فقط - قد ظهر قبل ما كان يفترض سابقا بملايين السنين. علاوة على ذلك، أكدت آثار الأقدام أن علماء الحفريات قد استنبطوا بالفعل استنتاجات صحيحة عن فصيلة أشباه البشر ما قبل التاريخ
2 (المصطلح العلمي التقليدي لكل بشر ما قبل التاريخ والعصر الحديث)، وإن كانت استنتاجاتهم حتى ذلك الحين قائمة على الدليل غير المباشر للتشريح البشري.
عدم وجود دليل ليس دليلا على عدم الوجود
أظهرت البقايا الأحفورية لأشباه البشر الأوائل أن عظام حوض هذه الأنواع القديمة وساقيها كانت مشابهة تماما لنظيرتها في تشريح بشر العصر الحديث ، وهذا أوحى بأن كل أشباه البشر الأوائل كانوا قادرين على شكل واحد على الأقل من أشكال الحركة على قدمين، لكن إلى أن اكتشفت آثار الأقدام في لايتولي، كان ثمة جدل علمي كبير حول ما إذا كان أشباه البشر الأوائل ساروا حقا منتصبي القامة تماما على غرار بشر العصر الحديث. أزكى هذا الجدل الانعدام الشبه التام لعظام أقدام أحفورية من اكتشافات أشباه البشر الأوائل، والحقيقة التي مفادها أن أقدم آثار أقدام أحفورية لأشباه بشر عثر عليها قبل عام 1978م كانت كلها عمرها أقل من مائة ألف عام، وهو الوقت الذي بحلوله كان الجسد البشري قد تطور بالفعل ليتخذ شكله الحديث تماما.
رغم أنه قد تم التعرف على عدة آلاف من آثار الأقدام الأحفورية التي تعود إلى فترات زمنية تقدر بملايين السنين، فإن كل آثار الأقدام هذه قد تركتها حيوانات أخرى، وليس أشباه بشر. في الواقع، العديد من أنواع الديناصورات - التي يتراوح حجمها بين كائنات أضخم من الأفيال وأخرى صغيرة في حجم الفئران - قد تركت الآلاف من آثار الأقدام في سجل الحفريات من فترات زمنية تتراوح بين 75 مليونا و250 مليون سنة خلت، وقد تركت العديد من هذه الديناصورات آثار أقدام أحفورية أكثر من بقايا هياكلها نفسها.
هل كانت الأدلة التشريحية المستقاة من الجمجمة والعمود الفقري والحوض وحدها كافية لاستنتاج أن أشباه البشر الأوائل قد ساروا حقا منتصبي القامة، رغم الغياب المحير لأي آثار أقدام واضحة للسير على قدمين في سجل الحفريات؟ لقد محيت هذه الشكوك تماما باكتشاف آثار أقدام في لايتولي؛ فقد أكدت آثار الأقدام هذه الحكمة القديمة القائلة بأن «عدم وجود دليل ليس دليلا على عدم الوجود». بعبارة أخرى، عدم وجود دليل مادي على حدث قديم ليس في حد ذاته دليلا أن هذا الحدث لم يقع فعلا. وهذا مرجح جدا حين يكون الدليل المعني قد أبلاه الدهر.
ابتليت دراسة تطور الإنسان مرارا حين قلل بعض العلماء بشدة من شأن القدم الحقيقي لبعض مراحل التطور المهمة؛ فعلى سبيل المثال، ذكر كتاب رائد في علم الإنسان عام 1948م أنه رغم ما يحدث أحيانا «من ادعاء أحد الأشخاص أن هذه الحفريات البشرية أو تلك [يتجاوز عمرها مليون سنة] ... لا يوجد بعد اكتشاف واحد لأي شيء من الأسلاف المباشرين للبشر ... موغل في القدم إلى هذا الحد.»
3
فإن علماء الحفريات متفقون الآن أن تطور البشر قد بدأ منذ خمسة ملايين سنة على الأقل.
على غرار ذلك كان يعتقد في الماضي أن صناعة الأدوات وتطوير الثقافات والتقاليد مقتصران على البشر، لكن برهن عمل جودول وآخرين الآن بلا شك أن أنواعا أخرى من الرئيسيات تظهر أدلة واضحة على صناعة الأدوات والثقافة؛ ومن ثم يمكن بثقة افتراض أن كلتا هاتين القدرتين وجدتا بين أنواع ما قبل التاريخ التي كانت تعيش قبل ظهور أشباه البشر الأوائل.
أخيرا، حتى نهاية القرن العشرين، كان مصدر جميع أقدم بقايا الأدوات الخشبية تقريبا هو البيئات الصحراوية، وكان عمرها أقل من خمسة عشر ألف سنة (الاستثناء الوحيد كان رأس حربة واحدة عثر عليها عام 1911م في كلاكتون في إنجلترا، وذلك في رواسب تعود إلى أربعمائة ألف عام مضت تقريبا، لكن كان هذا الاكتشاف مثيرا للجدل ولم يلق القبول التام)، إلا أنه في عام 1997م عثر في موقع يعود لعصور ما قبل التاريخ، في شونينجين في ألمانيا، على مجموعة من الرماح الخفيفة الخشبية الدقيقة الصنع، يعود تاريخها يقينا إلى أربعمائة ألف سنة مضت؛ مما يثبت أن صنع الأدوات الخشبية في عصور ما قبل التاريخ كان أقدم بكثير مما كان يعتقد على وجه العموم. «لوسي» وأشباه البشر الأوائل
في عام 1974م أخرج من الأرض هيكل أحفوري شبه كامل لأنثى أوسترالوبيثيكوس منتصبة القامة في أثيوبيا. هذا الاكتشاف لهيكل يعود تاريخه إلى أكثر من ثلاثة ملايين سنة حقق شهرة في الحال باسم لوسي، أقدم هيكل كامل يعثر عليه حتى ذاك الوقت، منتميا بلا لبس إلى السلالة البشرية. كانت لوسي أحد أفراد نوع أوسترالوبيثيكوس أفارينسيس، وهو أحد أوائل أنواع أشباه البشر الذين سكنوا أفريقيا في عصور ما قبل التاريخ. وقد أحدث اكتشافها ضجة؛ لأن حوضها وعظام ساقيها ومفصلي ركبتيها كانت جميعها مشابهة كثيرا لمثيلاتها لدينا، في دلالة على أن نوعها كان منتصب القامة تماما وقادرا على التنقل الكامل باستخدام القدمين.
أشباه البشر الأوائل مثل لوسي كانوا كائنات ضئيلة الجسم ذات بنية قوية، تقف وتسير وتعدو منتصبة القامة في يسر على الأرض كما نفعل. قد تظنهم من بعد أشخاصا قصيري القامة جدا، لكن عند الاقتراب منهم عن كثب أكثر ستلاحظ أن رءوسهم تشبه رءوس القردة - ذات جبهات قصيرة، وأسنان كبيرة، وعظام فك بارزة - وأجسادهم مغطاة بالفراء، وسواعدهم تبدو طويلة بالنسبة إلى أجسادهم، وتبدو أصابع أقدامهم طويلة بالنسبة إلى أقدامهم. بلغ طول الإناث نحو ثلاث أقدام ونصف، وبلغ وزنهن 75 رطلا تقريبا، أما الذكور فكان طولهم يزيد قليلا على أربع أقدام، ويبلغ وزنهم نحو خمسة وتسعين رطلا. كانوا يصنعون الأدوات والأسلحة، ويصطادون الحيوانات والطيور البرية ويقطعونها، ويعيشون في مجموعات أسرية ربما تشبه التي لدينا.
رغم أن نوع الأوسترالوبيثيكوس مثل لوسي كان لديهم إصبع القدم الكبيرة المستوية والمتجه باطنها إلى أسفل، كما هو الحال لدى أشباه البشر الحقيقيين، فإن أكتافهم الضيقة وأصابع أياديهم وأقدامهم الطويلة المقوسة تعطي دليلا واضحا على أنهم قضوا جزءا من حياتهم على الأقل على الأشجار، غير أن التحليل الكيميائي لعظامهم - وكذلك بنية أضراسهم - يشير إلى أن غذاءهم لم يقتصر على الطعام الموجود على الأشجار، وإنما شمل الموجود على الأرض كذلك، لكن ما داموا لم يعودوا يقتاتون بشكل رئيسي على الأوراق والفاكهة والجوز الموجودة على الأشجار، فلماذا احتفظوا بالعديد من الخصائص الجوهرية لبنيانهم المناسب لتسلق الأشجار؟ الإجابة الأرجح هي أن الأشجار وفرت أكثر الأماكن أمنا للنوم ليلا، حين كان أشباه البشر الأوائل عرضة لهجوم الضواري الضخمة في بيئتهم.
كان طول لوسي نحو ثلاث أقدام وست بوصات، ووزنها سبعين رطلا تقريبا، ولديها دماغ أكبر من دماغ الشمبانزي قليلا، وكانت تبدو من فوق الخصر كالقرد، لكن أسفل الخصر بدت مثل البشر، ما عدا أن جسدها بأكمله كان مغطى بالشعر على الأرجح. وكان حوض لوسي في طريقه ليتطور إلى التكوين المتين المعهود لدى بشر العصر الحديث والمتخذ شكل الحلقة، وهو الشكل المختلف اختلافا واضحا عن حوض القردة والسعادين الأكثر تفككا في تكوينه والأكثر استطالة في شكله.
كانت عظام ساقي لوسي طويلة ومستقيمة، مثل عظام سيقاننا، بمفصل ركبة منعقل؛ مما كان يمكنها من الوقوف لفترات طويلة دون إجهاد عضلات ساقيها، وكانت الأقدام الأحفورية التي استخلصت من اكتشافات الأوسترالوبيثيكوس الأخرى مثل أقدامنا أيضا، ذات قوس واضح المعالم ليعطي قوة دفع عند السير. كانت كل أصابع قدمي لوسي تأخذ الاتجاه نفسه - على عكس قدم القرد بإصبع قدمه الكبيرة المواجهة للأصابع الأخرى - مما يدل على أن أقدام أشباه البشر الأوائل لم تعد متكيفة على التشبث بفروع الأشجار، وإنما صارت بدلا من ذلك مثل أقدام بشر العصر الحديث متكيفة للجر والتحرك للأمام أثناء السير على الأرض. بالإضافة إلى كل هذه التغييرات التشريحية المهمة، فقدت لوسي ونوعها تماما سلاح الأسنان القوي - الأنياب الطويلة الحادة - الذي لدى ذكور كل أنواع الرئيسيات الأخرى (وبدرجة أقل إناث).
خسارة السلاح البيولوجي الوحيد لدى الرئيسيات - في نوع كان يقضي أغلب وقته على الأرض بين ضوار خطيرة مثل الأسود والنمور والضباع والكلاب البرية - نوحي بأن لوسي ومعاصريها، مع عدم قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم دون الأسلحة العضوية، كانوا لينقرضوا منذ زمن طويل إلا إن كان متاحا لهم نوع آخر من الأسلحة الفتاكة، غير أنه لم يعثر على بقايا ذلك السلاح قط من هذه الفترة الزمنية القديمة جدا، وأقدم الأسلحة الحجرية التي عثر عليها حتى الآن تعود لزمن بعد زمن لوسي بأكثر من مليون عام، فكيف لنا أن نفسر هذا التباين؟
مع وضع عادات قردة الشمبانزي البرية الموثقة جيدا في صنع الأدوات في الاعتبار، لم تكن على الأرجح أولى الأدوات والأسلحة مصنوعة من أحجار على الإطلاق، وإنما مركبة من فروع وأغصان وأوراق، ومواد أخرى ذات قابلية كبيرة للبلى، والتي لم يكن أي منها ليستطيع الصمود لأكثر من بضع عشرات السنين - فضلا عن ملايين السنين - في المناخ المداري الدافئ الرطب في أفريقيا ما قبل التاريخ. وفي هذه الحالة من المتوقع تماما غياب الأدلة.
علاوة على ذلك، كانت التغييرات التشريحية اللازمة لتطور القامة المنتصبة والحركة على قدمين في المقام الأول هائلة وجذرية وثورية بحق. لا تحدث تغييرات بهذا الحجم ما لم يكن ثمة مزايا واضحة من أجل البقاء على قيد الحياة للكائن الذي تحدث لديه، ولا بد أن ينتج عنها ارتفاع في معدلات البقاء على قيد الحياة حين تحدث هذه التغييرات. رغم ذلك حين تطور أشباه البشر الأوائل إلى انتصاب القامة والحركة على قدمين، كان عليهم مجابهة بعض المساوئ الواضحة جدا التي نجمت عن هذه التغيرات. سنستعرض أهم هذه المساوئ لاحقا في هذا الفصل.
إعادة تصميم جسم الثدييات بصورة جذرية
تطلب انتصاب القامة والمشي على قدمين اللذان حققتهما لوسي ونوعها تحولا كاملا في التشريح الذي لا يميز كل الرئيسيات فحسب، بل يميز كل الثدييات أيضا. شملت إعادة التصميم هذه تغييرات كبرى في الجمجمة والعمود الفقري والحوض والساقين والقدمين والتراكيب العضلية الهيكلية الأخرى، فأصبح يتعين لأول مرة على الساقين الخلفيتين وحدهما حمل الجزء العلوي من الجسم بالكامل، وهو الوضع الذي لم يكن موجودا من قبل قط بين أي من الثدييات المشيمية.
4
ما ميزة البقاء على قيد الحياة التي كانت قوية بما يكفي لتعيد تنظيم الطريقة التي يقف بها جسد الرئيسيات ويمشي ويعدو؟
فلنبدأ بالرأس. المكان الذي تتصل فيه الجمجمة بالعمود الفقري، المسمى الثقبة العظمى، كان لا بد أن ينتقل من خلف الجمجمة، حيث موقعه لدى كل الحيوانات الأخرى، إلى أسفل الجمجمة، حيث مكانه لدى البشر. خلافا لذلك، كان الوجه سيميل إلى الاتجاه لأعلى بدلا من أن يكون موجها إلى الأمام. العمود الفقري في كل الثدييات الأخرى يكون مدعوما من كلا الطرفين؛ إذ تدعم الساقان الأماميتان والكتفان وزن الرأس والربع الأمامي، بينما تدعم الساقان الخلفيتان والحوض وزن الذيل والربع الخلفي، لكن في الثدييات التي تسير على ساقين، يجب أن يدعم العمود الفقري والحوض وزن الجزء العلوي من الجسد بأكمله، شاملا الرأس والعنق، والساعدين والكتفين، والصدر والبطن، باختصار كل شيء ما عدا الساقين الخلفيتين نفسيهما. لإنجاز هذه المهمة يجب أن يكون العمود الفقري قويا بشكل كبير ومنحنيا على شكل الحرف
S ؛ ليضع مركز جاذبية الجسد بأكمله فوق الحوض مباشرة.
ولدعم وزن الجزء العلوي من الجسد بأكمله، كان على الحوض أيضا أن يخضع لعملية إعادة هيكلة رئيسية. وبما أن عظام الحوض الأكثر طولا ومرونة والتي تميز كل الرئيسيات الأخرى لم تكن مصممة لدعم وزن الجزء العلوي من الجسد كاملا لفترات زمنية طويلة، فقد صارت عظام الحوض أقصر وأسمك، والتحمت معا في تكوين واحد صلب حلقي الشكل. في الوقت نفسه صارت عظام الساقين الخلفيتين طويلة ومستقيمة، مع القدرة على الانعقال عند مفصل الركبة. أما الرئيسيات الأخرى فحين تقف على ساقيها الخلفيتين تنحني ركبتاها. تطور مفصلي الركبتين المنعقلين مكن أشباه البشر الذين يتحركون على ساقين من الوقوف بقامة منتصبة تماما لفترات زمنية طويلة دون تشكيل ضغط مستمر على عضلات الساقين.
أخيرا، تطلب الأمر تحول القدمين اللتين تقبضان على الأشياء وإصبع القدم الكبيرة المواجهة لبقية الأصابع، وهو خصيصة مألوفة لدى كل الرئيسيات الأخرى، تحولا كاملا. في مرحلة مبكرة جدا من تطور الإنسان، بدأ «إبهام» القدم فعلا تغادر مكانها من جانب القدم إلى المقدمة. إذا نظرت إلى إبهام القدم الخلفية لدى الشمبانزي أو الغوريلا، سترى أنها واقعة على جانب القدم مواجهة للأصابع الأخرى، مثل الإبهام في يد البشر. وهذا ضروري للتشبث بالساقين الخلفيتين عند تسلق فروع الأشجار، لكنه غير مناسب للسير على سطح الأرض المستوي. هكذا انتقلت هذه الإبهام القابضة من مكانها الأصلي المواجه لأصابع القدم الأربعة الأخرى إلى مكان جديد حين اصطفت مع أصابع القدم الأخرى؛ مما يتيح لأصابع القدم الخمسة كلها أن تكون في الاتجاه نفسه. في هذه المرحلة صارت إبهام القرد إصبع القدم الكبرى لدى الإنسان.
في الوقت نفسه استطال أخمص القدم مؤديا في النهاية إلى تطور قوس مميز، وصارت «أصابع» القدمين الخلفيتين أقصر، متحولة في النهاية لأصابع القدم الأربعة القصيرة والصغيرة لدى نوعنا، والتي لم تعد قادرة على التشبث بأي شيء، لكنها قادرة تماما على أداء وظيفتها الجديدة من سير وجري لمسافات طويلة على الأرض المنبسطة.
حين يحدث تطور جذري من الرأس لأخمص القدمين في البنية الأساسية لجسد حيوان ما بعد أن ظل يلبي احتياجات أسلافه لعشرات ملايين السنين، لا سيما إن كان التطور في فترة قصيرة من الزمن الجيولوجي، يمكننا افتراض تدخل عوامل تطور قوية، لكن ظل العلماء يحاولون الوصول إلى اتفاق بشأن ماهية عوامل التطور هذه. في الواقع، طرح عدد من النظريات المختلفة لتفسير السبب وراء شروع أسلافنا في التطور إلى وضعية القامة المنتصبة والحركة على قدمين غير المسبوقتين تفسيرا دقيقا.
سأطرح في هذا الفصل رؤيتي التي مفادها أن تقنية الرماح الخشبية وعصي الحفر - الابتكار الذي لا بد أنه قد بدأ مع قردة ما قبل التاريخ التي تمثل أسلاف أشباه البشر - هي التي أعطت مميزات هائلة للبقاء على قيد الحياة لدرجة تكفل أن تؤدي إلى التطور لوضعية انتصاب القامة بشكل كامل والحركة الفعلية على قدمين. هذا النهج في التفكير طرحه في الأصل تشارلز داروين، وقد دعمه منذ ذلك الوقت العديد من اختصاصيي علم الإنسان المعاصرين كما سنرى، لكن أولا دعونا نستعرض النظريات المتنافسة المتنوعة، ونذكر بإيجاز نقاط ضعف كل منها.
عاش أشباه البشر الأوائل فترة في أفريقيا عصور ما قبل التاريخ حين كانت الغابات تتناقص والمروج تتوسع، وكان يعتقد لوقت طويل أن الحركة على قدمين تطورت في المقام الأول للتكيف مع بيئة حشائش السافانا الأكثر جفافا التي تتسم بمروج تتناثر فيها أشجار متفرقة، والتي كانت تنتشر في أرجاء أفريقيا الاستوائية، وكان يفترض أن السير والركض على ساقين قد مكن أسلاف لوسي من مغادرة بيئتهم الحرجية الأصلية، والرؤية بوضوح أكثر من فوق الحشائش، واجتياز مسافات أكبر وأكبر على الأرض المنبسطة.
5
تعرف هذه باسم «الفرضية القائمة على السافانا»، إلا أنه ثمة مشكلات كبرى في هذه النظرية.
فأولا: كل الأنواع الأخرى التي تعيش على المروج - بما في ذلك الحيوانات العاشبة مثل الظباء والحمر الوحشية، وكذلك اللاحمة مثل الأسود والضباع - هي من ذوات الأربع دون استثناء (في الواقع، كل الثدييات التي تعيش على اليابسة ما عدا أشباه البشر هي من ذوات الأربع). وثانيا: لم يتخذ وضعية القامة المنتصبة أي من الرئيسيات الأخرى التي انتقلت هي الأخرى للحياة على الأرض (من بينها قردة البابون والميمون والفرفت والباتاس)، لكنها بدلا من ذلك نجحت في التكيف مع الحياة في المروج، وهي ما زالت محتفظة بالسير على قوائمها الأربعة.
ثالثا: أقدم دليل تشريحي على الحركة على قدمين يأتينا من بقايا حفرية لكائن شبيه بالقرد يدعى أرديبيتيكوس، الذي ظهر منذ ستة ملايين سنة تقريبا، قبل نشأة لوسي بمليوني عام. وفي انتكاسة كبرى للفرضية القائمة على السافانا، أثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الأرديبيتيكوس عاش ومات في بيئة حرجية، ولم يسكن قط المروج على الإطلاق.
اكتشفت بقايا الأرديبيتيكوس الحفرية لأول مرة في وادي الأواش في أثيوبيا عام 1992.
6
ويبدو بوضوح أن قدميه هما قدما حيوان شجري، ذواتي أصابع طويلة مرنة وإصبع قدم كبيرة مواجهة لباقي الأصابع بما يتلاءم مع التشبث بفروع الأشجار. بيد أنه رغم أن الأرديبيتيكوس لم يكن قد فقد بعد القدرة على تسلق الأشجار مثل القردة، إلا أن سمات حوضه وعظام ساقيه دلت على أن وضعية انتصاب القامة كان في مرحلة التطور، قبل أن تجوب لوسي وأشباه البشر الأوائل الآخرون مروج السافانا الأفريقية بزمن طويل.
بسبب مشكلات النظرية القائمة على السافانا، طرحت في السنوات الأخيرة طائفة من النظريات البديلة التي كثيرا ما كانت متضاربة لتفسير تطور وضعية انتصاب القامة والحركة على قدمين، ولكل من هذه النظريات داعموها ومنتقدوها من العلماء، والعديد منها يصف آليات تطور معينة لعبت دون شك دورا في تطور الحركة على قدمين، لكن لا يبدو أن أيا من هذه الآليات ينطوي على مزايا البقاء على قيد الحياة، التي كانت ضرورية من أجل إعادة الهيكلة الجذرية لتشريح الرئيسيات الذي اقتضته الحركة على قدمين.
تقترح «فرضية المدد» أن الصيادين الذكور احتاجوا إلى أياد متحررة لحمل صيدهم عند رجوعهم إلى مساكنهم من أجل الإناث والأبناء.
7
إلا أن هذا لا يفسر الحقيقة التي تفيد بأن ثمة ثدييات ضارية أخرى تعود باللحم لأبنائها بحمله في أفواهها ببساطة. رغم أن هذا السلوك ربما كان يحتاج تعديلا تطوريا (حيث إن الرئيسيات نادرا ما تستخدم أفواهها لحمل الأشياء)، فإنه لم يكن ليتطلب إعادة تشكيل كامل في تشريح الرئيسيات.
وتشير «فرضية التحميل الحراري» إلى أنه بوقوفهم منتصبي القامة، كان أشباه البشر الأوائل يعرضون مساحة أصغر من أجسادهم للشمس المدارية الحارقة؛ وبذلك كانوا يستطيعون الحفاظ على أجسادهم أكثر برودة حين يضنيهم العمل في العراء.
8
لكن بالإضافة إلى أن هذا لا يفسر سبب عدم تبني أي حيوانات مدارية أخرى استراتيجية مماثلة مطلقا، لا بد أن نتذكر أن الحركة على قدمين بدأت لأول مرة مع الأرديبيتيكوس، الذي عاش بدرجة كبيرة في ظلال الغابات المدارية.
أما «فرضية الاستعراض من أجل الترهيب» فتقترح أن الأفراد (الذكور بوجه خاص) الذين كانوا يستطيعون تهديد الآخرين عن طريق الوقوف كثيرا في وضعية القامة المنتصبة كانوا أكثر هيمنة؛ وبذلك كانوا يتفوقون جنسيا على الأفراد الذين كانوا يقفون في وضعية منتصبة عددا أقل من المرات.
9
لكن هذه النظرية تعجز عن تفسير سبب عدم اتخاذ الغوريلا والدببة والأنواع الأخرى التي تهدد أيضا خصومها بالوقوف منتصبة القامة نمط الحركة على قدمين قط.
وتشير «فرضية وضعية تناول الطعام» إلى أن السير على قدمين مكن قردة ما قبل التاريخ من الوقوف منتصبين أثناء جمع الفاكهة دانية القطوف بكلتا اليدين، بدلا من التدلي من فرع بيد والجمع باليد الأخرى.
10
إلا أنه يبدو مستبعدا أن يمنح هذا الأمر ميزة قوية للبقاء على قيد الحياة لدرجة تؤدي إلى التغييرات التشريحية الهائلة التي استوجبتها الحركة على قدمين. علاوة على ذلك، لا يقتصر جوهر الحركة على قدمين على الوقوف بانتصاب فحسب، وإنما السير والعدو على ساقين أيضا؛ إذ تستطيع القردة والسعادين والدببة والقنادس وكلاب البراري والسرقاطات وثدييات أخرى عديدة أن تقف منتصبة القامة بسهولة، لكن أشباه البشر متكيفون بصفة خاصة مع الحركة على قدمين.
نقطة الضعف الرئيسية في هذه النظريات هي عدم تفسير أي منها سبب اختفاء الأنياب الكبيرة التي لدى أسلافنا من الرئيسيات في الوقت نفسه الذي تطورت فيه الحركة على قدمين. بدلا من ذلك، تفسر دائما خسارة الأنياب الكبيرة بين أشباه البشر ب «فرضية تراجع العداء بين الذكور»، التي تفترض أن الأنياب الكبيرة اختفت لمنع الذكور البالغين من أشباه البشر من الاستغراق في عراك مميت؛ لأن هذا كان من الممكن أن يتعارض مع قدرتهم على أن يتعاونوا ويصيروا صيادين أكثر كفاءة.
11
إلا أن الأسود والذئاب والضباع وقردة الشمبانزي والعديد من الأنواع الأخرى التي تتعاون في الصيد لم يحدث تراجع أو تناقص فيما لديها من أسلحة بيولوجية، كما أن الذكور من البشر قادرون تماما على كل من التعاون عن كثب والتنازع العنيف بعضهم مع بعض، ولم يمنع عدم وجود الأنياب الكبيرة ذكور البشر من الانخراط في صراع عنيف على امتداد التاريخ البشري بأسره، وبدلا من استخدام أسنانهم في قتل بعضهم بعضا يستخدمون أسلحتهم الفتاكة فحسب.
هكذا يظل السؤال دون إجابة. كيف استطاع أي من أشباه البشر الأوائل العيش لملايين السنين في بيئة مليئة بالضواري الكبيرة والخطيرة دون أي وسيلة فعالة للذود عن نفسه؟
اختفاء الأنياب الكبيرة
أنياب الأرديبيتيكوس راميدوس - أقدم نوع يعطي هيكله دليلا على الحركة على قدمين - كانت قد تقلصت بدرجة كبيرة مقارنة بأنياب أسلافه. وبحلول زمن لوسي وأشباه البشر الأوائل، كانت الأنياب الكبيرة القاتلة الشبيهة بالأسلحة التي لدى كل أنواع الرئيسيات الأخرى قد اختفت تماما، ولم تظهر ثانية لدى أشباه البشر.
في الواقع، لاحظ أحد أعضاء الفريق الذي فحص موقع الأرديبيتيكوس راميدوس أن تقلص أنياب الذكور كان منذ ستة ملايين عام.
12
بدأ فقد الأنياب الشبيهة بالأسلحة قبل ظهور لوسي بملايين السنين، ومع حلول زمن أشباه البشر الأوائل كانت تلك الأنياب الكبيرة قد اختفت تماما، وهي السلاح العضوي الوحيد الذي حازته الرئيسيات خلال تاريخها كاملا الذي امتد خمسين مليون عام.
لا تجد لدى السعادين أو القردة أو أشباه البشر مخالب أو قرونا أو حوافر أو أنيابا خارجية، لكن كلها لديها أنياب كبيرة يمكنها بها إيقاع إصابة مؤلمة بل ومميتة بخصمها، إلا أن حفريات الأوسترالوبيثيكوس ليس لديها سوى أنياب صغيرة غير حادة مسطحة، ربما لم تكن قادرة على منافسة الأسلحة العضوية الخطيرة التي يمتلكها أعداؤها الطبيعيون (انظر شكل
2-2 ).
شكل 2-2: قارن بين الناب غير الحاد القصير لدى الهومينيد القديم، الأوسترالوبيثيكوس أفارينسيس (يسارا)، والأنياب الشبيهة بالأسلحة لدى أقرب أقاربنا، الشمبانزي (يمينا). (حقوق نشر الصورة إلى اليسار لعام 2014م محفوظة لشركة «سكالداجري إنك». نسخت بإذن. حقوق نشر الصورة إلى اليمين لعام 2014م محفوظة لبرنامج التوعية العلمية، التابع لجامعة «كانتبري»، كرايستشيرش، نيوزيلاندا. نسخت بإذن.)
علاوة على ذلك، لدى كل من القردة والسعادين قدرات فائقة على تسلق الأشجار تمكنها من الارتقاء عاليا لقمم الأشجار، بعيدا جدا عن متناول أعدائها الطبيعيين مثل القطط الكبيرة، لكن السيقان الطويلة المستقيمة وأصابع القدم المنكمشة لدى الأوسترالوبيثين وأنواع أشباه البشر الأخرى التي أعقبتها ربما أضعفت قدرتها على التسلق هربا من الخطر؛ مما كان يجعلها أكثر عرضة لأعدائها الطبيعية.
لا تختفي آليات الدفاع الطبيعية لدى الأنواع إلا حين تصبح غير ضرورية لبقائها على قيد الحياة؛ فرغم أنه بإمكان الرئيسيات بالطبع إلقاء الأحجار، فإن الحجر الثقيل لدرجة تكفي لإحداث ضرر حقيقي بأحد الضواري الكبيرة سيكون ثقيلا لدرجة تجعل رميه من مسافة بدقة كبيرة أمرا بالغ الصعوبة. كذلك، كم حجرا يستطيع أحد أشباه البشر رميه خلال الوقت الذي يستغرقه الأسد حتى يشن هجوما؟ تستطيع الهراوات الغليظة المصنوعة من الفروع الكبيرة أن تهشم جماجم الأعداء، لكن من على مسافة قريبة فقط. وإذا اقتربت بقدر كاف من حيوان ضار لتضربه على رأسه بهراوة، فربما يدنو منك بدرجة كافية لينهشك بمخالبه وينشب أنيابه في عنقك، إلا إن كنت قد أجهزت عليه بضربة واحدة. كيف استطاع إذن أشباه البشر الأوائل مباراة «طبيعة لا تأخذها رحمة ولا شفقة» دون أسنان أو مخالب لرد العدوان، في وقت كان كل ما يمتلكونه للذود عن أنفسهم هو «أياديهم المجردة»؟
الإجابة الأرجح تتمثل في أن أيادي أشباه البشر الأوائل لم تكن مجردة؛ فلا بد أنهم كانوا يحملون أسلحة، ولا بد أن الأسلحة التي صنعوها للهجوم على كل من الضواري والفرائس كانت متفوقة على الأنياب الكبيرة التي كانت لدى أسلافهم من الرئيسيات، لدرجة أنه لم يعد من الضروري امتلاك سلاح فعال من الأسنان.
13
وكما رأينا في الفصل الأول، استخدام التقنية ليس مقصورا على أشباه البشر؛ فقد شوهدت بعض قردة الشمبانزي البرية وهي تصنع رماحا بدائية تستخدمها في قتل فرائسها؛ لذا من المرجح للغاية أن تكون قردة ما قبل التاريخ حين بدأت صنع الرماح، قد أطلقت العنان لقوى التطور التي نتج عنها في النهاية قرد منتصب القامة تماما ويتحرك على قدمين.
تميل القردة بشدة إلى السير على قوائمها الخلفية حين تحمل أشياء في يديها (انظر شكل
2-3 ). كان تعزيز القدرة على السير والوقوف على القائمتين الخلفيتين ميزة تطورية قوية لقردة ما قبل التاريخ التي استخدمت أسلحة ثورية - العصا الطويلة المدببة، أول رمح بدائي - يمكن استخدامها في مهاجمة حيوان آخر من على بعد.
شكل 2-3: البونوبو، أقرب أقاربنا من الرئيسيات، يستطيع الوقوف والسير منتصبا حاملا أشياء بساعديه، لكن تدل ركبتاه المحنيتان على أن ساقيه قد صممت للحركة على أربع. (حقوق النشر محفوظة لفرانس لانتينج
Lanting/www.lanting.com .)
لا بد أن الرماح غيرت لعبة الصيد والدفاع تماما؛ لأن الرماح الطويلة يمكن استخدامها بقوة فتاكة مع بقاء الصيادين في أمان بعيدا عن متناول أسلحة فرائسهم العضوية. فإذا كانت مجموعة من الصيادين تستطيع طعن حيوان برماح يبلغ طولها عدة أقدام، فقد يموت دون أن يقترب مطلقا بالقدر الذي يكفي لاستخدام أسلحته العضوية مع مهاجميه.
كتب داروين في «أصل الإنسان» قائلا: «ربما كان أسلاف الإنسان الأوائل ... مزودين بأنياب كبيرة، لكن مع اكتسابهم عادة استخدام الأحجار أو الهراوات أو أسلحة أخرى في مقاومة أعدائهم أو خصومهم، قل استخدامهم لفكوكهم وأسنانهم. وفي هذه الحالة كان سيتضاءل حجم الفكوك مع الأسنان.»
14
وكتب سي لورينج بريس اختصاصي علم الإنسان الطبيعي في عمله الكلاسيكي «مراحل التطور البشري»، وقال: «يمكننا أن نخمن أن التمكن من استخدام عصا مدببة كان العنصر الحاسم الذي أدى إلى التغيير في القوى الانتقائية الذي نتج عنه كائن يسير على قدمين ويستخدم الأدوات ... ويمكننا أن نضيف أن ... عصا الحفر المعاد استخدامها في غرض آخر هي سلاح دفاع أكثر فاعلية حتى من الناب المريع الذي لدى ذكر البابون العادي؛ فبرغم كل شيء، يتعين على قرد البابون حتى يستخدم أنيابه استخداما فعالا أن يواجه خصمه حرفيا، وإن كان ذلك الخصم نمرا جائعا وزنه 200 رطل، ففرصة ... البابون في النجاة دون أذى ... ضعيفة.»
15
صاغ روبرت بيتس جرابر اختصاصي علم الإنسان أحدث تعبير عن هذا النهج من التفكير، وقد كتب يقول في عام 2000: «أولى الأدوات الحجرية، مثل أدوات قردة الشمبانزي، كانت مصنوعة دون شك من مادة أكثر مرونة من الحجر ... من المحتمل تماما بالطبع أن العصي المدببة - التي اعتمد عليها بدرجة كبيرة جامعو الطعام من البشر من أجل البقاء على قيد الحياة، باعتبارها عصي حفر ورماحا، لكنها غير مألوفة بين السعادين والقردة - ربما كانت هي الأداة التي رجحت كفة القامة المنتصبة بشكل قاطع في ميزان الانتقاء الطبيعي.»
16
لعبت القدرة على حمل واستخدام رمح طويل بدرجة تكفي لمهاجمة حيوان آخر وقتله بعيدا عن مدى أسلحته العضوية دورا كبيرا في البقاء على قيد الحياة؛ فبمجرد أن تبنى أسلاف أشباه البشر تقنية الرماح أصبح لدى الأفراد الذين استطاعوا الوقوف بثبات على قوائمهم الخلفية - أثناء الوخز بالرمح بأطرافهم الأمامية ورميه - ميزة واضحة على منافسيهم. وكلما استطاع هؤلاء الأفراد البقاء واقفين لمدة أطول، واستطاعوا السير والعدو لمسافات أبعد، وصارت الأسلحة التي يمكنهم حملها أضخم وأثقل؛ كانت قدرتهم على الدفاع عن أزواجهم وأبنائهم ضد الهجمات من الضواري المحتملة أكثر فاعلية، وزادت كمية اللحم التي يستطيعون العودة بها ليتقاسموها مع أعضاء آخرين في المجموعة. لكل هذه الأسباب كان دور الرماح المصنوعة في التمكين من البقاء على قيد الحياة كافيا ليأتي بهذه التغييرات التشريحية الكبرى الضرورية ليتطور حيوان يمشي على أربع إلى حيوان يمشي على قدمين.
رصدت سلوكيات من النوعية التي قد تكون قد أدت إلى استخدام الرماح بين قردة الشمبانزي والغوريلا، من تحطيم فروع الأشجار والتلويح بها كثيرا أثناء الاستعراض التهديدي، كما أشرنا في الفصل الأول. يمكن سن الخشب المرن للفروع النضرة بسهولة؛ وذلك بحكه ببروز صخري أو اللحاء الخشن لبعض الأشجار المدارية. وقد شوهدت قردة الشمبانزي البرية، في السنغال في غرب أفريقيا، وهي تصنع رماحا خشبية بنزع الفروع واللحاء عن عود خشب مستقيم، وتسن أحد طرفيه بأسنانها، وتستخدمه في قتل حيوانات الجلاجو، بطعنها في فجوات الأشجار وهي نائمة.
لكن إذا كان عدد كبير من الأنواع التي عاشت في عصور ما قبل التاريخ قد صنعت الرماح وعصي الحفر واستخدمتها لملايين السنين، فلماذا لم يعثر على بقايا هذه الأدوات والأسلحة الخشبية في المواقع الأثرية التي تعود إلى هذه الفترات الزمنية؟ هذه إحدى الحالات الكلاسيكية التي يكون فيها «عدم وجود الدليل ليس دليلا على عدم الوجود»، تلك الظاهرة التي ذكرتها في المقدمة.
لفترة طويلة ظل أقدم ما عثر عليه من الأدوات الأثرية التي صنعها البشر من الخشب لا يتعدى عمرها بضعة آلاف السنوات، واختلف علماء الآثار بشدة حول عمر هذه القطع، لكن لوقت طويل ظلت وجهة النظر السائدة هي أن صنع الأسلحة الفتاكة من الخشب - واستخدام هذه الأسلحة في التعاون على صيد الحيوانات الكبيرة - لم يبدأ قبل ظهور الإنسان الحديث تشريحيا منذ ما يقرب من 50 ألف عام.
لذلك كانت صدمة للأوساط العلمية عام 1997م، حين استخرج أخيرا من أحد السبخات القديمة في شونينجين في ألمانيا عدة رماح خشبية خفيفة دقيقة الصنع ومتوازنة تماما عمرها نحو 400 ألف عام، لكن بسبب الطبيعة الشديدة الحمضية لهذه السبخات وانعدام الأكسجين فيها فقد «تخلل» الخشب بالمعنى الحرفي للكلمة؛ مما حفظ تلك الرماح من التآكل البكتيري. كانت رماح شونينجين من صنع الإنسان المنتصب القامة، أحد البشر الناشئين، الذي استخدمها فيما يبدو لصيد الخيل البرية قبل ظهور الإنسان الحديث بزمن طويل.
صنعت رماح شونينجين من خشب أشجار الطقسوس المعالج بالنار، ولم تتطلب صناعتها قطع أشجار كبيرة الحجم فحسب، وإنما انتزاع الجزء الأكثر مرونة من جذع الشجرة من الخارج للكشف عن خشب القلب الأكثر صلابة بالداخل . وكان من الضروري حينذاك أن يقوى طرف الرمح في النار. وكانت هذه عملية دقيقة، ولا بد من إجرائها دون تفحم الخشب.
كان من الضروري أيضا جعل الطرف الأمامي من الرمح الخفيف أسمك وأثقل من الطرف الخلفي، تماما مثل الرماح الحديثة التي تصنع الآن. ومما يلفت النظر أن مركز الجاذبية في رماح شونينجين يقع عند الثلث الأول من مقدمة الرمح بالضبط، وهي نقطة التوازن الأمثل للإلقاء به، بل ومطابقة لنقطة التوازن في الرماح الخفيفة الحديثة المستخدمة حتى اليوم. هذا السلاح المعقد - الذي يعطي دليلا واضحا على التخطيط المتقدم والمعرفة التقنية الدقيقة في الأعمال الخشبية - صنعه الإنسان الناشئ، الإنسان المنتصب القامة، الذي عاش قبل إنسان النياندرتال بزمن طويل، وكان دماغه أصغر من أدمغتنا بدرجة كبيرة. ولم يكن ذهن الإنسان المنتصب القامة ليتفتق عن المعرفة الدقيقة بالأعمال الخشبية، المشتملة على عمليات معقدة متعددة الخطوات، فجأة في أكمل صورها؛ فهي بالأحرى نتاج التراكم البطيء للمعرفة عبر آلاف الأجيال، التي تعود لما قبل ظهور هؤلاء البشر الناشئين إلى فجر أشباه البشر الأوائل.
لقد ثبت أن فقدان كل ثنائيات الأقدام التي عاشت في عصور ما قبل التاريخ سلاح الأسنان كان نهائيا؛ فلم يستعد أي من أشباه البشر الأوائل الأنياب الكبيرة الخطيرة التي كانت لدى أسلافهم فيما قبل التاريخ. حين تبنت أحد أمم قردة ما قبل التاريخ القديمة تقنية صناعة الرماح واستخدامها، صارت استراتيجية للصيد والدفاع تفوقت بنجاح على السلاح العضوي لدى كل من الضواري والفرائس التي عاشت في تلك البيئات السابقة على التاريخ.
وبمجرد أن صارت الساقان الخلفيتان قادرتين على تحمل مسئولية الحركة بالكامل، أصبحت الساقان الأماميتان حرتين في تلبية أغراض أخرى؛ فقد أمكن استخدامهما في صنع الأدوات والأسلحة، وأمكن استخدامهما في حمل هذه الأدوات والأسلحة من مكان لآخر. كان أشباه البشر الذين يمشون على قدمين قادرين على استخدام أياديهم وسواعدهم الحرة في نقل أحمال ثقيلة نسبيا - مثل غنائم الصيد أو كمية من الفاكهة الناضجة - من مكان لآخر؛ مما مكنهم من جلب الطعام الذي أصابوه في أماكن بعيدة عند العودة إلى مقر الجماعة، كما افترضت فرضية المدد. وكانت التقنية الأساسية نفسها - في شكل عصا حفر - تستخدم أيضا في جمع الطعام المدفون في الأرض. في مجتمعات الصيد وجمع الثمار، كانت النساء يستخدمن مثل تلك العصي بصفة دورية في الحفر للوصول إلى الجذور والأبصال والدرنات وأعشاش النمل الأبيض وجحور الحيوانات الصغيرة، وكذلك لإسقاط الجوز والفاكهة من أطراف فروع الأشجار التي كانت نحيلة لدرجة يستعصي معها تسلقها.
أخيرا، يبدو أن تقنية الرماح وعصي الحفر لم تبعث على تطور المشي على قدمين فحسب، وإنما كانت مسئولة في النهاية عن تطور البشرية نفسها. رغم ما قد يبدو عليه هذا الزعم من غرابة، فمن المحتمل جدا أن تكون الهيئة البدنية النادرة والمحببة جدا والمحتفى بها كثيرا للجسم البشري ترجع في أصلها لمجموعة من القردة القديمة - التي ضاعت منذ زمن بعيد في غياهب ما قبل التاريخ - والتي كانت أول من أتقن استخدام الإمكانيات الاستثنائية للعصي الطويلة الحادة في الهجوم والدفاع وجمع الغذاء.
لكن التحول إلى القامة المنتصبة والحركة على قدمين قد فرض بعض القيود المهمة على قدرة إناث بشر ما قبل التاريخ على صيد الحيوانات الكبيرة. ربما كانت هذه القيود ذاتها هي التي نتج عنها ظهور تقسيم فريد للعمل قائم على النوع الجنسي بين البشر، وهو تقسيم العمل الذي لا تجد له وجودا في أي أنواع أخرى من الحيوانات.
الصيد وأعباء الأمومة لدى إناث أشباه البشر
بمجرد أن تبنى أشباه البشر الأوائل التقنية التي شملت أدوات وأسلحة مصنوعة من الخشب، بدءوا يستخدمون أسلحتهم الفتاكة في صيد حيوانات أخرى وقتلها من أجل لحومها، وبقيامهم بهذا ابتكروا تكيفا بشريا بيئيا فريدا - أسلوب حياة عرف بالصيد وجمع الثمار - مارسه كل عضو في النسل البشري حتى بدأ البشر تبني تقنية الزراعة منذ اثني عشر ألف عام تقريبا، لكن على عكس إناث كل الأنواع الضارية الأخرى تعارضت متطلبات الصيد مع أعباء الأمومة الثقيلة بين أشباه البشر.
في كل الأنواع الضارية الأخرى تشارك الإناث الذكور على قدم المساواة في كل جوانب الصيد، وفي بعض الأنواع - منها على وجه الخصوص تلك اللاحمات الشهيرة، الأسود الأفريقية - تتفوق الإناث على الذكور في نوعية فرائسها وكميتها؛ فتستطيع اللبؤات فعل ذلك لأن صغارها تكون مخبوءة بأمان في أعشاش وجحور، حيث لا تتدخل في الصيد أو تتعرض للإصابة في موقع هجوم قاتل. وينطبق الأمر نفسه على كل إناث الضواري الأخرى، مثل الفهود والنمور والذئاب والدببة والثعالب وابن عرس والحيتان القاتلة وخنازير البحر والفقمات والنسور والصقور والبوم والأبواز، وغيرها.
أما إناث أشباه البشر فيتعين عليهن أن يراقبن صغارهن عن كثب دائما، وليس من المنطقي أن يستخدمن عصيا حادة كأسلحة أثناء حمل أطفالهن بين أذرعهن؛ بناء على ذلك كانت إناث أشباه البشر يستخدمن أدواتهن الطويلة الحادة كعصي حفر ليخرجن من الأرض الجذور والدرنات القابلة للأكل التي يستعصي على القردة والسعادين بدرجة كبيرة الوصول إليها، بل من المحتمل أن تكون الإناث هن من اخترع تلك العصي الحادة في الأصل لجمع الغذاء الموجود تحت الأرض، ولم يتبنها الذكور للصيد إلا لاحقا. في كلتا الحالتين سمحت هذه التقنية البدائية لكلا الجنسين بتوسيع نطاق الغذاء المتاح لهم بدرجة كبيرة. ومع رسوخ هذه التغييرات تبنى أشباه البشر نوعا آخر غير مألوف مطلقا من سلوكيات الحصول على الغذاء: كان كل من الذكور والإناث يحضرون شتى أنواع الطعام إلى مقرهم المشترك في نهاية اليوم، حيث تتقاسم الإناث ثمرات مجهودها ويتقاسم الذكور غنائم صيدهم. «أشباه البشر هم النوع الحيواني الوحيد الذي يصطاد فيه الذكور وتبحث فيه الإناث عن الغذاء، وكلا الجنسين يتقاسمان مختلف أنواع الغذاء التي يحصلون عليها.» علاوة على ذلك، يرتبط هذا النمط الفريد من اقتسام الطعام بين الجنسين ارتباطا وثيقا بتوفر العلاقات الجنسية المفتوحة بصفة شبه مستمرة لدى أشباه البشر. حتى نفهم كيف تطور هذا النمط غير المألوف للغاية، من الأهمية أن ندرك الأعباء الجسيمة للأمومة المرتبطة بتوالد أشباه البشر؛ فهذه ليست أشق أعباء للأمومة بين كل أنواع الرئيسيات فحسب، لكنها أيضا الأثقل بين أعباء الأمومة لدى كل إناث الثدييات.
حين تلمس بإصبعك كف طفل مولود حديثا، سيقبض على إصبعك بقوة مدهشة. منعكس القبض هذا، الذي يختفي في الأسابيع الأولى من العمر، هو بقايا غريزة قوية ورثناها من أسلافنا من الرئيسيات؛ فقد كان الغرض الرئيسي منه هو ضمان أن يظل كل وليد من الرئيسيات متعلقا بفراء أمه بإصرار دائم، بما أن الاتصال الجسدي المستمر بأمه هو الملجأ الوحيد للأمان وشيء مهم لبقائه على قيد الحياة. هكذا يتعلق وليد الرئيسيات بجسد أمه بأطرافه الأربعة خلال الأسابيع الأولى من حياته، معلقا بخاصرتها بالمقلوب مثل حيوان الكسلان وهو يتدلى من غصون الأشجار. وحتى بعد انتهاء مرحلة الطفولة، يظل طفل الرئيسيات شهورا يمتطي ظهر أمه أو كتفيها - أو سنوات حتى في بعض الحالات - قبل أن يتعلم أخيرا أن يتحرك وحده في أمان.
رابطة الأمومة تكون في أقوى حالاتها لدى الرئيسيات لأنها مقدر لها أن تعيش على الأشجار، حيث يتعرض أطفالها على الدوام لخطر السقوط فتلقى حتفها؛ لذا لا بد أن تكون أمهات الرئيسيات من لحظة الميلاد على اتصال بدني وثيق بصغارهن أينما ذهبن. وفي هذا تناقض صارخ مع أغلب الثدييات التي تعيش على الأرض، التي إما تخفي صغارها في جحور (مثل الأرانب والثعالب)، وإما تستطيع السير منذ يوم ولادتها (مثل الخيل والأفيال). منعكس القبض لدى رضيع الرئيسيات يتيح لأنثى السعدان أو القرد استخدام الأطراف الأربعة كلها في الحركة وجمع الطعام؛ إذ لا تضطر لحمل رضيعها لأنه يتشبث بها بنفسه. هكذا تستطيع التسلق والقفز وقطف الثمرات والفرار من أعدائها والتأرجح من فروع الأشجار، مستخدمة أطرافها الأربعة القوية كلها، شاعرة بالطمأنينة لمعرفة أن طفلها متعلق بها مثل البرنقيل ولن يتركها أبدا.
هكذا يعيش طفل الرئيسيات في اتصال جسدي حميم مع أمه طوال الشهور أو السنوات الأولى من حياته، والرابط الناشئ بين الأم والطفل في الرئيسيات نتيجة لهذا الاتصال الجسدي المستمر ليس قويا فحسب، وإنما تنفرد به الرئيسيات أيضا. العلماء الذين يدرسون سلوك القردة والسعادين في الحياة البرية لاحظوا العديد من العلاقات الممتدة طوال العمر بين الأمهات والأبناء - خاصة بين أقرب أقربائنا، قردة الشمبانزي - ومثل هذه العلاقات نادرة أو معدومة في الأنواع الحيوانية الأخرى.
أما أطفال أشباه البشر الأوائل فلم يكونوا قادرين على التعلق بفراء أمهاتهم بالطريقة نفسها؛ فقد كانت إصبع القدم الكبيرة المواجهة للأصابع الأخرى قد دارت لأسفل من أجل حركة أكثر كفاءة على القدمين، ولم تعد أقدام رضع أشباه البشر الأوائل قادرة على التشبث بفراء أمهاتهم؛ فبعد أن أصبح لرضع أشباه البشر الأوائل يدان فقط للتشبث بدلا من أربع زادت عدم قدرتهم على التشبث بأمهاتهم، واحتاجوا بدلا من ذلك إلى دعم دائم من ذراعي أمهاتهم.
كذلك زادت القامة المنتصبة كثيرا من أعباء الحمل؛ فالحمل لدى الحيوانات ذوات الأربع يزيد الوزن، لكنه لا يغير مركز الجاذبية في جسد الأم، لكن في حالة أشباه البشر المنتصبي القامة يبدل الحمل مركز جاذبية الجسم للأمام، متطلبا من الأم الميل للخلف أكثر فأكثر مع تطور الحمل لتعويض ذلك.
يندر الصيد بالافتراس نسبيا بين السعادين والقردة، لكنه يحدث بين قردة الشمبانزي والبابون، حيث تقوم به عادة مجموعات من الذكور المتعاونين. تفيد كل هذه العوامل بأن الصيد بالافتراس كان يمارسه بين أشباه البشر الأوائل في أغلب الأحيان الذكور البالغون، في حين كانت الإناث البالغات يمارسن الاستراتيجية الأكثر تقليدية لدى الرئيسيات بجمع الفاكهة والتوت والدرنات والبذور والبيض والحشرات، إلا أن إناث أشباه البشر وأبناءهن كانوا يحتاجون نظام اللاحمات الغذائي الغني بالبروتين كيفما احتاجه الذكور الصيادون أنفسهم. وهذا يعني أن إناث أشباه البشر اللائي كن يتوصلن لغنائم الصيد كن حتما يحصلن على تغذية أفضل - وكان احتمال بقاء أبنائهن على قيد الحياة أكبر - من الإناث اللائي لا يتاح لهن تلك الغنائم.
ورغم أن السعادين والقردة لا يتقاسمون الطعام عادة - ولا حتى مع أبنائهم - فهم يدأبون على تقاسم الطعام مع رفاقهم الجنسيين. هكذا، حتى يستفيد كلا جنسي أشباه البشر لأقصى درجة من هذا التقسيم غير المألوف للعمل، تطور نمط من السلوك الجنسي غير الموجود في أي مكان آخر في مملكة الحيوان. أبرز جانب من جوانب هذا التكيف الجنسي الفريد هو أن أكثر الممارسات الجنسية - بما فيها الجماع - تقع حين لا تكون الأنثى في مرحلة التبويض ولا يوجد احتمال لحدوث حمل.
مع وضع هذه الحقيقة البسيطة في الاعتبار يبدو من الواضح إلى حد بعيد أن الجزء الأكبر من السلوك الجنسي البشري يحقق غرضا آخر غير التكاثر. ورغم أننا ليس في مقدرتنا ملاحظة السلوك الجنسي لأشباه بشر ما قبل التاريخ، فمن المحتمل أن يكون أوائل أشباه البشر أنفسهم قد توصلوا للسلوك الجنسي شبه المتصل الذي يتميز به بشر العصر الحديث كطريقة للحفاظ على علاقات قوية - بما في ذلك اقتسام الطعام - بين الذكور والإناث.
دورة شبقية شبه دائمة: أشباه البشر يحدثون ثورة في العلاقة الجنسية
تميل أغلب الرئيسيات للأنانية الشديدة حيال الطعام؛ فهي عادة ما تتناوله في عزلة، وكثيرا ما تتجاهل الآخرين بلا اكتراث، وحتى أبنائها الذين قد يستجدون ويتوسلون من أجل لقمة واحدة. بيد أن ثمة استثناء جديرا بالملاحظة يقع حين تمر الأنثى بدورتها الشبقية وتكون نوعا من العلاقة الجنسية تسمى الثنائي المتصاحب مع ذكر بالغ. ينفصل الثنائي المتصاحب المتآلف حديثا عن المجموعة ويقضيان أغلب وقتهما معا؛ يتجامعان، وينظف كل منهما الآخر، ويتقاسمان الطعام، لكن حين تنتهي الدورة الشبقية تفقد الأنثى رغبتها في الجنس، ويفقد الذكر رغبته في الأنثى، وينفصل الثنائي المتصاحب ليمضي كل فرد في حال سبيله. ولا يحدث النشاط الجنسي أو الاقتران للتعاشر أو تقاسم الطعام مرة أخرى حتى يولد الطفل الجديد، ويتجاوز فترة الرضاعة، ويصير عمره مناسبا لفطامه.
هذه مشكلة غير موجودة لدى السعادين والقردة التي لا يزود نظام غذائها النباتي بدرجة كبيرة باللحم إلا أحيانا، والتي يتيح صغارها المتشبثون بقوة حرية تكاد تكون كاملة في الحركة لأمهاتهم، لكن بما أن إناث أشباه البشر البالغات لم يكن لهن الحرية للصيد بوجه عام، فقد حلت هذه المشكلة حين خمدت المظاهر الخارجية للدورة الشبقية، وحل محلها استعداد ممتد للجماع. وبدلا من الدورات الشبقية التي تحفزها الهرمونات وما تنطوي عليه من علاقات عابرة، نشأ شيء جديد: شهية أعم للجنس امتدت متعدية الحدود القديمة للتبويض والخصوبة لتستمر لأطول فترة ممكنة من الشهر، وامتدت حتى أثناء الحمل والرضاع.
ورغم أن دورة الخصوبة لدى البشر ما زالت تحمل سمات التوقيت الشهري المعهودة في الرئيسيات، فإن إناث البشر وحدهن بين إناث الثدييات ليس لديهن فترات محددة من الاستعداد الجنسي؛ فإناث البشر لا تأتيهن دورات من الرغبة الجنسية الخارجة عن السيطرة التي تثيرها الهرمونات، ولا يبدو عليهن التضخم الهائل في الأعضاء التناسلية الذي يتزامن مع التبويض لدى الأنواع غير البشرية من الرئيسيات. لإناث البشر حرية أن يثاروا جنسيا خلال أي جزء تقريبا من الدورة الإنجابية، ويشاركن في علاقة جنسية ليس فقط حين تقل خصوبتهن، لكن أيضا أثناء الحمل والرضاع وبعد انقطاع الطمث. ومع هذه الزيادة الهائلة في استعداد الإناث للنشاط الجنسي، تغير كذلك نمط السلوك الجنسي لذكور أشباه البشر تغيرا تطوريا كبيرا.
فقد نشأ لدى ذكور أشباه البشر نمط من السلوك الجنسي يبدو أيضا فريدا بين الرئيسيات التي تعيش في مجموعات؛ فيرتبط الذكر البالغ العادي من أشباه البشر بقرينة واحدة لديها استعداد للنشاط الجنسي أغلب الوقت، وهو النسق الجنسي الذي نسميه العلاقة الأحادية. ولاستيعاب الزيادة الكبرى في السلوك الجنسي للأنثى، ازدادت لدى ذكر أشباه البشر النموذجي مدة الجماع زيادة هائلة؛ فعلى عكس القردة والسعادين التي تجامع لبضع ثوان فقط في المرة الواحدة، أغلب الذكور من البشر يجامعون لعدة دقائق قبل أن تنتابهم نشوة الجماع. في الواقع، تطول العلاقة الجنسية النموذجية بين البشر عنها بين الرئيسيات الأخرى بنحو خمسين مرة.
أخيرا، رغم أن النمط المعهود بين السعادين والقردة أن يتمتع أكثر الذكور سطوة باحتكار للعلاقات الجنسية مع الإناث، يتمتع الذكور المسيطرون من البشر بحظوة جنسية، لكنها بالكاد تعد احتكارا، حيث إن الإناث الناشطات جنسيا لسن نادرات في المجموعات البشرية كما بين السعادين والقردة، فحتى حين لا يكون الذكور أكثر أفراد جماعتهم هيمنة، يظل لديهم شركاء جنسيون منتظمون، ويستمتعون بحياة جنسية نشطة.
روابط الجنس والأمومة: أسس الأسرة البشرية
حين تركت إناث أشباه البشر الدورة الشبقية لتكوين علاقات جنسية دائمة مع أفراد من الذكور، أضيف رابط جنسي قوي جديد إلى رابط الرئيسيات القديم بين الأم والابن. ولأول مرة بدأ أحد أنواع الرئيسيات التي تعيش في مجموعات ممارسة العلاقات الأحادية، وصارت الأسر المصغرة بنى واضحة المعالم داخل البناء الاجتماعي الأكبر للجماعة.
17
ولما كانت الأنثى في فصيلة أشباه البشر هي لب روابط الأمومة والجنس، فقد صارت المرساة العاطفية للمؤسسة الاجتماعية التي لم يسبق لها وجود قط بين الرئيسيات التي تعيش في مجموعات: الأسرة المصغرة الدائمة من أم وأب وابن. في هذه الحالة الفريدة من التكيف تعيش الأنثى في جو من الألفة مع ذكر واحد ونسلهما لسنوات، مرتبطين في لبنة بناء أساسية للمجتمع مع البقاء في اندماج تام داخل المجتمع الأكبر للجماعة الرحالة.
كذلك خلق نمط العلاقات الأحادية لدى أشباه البشر دورا جديدا في مجتمع الرئيسيات: دور الأب، المرتبط بأنثى واحدة وذريتها. على هذا النحو صارت الأسرة البشرية طريقة فعالة لتوزيع موارد وتوجيه طاقات هذا النوع الذي يعيش على الصيد وجمع الثمار. وحيث إن المباشرة الجنسية لم تعد من الموارد النادرة، فقد حد هذا النظام من النزاع والمنافسة بين الذكور، متيحا لهم تكوين تحالفات مستقرة ومتعاونة مع الذكور الآخرين؛ مما زاد من بأسهم وفعاليتهم صيادين كانوا أو محاربين.
في مرحلة ما في تاريخ التطور البشري وقع تغيير آخر غريب جدا وفريد تماما في التشريح والبيولوجيا العصبية للجنس؛ فقد صار ثدي الأنثى مرتبطا بالمشاعر والسلوك الجنسي ارتباطا لا يبدو أنه موجود بين أنواع الثدييات الأخرى؛ فحلمات الأنثى من البشر متصلة عصبيا كمناطق إثارة للشهوة الجنسية، وقد ذكرت النساء حول العالم أن حتى رضاعة الطفل من الثدي من الممكن أن يثير بسهولة مشاعر شهوة جنسية.
بالإضافة إلى هذا يعد لمس الثديين ومداعبتهما وتقبيلهما عنصرا مهما في المداعبة التي تسبق الجماع لدى البشر. ورغم أننا قد نرى هذه الحقائق بديهية، فمن المهم أن نذكر أن الغدد اللبنية، ووظيفتها الرئيسية هي تغذية الطفل الوليد، لا تلعب مثل هذا الدور في السلوك الجنسي للأسود أو النمور أو الكلاب أو الأغنام أو الماعز أو الماشية، أو بالأحرى في السلوك الجنسي لأي رئيسيات أخرى.
من الملاحظ أن الثديين في كل الثدييات الأخرى لا يرتفعان ويتضخمان إلا في المراحل المتقدمة من الحمل؛ مما يعكس وظيفتهما الأساسية في توفير اللبن للطفل الوليد، لكن في البشر ينتفخ الثديان ويتضخمان عند البلوغ، عادة قبل أن تصير الأنثى من البشر قادرة على الحمل في طفل. وليست مصادفة أن يتزامن تضخم الثديين بالتحديد مع مرحلة من دورة حياة الأنثى حين تقترب من النضج الجنسي. لا يلعب ثديا الأنثى هذا الدور المزدوج بصفته مصدرا لتغذية الأبناء ومصدرا للجذب الجنسي للجنس الآخر إلا في نوعنا فقط. ما الغرض من هذا الدور المزدوج الغريب، ولماذا لم ينشأ إلا في البشر؟ للأسف أشهر نظريتين تقدمان شرحا لهذه الظاهرة الغريبة تعتريهما نقاط ضعف شديدة.
لقد افترض أن الثديين المرتفعين في الحيوان المنتصب القامة يحاكيان الأرداف لدى أسلافنا ذوي الأربع؛ ومن ثم تطورا ليحلا محل الأرداف كعلامة جنسية. لكن رغم صحة أن الأرداف لها جاذبية جنسية معينة، فإن الوقوف بقامة منتصبة لا يكاد يخفيها أو ينزع عنها صفتها كمثيرات للرغبة.
ترى نظرية أخرى أن أعضاء الأنثى الجنسية صارت من الأساس مخفية مع تطور الوضع المنتصب، فتولى الثديان دور العلامة الجنسية الذي كانت تلعبه الأعضاء الجنسية المنتفخة خلال الدورات الشبقية في السعادين والقردة ذوات الأربع. لكن لما كان ثديا الأنثى منتفخين دائما، فلا يمكن أن يقوما بوظيفة علامات مرئية لحدوث تبويض وإمكانية الحمل. وإناث البشر في كل المجتمعات تقريبا يبذلن جهدا كبيرا لإخفاء أعضائهن الجنسية عن نظر الرجال. وعدم ظهور أعضاء الأنثى الجنسية بشكل واضح بالكاد يقلل من إثارتها للذكر البالغ عادة.
ثمة تفسير أكثر بساطة؛ وهو أن ثديي الأنثى تطورا ليصيرا أعضاء ذات أهمية جنسية نتيجة تغيرين مهمين طرآ على سلوك أشباه البشر. الأول هو اختفاء الدورات الشبقية وحلول الاستعداد الجنسي المستمر محله لدى الإناث. هكذا صار التضخم الدائم للثديين عند البلوغ علامة بصرية للاستعداد الجنسي المستمر للمرأة. ووقع التغير الثاني ، على امتداد تطور أشباه البشر، حين صارت علاقة ذكر الرئيسيات بأمه - علاقة رعاية أبدية الحب والحماية - مرتبطة على مستوى عصبي عميق، بعلاقة ذكر أشباه البشر بزوجته.
من المعهود لدى القردة والسعادين الذكور إبداء درجة من الحب والحماية نحو أمهاتهم نادرا ما يبدونها تجاه رفيقاتهم في الجماع؛ لذا قد تكون أثداء الإناث البالغات الدائمة الارتفاع قد تطورت كاستراتيجية لإعادة توجيه مشاعر حب الأم لدى الذكور البالغين إلى مشاعر اهتمام برفيقاتهم في الجماع. على أقل تقدير، كانت هذه المشاعر ستترجم إلى فرص أكثر لاقتسام الطعام بين الأزواج، وكذلك حماية أكثر يقظة من تهديدات الضواري وأشباه البشر الآخرين. وهذا كان من شأنه أن يزيد أعمار ونجاح تناسل أولئك الإناث من البشر اللائي صارت أثداؤهن دائمة الارتفاع منذ البلوغ.
منذ أكثر من 35 ألف سنة، كانت شعوب ما قبل التاريخ تنحت «تماثيل مصغرة لجسد المرأة» من الحجر والعاج، مزودة بأثداء وأرداف وفروج هائلة. وهذه التماثيل المصغرة تعد من بين أقدم التجسيدات الباقية للشكل البشري، وسوف نتناولها بالتفصيل في الفصل الخامس. من الواضح أن الدلالة الجنسية لثدي الأنثى ظاهرة قديمة في التاريخ البشري، لكن تظل نشأة ثدي الأنثى الناهد دائما في نوعنا لغزا قد ينجح علم الأعصاب وعلم نفس التطور في حله في النهاية، لكن أيا كان أصله فوظيفته كرابط بين مشاعر الأمومة والمشاعر الجنسية لا يمكن تجاهلها. وهذا الرابط واحد من العناصر العديدة في الشبكة الفريدة للعلاقات التي تربط كل البشر معا في المجموعات الشائعة الدائمة التي نسميها أسرا.
الشبكة الخاصة من المشاعر والعلاقات التي تنمو طبيعيا بين الذكور والإناث، والآباء والأطفال، والأشقاء الذين يعيشون معا لسنوات ويصيرون مرتبطين طيلة العمر، إنما هي ابتكار منفرد لأشباه البشر؛ فالأسرة لدى أشباه البشر أكثر من استراتيجية للبقاء على قيد الحياة؛ إنها حجر أساس المجتمع البشري.
خلقت نشأة الأسرة البشرية شبكة من العلاقات الشخصية الراسخة التي تربط الأسر المصغرة معا بالأسر الأكبر الممتدة. مع تطور أشباه البشر الأوائل إلى الإنسان الحديث، نتج عن أنظمة الأسر الممتدة هذه أنظمة قرابة معقدة، وقواعد للزواج والنسب والميراث، وانتقال الثروة والنفوذ بالوراثة من جيل للجيل التالي. العشائر القبلية والسلالات الملكية التي أعطت هيئة واستقرارا لمجتمعات الصيد وجمع الثمار والمجتمعات المتحضرة على السواء طوال الجزء الأكبر من التاريخ البشري لم تكن لتوجد لولا الروابط العاطفية العميقة التي تكونت في بوتقة الأسرة. •••
حين بدأ أسلاف أشباه البشر صنع الرماح وعصي الحفر وحملها واستخدامها في حياتهم اليومية، بدءوا سلسلة من الأحداث توجت بتطور حيوان له شكل جسدي جديد جذريا، تكيفا مع البيئة التي تطلبت تعاونا غير مسبوق بين الذكور والإناث، وامتداد السلوك الجنسي بدرجة هائلة، وظهور روابط أسرية كانت بمنزلة لبنات بناء لمجتمعات أكبر وأكثر تطورا للإنسان الحديث.
أدت تقنية الرماح وعصي الحفر إلى حدوث نقلة لدى البشرية؛ لأن الأدوات والأسلحة المصنعة كانت تفوق نظيراتها البيولوجية. وقد أتاح تفوق ما هو تقني على ما هو بيولوجي لأشباه البشر بدء رحلتهم التطورية الممتدة صوب الهيمنة على كل أشكال الحياة الأخرى. وكما سنرى في الفصل التالي، زادت سطوة السلالة البشرية مرة أخرى لدرجة هائلة خلال التحول الرئيسي الثاني، حين أتقنت مجموعة مميزة جدا من أشباه البشر تقنية النار، وأطلقت استراتيجية أخرى غيرت مجرى التاريخ في الصراع من أجل البقاء.
الفصل الثالث
تقنية النار
الطهي والعري والسهر
بروميثيوس ... صعد إلى السماء، وأضاء شعلته من عربة الشمس، وهبط بالنار إلى الإنسان. وبهذه الهبة صار الإنسان أكثر من ند لكل الحيوانات الأخرى.
توماس بولفينش، «قصص الآلهة والأبطال»
في عصر يوم سبت في شهر نوفمبر من عام 1924م، كان البروفيسور ريموند دارت يرتدي ملابسه من أجل حفل زفاف حين وصله صندوقان يحتويان على بعض الحفريات من محجر حجر جيري وهو في منزله في جوهانسبرج، في جنوب أفريقيا. حين فتح الصندوق الأول لم ير شيئا أثار كثيرا اهتمامه، لكن عندما فتح الصندوق الثاني «سرت في بدني رجفة الإثارة»، كما قال لاحقا. دارت الذي لم يكن يتجاوز عمره حينذاك الثانية والثلاثين، كان أسترالي الأصل، درس التشريح في أستراليا وإنجلترا، ثم أرسل إلى جامعة ويتووترزراند الناشئة في جوهانسبرج لينشئ قسما للتشريح ذا مصداقية هناك. وفي وقت سابق من ذاك العام كان قد سمع عن العثور على حفريات جماجم لقردة البابون في محجر حجر جيري في قرية تونج النائية، وطلب أن ترسل إليه مباشرة أي حفريات جديدة.
ضمت محتويات الصندوق الثاني قالبا داخليا؛ نموذجا طبق الأصل لتجويف جمجمة، تكون حين حل الحجر الجيري محل أنسجة المخ الرقيقة تدريجيا، ما يعد شبه استنساخ لشكل المخ الأصلي لكائن قديم. ويستأنف ريموند كلامه فيقول: «عرفت من أول وهلة أن ما في يدي ليس مخا عاديا لأحد أشباه الإنسان؛ فقد كان نسخة لمخ يعادل ثلاثة أضعاف مخ البابون وأكبر كثيرا من مخ الشمبانزي البالغ.» لكن أين كان باقي الجمجة القديمة؟ أين كان الوجه الذي يكمل هذا المخ؟ بحث دارت بحماسة في الصندوقين، وسريعا ما وجد كتلة كبيرة من الحجر ذات تجويف على شكل وعاء. وكان القالب الداخلي ملائما تماما للتجويف. لا شك أن وجه هذا الكائن كان في مكان ما في الحجر.
قال البروفسير دارت: «وقفت في الظل حاملا المخ في حرص كما يحمل أي رجل شحيح كنزه، وذهني يسبق الأحداث؛ فقد كنت متأكدا أن ذلك كان أحد أهم الاكتشافات في تاريخ علم الإنسان.» لكن حينذاك شعر دارت بمن يشد كمه. كان العريس يرجوه أن ينتهي من ارتداء ملابسه؛ فقد كان يترقب وصول سيارة العرس في أي لحظة. على مضض أعاد دارت الصخور في الصندوقين، واضعا القالب الداخلي والصخرة الكبيرة ذات التجويف الذي على شكل قصعة جانبا، وأوصد الباب على كنزه النفيس في الخزانة.
ظل دارت لأسابيع يكشط كتل الحجر الكبيرة بحرص، واثقا أن وجه هذا الكائن الكبير المخ كان مطمورا فيه. واستخدم إبر حياكة زوجته المشحوذة لانتزاع الحجر الجيري الطري من الجمجمة التي بداخله. وأخيرا قبل الكريسماس بيومين، أمكن بوضوح تمييز وجه طفل أحد أشباه البشر القدامى وهو يتجلى في الصخر شيئا فشيئا. وقد كتب دارت قائلا: «أشك أن يكون أي أب قد تملكه زهو بابنه أكثر مما تملكني الزهو بطفل تونج في عيد الميلاد لعام 1924م» (انظر شكل
3-1 ).
شكل 3-1: البروفيسور ريموند دارت معه «طفل تونج». أول حفرية يعثر عليها للأوسترالوبيثيكوس على الإطلاق. (المصدر: ويكيميديا كومونز.)
أطلق دارت على اكتشافه اسم أوسترالوبيثيكوس أفريكانوس أو «قرد أفريقيا الجنوبي»، وقد ظل اسمه دون أن يتغير في دراسات الحفريات البشرية منذ ذلك الحين. ولم يكن «طفل تونج» أول أشباه البشر القدامى الذين حدد العلم هويتهم فحسب، لكنه كذلك أعطى أول دليل مادي على أن البشرية لم تنشأ في أوروبا أو آسيا - وهو ما كان نظرية رائجة في الدوائر العلمية في ذلك الوقت - وإنما في أفريقيا، كما تكهن تشارلز داروين قبل ذلك بأكثر من خمسين عاما في كتابه «أصل الإنسان».
نشر دارت اكتشافاته في مقال يعد الآن عملا كلاسيكيا في الدورية العلمية البريطانية «نيتشر» في فبراير عام 1925م، حيث ذكر ملاحظة تشريحية مهمة؛ فقد أشار إلى أن الثقبة العظمى - نقطة اتصال الجمجمة بالعمود الفقري - موجودة أسفل جمجمة تونج، كما هو الحال في البشر الذين يسيرون على قدمين، لا خلفها، كما لدى القردة ذوات الأربع. اعتقد دارت أن وضع الثقبة العظمى أثبت أن طفل تونج كان يقف ويسير منتصبا، لكن اعتقاد دارت بأن الأوسترالوبيثيكوس كان نوعا قديما جدا من أشباه البشر الأوائل رفضته المراجع العلمية في أوروبا، التي استنتجت أن حفريات دارت كانت في الأرجح بقايا غريبة لقرد منقرض.
كان لدى علماء الحفريات في ذلك الوقت اعتقاد راسخ أن أسلاف بشر ما قبل التاريخ صار لديهم أدمغة كبيرة أولا، ولم يفقدوا سماتهم المشابهة للقردة إلا لاحقا، ربما بسبب ذكائهم المتزايد. وقد تعززت هذه النظرية بدرجة كبيرة عام 1912م، حين أعلن تشارلز داوسون، عالم آثار هاو، عن عثور عامل في مقلع في بيلتداون في إنجلترا على بقايا فرد بوجه شبيه بالقردة ودماغ كبير. وسرعان ما أشاد الكثيرون في المجتمع العلمي ب «إنسان بيلتداون»، بوجهه الشبيه بوجه القرد ودماغه الشبيه بدماغ الإنسان، باعتباره «الحلقة المفقودة» بين البشر والقردة، في حين لم يناسب توقعات العلماء اكتشاف دارت لطفل تونج بوجهه الشبيه بوجه الإنسان ودماغه الشبيه بدماغ القردة.
لكن مما أحرج كثيرا العلماء الذين اقتنعوا باكتشاف داوسون باعتباره الحلقة المفقودة الحقيقية، افتضاح إنسان بيلتداون في النهاية واكتشاف أنه خدعة، لكن ليس قبل عام 1943م؛ أي بعد أربعين عاما من «اكتشافه»؛ فقد تبين أن إنسان بيلتداون كان تلفيقا متعمدا تكون من جمجمة بشرية من العصور الوسطى، وفك إنسان غاب قديم، وبعض من أسنان الشمبانزي. كلها صبغت عن قصد لتبدو أثرية. وقد مات تشارلز داوسون عام 1916م، وحتى هذا اليوم لم تحدد هوية مدبر خدعة بيلتداون عن يقين.
عندما أصاب الإحباط البروفيسور دارت من الاستقبال الفاتر الذي لاقاه اكتشافه من علماء الحفريات الأوروبيين، أعرض عن أبحاثه عن عصور ما قبل التاريخ للبشر طوال العشرين سنة التالية، وركز اهتمامه على مهمته الأصلية، وهي إنشاء قسم تشريح في جامعة ويتووترزراند، لكنه ظل يتمتع بدعم علماء الحفريات في وطنه، وظل طلابه وزملاؤه يستخرجون مجموعة متزايدة من البقايا الحفرية القديمة من عدد من المواقع التي تعود لما قبل التاريخ في جنوب أفريقيا.
خلال الوقت الذي نشر فيه دارت دراسة «طفل تونج»، أرسل له معلم مدرسي محلي مواد حفرية اكتشفت في ماكابانسجات، وهو موقع محجر حجر جيري آخر في جنوب أفريقيا. هذا المحجر، الواقع في منطقة تكثر فيها الكهوف القديمة، اكتشفت فيه على مدار السنوات كمية وفيرة من الحفريات البشرية التي تعود لعصر ما قبل التاريخ. وأخيرا، في نهاية الحرب العالمية الثانية، تشجع دارت بفضل تزايد الاقتناع بالأوسترالوبيثيكوس أفريكانوس وتنامي كم الأدلة الداعمة التي كان زملاؤه يستخرجونها من الأرض، وعاد إلى المجال عام 1947م ليبدأ سلسلة طويلة من عمليات التنقيب في كهوف ماكابانسجات. وقادته العظام المسودة العديدة التي وجدها هناك إلى استنتاج مفاده أن أشباه البشر الأوائل الذين كانوا يعيشون في ماكابانسجات كانوا يشعلون النيران ويشوون لحم فرائسهم من أكثر من مليوني عام. وسمى حفريات أشباه البشر القديمة في ماكابانسجات أوسترالوبيثيكوس بروميثيوس (القرد الجنوبي الذي روض النار).
لكن مني دارت بخيبة أمل أخرى؛ فقد كشف التحليل الكيميائي أن عظام ماكابانسجات لم تسود بالنار، وإنما بالأثر الكيميائي لثاني أكسيد المنجنيز الذي تسرب للرواسب. كذلك أثبت أن حفرية دارت، أوسترالوبيثيكوس بروميثيوس، ليست نوعا جديدا على الإطلاق، وإنما بقايا حفرية لأفراد من نوع أوسترالوبيثيكوس أفريكانوس؛ أي أعضاء من النوع نفسه الذي ينتمي إليه طفل تونج. مع هذا التطور في الأحداث، ألقى الشك بظلاله على القدم الحقيقي لأول استخدام لأشباه البشر للنار، وظلت مسألة كيف ومتى استخدم أشباه البشر النار لأول مرة - أحد أقدم المسائل المثيرة للخلاف في علم حفريات البشر - بلا حل لعقود.
بيد أنه ثبت في النهاية أن استنتاج دارت أقرب إلى الحقيقة مما بدا في البداية؛ ففي عام 1989م نشر تشارلز كيه برين وأندرو سيلن، اختصاصيا علم حفريات من جنوب أفريقيا، نتائج دراسة مستفيضة عن عظام كهف سوارتكرانس، الواقع على بعد 150 ميلا جنوب شرق ماكابانسجات، أثبتت بشكل قاطع أن عظام حيوانات الصيد كانت تحرق مرارا وتكرارا في نيران المخيمات قديما جدا منذ مليون عام ونصف.
1
ورغم أنه يبدو محتملا أن الإنسان الناشئ المنتصب القامة هو من كان يشعل نيران هذه المخيمات، فإن حفريات أشباه البشر الوحيدة التي عثر عليها حتى الآن في الطبقة الجيولوجية نفسها لهذه العظام المحترقة هي حفريات نوع من فصيلة أشباه البشر الأوائل، بارانثروبوس روبستوس، وهو من الأقرباء الذين لا يبعدون كثيرا عن اكتشاف دارت المميز، من أشباه البشر الأوائل، الأوسترالوبيثيكوس أفريكانوس.
على مدار السنين ظلت تقديرات علماء الحفريات بشأن التوقيت الذي بدأ فيه أسلافنا أشباه البشر في استخدام النار والسيطرة عليها متفاوتة؛ فقد ذهب البعض إلى أن السيطرة على النار واستخدامها كجانب دائم من حياة البشر لم يبدآ قبل 130 ألف عام، في حين افترض آخرون أن أوائل أشباه البشر بدءوا استخدام النار منذ سبعة ملايين سنة.
2
وفي هذا فارق قدره خمسون ضعفا في العمر المقدر لاستخدام النار، وهو فارق مذهل.
لكن في السنوات الأخيرة تراكمت الأدلة التي تشير إلى أن الإنسان المنتصب القامة استخدم النار منذ مليون عام ونصف على الأقل، وقد عثر حديثا على آثار لإشعال النار مرافقة لبقايا إنسان منتصب القامة في موقعي كوبي فورا وتشيزووانجا في شرق أفريقيا، وفي كهف واندرويرك في جنوب أفريقيا. هكذا يبدو الآن مؤكدا أن تقنية النار قد بدأت في وقت ما بين مليوني سنة و1,75 مليون سنة مضت، حين وجد جنس الأوسترالوبيثيكوس وأشباه البشر الأوائل الآخرون، الذين ظلوا يعيشون في أفريقيا طوال ثلاثة ملايين عام على الأقل، أنفسهم في منافسة مع أشباه بشر أكثر تقدما؛ البشر الناشئين، البشر المنتصبي القامة.
أشباه البشر الأوائل والبشر الناشئون
ربما تتذكرون أن لوسي، من جنس الأوسترالوبيثيكوس، وكذلك أشباه البشر الأوائل الذين ظهروا لأول مرة منذ أكثر من أربعة ملايين عام، كانوا صغار الحجم مقارنة بنا؛ فقد كان طولهم يتراوح بين ثلاث أقدام ونصف وأربع أقدام، ووزنهم يتراوح بين خمسة وسبعين وخمسة وتسعين رطلا. ورغم أنهم كانوا يسيرون ويركضون منتصبي القامة تماما على ساقين، فقد كانت أجسامهم من عدة نواح مماثلة لقردة ما قبل التاريخ التي انحدروا منها؛ فكانت أذرعهم طويلة، وعظام أصابعهم مقوسة، وأصابع أقدامهم طويلة، وجذوعهم على شكل كمثرى، وأكتفاهم ضيقة، وخصورهم ممتلئة، وأردافهم عريضة ومتباعدة، وهذا يدل في مجمله على أنهم ظلوا يقضون جزءا كبيرا من حياتهم على الأشجار.
مناطق السافانا في أفريقيا ما قبل التاريخ التي ازدهر فيها أشباه البشر القدامى هؤلاء كان يسكنها عدد من الضواري الكبيرة والخطيرة - من بينها النمور والفهود والأسود والضباع - التي كانت تستطيع بسهولة افتراس العزل من الكائنات التي تمشي على ساقين، إلا أنه - كما جادلت في الفصل السابق - لا بد أن أشباه البشر الأوائل كانوا قادرين على الدفاع عن أنفسهم وأبنائهم ضد مثل تلك الضواري أثناء النهار، متسلحين بالرماح وغيرها من الأسلحة المصنوعة، وهو ما يثبته بما لا يدع مجالا للشك تاريخهم الطويل في البقاء على قيد الحياة.
لكن حتى مع تسلحهم بأسلحة فتاكة، كان أشباه البشر الأوائل هؤلاء يصبحون معرضين بشدة للخطر أثناء الليل، حين تكون القطط الكبيرة بقدرتها الفائقة على الإبصار ليلا وحاسة الشم الحادة قادرة على الدنو منهم في الظلام والهجوم عليهم قبل أن يتبينوها. في الواقع أعطى العديد من الكهوف الأفريقية - التي تعود لفترة تتراوح بين أربعة ملايين ومليوني سنة مضت، والتي أجريت فيها عمليات تنقيب - دلائل واضحة على أن الأسود والنمور التي كانت تعيش في هذه الكهوف كانت تقتل أشباه البشر الأوائل وتلتهمهم بصفة منتظمة.
وحيث إن أشباه البشر الأوائل صنعوا الأدوات والأسلحة وقتلوا الحيوانات وأكلوا اللحم وتكيفوا بوضوح على السير والعدو على أرض منبسطة، فالتفسير الأرجح لبقاء سماتهم المتعددة الشبيهة بالقرود هو أنهم كانوا بحاجة للجوء للأمان على الأشجار في الليل كأفضل وسيلة دفاع ضد الضواري الكبيرة والخطيرة التي كانت تسكن أفريقيا ما قبل التاريخ.
3
لكن بدءا من مليوني عام تقريبا، بدأ يظهر في سجل الحفريات أشباه بشر أحدث وأضخم وأكثر تقدما، وهم البشر الناشئون، وهذه المخلوقات هي التي سدت الفجوة بين أشباه البشر الأوائل مثل الأوسترالوبيثيكوس والإنسان الحديث ذي الدماغ الكبير مثل النياندرتال وأنفسنا.
لقد استخرجت العديد من البقايا الحفرية لبشر ناشئين في عدة مواقع أثرية مختلفة في أنحاء أفريقيا وأوراسيا، ونزع اختصاصيو علم الحفريات الذين استخرجوا هذه البقايا إلى تصنيف اكتشافاتهم المتعددة في أنواع متعددة متمايزة من جنس الهومو، لكن بعضا من هذه الأنواع لا يمثلها إلا بقايا متشظية جدا، والعديد منها مشابه جدا بعضه لبعض، حتى إنه من المشكوك فيه أنها تمثل أنواعا متمايزة من الأساس.
4
رغم أن ثمة جدلا كبيرا حول ما يمثل حقا أنواعا متمايزة من هذه الاكتشافات، ثمة اتفاق عام على أن تشريح البشر الناشئين - وإن كانوا بدائيين بمعاييرنا - كان مشابها للغاية لتشريح إنسان العصر الحديث، حتى إنهم لا بد أن ينضموا جميعا للجنس هومو، الذي ينتمي إليه كل بشر العصر الحديث.
أقدم هؤلاء البشر الناشئين كان نوعين، الهومو هابيليس والهومو إرجاستر اللذين ظهرا في شرق أفريقيا، بينما كان أشباه البشر الأوائل مثل الأوسترالوبيثيكوس لا يزالون يمثلون الكائنات التي تسير على قدمين السائدة في تلك المنطقة. يظهر الهومو هابيليس (الإنسان «البارع» أو «الماهر») لأول مرة في سجل الحفريات قبل مليوني وثلاثمائة ألف عام تقريبا؛ أي قبل أن ينقرض أشباه البشر الأوائل بفترة كبيرة. وكان لهذا النوع أصغر دماغ بين البشر الناشئين؛ إذ كان يتراوح في المتوسط بين 500 إلى 600 سنتيمتر مكعب، وإن كان أكبر من أدمغة أشباه البشر الأوائل، الذي تراوح متوسط أدمغتهم بين 400 و500 سنتيمتر مكعب. كذلك احتفظ الهومو هابيليس بكل من الجذع الذي على شكل الكمثرى وقامة أشباه البشر الأوائل الشديدة الضآلة، رغم أنه صنع أدوات حجرية تفوق تلك التي صنعها أشباه البشر الأوائل. شملت هذه الأدوات «مطرقة» يدوية؛ حجر مستدير في حجم قبضة اليد كان يستخدم في تكسير عظام فرائسه، وربما كان يستخدم أيضا في «تطرية» اللحم الطازج بطحنه ليجعله أسهل هضما.
ظهر الهومو إرجاستر (الإنسان العامل) لاحقا بعض الشيء، منذ مليون وثمانمائة ألف عام، وكان أول أشباه البشر الذين صنعوا المطارق اليدوية «الأشولية» التي شكلت مستوى أعلى من الحرفية في الصناعة عن أدوات أولدوان البدائية التي كان يصنعها أشباه البشر القدامى. يمثل دماغ الهومو إرجاستر زيادة كبيرة في الحجم عن أنواع أشباه البشر الذين سبقوه؛ إذ بلغ حجمه في المتوسط نحو 850 سنتيمترا مكعبا. كذلك كان الهومو إرجاستر أطول كثيرا من الهومو هابيليس، بصدر برميلي الشكل وخصر نحيل مثلما الحال في الإنسان الحديث. ولا يزال علماء الحفريات غير متأكدين إن كان الهومو إرجاستر حقا نوعا متفردا أم مجرد شكل مبكر من ذلك الإنسان الناشئ الشهير؛ الإنسان المنتصب القامة.
أهم نوع بين البشر الناشئين - الذي لا يشك أنه كان نوعا مستقلا - كان الهومو إريكتوس (الإنسان المنتصب)، الذي وجدت بقاياه في أنحاء أفريقيا وآسيا وأوروبا بدءا من مليوني سنة مضت واستمرارا حتى مائتي ألف عام سنة مضت على أقل تقدير.
5
كان الهومو إريكتوس أضخم كثيرا من أشباه البشر الأوائل، يكاد يعادل في طوله الإنسان الحالي، وتدل كل سماته التشريحية على أن البشر الناشئين قد تخلوا تماما عن عادة الرئيسيات القديمة في النوم ليلا على الأشجار التماسا للأمان.
كان الهومو إريكتوس من أذكى البشر الناشئين، ودماغه - الأكبر كثيرا بالفعل من دماغ القردة أو الأوسترالوبيثيكوس - ظل حجمه يكبر على امتداد تاريخه الطويل والناجح. ترك الهومو إريكتوس وراءه عددا كبيرا من الأدوات الحجرية الأشولية الدقيقة جميلة الصنع، وخاصة مطرقة يدوية أيقونية ذات حافة حادة، على شكل قطرة دمع كبيرة. تمثل المطرقة اليدوية الأشولية علامة على عبور عتبة لها أهمية خاصة في تطور البشر؛ لأن صنعها احتاج كما كبيرا من التخطيط وبعد النظر والمهارة اليدوية (انظر شكل
3-2 ).
شكل 3-2: الفأس الأشولية الأيقونية، التي ظل البشر الناشئون لآلاف السنوات يصنعونها. وكان صنعها يتطلب اختيار حجر مناسب والتمكن من عملية متعددة الخطوات. (المصدر: ويكيميديا كومونز.)
قد تكون أبرز سمات تشريح الهومو إريكتوس، بجانب حجمه الأضخم، وقامته الأطول، ودماغه الأكبر كثيرا، هو أنه لم يعد يحتفظ بأي من الخصائص الجسدية للقردة المرتبطة بالحياة على الأشجار؛ فقد تقلصت أصابع قدم الهومو إريكتوس لدرجة أنها لم تكن تساعد أو تساعد بدرجة ضئيلة في تسلق جذوع الأشجار، وصارت عظام أصابع يده مستقيمة، مثل عظام أصابع أيدينا؛ وبهذا فقد الشكل المقوس الذي يتميز به من يعيش على الأشجار. وأخيرا، كان الجذع العلوي للهومو إريكتوس برميلي الصدر، بمنكبين عريضين وخصر نحيل نسبيا؛ سمات لم يختص بها أي من القردة التي تعيش على الأشجار.
دلت هذه التغيرات على أن الهومو إريكتوس لم يكن فقط يعيش على الأرض أثناء النهار، بل كان أيضا ينام على الأرض ليلا. والطريقة الوحيدة المنطقية التي كان يستطيع بها هؤلاء البشر الناشئون تجنب التعرض لهجوم الضواري أثناء نومهم على الأرض هي إضرام النيران والنوم على مقربة منها، وتركها مشتعلة حتى الفجر. شرح هذا المنحى الفكري بالتفصيل ريتشارد رانجهام، اختصاصي علم الإنسان في جامعة هارفارد، وذلك في كتابه: «إشعال النار: كيف جعلنا الطهي بشرا؟».
6
نشأة «إنسان الكهف»
الكثير من السلوكيات التي كانت تعتبر في الماضي خاصة بالبشر اكتشف أنها موجودة - وإن كان ذلك في صورة بدائية في كثير من الأحيان - بين أنواع أخرى من الحيوانات. تشمل هذه السلوكيات، بالإضافة إلى القدرة على صناعة الأدوات واستخدامها، القدرة على التعبير عن معلومات معقدة، وقدرة الأنواع التي تعيش في مجموعات على تبني سلوكيات جديدة وتوريثها للأجيال التالية كتقاليد ثقافية. لكن من بين كل الأنواع في مملكة الحيوان، كان أشباه البشر وحدهم على الإطلاق هم من أبدوا ولو قدرة بدائية للغاية على إشعال النار والسيطرة عليها واستخدامها كسمة دائمة من سمات حياتهم اليومية.
فلولا بنيتهم الجسدية الفريدة التي تؤهلهم للسير على قدمين، ما كان أشباه البشر ليتمكنوا من السيطرة على النار واستخدامها؛ فحين يحمل أحد الحيوانات من ذوات الأربع أشياء يحملها عادة بفمه، وحيث إنه لكي يحمل فرع شجرة مشتعلا في فمه، فإن ذلك قد يحرق فمه أو وجهه أو يملأ عينيه وأنفه بالدخان؛ فالحيوانات ذوات الأربع لا تحمل فروعا مشتعلة من مكان لآخر. لدى القردة والسعادين بالفعل قوائم أمامية مطواعة ذات أياد قابضة، وهي قادرة على السير لمسافات قصيرة على قوائمها الخلفية أثناء حمل أشياء بقوائمها الأمامية، لكن لم ير أي نوع من القردة أو السعادين وهو يستخدم النار أو يسيطر عليها في البرية.
7
فالنار على كل حال تدمر النسيج الحي، وكل الحيوانات تخشاها وتتحاشها بالغريزة، كل الحيوانات ما عدا أشباه البشر.
أشباه البشر الذين يستطيعون حمل رمح في أياديهم لأميال يستطيعون أيضا أن يحملوا فرعا مشتعلا لأميال. فقبل أن يتعلم أشباه البشر كيفية إشعال النار بوقت طويل، لا بد أنهم قد تعلموا كيف يتناولونها وينقلونها ويحضرونها لمنازلهم، ويبقون عليها لأيام وأسابيع. الصواعق والأشجار والحشائش المشتعلة التي من الممكن أن تنجم من الصواعق، كانت شائعة في أفريقيا ما قبل التاريخ، ومن المرجح جدا أنها كانت مصدر النار التي كان البشر الناشئون يأتون بها لمنازلهم ويروضونها منذ مليوني عام تقريبا.
تأتي بعض أقدم الأدلة على استخدام الهومو إريكتوس للنار وإخضاعه لها منذ مليون عام أو أكثر من كهوف في جنوب أفريقيا وشرقها؛ فالعديد من هذه الكهوف الشاسعة الجافة كان المأوى المفضل لبعض أخطر ضواري أفريقيا في عصور ما قبل التاريخ، مثل الأسود والفهود والدببة والثعابين، لكن لم يكن أي من هذه الحيوانات ليظل في كهف مليء بالنيران والدخان طويلا. وهكذا حين تعلم الهومو إريكتوس إشعال النار داخل الكهوف، صار قادرا على إخراج الحيوانات الأخرى، والانتقال إلى هذه المساكن الأثيرة واستخدامها كمقرات إقامة لأسابيع وشهور أحيانا.
على النقيض، حين يعثر على بقايا أشباه البشر الأوائل مثل الأوسترالوبيثيكوس في الكهوف، عادة ما يبدو واضحا أن أجسادهم قد جرجرها داخل هذه الكهوف أعداؤهم الطبيعيون، خاصة القطط الكبيرة، التي كانت تفترسهم. فمن دون النار، ما كان لأحد أشباه البشر أن يستطيع أن يتخذ من كهف مسكنا لوقت طويل، إلا أنه في العديد من أقدم المواقع الأثرية التي بها أدلة على استخدام البشر الناشئين للنار، لا تتوفر أدلة على طهي طعام بها سواء كان لحما أو خضروات. توصل علماء الآثار الذي نقبوا في هذه المواقع إلى نتيجة مفادها أن النار كانت في المقام الأول تشعل في هذه الكهوف كمصدر للضوء وكنوع من الحماية من الضواري. تحرر البشر الناشئون بقدرتهم الجديدة على السيطرة على النار من ضرورة النوم على الأشجار ليلا، ولأول مرة صار أشباه البشر كائنات أرضية تماما.
منحت القدرة على ترويض النار مزايا عديدة للبشر الناشئين؛ فالنار لم تطرد الضواري الضخمة والخطيرة فحسب من الكهوف، وإنما أخرجت أيضا الحشرات والزواحف والهوام الحاملة للأمراض التي كانت تسكن الكهوف هي الأخرى. وبإشعال النار في أرض مغطاة بالآجام الكثيفة، أمكن القضاء على الحشرات الضارة والزواحف والثعابين السامة التي كانت تعيش في تلك الموائل أو طردها من مساحات واسعة إلى حد كبير.
كذلك أدى إشعال النار في الآجام الكثيفة التي في بيئة السافانا إلى إخلاء الأرض؛ مما عزز من نمو حشائش جديدة غضة، وجذب حيوانات آكلة للعشب مثل الظباء التي كانت من فرائس أشباه البشر المفضلة. في الواقع، كان العديد من مجتمعات الصيد وجمع الثمار التي بقيت حتى العصور الحديثة في سهول أفريقيا وآسيا والغرب الأمريكي تتعمد إشعال النار طوال حياتها؛ من أجل تحفيز نمو حشائش جديدة، ولجذب قطعان حيوانات الصيد تجاه مخيماتها، حيث كان يمكن الإيقاع بها وقتلها بسهولة.
كانت النار توفر مصدرا طيعا للحرارة لم يجعل الكهوف الباردة الرطبة من الداخل أكثر قابلية للسكنى فحسب، لكنه كذلك أتاح للبشر الناشئين الهجرة إلى مناطق ذات مناخ أشد برودة، حتى إن الهومو إريكتوس في مرحلة مبكرة من تاريخه المميز هاجر من أفريقيا وظهر في عدة مواقع في أوروبا وآسيا منذ أكثر من 1,5 مليون سنة، فكان أول أشباه البشر الذين يسكنون قارة أوراسيا. وأخيرا أتاحت النار للبشر الناشئين ابتكار تقنيات متطورة في صنع الأدوات، مثل معالجة أدوات وأسلحة خشبية بالنار أو تقويتها، وهي التقنية التي كانت متطورة تماما منذ 400 ألف سنة مضت، وهو ما دلت عليه رماح شونينجين الخشبية التي جاء وصفها في الفصل السابق.
السهر
أغلب الرئيسيات كائنات نهارية؛ تنشط بالنهار وتخمل في الليل؛ فحين يخيم الظلام من المألوف أن تلوذ القردة والسعادين بالصمت، وتتوقف عن الحركة، وتستعد للنوم. وهذا السلوك الشائع بين كل الرئيسيات غير البشرية تقريبا،
8
ينظمه استجابة هرمونية لمستوى الضوء الذي يصل إلى العين. فيطلق الميلاتونين - أحد الهرمونات التي تفرزها الغدة الصنوبرية الصغيرة، عند قاعدة الدماغ - حين يبدأ مستوى الضوء في البيئة المحيطة في الانخفاض مع اقتراب غروب الشمس.
9
وكلما زاد تركيز الميلاتونين في مجرى الدم ازداد شعور الفرد بالنعاس. على العكس من ذلك، حين تشرق الشمس ويفيض الضوء على البيئة، ينخفض إنتاج الغدة الصنوبرية للميلاتونين، وتخلص الكليتان الجسم من الميلاتونين المتبقي في الدم.
حين بدأ البشر الناشئون في استخدام النار لدرء الضواري بعد غروب الشمس، ابتكروا مصدرا مصطنعا للضوء كان له أثر في تثبيط إنتاج الميلاتونين وتأخير بوادر النوم. نتيجة لهذا، أعتق استخدام النار أشباه البشر من القيود القديمة التي فرضها النهار المداري الذي يستمر اثنتي عشرة ساعة، وامتدت ساعات صحوهم الطبيعية حتى الليل. هذه هي مرحلة التطور البشري التي بدأ فيها أسلافنا السهر لوقت متأخر؛ لتمتد ساعات يقظتهم بما يتجاوز بكثير متوسط فترة النهار التي تحكم التواتر اليومي لكل الحيوانات المدارية الأخرى.
منح السهر لوقت متأخر البشر الناشئين مزايا جديدة فريدة؛ فقد أعطاهم وقتا إضافيا لتناول الطعام وصنع أشياء، كما وفر لهم وقتا للحياة الاجتماعية والتواصل. فميل البشر لتناول الطعام بعد أن يحل الظلام، والعكوف على أعمال الحياكة، وصنع الأدوات، وغيرها من المهام التي كانت تنجز على ضوء النار، والتسامر وسرد أحداث اليوم، ورواية قصص وأساطير موروثة، كل هذا مثل سلوكيات فريدة لم تستطع أي أنواع أخرى محاكاتها. صارت كل هذه السلوكيات ممكنة حين بدأ البشر الناشئون إضرام النار ليلا والسهر لأوقات متأخرة، في حين نامت المخلوقات الأدنى أو ابتعدت.
النيئ والمطهو
10
رغم أن أقدم استخدام للنار ربما كان لحماية أشباه البشر ليلا من هجمات الضواري، فقد أصبح لإيقاد النار والإبقاء عليها بانتظام في مساكن أشباه البشر في نهاية المطاف استخدامات أخرى تخطت مجرد الحماية. ولا شك أن أهم هذه الاستخدامات - بما ترتب عليه من عواقب تجاوزت احتياجات اللحظة الراهنة لتشكل جذريا مستقبل التطور البشري نفسه - كان اكتشاف الطهي.
في مقال علمي نشر في مجلة «بروسيدينجز أوف ذا ناشونال أكاديمي أوف ساينسيز» عام 2012م، أعلن فريق دولي من العلماء أن التحليل المجهري لبعض الرواسب من كهف وندرويرك في جنوب أفريقيا يؤكد أن أشباه البشر كانوا يشعلون النار داخل أغوار هذا الكهف ويذكونها منذ أكثر من مليون عام.
11
ومن بين مئات العظام وشظايا العظام التي استخرجت من هذا الموقع، أظهر 80 في المائة منها أدلة على أنها قد احترقت في هذه النيران. بعبارة أخرى، كانوا يطهون لحومهم.
رأى ريتشارد رانجهام في كتابه «إشعال النار» أن اختراع الطهو كان مسئولا في الأساس عن أغلب الإنجازات التطورية التي أدت إلى ظهور الإنسان الحديث، ومنها العمليات التي وصل بها مخ الإنسان الحديث لحجمه الكبير الحالي. وصف رانجهام على الأقل خمس مزايا مهمة للطعام المطهو الذي كان يتناوله البشر الناشئون وحدهم على الطعام النيئ الذي كان يتناوله أشباه البشر الأوائل وكل الحيوانات الأخرى.
فأولا: طهو لحم الحيوان يحلل الكولاجين الليفي في خلايا العضلات، محولا إياه إلى الجيلاتين الغني بالبروتين الذي يحتاج وقتا وطاقة أقل كثيرا في هضمه.
وثانيا: يؤدي الطهو إلى تطهير اللحم ويجعله صالحا للأكل. وقد جادل بعض اختصاصيي علم الإنسان بأن أشباه البشر الأوائل كانوا يحصلون على كثير من اللحوم التي في غذائهم بالاقتيات على جثث ضوار أكبر حجما مثل الأسود والنمور. لكن الجيفة، خاصة في المناطق المدارية، سريعا ما تنتشر فيها البكتيريا الضارة، وقردة ما قبل التاريخ الذين كانوا أسلاف أشباه البشر الأوائل، بأمعائهم الغليظة المخصصة لعملية الهضم البطيئة المضنية للأوراق وغيرها من الأغذية النباتية الخشنة، كانت ستصير أكثر عرضة لتأثير الأمراض المنقولة بالغذاء. أما قردة الشمبانزي التي تتناول بالفعل لحما طازجا فستتحاشى اللحم الذي بدأ يتحلل وتنبذه.
العدوى البكتيرية بالعوامل الممرضة مثل التسمم السجقي والجمرة الخبيثة والسالمونيلا والإشريكية القولونية وكذلك بالفطريات والفيروسات، لا بد أنها سببت مرضا ووفاة حتى بين أقوى الأفراد؛ حيث إن هذه الكائنات كانت تتضاعف في الأمعاء الطويلة لقردة ما قبل التاريخ لمستويات خطيرة وقد تكون مهلكة، لكن الطهو يقضي على الطفيليات والعوامل الممرضة التي تتضاعف سريعا في جيفة الحيوان خلال ساعات قليلة من نفوقه، كما يتيح الأثر التعقيمي للطهو حفظ اللحم المطهو لفترات أطول كثيرا من اللحم النيئ. كان الطهو سيحافظ على غنائم الصيد في حالة قابلة للأكل لفترات أطول كثيرا؛ مما يجعل من الممكن لمجموعة من أشباه البشر التغذي على بقايا حيوان صيد كبير لعدة أيام.
ثالثا: طهو الأغذية النباتية يحلل جدران خلايا النباتات ويحول السيليولوز غير القابل للهضم إلى نشويات وسكريات قابلة للهضم. في الواقع، الكثير من الأغذية النباتية التي اعتمد عليها أشباه البشر - خاصة الجذور والدرنات التي كانوا يستطيعون استخراجها من الأرض بعصي الحفر - كانت تحتوي على سموم ليست فقط غير مستساغة، وإنما غير قابلة للهضم فعلا في أحيان كثيرة. والطهو يفتت هذه السموم ويؤدي إلى التخلص منها؛ مما يتيح مجموعة كاملة من الأغذية النباتية للاستهلاك البشري كانت لتصير مستبعدة لولا ذلك، بل في الواقع وجدت التجارب التي أجريت على قردة الشمبانزي والغوريلا وإنسان الغاب أن القردة العليا بوجه عام تفضل تناول خضرواتها مطهوة عن تناولها نيئة.
12
رابعا: يتطلب الطعام المطهو وقتا أقل بدرجة كبيرة في المضغ عن الطعام النيئ ؛ إذ يستلزم نظام الغذاء النيئ لدى قردة الشمبانزي مضغ الطعام لساعات دون توقف، بل إنه وفقا للتقديرات تمضي قردة الشمبانزي نحو 50 بالمائة تقريبا من ساعات صحوها في مضغ طعامها فقط. على النقيض، يقضي البشر نحو خمسة بالمائة من ساعات صحوهم في المضغ - واحد على عشرة فقط من وقت الشمبانزي - وبناء على هذا، يستطيع البشر أن يكرسوا وقتا أكبر بكثير من ساعات صحوهم لأغراض أخرى، منها الصيد، وصناعة الأدوات والأسلحة، وتشارك المعلومات مع أفراد آخرين في الجماعة.
خامسا: والأهم: اختراع الطهو جعل بالفعل من الممكن للدماغ البشري أن يكبر حجما على نحو استثنائي خلال عصر البشر الناشئين؛ فبينما يبلغ متوسط حجم دماغ الشمبانزي 400 سنتيمتر مكعب ومتوسط حجم دماغ أشباه البشر الأوائل نحو 500 سنتيمتر مكعب، فقد تضاعف دماغ أشباه البشر ثلاث مرات خلال الميلوني عام الماضيين، ويتراوح الآن في المتوسط بين 1300 و1500 سنتيمتر مكعب. من دون هذا الدماغ الكبير، لم يكن ليتاح لإنسان العصر الحديث أن يبتكر ما تفرد به من لغة وثقافة وقدرات تقنية تمكن منها في النهاية. وقد حقق البشر الناشئون أكبر جزء من هذه الزيادة الكبيرة في حجم دماغ أشباه البشر.
لم يعثر قط على أي مجتمع بشري معروف يعتمد تماما على نظام غذاء من الطعام النيئ، مهما كان بدائيا أو غير متطور تقنيا، حتى الناس الذين يتبعون حمية الطعام النيئ في المجتمع الحديث لا بد أن يقضوا وقتا طويلا للغاية في مضغ طعامهم، وتعوزهم الطاقة، ويفقدون من أوزانهم، ويشعرون بالجوع طوال الوقت تقريبا.
13
إذن يبدو أن طهو الطعام جزء أساسي من النظام الغذائي لكل إنسان، بل يبدو أن اختراع الطهو كان شرطا أساسيا لنوعنا كي ينجح في تحقيق التطور الخاص بالزيادة الكبيرة في حجم الدماغ، وهو ما جعلنا بشرا، وأصبح يميزنا تماما عن أي نوع آخر من الحيوانات.
الدماغ البشري المكلف
تتلخص أسباب ضرورة أن يكون النظام الغذائي من الطعام المطهو لدعم احتياجات دماغ الإنسان الحديث من الطاقة في «فرضية النسيج المكلف»، التي طرحها عام 1995م ليزلي آييلو وبيتر ويلر ،
14
اختصاصيا علم الإنسان، اللذان بدآ دراستهما التي صارت حاليا من الكلاسيكيات بالحقيقة المؤكدة أن الدماغ نسيج «مكلف» من ناحية حجمه واحتياجاته من الطاقة.
لاحظ آييلو وويلر أن حجم الدماغ البشري يزيد على أربعة أضعاف دماغ الثدييات العادية، بالنسبة إلى وزن جسمه؛ إذ يزن الدماغ البشري ثلاثة أرطال؛ نحو اثنين في المائة من متوسط الوزن الإجمالي للجسم البالغ، إلا أن الدماغ البشري حين ينشط من الممكن أن يستهلك 20 في المائة من الطاقة المتاحة للجسم؛ نحو عشرة أضعاف الطاقة، رطلا برطل، التي يستهلكها الجسم البشري كله، رغم وزنه الضئيل نسبيا.
علاوة على ذلك، ليس الدماغ «النسيج المكلف» الوحيد في الجسم؛ فمن الأنسجة الأخرى التي لها متطلبات مرتفعة مماثلة من الطاقة، القلب والكبد والكليتان والجهاز الهضمي. ويشكل الدماغ وهذه الأعضاء الحيوية معا أقل من سبعة بالمائة من وزن الجسم، إلا أنها حين يكون الجسد في حالة سكون تستهلك نسبة مدهشة من طاقته المتاحة تتراوح بين 60 إلى 70 في المائة. السؤال المحوري الذي حاول آييلو وويلر الإجابة عنه هو: كيف يستطيع جسم الإنسان توفير تلك الكميات الكبيرة من الطاقة لدماغه الضخم دون أن يطغى ذلك على احتياجات أجزاء الجسم الأخرى من الطاقة؟
تقليل حجم العضلات التي تشكل الكثير من الأنسجة الأقل «كلفة» في الجسم سيكون غير عملي مطلقا، ليس فقط لأن هذه الأنسجة لا تستهلك عادة سوى نحو ثلث الطاقة المتاحة للجسم، لكن أيضا لأنه من أجل التعويض عن الاحتياج المتزايد لدى الدماغ البشري الكبير إلى الطاقة، سيتطلب الأمر التخلص من 70 في المائة من عضلات الجسم. هذا من شأنه أن يجعل من الصعب، إن لم يكن مستحيلا، على البشر أن يحصلوا في بيئاتهم الطبيعية على الغذاء الذي يحتاجونه لتوفير هذه الطاقة في المقام الأول.
وتقليل حجم القلب أو نشاطه بأي درجة كبيرة سيقلل من تدفق الدم لمستويات تمثل خطورة كبيرة على الدماغ، الذي يحتاج لإمداد ثابت ووافر من الدم. وحين يحدث هبوط في الدورة الدموية بدرجة كبيرة يتوقف الدماغ عن العمل بكفاءة؛ مما يؤدي لفقدان الوعي في النهاية.
تقليل حجم الكليتين أو نشاطهما يحدث ضررا بالغا بإحدى وظائفهما شديدة الأهمية. تستهلك الكليتان أغلب طاقتهما حين تركزان البول بإزالة محتواه المائي المهم وإعادة هذا المحتوى المائي لمجرى الدم. أي انخفاض في هذه الوظيفة قد يؤدي إلى مستوى خطير من الجفاف، خاصة أثناء النشاط الشاق الذي يشتمل عليه الصيد وجمع الثمار في الطقس الحار.
ولا يقتصر تقليل حجم الكبد أو نشاطها على الإضرار بقدرة هذا العضو الحيوي على تنظيف الدم من السموم والفضلات المختلفة، لكنه أيضا سيحرم الدماغ من مصدره الرئيسي للطاقة؛ فالوقود الذي يمد أنشطة الدماغ بالطاقة هو جزيء سكر كبير يعرف باسم الجلايكوجين، ومؤن الجسم من الجلايكوجين المتاح يصنع في الكبد.
يتبقى لدينا الجهاز الهضمي باعتباره المرشح الوحيد لتقليص حجمه واحتياجاته من الطاقة. ليس من المستغرب إذن أن نجد أن الجهاز الهضمي لدى البشر - لا سيما المعدة والأمعاء - هو الأصغر، بالنسبة لوزن الجسم، بين كل الرئيسيات. في الواقع، يحتوي سجل حفريات أشباه البشر على أدلة واضحة على خضوع الجهاز الهضمي لتقلص كبير في الحجم حين تطور أشباه البشر الأوائل إلى البشر الناشئين الذين استخدموا النار.
كان لدى أشباه البشر الأوائل أقفاص صدرية عريضة ومتباعدة قرب الجزء السفلي، وكذلك عظام حوض أعرض وأكثر تباعدا. تدل هذه السمات على أن بطن هذه المخلوقات كان كبيرا نسبيا، في تشابه مع بطون القردة العليا؛ إنسان الغاب والغوريلا والشمبانزي، لكن مع ظهور الهومو إرجاستر والهومو إريكتوس صار القفص الصدري أضيق كثيرا في الجزء السفلي، وصار الحوض أصغر في قطره. توحي هاتان السمتان بأن الهومو إريكتوس قد تطور لديه البطن الأصغر حجما والأكثر اكتنازا الذي يتميز به إنسان العصر الحديث، ومن الممكن أن يكون قد أدى هذا إلى تقلص كبير في حجم الجهاز الهضمي.
مع هذا التقلص في حجم البطن، تظهر الحفريات العديدة للبشر الناشئين التي استخرجت على مدار سنوات زيادة كبيرة ومنتظمة في حجم الدماغ، من 600 سنتيمتر تقريبا مع ظهور الهومو هابيليس منذ مليوني عام تقريبا إلى نحو 1300 سنتيمتر في أحدث أشكال الهومو إريكتوس، التي عاشت منذ 250 ألف عام تقريبا. هذه الزيادة الهائلة في حجم الدماغ خلال مليوني عام لم يسبق لها مثيل في تطور الحياة على الأرض، فلم يفعل أي مخلوق آخر هذا. وتشير فرضية النسيج المكلف إلى أن النظام الغذائي المعتمد على الطعام المطهو وحده - والانخفاض الكبير في حجم الجهاز الهضمي الذي جعله الطعام المطهو ممكنا - هو ما مكن هذا السلف البشري من دعم احتياجات عضو «مكلف» مثل دماغ الإنسان الحديث.
15
كذلك يؤيد فرضية الطهو تغير تشريحي كبير آخر جاء مع ظهور الهومو إريكتوس: التقلص الكبير في حجم أسنان وفكوك البشر الناشئين. فسوف تتذكرون أن الشمبانزي الذي يعيش على الطعام النيئ فقط، لا بد أن يقضي 50 في المائة تقريبا من ساعات صحوه في مضغ الطعام، بينما إنسان العصر الحديث الذي يعيش بدرجة كبيرة على نظام غذائي من الطعام المطهو، يستطيع إنجاز كل عمليات المضغ الضرورية لتغذيته خلال خمسة في المائة من ساعات صحوه. هكذا كما تتخيلون، تفوق أسنان الشمبانزي وفكه نظائرها لدى الإنسان حجما بدرجة كبيرة بحكم الضرورة.
ليس من المستغرب أن سجل الحفريات أيضا يبين أن أسنان الأوسترالوبيثيكوس وأشباه البشر الأوائل وفكوكهم كبيرة جدا أيضا، في حين أن أسنان وفكوك البشر الناشئين أصغر بدرجة كبيرة؛ فالطعام المطهو لا يحتاج وقتا أقل في مضغه فحسب، لكن يمكن أيضا مضغه بدرجة كافية بأسنان وفكوك أصغر حجما بكثير. كل هذا دليل على أن الهومو إريكتوس تمكن من استخدام النار في وقت مبكر من تاريخه، وابتكر أسلوب حياة صار فيه الطعام المطهو عماد غذائه.
تشير أنواع عديدة مختلفة من الأدلة في مواقع أثرية في أفريقيا ما قبل التاريخ إلى أن الهومو إريكتوس، الإنسان الناشئ، كان أول أشباه البشر الذين أجادوا استخدام النار. تبين الأدلة الفيزيائية والكيميائية أن النار كانت تشعل لفترات طويلة في أغوار الكهوف التي كان يسكنها بشر ناشئون. كذلك تبين الأدلة الفيزيائية والكيميائية أن أغلب العظام التي عثر عليها في بعض من هذه الكهوف كانت قد احترقت؛ مما يشير إلى أنه في مرحلة ما بعد التمكن من إشعال النار والسيطرة عليها بمدة غير طويلة، كان البشر الناشئون يطهون لحومهم.
وتشير الأدلة التشريحية المستقاة من حفريات الهومو إريكتوس إلى أن هؤلاء البشر الناشئين لم يعودوا قادرين جسديا على تسلق أعالي الأشجار في الليل طلبا للأمان. كذلك تشير الأدلة التشريحية إلى أن البشر الناشئين كان لديهم أجهزة هضمية أصغر بكثير، وفكوك وأسنان أصغر بكثير، وأدمغة أكبر بكثير من أدمغة أي من أسلافهم. عند وضع كل هذه الأشياء في الاعتبار يبدو أن الهومو إريكتوس، الإنسان الناشئ، قد تعلم استخدام النار والتحكم فيها - وأنه قد جعلها عنصرا أساسيا من أسلوب حياته الطبيعي - منذ أكثر من 1,5 مليون عام.
الرئيسيات العارية
حين بدأ البشر الناشئون استخدام النار، صاروا - وظلوا - الرئيسيات العارية الوحيدة في العالم.
النوم على مقربة من نار هو واحد من أكثر السلوكيات البشرية شيوعا؛ فقد وجد هذا السلوك بين كل مجتمعات الصيد وجمع الثمار التي درسها اختصاصيو علم الإنسان. وكان من السلوكيات الشائعة بالأخص بين الصيادين وجامعي الثمار أن يناموا على مقربة من نار المخيم التي كانت تظل مشتعلة طوال الليل. ومن الغني عن البيان أن هذا السلوك كان ليستحيل تماما لو كانت أجسادنا ما زالت مغطاة بطبقة سميكة من الفراء؛ لأننا كنا سنشعل النار في أنفسنا فعليا لاقتراب ألسنة نار المخيم منا.
لم تكن أي من طرق تفاعل البشر مع النار - حمل شعلات متوهجة من مكان لآخر، والنفخ في الجمرات الملتهبة لإذكاء النار، وشي الطعام من اللحم والخضروات، وإذكاء نار المخيم بحطب جديد، ومد الذراعين والساقين فوق النار لتدفئتهما - لم يكن أي من هذا ليصير ممكنا لو كنا احتفظنا بالفراء الطويل الشعر الذي يغطي أجساد كل أنواع الرئيسيات الأخرى. حاول أن تتخيل التعامل مع نار مخيم ملتهبة أثناء ارتداء معطف ثقيل طويل الكمين من الفراء ، وستدرك كم سيكون من الصعب التعامل مع النار بأمان مع فراء ثقيل يغطي ذراعيك وساقيك وجذعك. لهذا السبب دون شك من الممكن أن يتعلم الشمبانزي تدخين السجائر أو السيجار عرضيا - بل وفي بعض الحالات استخدام قداحة السجائر - لكنه على عكس البشر لن يجلس بقرب نار مشتعلة.
حين بدأ البشر الناشئون استخدام النار التماسا للضوء والدفء والحماية، كان أولئك الأفراد والجماعات الذين يغطي أجسادهم أقل كمية من الشعر هم الأنجح في التعامل مع النار، ولا شك أن هذه المرحلة من مراحل التطور البشري هي التي صار فيها أسلافنا عراة، لكن فقدان ملايين بصيلات الشعر التي ظلت تغطي جميع أنحاء أجساد الرئيسيات طوال 55 مليون عام لا بد أنه تطلب عددا من التغييرات الجينية المهمة. في الواقع، حدثت مثل هذه التغيرات حين تبنى أسلاف الحيتان والدرافيل الحياة المائية وتطورت متخذة أشكال الأسماك، لكن البشر الناشئين حققوا النتيجة نفسها بصفة أساسية محتفظين بكل بصيلات شعرهم تقريبا مع تقليل إنتاج هذه البصيلات. ونتيجة لهذا، يكتسي البشر بغطاء قصير ورقيق جدا من شعر زغبي يكاد لا يرى، ورغم ذلك فإنه لا يزال يغطي جميع أنحاء الجسد البشري.
16
كان لفقدان غطاء الفراء الكثيف مزايا أخرى، ربما أهمها أنه جعل أشباه البشر قادرين على تبريد أجسادهم بطريقة أكثر كفاءة بالتعرق. في واقع الأمر، يعرق البشر على نحو أسرع وأغزر من أي نوع آخر من الرئيسيات. قدرة أشباه البشر على التعرق بغزارة جعلت من الممكن لهم أن يسافروا مسافات طويلة، عند الانتقال بالمخيم أو مطاردة أحد الحيوانات، دون أن تصيبهم حمى. ففي حين يمتلك البشر نحو ألف بصيلة شعر في البوصة المربعة - تقريبا العدد نفسه الذي يمتلكه الشمبانزي - يوجد بجسد الإنسان، في المتوسط، 650 غدة عرقية في البوصة المربعة. هذا يعادل عشرة أضعاف عدد الغدد العرقية المعهود في الأنواع غير البشرية من الرئيسيات. وأخيرا، ساعد فقدان الفراء الكثيف أشباه البشر على السيطرة على مجموعات الحشرات الطفيلية التي ربما تكون قد تضاعفت بضراوة في مضاجع النوع الذي كان يقضي الليلة تلو الأخرى نائما في المكان نفسه.
الخروج من أفريقيا
في عام 1887م، استقال طبيب هولندي شاب يدعى يوجين ديبوا من منصبه المبتغى محاضرا للتشريح في جامعة أمستردام، وأصاب زملاءه الذين هالهم الأمر بصدمة بأن انضم إلى الجيش الهولندي، والتمس أن يرسل إلى جزر الهند الشرقية الهولندية، حيث تمنى أن يعثر على الحلقة الأسطورية المفقودة بين البشر والقردة. كان ديبوا مفتونا بنظريات تطور الإنسان التي كانت مثار حديث المجتمع العلمي الأوروبي في تلك الأيام، وكان متحمسا للغاية عندما استخرج هيكلان عظميان شبه كاملين لإنسان النياندرتال في بلجيكا في العام السابق، مع أدوات حجرية متعددة. وهكذا غادر ديبوا أوروبا مصطحبا زوجته وطفله، ليصل إلى جزيرة سومطرة في ديسمبر من عام 1887م.
مع اثنين من المهندسين وعشرات العمال الذين وفرتهم له الحكومة الهولندية بدأ ديبوا التنقيب في عدد من المواقع في سومطرة، لكن كانت البقايا التي وجدها حديثة النشأة نسبيا. علاوة على ذلك، كانت الأوضاع في سومطرة أقل ما توصف به أنها صعبة؛ فالعديد من العمال أصابهم المرض، والآخرون فروا. وأحد المهندسين تبين أنه عديم الفائدة أما الآخر فمات. لكن ديبوا واصل العمل. وفي عام 1890م بعد قضاء ثلاثة أعوام في سومطرة دون جدوى، أقنع السلطات بنقله إلى جزيرة جاوة، حيث تمنى أن يكون حظه أوفر.
وفي جاوة حالف ديبوا الحظ؛ ففي أكتوبر عام 1891م استخرج ديبوا وعماله غطاء جمجمة كامل من رواسب يبلغ عمرها 700 ألف عام على الأقل، كان قد استخرج منها في العام السابق جزء من فك وضرس. وفي أغسطس من العام التالي، عثر على عظمة فخذ لبشري منتصب القامة على بعد عدة ياردات. كان ديبوا مقتنعا أن هذه كانت بقايا «الحلقة المفقودة»، وأسمى البشري الذي اكتشفه بيثكانثروبوس إريكتوس، «الرجل القرد المنتصب» (انظر شكل
3-3 ).
شكل 3-3: حفريات الهومو إريكتوس (الإنسان منتصب القامة) التي جمعها يوجين ديبوا في جاوة. كانت هذه أول حفريات تكتشف للإنسان الناشئ، الهومو إريكتوس، والذي أسماه ديبوا «رجل جاوة». (المصدر: ويكيميديا كومونز.)
في عام 1894م نشر ديبوا نتائج أبحاثه، وفي العام التالي عاد إلى أوروبا لإلقاء محاضرات والترويج لاكتشافه، لكن كما حدث مع الكثيرين ممن سبقوه وجاءوا من بعده، أثارت اكتشافات ديبوا الشك والجدل عموما. وفي النهاية لم يقتنع بزعم ديبوا بأن «إنسان جاوة» كان إنسانا من عصر ما قبل التاريخ سالفا لنا سوى علماء قليلين. هكذا شعر ديبوا بالسخط لرفض زملائه النتائج التي توصل إليها، حتى إنه مع حلول عام 1900م أخفى عيناته، رافضا مناقشتها أو السماح لأحد بتفحصها. ولم يرها أحد ثانية طوال الثلاثة والعشرين سنة التالية.
عينات ديبوا معروفة الآن عالميا بأنها البقايا الحفرية لهومو إريكتوس، أول من استخرج ووصف من البشر الناشئين، والأقدم كثيرا من حفريات النياندرتال التي عثر عليها في أوروبا، التي كان عمرها أقل من 100 ألف سنة. في وقت اكتشاف إنسان جاوة لم يكن فحسب أول حفرية يعثر عليها لفصيلة أشباه البشر في آسيا، لكنه كان أيضا أقدم حفرية يعثر عليها لأشباه البشر على الإطلاق، لكن مات ديبوا عام 1940م دون أن يدرك القدم الحقيقي لاكتشافه. وقد أشارت تحليلات أجريت لحفريات هومو إريكتوس مماثلة من جاوة أن عمرها أكثر من 1,5 مليون عام؛ أي ضعف العمر الذي تخيله ديبوا.
جنس الأوسترالوبيثيكوس وأشباه البشر الأوائل الآخرين عاشوا تاريخهم بالكامل في القارة الأفريقية، فلم يعثر على أي بقايا لأشباه بشر أوائل في أوروبا أو آسيا. ورغم تكيف أنواع عديدة من أشباه البشر الأوائل مع عدة بيئات مختلفة، منها مروج وغابات معرض ومستنقعات وضفاف أنهار وصحراوات، تقع هذه البيئات جميعها في دوائر العرض المدارية من أفريقيا، لكن الهومو إريكتوس وغيره من البشر الناشئين هاجروا من أفريقيا من مليون وثمانمائة عام على الأقل، وعثر على دليل سكناهم منذ هذه الفترات الزمنية القديمة في أنحاء أوراسيا، في بريطانيا وإسبانيا وفرنسا وجنوب روسيا وباكستان والصين وإندونيسيا.
نظرا لعدم وجود النار، كان أشباه البشر الأوائل يعتمدون على الأشجار للنوم التماسا للحماية ليلا، وكانوا غير قادرين على التوغل بعيدا عن الجبال ووديان الأنهار، حيث تنمو الأشجار بوفرة، لكن التغييرات التي بدأت منذ ثمانية ملايين عام تقريبا في الجيولوجيا والمناخ أدت لانتشار المروج انتشارا هائلا في أنحاء آسيا وأفريقيا، ومنذ ثلاثة ملايين عام اندمجت بيئات السافانا في القارتين لتصير حزاما شاسعا من المروج التي امتدت دون انقطاع من غرب أفريقيا إلى شمال الصين.
17
وهكذا استطاع البشر الناشئون مع وجود النار لحمايتهم أن يتوغلوا لأماكن أبعد فأبعد في هذه المروج الشاسعة؛ ليقيموا في النهاية أنماطا حياتية جديدة على بعد عدة آلاف الأميال من وطنهم الأفريقي.
هل انقرض «إنسان الكهف» حقا؟
في عام 1758م، قبل أكثر من قرن من نشر كتاب داروين «أصل الأنواع»، نشر عالم التاريخ الطبيعي العظيم كارلوس لينيوس الطبعة العاشرة من عمله الرائد «نظام الطبيعة»، ثمرة خمسة وعشرين عاما من العمل المضني الذي صنف فيه كل الكائنات الحية بناء على علاقتها المدركة ببعضها بعضا. كان نظام لينيوس مفيدا وراقيا جدا، حتى إنه سرعان ما تبناه علم الأحياء في زمنه، وظل أساس التصنيف العلمي منذ ذلك الوقت.
لينيوس نفسه ابتكر مصطلح الهومو سيبيانز (الإنسان العاقل)، الذي ظل المصطلح العلمي الخاص بنوعنا، وارتأى أن نقاط التشابه التشريحية بين البشر والسعادين والقردة واضحة للغاية، حتى إنه جمعهم كلهم في رتبة واحدة من الثدييات سماها «الرئيسيات». وقد قسمت هذه إلى خمس فصائل متمايزة، ووضعت أنماط متنوعة من البشر - الحقيقي منها والخرافي - في فصيلة أشباه البشر (انظر شكل
3-4 ).
شكل 3-4: أشكال أنواع مختلفة من البشر الذين كان يعتقد سابقا في وجودهم، كما صوروا في كتاب كارلوس لينيوس «نظام الطبيعة». (المصدر: ويكيميديا كومونز.)
وفي توقع لوجود «إنسان الكهف» الذي روجت له الشائعات، اعترفت الطبعة العاشرة من «نظام الطبيعة» بنوعين حيين من البشر: الهومو سيبيانز والهومو تروجلودايتس «الإنسان ساكن الكهف». لم يكن «إنسان الكهف» لدى لينيوس نوعا منقرضا من بشر ما قبل التاريخ (فهؤلاء لم يكتشفوا إلا بعد مرور مائة عام أخرى)، لكن كان يعتقد بدلا من ذلك أنهم شعب حي من الناس الضئيلي الجسم، يعيشون في الكهوف المتوارية في أدغال جنوب شرق آسيا. كان الدليل على وجود الإنسان ساكن الكهف قصة ذكرها قبل ذلك بأكثر من مائة عام طبيب يدعى بونتياس من شركة الهند الشرقية الهولندية، الذي كان قد عاد من جنوب شرق آسيا برسم ووصف مفصلين لهذه المخلوقات الغامضة.
وبمرور الوقت اكتشف أن وصف بونتياس لم يكن لإنسان كهف، وإنما بالأحرى لإنسان الغاب؛ قرد لم يعش قط في الكهوف، بل يقضي في واقع الأمر معظم وقته عاليا على قمم أشجار الغابات المطيرة. لكن في تحول غريب من تحولات القدر، حين اكتشف عالم وظائف الأعضاء الألماني، يوهان فريدريش بلومنباخ، عام 1776م الشمبانزي لأول مرة، أطلق على نوعه اسم بان تروجلودايتس (الشهواني ساكن الكهوف). رغم ما تقرر في النهاية من أن قردة الشمبانزي لم تكن تلك الكائنات الشهوانية الشبه البشرية التي تعيش في الكهوف، والتي تخيلها بلومنباخ، فقد علق الاسم وظل المصطلح العلمي الصحيح للشمبانزي حتى يومنا هذا.
لكن تأكدت فجأة الفكرة الملحة القائلة بأنه كان ثمة كائنات شبيهة بالبشر تعيش في الكهوف باكتشاف هيكل عظمي عام 1865م لنمط غير مألوف مطلقا من البشر، مختلف تماما عنا، عاش منذ 40 ألف سنة في كهف في وادي نياندر (بالألمانية نياندرتال)، بالقرب من مدينة دوسلدورف. ازدهر إنسان النياندرتال، كما صار هذا النوع معروفا، خلال العصور الجليدية في أوروبا وآسيا، لكنه اختفى منذ نحو 25 ألف عام. ولاعتبار إنسان النياندرتال «دون البشر» في الأصل، فقد اتفق في النهاية على أنه قريب من الإنسان الحديث في حجم الدماغ وسمات أخرى، حتى إنه يعتبر اليوم نوعا فرعيا من الهومو سيبيانز، وأعطي الاسم العلمي هومو سيبيانز نياندرتالنسيس (الاسم العلمي لنوعنا الفرعي هو الهومو سيبيانز).
منذ اكتشاف النياندرتال، استخرج اختصاصيو علم الحفريات البقايا الحفرية لعدة أشباه بشر قدامى من كهوف في أوروبا وآسيا وأفريقيا، دافعين أصول القامة التامة الانتصاب والحركة على قدمين لمراحل أقدم في الماضي؛ فقد اكتشف يوجين ديبوا بقايا الهومو إريكتوس لأول مرة في كهوف جاوة في أواخر القرن التاسع عشر، واكتشف ريموند دارت بقايا الأوسترالوبيثيكوس في كهوف جنوب أفريقيا في عشرينيات القرن العشرين، وعثر على حفريات أخرى للهومو إريكتوس في عشرينيات القرن العشرين مع اكتشاف بقايا رجل بيكين في سلسلة كهوف بالقرب من بيكين في الصين.
بدأت الأدلة على سكن أشباه البشر الكهوف بتمكن البشر الناشئين من تقنية النار، وهي مستمرة حتى اليوم؛ فقد رسم بشر الكرومانيون صورا لحيوانات على جدران الكهوف في فرنسا وإسبانيا منذ أكثر من 25000 عام، وترك سكان إسرائيل القديمة مخطوطات البحر الميت في الكهوف، وبنى هنود بويبلو مساكنهم الصخرية البديعة المنظر منذ ألف عام بحفر الجوانب الرأسية من منحدرات طبيعية في جنوب غرب أمريكا، ولا يزال نحو ثلاثة آلاف من شعوب الخيتانو، غجر إسبانيا، يعيشون في مجمع من الكهوف قريبا من مدينة غرناطة حاليا. وأخيرا، ما زال ملايين الناس يعيشون حاليا في منازل كهفية «ياودونجز» في شمال الصين، حيث مدن بأكملها محفورة في جوانب التلال أو في حفر صنعت في تربة رخوة.
لتتأملوا الأمر؛ فكما يظهر بوضوح السلوك الإنساني العام للعيش في مساحات مغلقة ذات جدران وأسطح متينة وفتحات صغيرة للدخول والخروج، فإن من فطرتنا البشرية أن نكون سكانا للكهوف. نحن البشر، المنحدرون من أجداد عاشوا 55 مليون عام على الأشجار، عاشوا وماتوا في الهواء الطلق في الغابات، لم نعد قادرين على العيش في العراء. فبدلا من ذلك نتوق إلى سقف يظلل رءوسنا في شكل مظلة آمنة لا تحمينا من الرياح والأمطار والثلوج فحسب، ولكن أيضا تشكل بيئة مغلقة مثل الكهف تحتجز الحرارة المنبعثة من نيراننا وتحمينا من هجوم الضواري.
إن إخراج أسود وببور ونمور وضباع ودببة وذئاب ما قبل التاريخ منذ زمن طويل من كل الأماكن تقريبا التي يعيش فيها البشر الآن لم يعد أمرا مهما. تحتاج أجسادنا الخالية من الشعر حماية من طقس الطبيعة القاسي، وقد تخلى أسلافنا منذ زمن بعيد عن عادة النوم في العراء. قد تكون خيام الصيادين وجامعي الثمار وأكواخهم قد أفسحت المجال لمنازل العالم الحديث وشققه، لكن احتفظت هذه المساكن كلها بالعناصر الأساسية لمسكن الكهف البدائي: سقف فوقي وجدران متينة، مع فتحات لدخول الضوء وتوفير سبيل للدخول والخروج من بيوتنا الشبيهة بالكهوف.
في الواقع، إذا نظرتم بموضوعية إلى الهندسة المعمارية لبلدة أو مدينة حديثة سترون بسهولة أنها تتكون من نوعين من البناء: (1) مبان ومنازل قائمة بذاتها، وهي بصفة أساسية أبنية شبيهة بالكهوف قائمة على الأرض بجوار أبنية أخرى شبيهة بالكهوف. (2) ومبان مرتفعة، وهي بصفة أساسية أبنية شاهقة شبيهة بالجروف تتراص فيها شقق شبيهة بالكهوف. هذه الشقق مزودة بفتحات في جوانبها لدخول الضوء والهواء (نوافذ)، بالإضافة إلى فتحات أكبر (أبواب) تؤدي من خلال شبكة من الممرات والسلالم إلى مخارج مفضية إلى العالم الخارجي.
الحقيقة نفسها التي مفادها أن أغلب البشر لا يشعرون بالانزعاج أو بالقليل منه حين يطلون من نوافذ أو شرفات تعلو عن الأرض بمئات الأقدام لهي دليل على انحدار البشر من أسلاف كانوا يسكنون الأشجار. وعدم شعورنا بالمحاصرة وإحساسنا بالأمان والأمن عوضا عنه حين ينغلق علينا بناء شبيه بالكهف، ذو فتحات صغيرة لإدخال الضوء والهواء والدخول والخروج، لهو دليل على التاريخ التطوري لنوعنا من العيش داخل الكهوف؛ في كهوف طبيعية أولا ثم كهوف من تصميمنا وبنائنا. من ثم لم ينقرض إنسان الكهف؛ فهو حي يرزق ويعيش الآن في منازل وشقق في العالم الحديث. •••
حين بدأ البشر الناشئون استخدام النار أطلقوا العنان لمجموعة كبيرة جديدة من القدرات البشرية، محررين أنفسهم أخيرا من الحياة على الأشجار كأسلافهم لتصير حياتهم بالكامل على الأرض، تحميهم النار وأسلحتهم من الضواري التي قاسمتهم موائلهم العديدة والمتنوعة. ولأول مرة في تاريخهم الذي امتد لملايين السنين، استطاع أشباه البشر سكنى الكهوف، في حماية من ظروف الطقس والمناخ وفي دفء نيران المخيمات. كذلك تحرروا من إيقاع النهار المداري المؤلف من اثنتي عشرة ساعة والليل المداري الشبه الثابت؛ فقد سمحت لهم النار بالبقاء مستيقظين لساعات متأخرة من الليل، يؤدون أعمالهم على الضوء المنبعث من النار، ويتواصل بعضهم مع بعض بشأن أحداث النهار. وأخيرا، نوعت النار نظام غذاء أشباه البشر تنويعا كبيرا؛ إذ أتاحت لهم طهي الحبوب والجوز والجذور والدرنات التي يجمعونها؛ مما أعطاهم حرية تناول ما كان غير قابل للأكل قبل ذلك بسبب صلابته أو مذاقه المر أو احتوائه على سموم خطيرة.
كذلك مكنت النار أشباه البشر من طهي اللحوم التي كانوا يحصلون عليها بالصيد - وبالسرقة من صيد ضوار أخرى - مما جعل ما كان غير آمن وعسير الهضم آمنا وسهل الهضم. وبالتكيف مع نظام غذائي من الطعام المطهو، وجد البشر الناشئون طريقة للحد بدرجة كبيرة من مقدار الوقت والطاقة الذي كانوا يحتاجون إليه في مضغ طعامهم اليومي وهضمه، وأثناء ذلك تمكنوا من دعم أدمغتهم المتزايدة الحجم والأكثر «تكلفة». في الواقع، كانت تقنية النار الإنجاز الوحيد الذي عبر به البشر الناشئون - نهائيا ودون رجعة - الفجوة الشاسعة التي فصلت البشر عن باقي مملكة الحيوان منذ ذلك الحين.
في الفصل التالي سنبحث القدم الحقيقي للملبس والمسكن، وسنتأمل الأدلة على أن بشر ما قبل التاريخ كانوا ينعمون بالدفء والجفاف في كهوفهم وأغطية أجسادهم الصناعية، ليس من آلاف السنين - كما يشيع الافتراض - وإنما منذ مئات آلاف السنين؛ فتقنيات الملبس والمسكن هي التي مكنت أشباه البشر المداريين من الإقامة في المناطق المعتدلة في دوائر العرض الشمالية، ومن البقاء على قيد الحياة في شتائها القارص، ومكنتهم من سكنى كل البيئات البرية تقريبا على كوكب الأرض في نهاية المطاف.
الفصل الرابع
تقنيات الملبس والمسكن
القبعات والأكواخ والشملات والخيام
إن بيتك هو جسدك الأكبر.
خليل جبران، «النبي»
من بين كل القطع الأثرية التي استخرجها علماء الآثار من مواقع مخيمات أشباه البشر في عصور ما قبل التاريخ، لم يعثر تقريبا على أي بقايا مادية لمساكن أو ملابس تعود لزمن أقدم من زمن ظهور البشر الحديث تشريحيا في أوروبا منذ أقل من خمسين ألف عام. حدا هذا الانعدام في الأدلة بالعديد من العلماء لاستنتاج أن الملبس والمسكن ظهرا في وقت حديث نسبيا من تاريخ أشباه البشر.
بيد أن تقنية النار مكنت البشر الناشئين من العيش في الكهوف طوال 1,75 مليون عام، وثمة أدلة وفيرة على إقامة أعداد أخرى من البشر الناشئين من تلك الفترة في أماكن لا توجد فيها كهوف مناسبة، فهل لنا بناء على ذلك أن نستنتج أن العديد من البشر الناشئين عاشوا عراة وفي العراء طوال مليوني عام تقريبا دون خرقة على أجسادهم أو سقف فوق رءوسهم كي يحميهم من ظروف الطقس والمناخ؟
المفقود من «العصر الحجري»
للإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نبدأ بذكر أن كل أشباه البشر الذين كانوا يعيشون قبل اختراع الزراعة والتعدين، كانوا رحالة يعيشون على الصيد وجمع الثمار، ولا يصنعون أغلب الأشياء التي يستخدمونها في حياتهم اليومية من الأحجار، وإنما بالأحرى من النباتات والحيوانات التي يجدونها في موائلهم الطبيعية. ولا تستطيع أي من هذه المواد العضوية البقاء مدة طويلة بمجرد طمرها في الأرض، ولا سيما في التربة الدافئة الرطبة للبيئات المدارية التي عاش فيها أغلب المجموعات السكانية من بشر عصور ما قبل التاريخ.
بقايا النباتات والحيوانات الميتة هي الغذاء الطبيعي لأنواع لا حصر لها من الحشرات والرخويات والديدان والفطريات والبكتيريا. وفي المناخ المداري تتغذى مثل تلك الأحياء على الأدوات الأثرية المصنوعة من هذه المواد خلال أيام أو أسابيع، وبعد مرور بضع سنوات تختفي كلها تماما، بل حتى في المناخ المعتدل ليس من المحتمل أن تبقى مثل هذه المواد لأكثر من بضع مئات السنين على أعلى تقدير؛
1
لذا لا غرابة أنه بعد مرور مئات آلاف السنوات يمكن بالكاد العثور على أثر لملبس أو مسكن من عصر ما قبل التاريخ في أطلال أقدم المواقع الأثرية.
شعوب الصيد وجمع الثمار التي عاشت حتى العصور الحديثة ودرسها اختصاصيو علم الإنسان، اعتادت الانتقال من مكان إلى آخر مع تغير الفصول وتبدل مستوى توفر الغذاء النباتي والحيواني باستمرار. في أغلب الحالات كانت المساكن التي بنتها تلك الشعوب الرحالة لأنفسها تقام في مخيمات مؤقتة وتهجر بعد أسابيع أو شهور قليلة. لهذا السبب، فإن كل الممتلكات المادية التي كانت تلك الشعوب تستخدمها في حياتها اليومية كانت لا بد أن تكون صغيرة وخفيفة لدرجة تكفي لحملها من مكان لآخر. وكل شيء صنعته تقريبا كان مركبا من المواد العضوية النباتية والحيوانية القابلة للبلى.
كانت الرماح والسهام والهراوات وعصي الحفر وعصي السير وهياكل الأكواخ والخيام تصنع من جذوع الأشجار والشجيرات وفروعها الخشبية. أما جدران الأكواخ وأسقفها ومواد الفراش ومصدات الرياح فكانت تصنع من النباتات المورقة، ومنها سعف النخيل والحشائش والغاب. وكانت الأسلاك والحبال والشباك والحقائب والأسرة المعلقة تنسج من ألياف موجودة في الكروم والجذور واللحاء. وكانت أوعية الطعام والمياه والأدوات والأسلحة والتمائم والعقاقير والصبغات تصنع من قرعيات وقرون حبوب تم تجويفها، وكذلك الفروع المجوفة للبوص وحشائش المستنقعات والخيزران. أيضا القبعات والأردية والسراويل والمآزر والأحذية والنعال وخيوط الحياكة والأسلاك وأغطية الخيام كانت تصنع من جلود الحيوانات وأوتارها. وكانت أكواب الشراب والمصاغ والأدوات الموسيقية والأوعية الصغيرة بجميع أنواعها تصنع من قرون وعظام وريش ومخالب الطيور والحيوانات.
إلا أن أشباه البشر الذين عاشوا في عصور ما قبل التاريخ، مثلهم مثل الصيادين وجامعي الثمار المعاصرين الذين خضعوا للدراسة من جانب اختصاصيي علم الإنسان، استخدموا مادة محددة في حياتهم اليومية؛ الحجر، الذي لا يمكن أن يتآكل أو يختفي من المواقع الأثرية التي تعود لعصور ما قبل التاريخ.
2
ولهذا السبب، أعطى بقاء آلاف مؤلفة من الأغراض الحجرية من عصور ما قبل التاريخ انطباعا مبالغا فيه عن أهمية الحجر في التقنيات التي استخدمها بشر ما قبل التاريخ؛ فالأدوات الحجرية المتعددة التي عثر عليها علماء آثار قدامى في أطلال مستوطنات ما قبل التاريخ أدت سريعا إلى الاستخدام الشائع لعبارة «العصر الحجري» في وصف فترة التاريخ البشري كلها قبل التعدين.
لكن لم يكن العصر الحجري فترة أو عصرا متمايزا على الإطلاق، حيث إنه اشتمل على التاريخ التطوري الكامل لأشباه البشر، من أول ظهور لهم منذ ملايين السنين حتى البشر الحديث لعالم اليوم. تشمل هذه الفترة الهائلة من الزمن العديد من التقنيات التي جاء وصفها في هذا الكتاب، ومنها ترويض النار، وابتكار الملبس والمسكن، وتطور استخدام الرموز، وتبني الزراعة، وبدايات الحضارة المدنية. في الواقع، لم تبدأ نهاية العصر الحجري فعليا إلا حين بدأ تطوير تقنيات التعدين منذ بضعة آلاف السنين.
حين نضع في الاعتبار أن أقدم الأدوات الحجرية يبدأ تاريخها من ثلاثة ملايين عام تقريبا، يشمل العصر الحجري من هذا المنطلق نحو 99,8 في المائة من التاريخ البشري كله، وستساوي كل «العصور» المتبقية واحدا على خمسة في المائة فقط من زمن أشباه البشر على الأرض، بل إن حضارات العالم الجديد المتقدمة - ومن بينها حضارات الأزتك والمايا والإنكا، بمراكزها الحضرية الزاخرة، وديانتها المعقدة، وكتابتها الهيروغليفية المتطورة، وبيروقراطياتها المنظمة، وإنجازاتها المميزة في الرياضيات وعلم الفلك - ربما تعد مجتمعات وثقافات تابعة للعصر الحجري؛ لمجرد أن تلك الشعوب المعقدة والمتطورة لم تصنع أو تستخدم أدوات وأسلحة معدنية.
3
كذلك أدى مفهوم «العصر الحجري» إلى انطباع خطأ مفاده أن الأدوات الحجرية كانت أكثر الأدوات الأثرية انتشارا التي استخدمها بشر ما قبل التاريخ في حياتهم اليومية، لكن رغم أن الأدوات الحجرية كانت تستخدم في تشكيل مواد أخرى ونحتها وسنها، كان أغلب الأدوات المستخدمة في عصور ما قبل التاريخ تصنع من مواد قابلة للبلى اختفت سريعا من السجل الأثري، إلا أنه يوجد أنواع أخرى من الأدلة في شكل أنماط من الهجرة التي جرت في عصور ما قبل التاريخ، وفي أنماط تلف الأدوات الحجرية، بل وحتى في التاريخ الجيني لقمل الجسد البشري، لكن قبل نظر هذه الأشكال الأخرى من الأدلة لا بد أن نذكر كم هو مألوف أن تنشئ حيوانات ذات قدرات ذهنية أقل منا بكثير أماكن للمعيشة.
أماكن المعيشة التي تبنيها الحيوانات
اختصاصيو علم الرئيسيات الذين درسوا سلوك مجموعات برية من القردة العليا لاحظوا أن كل هذه الأنواع تستخدم مواد طبيعية لبناء أعشاش نوم لأنفسها، بل إنها في بعض الحالات تغطي رءوسها وأجسادها بالزرع لحماية أنفسها من ظروف الطقس. ولم تكن القردة العليا مطلقا أول الحيوانات أو الحيوانات الوحيدة التي تبني مساكنها، فبناء الحيوانات أماكن للسكنى لهو تصرف شديد القدم في تاريخ حياة الحيوانات على الأرض.
النمل والنمل الأبيض - اللذان ظهرا لأول مرة على هذا الكوكب منذ عشرات ملايين السنين، ولديهما «أدمغة» أصغر من رأس الدبوس - يبنيان أعشاشا دقيقة من أجل مستعمراتهما التي تضم آلاف الأفراد بحفر أنفاق وحجرات في الأرض والخشب المتآكل. وتبني الدبابير والزنابير أعشاشها من «ورق» خاص تصنعه بمضغ ألياف الخشب. ويبني النحل خلاياه المذهلة هندسيا من الشمع الذي تنتجه غدد صغيرة جدا واقعة أسفل القشور التي تغطي بطونها.
أما بين الحيوانات العليا، فالعشرة الآلاف من الأنواع الحية من الطيور كلها تقريبا تبني أعشاشها من المواد الطبيعية الموجودة في بيئاتها - ومنها الغصون والفروع والغاب والحشائش والوحل وحتى ريشها - وتستخدمها للنوم، ووضع بيضها، ورعاية صغارها. وثمة أنواع متعددة من القوارض والحيوانات الصغيرة - ومنها الفئران والجرذان والأقداد والسناجب والأرانب وكلاب البراري وقوارض الجوفر والفئران الجبلية - تصنع أعشاشا لنفسها في أشجار مجوفة وجحور تحت الأرض. تتكون بعض هذه الجحور من شبكات معقدة من الأنفاق والحجرات ينام فيها سكانها، ويخزنون طعامهم ويأكلون، ويضعون صغارهم، ويعيشون أكثر حياتهم وهم بالغون.
شكل 4-1: جحر قندس في الشتاء. رغم أن مخه لا يزيد عن حجم الجوز إلا قليلا، فالقندس يبني مسكنا معقدا بمداخل وفتحات تهوية مستترة بمهارة. (صورة توضيحية بريشة مايك ستوري. أعيد طباعتها بإذن.)
أخيرا وليس آخرا، حيوان القندس، وهو من القوارض، يزيد حجم دماغه قليلا على ثمرة الجوز، من عادته أن يقطع الأشجار الصغيرة، وبخلط الجذوع الصغيرة والشتلات بالوحل والأحجار يكون بركا وأهوارا أو يكبر حجمهما حتى يصنع بيئته الخاصة من المياه التي لا يرتفع مستواها عن الخصر. بعد بناء هذه الموائل الصناعية يمضي القندس لبناء مساكنه في شكل بيوت مفصلة بمداخل تحت مائية، وفتحات تنفس للتهوية مخفية بمهارة، وحجرات جافة وفسيحة لتناول الطعام والنوم والولادة وتربية الصغار (انظر شكل
4-1 ).
رغم أنه من المنطقي أن تكون القدرة على بناء هذه المآوي الحيوانية مبرمجة مسبقا جينيا، فإن وجودها بوفرة يثبت أن النوع الحيواني لا يحتاج إلى الحركة على قدمين أو الاستخدام الحر لليدين القابضتين، أو دماغا كبيرا حتى يبني مآوي من مواد طبيعية موجودة في بيئته. في الواقع، قد يكون بناء أشباه البشر لأماكن السكنى قائما لدرجة كبيرة على نزعة جينية قديمة مشتركة تجمع بين كل من أشباه البشر والقردة العليا وموروثة من سلف مشترك.
أعشاش القردة العليا
في عام 1985م نشر كولين بي جروفز اختصاصي علم الإنسان البيولوجي وجوردي ساباتير باي اختصاصي علم الرئيسيات، دراسة رائعة عن الأعشاش التي تبنيها يوميا ثلاثة أنواع حية من القردة العليا - قردة الشمبانزي والغوريلا وإنسان الغاب - وثلاثتهم موجودون مع البشر في فصيلة الرئيسيات التي يطلق عليها اسم الأناسي. تستخدم أعشاش القردة العليا في المقام الأول ليلا من أجل النوم، لكنها تستخدم أيضا من حين لآخر خلال النهار للراحة وتناول الطعام. ذكر جروفز وساباتير باي أن أنواع القردة العليا الثلاثة كلها من بناة الأعشاش، وأن هذه الأنواع تبني عشا جديدا كل يوم، وأن بناء هذه القردة للأعشاش يحتاج قدرا كبيرا من المهارة، وأن عش كل نوع يعطي تصميما متوقعا يكرره كل الأفراد البالغين بانتظام رائع.
4
تعيش قردة أفريقيا الاستوائية من نوعية الشمبانزي والغوريلا بعيدا عن قردة جنوب شرق آسيا من نوعية إنسان الغاب بمقدار عدة آلاف الأميال، وتشعبت أصولها منذ خمسة عشر مليون عام، لكن تشترك الأنواع الثلاثة في العديد من السمات المشتركة فيما يتعلق بعادات بناء الأعشاش؛ فجميع أعشاشها تبنى بالوقوف في موقع واحد، وثني فروع النباتات المورقة التي تحيط بها، ووطء هذه الأوراق والفروع بالقوائم الخلفية، حتى يقام عش كبير على هيئة كوب يبلغ قطره عدة أقدام. كذلك قد تقتطع هذه الأنواع فروعا أخرى من أشجار وشجيرات مجاورة وتضيفها إلى الكومة، وفي حالات عدة تعمل على تشطيب العش بفرشه بنباتات أكثر ليونة لصنع فراش يمنحها مزيدا من الراحة.
كل أعشاش القردة العليا بالحجم والشكل نفسيهما؛ مستديرة أو بيضاوية الشكل، ويتراوح قطرها بين قدمين وأربع أقدام. الأنواع الثلاثة كلها تبني أعشاشا جديدة كل يوم من مواد نباتية في متناول يدها، ودائما ما تستخدمها مرة واحدة فقط. كل عضو بالغ في المجموعة يبني عشه، ولا يتشارك أعشاش النوم إلا الأمهات وأبناؤهن الصغار، ويكاد لا يتشاركه اثنان أو أكثر من البالغين أبدا.
5
والأعشاش التي يبنيها أفراد المجموعة نفسها من القردة دائما ما تبنى إلى حد ما متجاورة في موقع واحد، يعرف باسم «موقع الأعشاش». توحي نقاط التشابه هذه بأن القردة العليا تبني أعشاشها فطريا للنوم، تماما كما تبني الطيور فطريا الأعشاش التي تضع فيها بيضها وترعى فيها صغارها ، لكن الأمور أعقد من ذلك.
فقد تبين أنه ليس هناك سوى القردة التي تولد وتنشأ في البرية - حيث شاهدت النوع الذي تنتمي إليه يبني أعشاشا كل ليلة، وحيث نامت مع أمهاتها طوال السنوات الأولى من حياتها - هي التي تستطيع على ما يبدو أن تبني أعشاشا لأنفسها حين تؤسر؛ فقردة الشمبانزي التي تولد وتنشأ في الأسر لا تبني أعشاشا، حتى إن وضعت في أقفاص مع قردة شمبانزي من المولودة في البرية التي تبني أعشاشها كل يوم. من ثم رغم النزعة الفطرية لدى القردة لبناء الأعشاش، يبدو من الضروري أن تطلع هذه الكائنات على تجارب تعليمية معينة في مرحلة مبكرة من حياتها حتى تتجلى هذه النزعة في سلوكها حين تصير بالغة. بإيجاز، ينطوي بناء الأعشاش بين القردة العليا على عناصر أساسية من كل من التعليم والوراثة.
بالإضافة إلى ذلك، يظهر اثنان من أنواع القردة العليا الثلاثة سلوكيات تبدو بمثابة مقدمات لاستخدام أشباه البشر الملابس؛ فتستخدم قردة الشمبانزي أوراقا كبيرة كأنها «قبعات» لتقي رءوسها أثناء انهمار الأمطار المدارية الغزيرة، وكثيرا ما تغطي قردة إنسان الغاب أجسادها بأوراق وفروع الأشجار ليلا. في بعض الحالات تحمل الفروع السائبة أو توازنها فوق رءوسها لتشكل ما يشبه سقفا بدائيا. في الواقع، غالبا ما تغطي قردة إنسان الغاب الواقعة في الأسر رءوسها بأكياس فارغة، بل وقد تغطي أجسادها بالكامل بالقش عند الاستعداد للنوم.
بعد أن أعطى جروفز وساباتير باي حججهما بشأن تشارك القردة العليا توارث بناء الأعشاش أتبعاها بشيء آخر؛ فقد أشارا إلى أن أسلاف أشباه البشر وقردة الشمبانزي تباعد بعضهما عن بعض منذ نحو سبعة ملايين عام، في وقت متأخر كثيرا عن انفصال سلف أشباه البشر عن إنسان الغاب، الذي كان منذ خمسة عشر مليون عام تقريبا؛ ولذلك فهما يجادلان أنه من المحتمل أن تكون النزعة الجينية لبناء أماكن للعيش الجلية جدا بين كل القردة العليا موجودة أيضا في الحمض النووي لأشباه البشر، بما يشمل من عاش منهم في العصور الحديثة وفي عصور ما قبل التاريخ.
كتب الاثنان يقولان: «لا بد أن نكون واضحين تماما بشأن سبب شعورنا بأن لدينا مبررا للبحث عن أصل مشترك لأنماط بناء الأعشاش/بناء المخيمات بين البشر والقردة العليا ... فحين تؤدي أربعة أنواع - قردة إنسان الغاب والشمبانزي والغوريلا والبشر - نشاطا معينا تشابهت مكوناته الحركية ونتائجه النهائية، فإن مبدأ الاقتصاد في التفسير يشير إلى أن آخر جد مشترك بينهم كان يفعل الشيء نفسه، وأن نسله ظلوا يفعلونه منذ ذلك الوقت ... فبما أن إنسان الغاب أقل قرابة للغوريلا والشمبانزي من قرابة البشر إليهما، كان هذا السلوك ليصير موجودا في سلالة الإنسان البدائي كذلك.»
6
ثم يمضي المؤلفان فيعددان نقاط التشابه بين أماكن المعيشة التي يقيمها القردة وتلك التي يقيمها صيادو وجامعو ثمار العصر الحديث.
كل عش من أعشاش القردة يستخدمه فرد واحد، وهو دائري أو بيضاوي الشكل، ويتراوح قطره بين قدمين إلى ثلاث أقدام. أما مسكن الإنسان فتستخدمه أسرة مصغرة واحدة، وذو شكل دائري أو بيضاوي، ويتراوح قطره بين ست وثماني أقدام (المساكن ذات الجوانب المربعة لم يبنها الصيادون وجامعو الثمار؛ فلم تظهر هذه المساكن حتى بدأ البشر الحديث تشريحيا بناء منازل دائمة لأنفسهم حين تبنوا تقنية الزراعة منذ أقل من عشرة آلاف عام). في العادة يشتمل كل من مواقع أعشاش القردة ومواقع مخيمات البشر على عدد يتراوح بين عشرين وثمانين فردا، وتنشأ كلتاهما داخل منطقة دائرية أو بيضاوية يتراوح قطرها بين ثلاثين وستين قدما. وداخل كل من مواقع أعشاش القردة ومواقع مخيمات أشباه البشر، دائما ما يفصل بين كل عش وآخر أو مسكن وآخر مسافة تبلغ نحو اثنتي عشرة قدما.
أوجه التشابه بين أعشاش القردة العليا ومساكن أشباه البشر - وحقيقة أصلهما المشترك - تشير إلى أربعة استنتاجات محتملة. أولا: قد يكون في الحمض النووي لأشباه البشر مكون جيني هو ما يمنح كل أشباه البشر الاستعداد لبناء المسكن. ثانيا: من المحتمل أن هذا الاستعداد الجيني كان موروثا من قردة عصور ما قبل التاريخ التي كانت سالفة لكل من أشباه البشر والقردة العليا. ثالثا: إذا كان ثمة عنصر أساسي من التعلم في قدرة القردة على بناء الأعشاش فلا عجب أن يكون هناك عنصر تعلم أساسي شبيه أيضا في قدرة أشباه البشر على بناء المسكن. ورابعا: ربما كان نشاط إنشاء أماكن السكنى سمة ثابتة في سلوك أشباه البشر، وربما كانت قد اكتملت بالفعل حين ظهرت القدرة على السير على قدمين لأول مرة لدى أوائل أشباه البشر منذ فترة تتراوح بين خمسة وستة ملايين سنة.
لكن يصادفنا هنا مرة أخرى تحفظ علم الحفريات، الذي يميل إلى الافتراض - مع الافتقار إلى أدلة تثبت العكس - أن أفضل طريقة لرؤية عدم وجود دليل اعتباره دليلا على عدم الوجود؛ فرغم مهارات القردة العليا الموثقة جيدا في بناء الأعشاش - واستنتاج اختصاصيي علم القردة العليا أن هذا السلوك شائع بين هذه الأنواع - ما يزال الكثيرون من اختصاصيي علم الحفريات يجادلون بأن أشباه البشر لم يبنوا قط مساكنهم حتى ظهور الإنسان الحديث تشريحيا في أوروبا منذ أقل من خمسين ألف عام.
أما الهومو إريكتوس، بدماغه الكبير نسبيا وسريع النمو، فلم يكن ليصعب عليه كثيرا أن يبني كوخا بدائيا بحبك العصي والأعمدة معا وتغطية هذا الإطار بجلود الحيوانات أو الأوراق والفروع. ولا كان ليصعب على هذا الكائن الواسع الحيلة أن يحيك من جلود الحيوانات قبعات وعباءات ليحمي نفسه من أشعة الشمس الحارقة والأمطار الغزيرة في المناطق المدارية. ورغم عدم العثور على بقايا مادية لمثل تلك المصنوعات العتيقة في أقدم المواقع الأثرية، هناك أنواع أخرى من الأدلة التي توحي بأن أنواعا أخرى من أشباه البشر الذين عاشوا في عصور ما قبل التاريخ قد صنعوا بالفعل المساكن والملابس، واستخدموها قبل ظهور الإنسان الحديث تشريحيا في المشهد بوقت طويل.
مساكن أشباه البشر
رغم قلة الآثار التي يمكن العثور عليها لمساكن أشباه بشر من فترات زمنية موغلة في القدم، إلا أنه ثمة استثناءات مثيرة. أحد أهم هذه الاستثناءات عبارة عن تكوينات معينة من أحجار وأغراض أخرى ثقيلة عثر عليها مرتبة في دوائر أو مدارات بيضاوية في بعض أقدم مواقع السكن المكشوفة التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ. رأى بعض اختصاصيي علم الحفريات أن هذه الدوائر الحجرية هي بقايا للأساسات التي وضعها أشباه بشر من عصور ما قبل التاريخ لحمل جدران المساكن التي أقاموها من إطار من العصي، والتي غطوها بجلود الحيوانات أو سقفوها بسعف النخيل أو الغاب أو الحشائش.
أقدم هذه الدوائر الحجرية - وأكثرها إثارة للجدل - مجموعة من كتل البازلت الضخمة (حجر بركاني) عثر عليها لويس ليكي في مضيق أولدوفاي في شرق أفريقيا، في رواسب يعود تاريخها إلى 1,8 مليون سنة. تكاد تخلو المنطقة داخل هذه الدائرة الحجرية تماما من أي قطع أثرية، في حين يتناثر في المنطقة الواقعة خارج الدائرة مباشرة بقايا لأدوات وعظام فريسة من الحيوانات. هذا يوحي بأن أشباه البشر الأوائل الذين سكنوا هذا الموقع كانوا يلقون بنفاياتهم خارج مسكنهم مع جعل المسكن من الداخل خاليا نسبيا من أي ركام أو فضلات، وهو نمط سلوكي لوحظ كثيرا بين الصيادين وجامعي الثمار المعاصرين.
ثمة أدلة أكثر حسما على هيئة دوائر حجرية موثقة بعناية ارتبطت بمواقع تعود إلى عصور ما قبل التاريخ في أوروبا. يقع أحد هذه المواقع في تيرا أماتا، وهو موقع مكشوف بالقرب من نيس في جنوب فرنسا، والآخر هو بيلزينجسليبين، وهو موقع مكشوف في وسط ألمانيا. وفقا للتقديرات، يبلغ عمر هذين الموقعين 380 ألف عام، وتلك كانت فترة دافئة في المناخ العالمي، حين أنشأت أعداد من الإنسان المنتصب القامة، هومو إريكتوس، الأكثر تطورا في شمال أوروبا
7
مقرات إقامة دائمة؛ فقد عثر في كل من تيرا أماتا وبيلزينجسليبين على مجموعات من الأحجار المرتبة في تشكيل دائري مميز، وفي كلتا الحالتين فسر العلماء الذين نقبوا في هذه المواقع وجود هذه الدوائر الحجرية بأنها أساسات لأكواخ صغيرة.
في تيرا أماتا، على ساحل البحر المتوسط الفرنسي، وجد عالم الآثار الفرنسي هنري دو لوملي بقايا رماد وسط كل دائرة حجرية، في إشارة إلى أن السكان كانوا يشعلون النار داخل أكواخهم بانتظام. كذلك تعرف دو لوملي على عدة جدران منخفضة من الأحجار وحصى الشواطئ التي كانت قد أقيمت على الجانب الشمالي الغربي من كل مستوقد، لحماية النار على ما يفترض من رياح «المسترال» العاتية التي كثيرا ما تهب من الشمال الغربي في تلك المنطقة. كان دو لوملي يعتقد أن أسطح أكواخ تيرا أماتا كان يحملها شيء شبيه ب «وتد الخيمة» يقف في وسط الكوخ، وافترض أن كلا من هذه الأكواخ كان مزودا بثقب في السقف لإخراج دخان النار التي كانت تشعل بداخلها.
وفي بيلزينجسليبين قضى عالما الآثار الألمانيان ديتريش وأورسولا مانيا سنوات في التنقيب في موقع سكني مكشوف كبير أسفرت عن العثور على عظام مشروخة ومكسرة للعديد من حيوانات الصيد، والكثير من الأدلة على إشعال النار، وآلاف الأدوات المصنوعة من الأحجار والعظام والقرون والعاج. وجد آل مانيا في بيلزينجسليبين إطارات لثلاث حلقات بيضاوية وأغراض ثقيلة أخرى اعتقدا أنها كانت أساسات لمساكن. وكانت مداخل كل هذه الأساسات تفضي إلى الجنوب الشرقي؛ بما يوحي بأنها كانت مبنية لتحاشي الرياح الشمالية الغربية السائدة. وأخيرا، كانت آثار المواد المحترقة، أمام هذه الحلقات البيضاوية الثلاث، تشير إلى أن سكان بيلزينجسليبين كانوا يضرمون النار في مداخل هذه المساكن بانتظام.
حين بدأ بشر النياندرتال بعد ذلك بمدة طويلة الاستقرار في شمال أوروبا واصطياد الماموث الصوفي ووحيد القرن الصوفي والخيول البرية والماشية البرية أثناء العصور الجليدية الأخيرة، استخدموا عظام الماموث في بناء جدران من أجل مساكنهم الشبيهة بالحصون. أقدم هذه المواقع يكاد يبلغ 45 ألف عام، ويوجد في موقع مولدوفا الأول في أوكرانيا، حيث وفقت معا فكوك وجماجم وعظام أطراف كبيرة تعود لهياكل خمسة عشر ماموثا على الأقل، ورتبت في دائرة كبيرة. يماثل موقع مولدوفا الأول بدرجة كبيرة أطلال مستوطنات أخرى من عظام الماموث بناها بشر حديث تماما منذ نحو 15 ألف سنة. لم يبق شيء من جدران هذا البناء وأسقفه، الذي ربما كان مكونا من إطار من العصي مغطى بجلود الحيوانات الضخمة - الماموث ووحيد القرن وثور البيسون والماشية البرية - التي كان يصطادها سكانه غير العاديين.
لكن حين استنتج العلماء الذين نقبوا في مواقع تيرا أماتا وبيلزينجسليبين ومولدوفا أن هذه الدوائر من الأحجار وعظام الماموث كانت بقايا لمساكن، سريعا ما واجهت تفسيراتهم تحديات؛ فرغم المعرفة المتقدمة بالنجارة التي أبداها البشر الناشئون في أزمنة مبكرة منذ 400 ألف سنة، إلا أن انعدام الجدران والأسقف جعل العديد من اختصاصيي علم الحفريات يتقدمون بتفسيرات بديلة لوجودها. شملت هذه التفسيرات نظريات تقول بأن الدوائر ربما تكونت جراء حركات طبيعية للتربة، أو من إزالة ركام غير مرغوب فيه، أو حتى ربما أقامها أحد شعوب ما قبل التاريخ كجزء من طقس ديني افتراضي ما.
لكن حين نضع في اعتبارنا أنه حتى أطلال المساكن التي تعود لفترات تاريخية حديثة نسبيا تكاد تخلو تماما من آثار لإطارات خشبية، أو سقوف من القش، أو أغطية من الجلود التي كانت فيما مضى جزءا من بنائها الأصلي في وقت ما، فلا نجد سببا لتوقع أن تحتوي المساكن الأقدم منها بمئات المرات على مثل تلك الأدلة. وقد تكون هذه حالة أخرى من الحالات التي يساء فيها تفسير عدم وجود دليل على أنه دليل على عدم الوجود.
8
إلا أنه ثمة أدلة قوية على أن معالجة جلود الحيوانات تعود إلى زمن بعيد من عصور ما قبل التاريخ من حياة أشباه البشر، وقد أكد هذا الفحص المجهري لأدوات حجرية قديمة، وخاصة الأدوات المسطحة الضخمة ذات الحد القاطع الواحد المسماة بالمكاشط. عند النظر إلى الحد القاطع لهذه الأدوات تحت المجهر، يمكن رؤية نمط مميز من التآكل، وهذا «التآكل المجهري» يشير إلى أن العديد من هذه المكاشط كان يستخدم في إزالة اللحم والدهن من الجانب السفلي لجلود الحيوانات. في الواقع، يعود دليل التآكل المجهري على استخدام أدوات حجرية في كشط الجلود إلى 780 ألف سنة على الأقل، وقد استمر هذا السلوك دون انقطاع في ثقافات الصيد وجمع الثمار حتى صارت الأدوات المعدنية متاحة في العصور الحديثة.
إزالة اللحم من الجلود خطوة أولى ضرورية في عملية تحويل جلد الحيوانات إلى جلد مدبوغ. الجلود التي كان يدبغها الصيادون والجامعون كانت تستخدم كلها تقريبا في غرض من ثلاثة أغراض؛ أولا: من أجل أسقف الخيام والأكواخ وأغطيتهما. ثانيا: من أجل الفراش المستخدم داخل مساكن أشباه البشر. وثالثا: من أجل الأثواب والعباءات والقبعات والأحذية والقفازات، وسائر الملابس الأخرى التي لا بد أن أشباه البشر كانوا يرتدونها حين استقر بهم المقام في البداية في المناطق الشمالية البعيدة. الدليل على أن جلود الحيوانات الخام كانت تدبغ هو في حد ذاته دليل غير مباشر على أن أناس ما قبل التاريخ كانوا يبنون مساكن ويحيكون ملابس منذ مئات آلاف السنين.
انتهاء مرحلة العراء
لا توجد سوابق تذكر لارتداء أي أنواع حيوانية غير أشباه البشر للملابس. يأتي اختراع أشباه البشر للملابس، جنبا إلى جنب مع ترويض استخدام النار، كأحد الإنجازات الفريدة التي تميزنا عن كل الأشكال الأخرى من الأحياء الحيوانية. ويعود استخدام الجلود المدبوغة وغيرها من المواد الطبيعية في ستر أجساد أشباه البشر مئات آلاف السنين إلى زمن البشر الناشئين.
أقوى دليل على أن البشر الناشئين صنعوا الملابس واستخدموها يقوم على الحقيقة الراسخة أنهم بدءوا منذ زمن بعيد الاستقرار في مناطق جغرافية بعيدة جدا شمالا، حتى إن البقاء على قيد الحياة في تلك المناطق دون ملابس كان سيصير مستحيلا من الأساس. رغم أن بعض جماعات الهومو إريكتوس كانت بالفعل قد استقرت في المناطق الشبه المدارية في أوروبا وآسيا منذ مليوني عام، فإنهم لم يتوسعوا إلى الدوائر الشمالية قبل نصف مليون عام مضت؛ أي بعدها بنحو 1,5 مليون عام.
لماذا هاجر الهومو إريكتوس شرقا قاطعين آلاف الأميال من المروج ليستقروا في بيئات جاوة وجنوب الصين الشبه المدارية بدلا من عبور بضع مئات الأميال شمالا إلى بيئات شمالي أوروبا وآسيا الغنية بحيوانات الصيد؟ ولماذا كان ليمر أكثر من مليون عام بين زمن مغادرة الهومو إريكتوس لوطنهم الأفريقي وزمن توسعهم النهائي في الأراضي الشمالية؟ الإجابة الأكثر ترجيحا هي أن فصول الشتاء في الدوائر الشمالية كانت ببساطة باردة جدا بالنسبة إلى حيوان مداري صار عاريا كجزء من تكيفه للعيش باستخدام النار. في الواقع، ما كان لأحد أشباه البشر أن يستطيع البقاء على قيد الحياة دون ملابس في مناخات كانت تنخفض فيها دائما درجات حرارة الشتاء لأدنى من ثلاث وخمسين درجة فهرنهايت.
9
رغم أنه من المحتمل أن يكون الهومو إريكتوس قد استخدموا النار لحماية نوعهم من الضواري، ولإطالة وقت بقائهم مستيقيظين، ولطهي طعامهم، لم تلعب النار دورا فعالا في الحماية من البرد إلا حين أصبح البشر الناشئون آمنين في مخيماتهم ليلا. أما نهارا، أثناء صيدهم الحيوانات وجمعهم الفاكهة والخضروات، فإن إشعال النار بالخارج في العراء كان سيصبح غير عملي، بل وقليل الفائدة كذلك في بعث الدفء. بناء على ذلك، كان أشباه البشر، حتى يتخذوا نمط الحياة البدوي من صيد وجمع ثمار في الطقس البارد، سيحتاجون الملبس: قبعات لرءوسهم، وأثواب لأبدانهم، وربما أحذية عادية أو طويلة لأقدامهم وقفازات لأياديهم. وأخيرا، لا بد أن الهومو إريكتوس كانوا قد تعلموا حياكة كل هذه الأشياء أو أغلبها من جلود الحيوانات.
لعلكم تتذكرون أنه منذ 400 ألف عام، كما أظهرت رماح شونينجين بوضوح، كانت جماعات الهومو إريكتوس التي تعيش في ألمانيا تصنع أغراضا خشبية دقيقة تحتاج قدرا كبيرا من المهارة والتخطيط، وعملية تصنيع معقدة متعددة المراحل. لا يوجد سبب إذن لافتراض أن صناع مثل تلك الأدوات لن يكونوا قادرين بالمثل على صنع قبعات وأثواب وقفازات وأحذية لأنفسهم. إذن من المرجح جدا أن بدء ظهور بقايا للهومو إريكتوس في شمال أوروبا وآسيا منذ نحو 500 ألف عام هو المرحلة التي بدأت فيها تقنية المساكن والملابس تأخذ مكانها في تاريخ البشر إلى جانب التقنيات الرئيسية الأخرى من رماح وعصي حفر ونار، وكان هذا قبل ظهور الإنسان الحديث على الساحة بوقت طويل.
اختصاصيو علم الإنسان الذين درسوا احتياجات بشر النياندرتال للطاقة، الذين ظهروا بعد البشر الناشئين وعاشوا في شمال أوروبا أثناء الجزء الأخير من العصور الجليدية، استنتجوا أنه رغم أن بشر النياندرتال ضخام الجثة مفتولو العضلات كانوا قد «تكيفوا مع البرد»؛ فإنهم لم يتميزوا كثيرا عن الإنسان الحديث تماما في قدرتهم على البقاء على قيد الحياة في الجو البارد . في الواقع، قدر أن بشر النياندرتال لم يكونوا ليقووا على تحمل الأجواء الشتوية في المناطق التي سكنوها في شمال أوروبا دون تغطية ما بين خمسين إلى تسعين في المائة من أجسادهم بكساء من نوع ما.
ولتحديد أرجحية صنع بشر نياندرتال شمال أوروبا واستخدامهم الملابس، أجرى ناثان ويلز اختصاصي علم الإنسان استقصاء شاملا للتقارير المنشورة عن الملابس التي صنعتها وارتدتها 245 مجتمعا من مجتمعات الصيد وجمع الثمار التي درسها اختصاصيو علم الإنسان على مدار المائة عام الماضية أو نحو ذلك. وقد وجد ويلز أن القدر الذي كان يغطيه الصيادون وجامعو الثمار من أجسادهم بالملابس كان ملائما تماما مع المناخات الشتوية في البيئات التي سكنتها هذه المجتمعات.
أشار ويلز أن الشعوب الناطقة بلغة كري السهول في ألبيرتا وساسكاتشوان - منطقة في السهول الكبرى الشمالية حيث فصول الشتاء طويلة وباردة - دائما ما يرتدون مئزرا وطماقا من الجلد، وأخفافا ذات عازل من الحشائش، وقبعة تغطي بعض الرأس، ورداء من جلد الجاموس فوق الجذع وكتف واحدة. وفق حسابات ويلز، يغطي الزي التقليدي لشعوب الكري 77,5 في المائة من الجسم. وقد أعطت الثقافات الأخرى ذوات المناخ البارد نتائج مشابهة؛ فقد كان نساء شعب التلينجيت في شمال غرب المحيط الهادئ يرتدين قمصانا مفصلة وتنورات داخلية من نسيج لحاء أشجار الأرز، وبطاطين من صوف خراف الجبل، وقبعات مصنوعة من الجذور غير منفذة للماء، تغطي 77 في المائة من الجسم، حتى بالرغم من أنه في الساحل الشمالي الغربي، حيث نادرا ما تنخفض درجة الحرارة في الشتاء انخفاضا كبيرا لأقل من درجة التجمد، كانت النساء يعتدن الخروج دون تغطية أسفل سيقانهن وأقدامهن (انظر شكل
4-2 ).
شكل 4-2: ابن زعيم جماعة كري السهول في زي احتفالي. لاحظ ملابسه المخيطة التي تكاد تغطي جسمه بأكمله وهو من شعوب الصيد والجمع في سهول أمريكا الشمالية. (جيرالدين مودي/المؤسسة الكندية للمكتبات والمحفوظات.)
مستندا إلى حساباته لحجم الجسد البشري الذي كان يغطى بالملابس في مجتمعات الصيد وجمع الثمار المعروفة، انتهى ويلز إلى أن أغلب جماعات النياندرتال التي كانت تعيش في أوروبا اضطرت لارتداء ملابس حتى تبقى على قيد الحياة. في الواقع، العديد من المناطق الأثرية التي احتوت على أدوات حجرية صنعها بشر النياندرتال واستخدموها، تقع في مناطق كانت ستحتم على سكانها أن يغطوا ما بين 70 و90 في المائة من أجسادهم خلال الشتاء. والعديد من هذه المواقع كانت في مناطق يرجح فيها أن يكون بشر النياندرتال قد غطوا كذلك أياديهم وأقدامهم في أشد الشهور برودة (انظر شكل
4-3 ).
شكل 4-3: خريطة لأوروبا تبين الحد الأدنى من الجسم الذي كان لا بد أن يغطيه بشر النياندرتال بالملابس للبقاء على قيد الحياة قبل 70000 و50000 عام. (الصورة منسوخة من جريدة «هيومان إفوليوشن»، السنة 63، العدد السادس، ناثان ويلز، نمذجة ملابس إنسان النياندرتال باستخدام نظائر إثنوغرافية، صفحة 786، حقوق النشر لعام 2012م، بتصريح من «إلسفير».)
افترض ويلز أن النياندرتال كان يصنع ملابسه من جلود الحيوانات الضخمة مثل الماشية البرية والخيول والماموث، وانتهى في الوقت نفسه إلى أن عدم وجود أي أثر لأدوات حياكة، مثل إبر من العظام، في مواقع النياندرتال يوحي بأنه، على عكس صيادي وجامعي ثمار العصر الحديث، مثل شعوب الكري والتلينجيت، كان بشر النياندرتال يرتدون جلود الحيوانات كاملة على غرار الشمال، ويثبتونها على أجسادهم بسيور مصنوعة من الجلود أو الأوتار.
في وقت لاحق ومع ظهور الإنسان الحديث تشريحيا في أوروبا، بدأ تفصيل الملابس بالشكل الموجود بين الصيادين وجامعي الثمار المعاصرين. والملابس المفصلة يجب خياطتها بإبر وخيوط، ويجب أن تكون على مقاس الأطراف والجذع حتى توفر أقصى حماية ضد البرد. بقايا الإبر المصنوعة من العظام وأدلة أخرى من المواقع التي كان يسكنها بشر الكرومانيون وغيرهم من أجناس الإنسان الحديث تشريحيا توحي بأن الملابس المفصلة نشأت مع نوعنا، الهومو سيبيانز، إلا أن التاريخ الطبيعي لطفيل دقيق يغزو جسد الإنسان يعطي مزيدا من الأدلة على أن أول ملابس غير مفصلة لم تنشأ أثناء عصر الكرومانيون أو النياندرتال منذ عشرات آلاف السنين، وإنما خلال عصر البشر الناشئين منذ مئات آلاف السنين.
قصة ثلاث قملات
كل من قردة الشمبانزي والغوريلا يصيبها نوع واحد فقط من القمل ، لكن الجسد البشري يعيش فيه ثلاثة أنواع مختلفة من القمل؛ فقمل الرأس البشري يعيش في شعر فروة الرأس، وقمل الجسم البشري يعيش في ملابس الإنسان، وقمل العانة يعيش في شعر العانة، وهو المسئول عن الحالة المنقولة جنسيا المعروفة باسم «القمل السرطاني». خلال تسعينيات القرن العشرين، أجرى عدد من العلماء سلسلة من التحاليل الجينية الدقيقة لهذه الأنواع المختلفة من القمل في محاولة لإعادة تنظيم تاريخها التطوري (انظر شكل
4-4 ).
شكل 4-4: أنواع القمل الثلاثة التي تصيب جسم الإنسان. أعلى اليسار: قملة الجسم البشري. أعلى اليمين: قمل الرأس البشري. تحت: قمل العانة البشرية. (صورة قملة الرأس البشري؛ مصرح بالنشر بموجب رخصة المشاع الإبداعي الإصدار 3,0 التي تقتضي نسب المصنف لصاحبه والترخيص بالمثل. صورتا قملة الجسم البشري وقملة العانة بتصريح من مراكز مكافحة الأمراض، التعرف المختبري على الأمراض الطفيلية.)
قمل الرأس البشري وقمل الجسم البشري هما نويعان متقاربان، وكلاهما يتقاسمان أصلا مشتركا مع قمل الشمبانزي، الذي يبدو أنهما انفصلا عنه منذ ستة ملايين عام تقريبا. هذا يبدو منطقيا تماما؛ حيث إنه يتفق مع المرحلة الزمنية التي يعتقد أن أشباه البشر والشمبانزي انفصلا فيها عن أصلهما المشترك (أحد قردة ما قبل التاريخ الذي لم يحدد بعد).
من ناحية أخرى، يشترك قمل العانة البشري في أصله مع قمل الغوريلا الذي يبدو أنه انفصل عنه منذ ثلاثة ملايين سنة تقريبا. هذا التاريخ هو الأغرب؛ حيث إن أشباه البشر انفصلوا عن أصلهم المشترك مع الغوريلا منذ سبعة ملايين عام على الأقل. وحيث إنه من المستبعد للغاية أن يكون بعض من أسلافنا أشباه البشر قد جامعوا بعض قردة الغوريلا منذ ثلاثة ملايين عام، فمن المحتمل أن يكون قمل العانة الأصلي المعني قد انتقل من الغوريلا إلى أشباه البشر حين لجأ أحد أشباه البشر الأوائل للنوم في عش مهجور لبعض قردة الغوريلا.
إلا أن مدة الثلاثة ملايين عام هذه ربما لها دلالة أكثر أهمية؛ فقمل العانة لا يعيش في الرأس ولا الجسد، وإنما بالأحرى في شعر منطقة العانة، وهذا قد يكون دليلا على أن أشباه البشر فقدوا شعر الجسم منذ ثلاثة ملايين سنة. إن كان هذا صحيحا فلنا أن نرجع بتقنية النار لزمن أبعد في الماضي من 1,75 مليون سنة التي كنا قد قدرناها في هذا الكتاب.
في السعي لتحديد تاريخ بداية استخدام الملابس، نجد أن أهم حدث في تاريخ هذه القملات الثلاث هو اللحظة الزمنية التي انفصلت فيها قملة الجسم عن قملة الرأس. المنطق وراء هذا الافتراض هو أن قمل الجسم يثقب الجلد ليتغذى على الدم، لكنه لا يعيش على الجلد نفسه؛ إذ يعيش قمل الجسم بالأحرى في الملابس التي نرتديها؛ من ثم لا يمكن أن يكون قد تطور إلا بعد أن صار أشباه البشر يرتدون ملابس بصفة دائمة.
تتباين التقديرات حول تاريخ انفصال قملة الجسم عن قملة الرأس من دراسة لأخرى، لكن تتراوح كل التواريخ بين 80 ألف و170 ألف سنة. ستلاحظون أن هذا التاريخ أحدث كثيرا من فترة الخمسمائة ألف عام التي مضت حين بدأت شعوب الهومو إريكتوس التوسع في الدوائر الشمالية، لكنه يتفق تماما مع الفترة التاريخية التي بدأ فيها ظهور أقدم أدلة للإنسان الحديث تشريحيا. لقد طرح تفسيران محتملان لهذه التواريخ المتباينة.
ثمة احتمال أن سلالات القمل الموجودة حاليا لدى البشر الأحياء كانت سلالات حديثة وقد تطورت لدى الشعوب القديمة من الإنسان الحديث تشريحيا، في حين أن السلالات الأقدم من القمل التي كانت تعيش في رءوس وأجسام الهومو إريكتوس وغيرهم من البشر الناشئين اندثرت فحسب حين انقرض البشر الناشئون أنفسهم. أما التفسير المرجح الآخر فهو يستند إلى الاختلاف بين الكساء غير المحيك الذي كان يصنعه البشر الناشئون وبشر النياندرتال في مقابل الكساء المحيك الذي صنعه الإنسان الحديث تشريحيا الأحدث عهدا.
أول ما بدأ أشباه البشر ارتداء الملابس - الذي لا بد أنه حدث منذ ما يقرب من نصف مليون عام، حين أخذوا يستقرون في بيئات متوغلة جدا شمالا وشديدة البرودة على أن يبقوا فيها على قيد الحياة دون ملابس - يرجح أن ملابسهم اشتملت على أردية أو عباءات فضفاضة من الجلد تبسط حول الجسم وتشبك بارتخاء بسيور من الجلد أو الأوتار. لم تلائم مثل تلك الملابس شكل الأطراف والجذع، ولم تكن متشبثة بالجلد.
ربما لهذا السبب لم توفر الملابس غير المحيكة بيئة حامية بدرجة كافية لقمل الرأس ليهجر الفروة ويبدأ العيش في جسد أشباه البشر غير المشعر نسبيا والتكاثر فيه، لكن الإنسان الحديث تشريحيا الذي ظهر في شمال أوروبا منذ نحو 50 ألف عام كان يصنع ملابس محيكة بالكامل ملتصقة بجسمه، مثل ملابس شعوب الكري والتلينجيت التي درسها بعض اختصاصيي علم الإنسان المعاصرين. وقد عرفنا هذا من آثار النسج والحياكة التي عثر عليها في مواقع أثرية تعود لعصور ما قبل التاريخ عاش فيها الإنسان الحديث تشريحيا.
10
من المحتمل بناء على هذا أن قملة الجسم البشري لم تبدأ استغلال بيئتها المناسبة في ملابس البشر إلا حين بدأ الإنسان الحديث ارتداء الملابس الملاصقة للجسم التي وفرت ملاذا آمنا بين ملابسهم المحيكة حديثا وجلدهم الدافئ العاري. إن صح ذلك فهذا سيفسر لماذا يبدو أن قملة الجسم البشري قد ظهرت على الساحة بعد تقنية الملابس بوقت طويل جدا. أما كيفية انتقال قملة شعر العانة البشرية من قردة الغوريلا إلى أشباه البشر فهو أمر ما زال بحاجة للبحث.
حماية الرضيع البشري «المبتسر» ودماغه الضخم
منحت تقنية المساكن والملابس أشباه البشر درجة من الحرية والمرونة في التعامل مع الطبيعة لم ينعم بها أي نوع حيواني آخر؛ فلم يعد سكنهم مقتصرا على الكهوف التي تتيحها الطبيعة في بيئاتهم، وإنما صار أشباه البشر عوضا عن ذلك قادرين على بناء كهوفهم الصناعية؛ مما أتاح لهم الاستقرار أينما توفر الغذاء متقين الرياح والأمطار بأكواخهم البدائية، ومحتمين من الضواري بنيران مخيماتهم الليلية.
كما رأينا في الفصل السابق، مكنت القدرة على السيطرة على النار أشباه البشر من الاستعاضة بمجموعة من الأطعمة المطهوة الأسهل هضما عن أنظمة الغذاء النيئ لدى أسلافهم أشباه البشر الأوائل. أتاح الطهو لأشباه البشر الأوائل تلبية احتياجاتهم من الطاقة بأجهزة هضمية أصغر حجما؛ ومن ثم دعم أدمغتهم التي ازداد حجمها. بيد أن هذا نصف القصة فقط؛ فمع تزايد حجم دماغ أشباه البشر نشأت مشكلة أخرى؛ مشكلة مختلفة تماما عن المشكلة الكيميائية الحيوية المتعلقة بتزويد هذا النسيج المتزايد «التكلفة» بالطاقة التي يحتاجها حتى يعمل. تعلقت هذه المشكلة الجديدة بالضرورة الآلية المطلقة لإيجاد طريقة جديدة لرأس مولود أشباه البشر السريع النمو حتى يمر بسلام من فتحة الحوض التي كانت ثابتة الحجم.
أثناء تطور أشباه البشر من أقدم أشكال الهومو إريكتوس إلى أشكال الهومو سيبيانز (الإنسان العاقل) الحديثة تماما، زاد حجم الدماغ عن الضعف، إلا أن حجم الجسد البشري طوال هذه الفترة لم يزد مطلقا. وبطبيعة الحال، مع ازدياد حجم دماغ أشباه البشر المتطور سريعا زاد حجم رأس وليد أشباه البشر أيضا. بيد أن تطور الحركة على قدمين كان قد حتم أن تصير عظام الحوض أقصر وأسمك من عظام حوض القردة؛ فالقدرة على الوقوف والسير والركض بقامة منتصبة جعلت من الضرورة التحول عن الحوض المرن المتخذ الحلقي الشكل لدى القردة إلى حلقة العظم الصلبة لدى أشباه البشر، شبه المستديرة الشكل، التي كانت قوية وجامدة بدرجة كافية لحمل وزن الجزء العلوي من جسد أشباه البشر بالكامل.
كذلك فرضت الحركة على القدمين قيودا معينة على عرض الحوض؛ فلو أصبح الحزام الحوضي عريضا أكثر من اللازم ستصير القدمان متباعدتين أكثر مما ينبغي؛ مما سيجعل الحركة على ساقين غير رشيقة وعديمة الكفاءة أكثر فأكثر. بين القردة والسعادين ذوات الأربع، تشكل عظام الحوض المطولة قناة للولادة بيضاوية الشكل. أثناء الولادة يدير القرد الوليد رأسه جانبا وهو يمر من خلال قناة الولادة؛ مما يجعل الوضع سريعا وسهلا نسبيا، لكن عظام أشباه البشر القصيرة الصلبة - والشكل الدائري للحزام الحوضي - كان معناه أن قناة الولادة لدى أشباه البشر لم تكن قادرة على استيعاب رأس أكبر للوليد أثناء الولادة.
هكذا، مع حدوث التضخم الهائل في حجم دماغ أشباه البشر خلال المليون سنة الماضية، نشأت صعوبات متزايدة في الولادة لدى البشر الناشئين، وقد زادت صعوبة هذه المشكلة مع تطور البشر الناشئين إلى الإنسان الحديث ذي الدماغ الضخم. إذا كانت قناة الولادة ظلت ثابتة الحجم في حين ظل حجم رأس الوليد والمخ الذي بداخله يتزايد تدريجيا، فكيف ظل أشباه البشر يلدون أطفالا ذوي رءوس أكبر حجما على نحو متزايد؟
تبين أن الحل التطوري لهذه المشكلة أنه مع زيادة حجم المخ بدأ أطفال أشباه البشر يولدون قبل أن تصير أدمغتهم مكتملة النمو. في الواقع، إذا طبقنا القواعد الطبيعية للتطور الجنيني في الثدييات على البشر، فستكون مدة الحمل «الطبيعية» للبشر اثني عشر شهرا على الأقل، وليس تسعة أشهر، لكن بعد اثني عشر شهرا سيكون مخ الوليد المتوسط ببساطة كبيرا جدا على المرور من خلال قناة الولادة المتوسطة لدى البشر؛ مما يجعل الولادة البشرية مستحيلة ميكانيكيا.
في ثدييات أخرى، بما في ذلك كل الرئيسيات الأخرى، يبلغ المخ مرحلة معقولة من النمو بحلول ميعاد الولادة، ثم يحدث تباطؤ في نموه بدرجة كبيرة بعد الولادة. أما المخ البشري فيكون في عمر التسعة شهور ناقص النمو مقارنة بأمخاخ الثدييات الأخرى (منها رئيسيات أخرى)؛ ونتيجة لهذا يستمر مخ الوليد من البشر في النمو بسرعة خلال أول عامين من حياته.
وفي الواقع ليس من الصعب تخيل الكيفية التي ظهر بها هذا «الحل» التطوري في أشباه البشر؛ فمع زيادة حجم مخ الوليد لم يكن سوى الأمهات - من أشباه البشر - اللواتي يولد أطفالهن «قبل الأوان» هن من يبقين على قيد الحياة بعد التجربة على الأرجح، ويربين أبناءهن حتى يكبرون، ويورثن جيناتهن للجيل التالي، لكن حتى مع هذه التسوية التطورية يستغرق الأمر عدة ساعات من المخاض العسير قبل أن يبدأ الوليد البشري في الخروج أثناء الوضع، ولا يظهر بقية جسم المولود إلا بعد المرور البطيء المؤلم لرأسه من خلال قناة الولادة.
يعلم أي شخص شاهد من قبل عملية ولادة لدى القطط أو الكلاب أو الخنازير أو البقر أو الخيول أن إناث الثدييات الأخرى يلدن أطفالهن في غضون دقائق، لكن ولادة الأطفال لدى البشر أطول وأصعب وأخطر عملية ولادة بين كل أنواع الثدييات، بل إنه قبل تبني التقنيات الطبية الحديثة في بداية القرن العشرين كانت الأم تموت في واحدة من كل مائة ولادة لدى البشر.
11
ماذا يعني أن يولد الطفل البشري «قبل الأوان»؟ فلنضع في الاعتبار أن أطفال الثدييات العاشبة مثل الماشية والغنم والخيول والزرافات والأفيال تستطيع الوقوف والسير خلال ساعات من ولادتها، بينما أطفال القردة والسعادين تصبح واعية بمحيطها في الأيام الأولى من حياتها، وتستطيع التشبث بفراء أمهاتها جيدا خلال الساعات القليلة الأولى من ولادتها. على عكس ذلك، لا يستطيع المواليد من البشر حتى أن يزحفوا على أياديهم وركبهم إلا بعد بلوغ عدة أشهر، ولا يستطيعون السير مطلقا إلا بعد أن يصير عمرهم عاما تقريبا.
ليس من قبيل المبالغة القول بأن طفل أشباه البشر يولد بدماغ غير مكتمل النمو لدرجة خطيرة؛ فهو لا يستطيع التشبث بشعر أمه بأصابع قدميه القصيرة، كما أنه يولد على أي حال لأم لم يعد لديها أي شعر يكسو جسدها ليتعلق به. هكذا يكون الطفل البشري «المبتسر» الأكثر عجزا وضعفا بين كل مواليد الرئيسيات وهو بلا شعر وأعزل، ولا يستطيع التحرك وحده، ولا يدرك محيطه إلا بقدر ضئيل.
هذا معناه أنه مع نمو مخ أشباه البشر ليصير أكبر حجما وما صار إليه وليد أشباه البشر تدريجيا من حال أكثر قصورا وضعفا، صارت حاجة أمهات أشباه البشر للملبس والمأوى ماسة بالتدريج، حتى في المناطق المدارية حيث تكون إحاطة الطفل بالدفء ليست من المشكلات الملحة؛ فإن من المستحيل أن تحمل أنثى أشباه البشر كل طفل من أطفالها الرضع في يديها طوال أول سنة أو سنتين من حياتهم مع قضاء أغلب ساعات النهار في جمع الغذاء، وربما رعاية أطفال أكبر سنا في نفس الوقت.
تحمل الأم في قبائل البوشمان طفلها في عباءة كبيرة من الجلد تسمى كاروس، وقد يكون الهومو إريكتوس تبنوا استراتيجية شبيهة. وحين هاجر البشر الناشئون من أفريقيا وبدءوا الاستقرار في مناطق أكثر اعتدالا من أوراسيا، كان من المنطقي أن يواجه أطفالهم صعوبة متزايدة في البقاء على قيد الحياة إن كانوا قد ظلوا عراة لا يحميهم شيء من عوامل الطبيعة، لكن مواليد أشباه البشر المبتسرين والعاجزين على نحو متزايد كانوا يستطيعون البقاء على قيد الحياة رغم ضعفهم في أول سنة أو سنتين من حياتهم بلفهم في فراء أو عباءة كبيرة نهارا، وحمايتهم بأمان في كوخ دافئ ليلا. بناء على هذا من المحتمل أن يكون البشر الناشئون أثناء تطورهم وزيادة حجم أدمغتهم قد بدءوا بناء مساكن وتفصيل ملابس لأنفسهم قبل حتى الانتقال شمالا إلى أراض كانت فيها فصول الشتاء طويلة وباردة.
خلاصة القول، تقنية المساكن والكساء وكذلك النار حررت مخ أشباه البشر من قيوده الطبيعية، وسمحت له بالنمو حتى صار في قرابة ثلاثة أضعاف حجم مخ الحيوانات الأخرى التي بنفس حجمه. من دون تقنيات النار والمساكن والكساء، كان مخ أشباه البشر سيصبح غير قادر على النمو متجاوزا حجم مخ الهومو إرجاستر البالغ 650 سنتيمترا مكعبا، وهو السلف المرجح للهومو إريكتوس، وكان البشر سيظلون حتى يومنا هذا لا يعدون كونهم مجرد قردة تمشي على قدمين في غاية الذكاء تأكل اللحم وتصنع الأدوات وتحمل الأسلحة.
أشباه بشر الشمال المتجمد
لمئات آلاف السنين، مع مجيء العصور الجليدية وانقضائها، انتقل الهومو إريكتوس شمالا خلال الفترات الجيولوجية الأكثر دفئا، وتراجعوا للجنوب مع اقتراب الجليد القطبي خلال الفترات الجيولوجية الأكثر برودة؛ ولهذا السبب عثر على بقايا للهومو إريكتوس في شمال أوروبا وآسيا خلال هذه الفترات «بين الجليدية» الدافئة نسبيا. في الواقع، لأكثر من مليون عام، لا يمكن العثور على دليل يثبت إقامة مستمرة للهومو إريكتوس شمال خط العرض أربعين (خط من الشرق للغرب يمتد من جنوب إسبانيا عبر الطرف الجنوبي لإيطاليا، مرورا باليونان وتركيا، وعبر وسط آسيا إلى شبه الجزيرة الكورية).
إلا أن جماعات الهومو إريكتوس وغيرهم من البشر الناشئين بدءوا الاستقرار تدريجيا في بيئات أقصى الشمال الغنية بحيوانات الصيد مع تعلم تفصيل الملابس البدائية التي منحتهم الدفء وحمت أجسادهم العارية من عوامل الطبيعة. بدءا من نصف مليون عام تقريبا، يبدأ ظهور بقايا الهومو إريكتوس في مناطق فوق خط عرض أربعين، من الجزر البريطانية حتى شمال الصين. وهكذا، متسلحين بالنار وأكواخ بسيطة وملابس بدائية منحتهم الدفء وحمت أجسادهم العارية من عوامل الطبيعة، استقر الهومو إريكتوس في بيئات كانت تهيم فيها حيوانات العصور الجليدية الضخمة بكثرة.
لكن في نهاية المطاف، جاء محل جماعات هومو إريكتوس أوروبا وآسيا بشر حديث من نوعنا، الهومو سيبيانز، الذين يرجح أنهم نشئوا في أفريقيا وانتشروا شمالا من عبر الشرق الأوسط إلى أوروبا. أول هؤلاء البشر الحديث - الذين كان لديهم أدمغة كبيرة في حجم أدمغتنا ونجحوا في صيد الحيوانات الضخمة - كان النياندرتال؛ هذا النويع الغريب والمذهل المعروف في العلوم باسم هومو سيبيانز نياندرتالنيسيس.
كان النياندرتال أشباه بشر مكتنزي الجثة ذوي عظام عريضة وعضلات مفتولة، وكان في عظام الجمجمة أعلى العينين قوسا حاجبين كثيفان يماثلان أشباه بشر أقدم وأكثر بدائية، لكن داخل جماجمهم الطويلة المتخذة شكل الرصاصة كانت أمخاخ النياندرتال كبيرة في حجم أمخاخ الإنسان الحديث الموجود حاليا. ولا يوجد في تاريخ أشباه البشر من يباري النياندرتال في صيد الحيوانات الكبيرة. ويكشف التحليل الحيوي الكيميائي لعظام النياندرتال أنهم عاشوا على نظام غذائي يكاد يقتصر تماما على اللحوم. وقد بينت إحدى الدراسات أن 58 في المائة من استهلاك بشر النياندرتال من الغذاء تكون من لحوم الماشية البرية، وشكل لحم الخيل ووحيد القرن والأيائل والماموث النسبة الباقية من غذائهم اللحمي.
12
بعد وصول النياندرتال إلى شمال أوروبا بدأت أعداد الحيوانات الضخمة في التضاؤل، وبعد ظهور بشر الكرومانيون الحديث تشريحيا منذ نحو 55 ألف عام انقرضت حيوانات العصر الجليدي الضخمة؛ فقد زاد دفء مناخ أوراسيا كثيرا مع انتهاء الجزء الأخير من العصر الجليدي، وقد يكون تغير المناخ أسهم في انقراض بعض من هذه الأنواع، لكن وقعت حالات انقراض مشابهة لحيوانات ضخمة أيضا بعد وقت قصير من وصول الإنسان الحديث إلى أستراليا وتسمانيا واليابان وأمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية، حيث كانت تغيرات المناخ بدرجة أقل كثيرا.
لذلك يبدو محتملا أن الحيوانات الضخمة قد اصطادها الإنسان الحديث حتى انقرضت. في الواقع، يميز انقراض الحيوانات الضخمة في نهاية العصر الجليدي الأخير اللحظة التي سيطر فيها نوعنا على البيئة الطبيعية، بل وبدأ يقضي فيها على أشكال أخرى من الأحياء. وكما سنرى فقد تسارعت هذه العملية، ألفية بعد الأخرى، منذ ذلك الحين.
أحدثت تقنية المسكن والملبس تحولا في البشرية بمنحها نوعا من الحرية لم يتمتع به نوع حيواني آخر. فإذا لم تكن هناك كهوف لتوفير ملاذ من أمطار المناطق المدارية المنهمرة أو شمس الصحراوات المحرقة، كان أشباه البشر يستطيعون بناء ملاجئ من الزرع الموجود في بيئاتهم وجلود الحيوانات التي كانوا يصطادونها. وإذا كانت فصول الشتاء باردة في المناطق الشمالية المتجمدة، فإنهم كانوا يستطيعون تغطية أجسامهم بالفراء والجلود والتجمع بالقرب من دفء نيران مخيماتهم. وإذا كانت فصول الصيف حارة، فإنهم كانوا يستطيعون خلع ملابسهم، وتمنحهم رطوبة غددهم العرقية المتعددة شعورا بالبرودة.
هكذا سرعان ما انتشر الإنسان الحديث تشريحيا بدماغه الكبير وذكائه المنقطع النظير في أنحاء كل قارات العالم وأهل كل البيئات الأرضية الممكنة تقريبا، متسلحا بأسلحة متقدمة، ومتمكنا من السيطرة على النار، وقادرا على بناء مساكن وصنع ملابس متنوعة أتاحت له العيش في أي بيئة تقريبا. نتيجة لهذا، بدأ تعداد أشباه البشر في الأرض يزيد زيادة هائلة، بعد أن ظل لملايين السنين ثابتا بدرجة كبيرة عند أقل من مليون نسمة. وتشير التقديرات إلى منذ نحو 15 ألف عام، حين صار الإنسان الحديث تشريحيا النوع الوحيد الحي من أشباه البشر، كان تعداد أشباه البشر على الأرض قد زاد لعدة ملايين فرد. •••
سنرى في الفصل التالي كيف أن الأدمغة الكبيرة لدى الإنسان الحديث أطلقت العنان لتحول في طريقة تواصل البشر ببعضهم وطريقة تنظيم المجتمع البشري، من خلال تبني التواصل الرمزي على نطاق واسع؛ فانتشار الرموز - في اللغة والفن والتصميم والزينة الجسدية - كان هو ما حرر نوعنا من التطابق الجيني مع أصوله الحيوانية. صار من الممكن ابتكار الرموز بالاختيار ليتبناها الآخرون وتتوارثها الأجيال المستقبلية عن طريق التعليم والتقاليد. لقد أعتقنا التواصل الرمزي فابتكرنا الثقافات المعقدة والهويات العرقية القوية التي استطاع بها كل إنسان أن يحدد ولاءه ويدين به.
بالاستعاضة عن عملية التطور البيولوجي البطيئة بعملية التطور الثقافي السريعة، أتاحت تقنية التواصل الرمزي للإنسان الحديث تشريحيا الاستجابة سريعا وبسهولة للمناخات المتغيرة خلال الخمسين ألف عام الماضية؛ فقد مكن الامتزاج الفريد بين التواصل الرمزي و«المجتمع الانقسامي الاندماجي» الفرق الصغيرة المتعددة من الاندماج معا لتكوين جماعات تضم مئات بل وآلاف الأفراد؛ لتمكن الإنسان الحديث تشريحيا من تكوين جماعات إثنية متمايزة ظلت باقية حتى اليوم. ومن خلال تضافر الجهود في الصيد والحرب، هزمت هذه الجماعات القبلية الكبيرة بسهولة الجماعات الصغيرة القائمة على القرابة التي اتسمت بها الحياة الاجتماعية للنياندرتال.
من هذه المرحلة فصاعدا، كما سيتضح في الفصول القادمة، أدت التقنيات الرئيسية المتعاقبة إلى أشكال متزايدة الحجم من المجتمع البشري. بدأت هذه العملية بتكوين هويات إثنية لقبائل الصيد وجمع الثمار، وبلغت ذروتها مع الدول القومية الصناعية العظمى التي تطالب الآن بالهيمنة على البشرية جمعاء.
الفصل الخامس
تقنية التواصل الرمزي
الموسيقى والفن واللغة والهوية الإثنية
لم يأت قط مجتمع صيد وجمع ثمار ... من المجتمعات التي أنشأها الهومو سيبيانز ... إلا وكان ... يعتبر نفسه يعيش في عالم رمزي للغاية.
برايان فيجن، «الكرومانيون»
استخدام الصور والتصميمات والكلمات والموسيقى في نقل الخواطر والأفكار هو بالتأكيد أحد أكثر سلوكيات البشر تفردا. ورغم أن العديد من أنواع الحيوانات تستطيع التواصل بمجموعة متوارثة من الأصوات الملفوظة ولغة الجسد، لا يملك سوى البشر وحدهم حرية ابتكار آلاف لا تحصى من الرموز المرئية والصوتية من أجل التواصل. والبشر وحدهم لديهم القدرة على نقل هذه الرموز المبتكرة إلى نسلهم - وإلى أفراد آخرين في المجموعة - بالكامل من خلال عمليات التدريس والتعليم والمحاكاة.
على النقيض من بعض التقنيات الأخرى القديمة للغاية التي انفرد بها أشباه البشر، والتي استكشفناها في الفصول السابقة، يكاد يكون من المستحيل تحديد العمر الحقيقي لاستخدام الرموز الصوتية والمرئية لنقل الخواطر والأفكار. ويرجع ذلك بصفة رئيسية إلى أن كل الأدلة التي تشير إلى استخدام اللغة - مثل الرسومات الرمزية - أصلها حديث نسبيا، على عكس التطور الخاص بالحركة على قدمين وفقدان الأنياب؛ فببساطة لا يوجد دليل على أن أشباه البشر الأوائل تواصلوا بما قد نعتبره لغة منطوقة حقيقية، ولا يوجد في أفضل الأحوال سوى أدلة هزيلة على أن البشر الناشئين كانوا قادرين على هذا السلوك البشري الفريد.
رغم أنه يبدو من المنطقي أن نفترض أن الأشكال الحديثة من لغة البشر لم تظهر على حين غرة من العدم في صورتها التامة منذ 50 ألف سنة، فإن الفكرة التي مفادها استخدام أشباه البشر الأوائل أو البشر الناشئين لأشكال أكثر بدائية من اللغة هي محض تكهنات في هذه المرحلة؛ فلم يبدأ ظهور أدلة كثيرة على التواصل بالرموز - في شكل رسومات في مواقع كهوف العصر الحجري القديم - حتى ظهور الإنسان الحديث تشريحيا في سجل الحفريات، لكن هل من الدقة أن نقول إن التواصل بالرموز يعد تقنية من التقنيات؟
أدوات للتفكير
نستخدم كلمة «تقنية» عامة في الخطاب الحديث لوصف آلة معقدة مثل سفينة الفضاء والأجهزة الإلكترونية، وكذلك العمليات المعقدة مثل شبكات الكمبيوتر وأنظمة التشغيل الآلي، لكنني في هذا الكتاب استخدمت كلمة «تقنية» بمعناها الأعم والأشمل الذي يعني: «التعديل المتعمد لأي شيء أو مادة طبيعية بعناية وتأن لتحقيق هدف محدد أو خدمة غرض بعينه.» بهذا المعنى الأوسع، حين يقطع أحد قردة الشمبانزي غصنا من أجل استخدامه في التقاط النمل الأبيض من عش، فهو بذلك يستخدم تقنية، تماما مثلما كان أشباه البشر الأوائل يستخدمون تقنية حين ينزعون فرعا من شجرة ويسنونه ليصنعوا منه رمحا، لكن حتى في هذه الأمثلة يشير مفهوم «التقنية» حصرا إلى صناعة أشياء مادية واستخدامها.
غير أننا إذا وصفنا التقنية بأنها «تعديل أي مادة طبيعية بعناية وتأن لتحقيق هدف محدد»، فلا بد أن نضيف كأمثلة على التقنيات استخدام الأصباغ لرسم تصميمات وصور على جدران الكهوف، واستخدام أدوات حجرية لنحت تصاميم على أسطح العظام، خاصة حين تكون هذه السلوكيات موجودة كتقاليد ثقافية يتشاركها أفراد جماعة اجتماعية. ورغم أن تلك التقنيات ربما لا تستخدم من أجل أي غرض مادي - مثل صيد الحيوانات أو صناعة الملابس أو بناء المساكن - فهي تستخدم بالتأكيد بعناية وتأن لتحقيق غرض محدد؛ ألا وهو نقل الخواطر والأفكار البشرية.
إذا وسعنا نطاق المعنى المقصود ب «التقنية» أكثر قليلا، فسيمكننا أن ننظر إلى التعديل المتعمد والواعي للصوت البشري باعتباره أحد أشكال التقنيات؛ لأن الصوت البشري ظاهرة طبيعية عدلناها عن عمد لإصدار أصوات محددة تمثل الأفكار البشرية رمزيا. الشيء نفسه يمكن أن يقال عن تطور أشكال الموسيقى والرقص والغناء التي ربما كان لها أشكال بدائية، في البداية، بين أشباه البشر الأوائل والبشر الناشئين.
باختصار، كل أشكال استخدام الرموز المكتسب منها والمنقول ثقافيا هي في واقع الأمر أدوات للتفكير، ابتكرت بعناية وتأن واستخدمت عمدا بغرض نقل المعرفة المشتركة لدى مجتمع بشري محدد لأي من أفراده الأحياء. هذا صحيح، سواء كانت الأدوات تستخدم لابتكار رموز مرئية - مثل الرسومات أو التصاميم أو الأيقونات أو الكلمات المكتوبة - أو تستخدم في ابتكار رموز مسموعة، مثل الكلمات المنطوقة أو الأغنيات أو الموسيقى. باختصار، كانت تقنية استخدام الرموز هي التي حررت البشر من قيود التواصل المبرمج مسبقا.
ازدهار التواصل الرمزي
لا بد أن نشير إلى أن حيوانات بدائية مثل الحشرات الاجتماعية طورت طرقا بارعة لتبادل المعلومات بعضها مع بعض؛ فالنمل يبلغ عن وجود الطعام والخطر بإطلاق هرمونات من أجساده فيكتشفها نمل آخر في الحال. كذلك يبلغ النحل عن موقع الزهور المتفتحة في بيئته بالاستغراق في رقصات اهتزازية معينة على جدران خلاياه ليصف هذه المصادر للرحيق واللقاح واتجاهها والمسافة بالتحديد التي تفصلها عن الخلية. وكل أنواع الحيوانات - من الحشرات حتى القردة - تصدر طائفة هائلة من الأصوات لإبلاغ أفراد آخرين من نوعهم بالمعلومات.
تستخدم أغلب الحيوانات ذوات الدم الحار رئتيها وجهازها الصوتي لإنتاج أصوات معينة تنقل رسائل محددة، مثل التحذير والإعلان عن منطقتها والتودد والخطر والمحنة . ويشيع استخدام الأصوات الملفوظة في إبلاغ رسائل محددة بصفة خاصة بين الأنواع التي تعيش على الأشجار مثل الطيور والرئيسيات، فتستطيع أنواع عديدة من الطيور - منها الببغاوات والطيور المحاكية والغربان والغدفان - إصدار مجموعة كبيرة من الأصوات المختلفة، كل منها يهدف لتبليغ رسالة من نوع محدد. ينطبق الشيء نفسه على أغلب أنواع القردة والسعادين، لكن أكثر هذه الرسائل الصوتية تأتي بالفطرة، وتشمل القليل من التعليم أو من دونه.
رغم أنه لا يوجد دليل على أن أشباه البشر الأوائل استخدموا أي شكل من التواصل بالرموز، فإن ثمة بعض الأدلة التي تشير إلى أن البشر الناشئين كانوا قد بدءوا يجربون الرسم والتصميم فعلا؛ ففي اثنين على الأقل من مواقع الهومو إريكتوس عمرهما نصف مليون عام على الأقل، عثر اختصاصيو علم الحفريات على بعض التصاميم البسيطة على عظام وأصداف يمكن تفسيرها بأنها استخدام للرموز. وسوف نتناول تلك الأدلة بالفحص لاحقا في هذا الفصل.
حتى النياندرتال، الذين كانوا بشرا حديثين بأدمغة بشرية مكتملة الحجم، تركوا عددا صغيرا من القطع الأثرية التي توحي بأنهم كانوا قد بدءوا يفهمون الأشياء ذات المغزى الرمزي ويجربونها. تتألف الأدلة على السلوك الرمزي بين بشر النياندرتال في أغلبها من أصداف ذات ثقوب نقبت فيها ولونت بأصباغ طبيعية، غالبا لارتدائها كقلادات.
لكن حين ظهر الإنسان الحديث تشريحيا في أوروبا قبل نحو فترة تتراوح بين 50 ألف و40 ألف عام مضت، صارت حياة بشر ما قبل التاريخ ثرية بغتة في استخدام الرموز؛ فالتماثيل البشرية المصغرة كانت تنحت من الأحجار أو العاج وتشكل من الطمي. أما الأغراض التي كانت تصنع من أجل الزينة الشخصية فكانت تصنع من الأصداف وأسنان الحيوانات التي كانت تثقب، وتلون بأصباغ، وترتدى كأنها حبات في أساور وقلائد. وبالنسبة إلى الأغراض النفعية مثل أداة رمي الرماح
1
فكانت تزين بزخارف دقيقة وتنحت على شكل الحيوانات. وكانت جدران العديد من الكهوف في أوروبا مزينة بكثافة؛ إذ انتشرت فيها طبعات الأيدي والمئات من رسومات الحيوانات المحاكية للواقع لدرجة مذهلة، وآلاف الزخارف المنحوتة أو المرسومة في شكل رموز أو أيقونات، تسمى نقوشا حجرية.
2
كذلك يعطي الانتشار المفاجئ لاستخدام الرموز دليلا على أن أشباه البشر كانوا قد بدءوا لأول مرة على الإطلاق يطورون ثقافات وإثنيات مميزة؛ فالتماثيل المصغرة والزخارف والنقوش الحجرية ورسومات الكهوف التي تعود إلى هذه الحقبة تميل للتنوع الملحوظ في الأسلوب والشكل من منطقة لأخرى ومن فترة زمنية لأخرى. وهذه التنوعات جعلت من الممكن التعرف على ثقافات معينة من حيث الزمان والمكان؛ لأول مرة يصير من الممكن تحديد هويات قبلية وإثنية مميزة في أطلال الجماعات البشرية التي عاشت في عصور ما قبل التاريخ.
وأخيرا، كان هذا، لا شك، الزمن الذي اكتمل فيه تطور اللغة والموسيقى، أو بعبارة أخرى الاستخدام الرمزي للأصوات؛ فتعطي بقايا المزامير التي صنعت من العظام والعاج في عصور ما قبل التاريخ دليلا دامغا على أن الإنسان الحديث تشريحيا كان يعزف الموسيقى - وربما يغني ويرقص أيضا - منذ عشرات آلاف السنين. أما اللغة، لكونها غير ملموسة، فإنها لا تترك دليلا ماديا ليتبينه عالم عصور ما قبل التاريخ، ولا سبيل لمعرفة متى بدأ أشباه البشر يتحدثون على وجه التحديد. يعتقد بعض العلماء أنه كان ثمة أشكال مبكرة من اللغة تحدث بها البشر الناشئون، بل وربما حتى أشباه البشر الأوائل، لكن هذا الأمر لم يحسم إلى الآن.
من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه رغم أن القدرة على تعلم الرموز وابتكارها تكمن في الحمض النووي للإنسان الحديث تشريحيا، فإن شكل الرموز التي ابتكرها الإنسان الحديث ومعناها مسألة ثقافية تماما، وليس لها أساس في علم الأحياء؛ فكل المعاني التي تتضمنها الرسائل الرمزية، سواء كانت بصرية أو سمعية، لا بد أن تعلم في الطفولة، وتتذكر في مرحلة البلوغ، وتتوارثها الأجيال بصفتها المعرفة الثقافية التي تتقاسمها الفئة الاجتماعية. لو كان من الممكن سماع ضحك بشر ما قبل التاريخ لعرفنا أنهم سعداء، ولو كان ممكنا سماعهم وهم يبكون لعرفنا أنهم حزناء، لكن لو تسنى لنا سماعهم يتحدثون لما فهمنا ما الذي يقولونه، تماما كما ننظر إلى النقوش الحجرية التي نحتوها ورسموها على جدران كهوفهم، ولا ندرك مطلقا ماذا كان يقصد بهذه النقوش المرسومة بعناية.
قرب نهاية هذا الفصل، سنستكشف العملية التي انقسمت بها البشرية كلها إلى عدة مجموعات إثنية مختلفة اختلافا واضحا؛ تلك العملية التي بدأت حين تبنى الإنسان الحديث تشريحيا التواصل الرمزي ليصبح جزءا لا يتجزأ من حياته اليومية، لكن بيت القصيد هنا هو أنه لما كانت هذه الأساليب المعيشية التي تمليها الثقافة تبتكر ولا تورث، فقد كان من الممكن إعادة ابتكارها وتعديلها وتغييرها مع تبدل مناخ عصور ما قبل التاريخ وبيئتها - سريعا جدا أحيانا - مع قدوم العصور الجليدية وانتهائها، وتغير مناخ الأرض مرارا وتكرارا.
خلال الفترة الطويلة لعصر ما قبل التاريخ حين كان تكيف أشباه البشر مع بيئتهم قائما بدرجة كبيرة على نزعات موروثة جينيا، كانت أساليب معيشة أشباه البشر تتغير في الغالب من خلال عملية التطور البيولوجي الشديدة البطء. يبدو أن هذا كان الحال طوال الجزء الأكبر من تاريخ تطور أشباه البشر، من أول أيام جنس الأوسترالوبيثيكوس منذ ملايين السنين قبيل ظهور الإنسان الحديث تشريحيا في أوروبا منذ أقل من 50 ألف عام.
لكن جاء اختراع التواصل الرمزي فأطلق سراح البشرية ليجعل تكيفها مع البيئة قائما في المقام الأول على السلوكيات التي يكتسبونها من الثقافة والتراث. وحين بدأ الإنسان الحديث العيش وفقا لقواعد الثقافة بالدرجة الأولى، أصبح من الممكن تغيير أساليب معيشية كاملة خلال جيل أو جيلين عن طريق عملية التطور الثقافي البالغة السرعة، وهي العملية التي سنبحثها بتفصيل أكثر لاحقا في هذا الفصل.
أعطت أشكال التكيف الثقافي الأكثر مرونة بكثير لبشر الكرومانيون ومعاصريهم ميزة حاسمة ليس فقط على بشر النياندرتال، ولكن كذلك على بعض البشر الناشئين الذين نجحوا في البقاء على قيد الحياة حتى أزمنة حديثة نسبيا. يشمل هؤلاء شعبا معزولا من الهومو إريكتوس كان لا يزال يعيش في جاوة منذ 30 ألف عام مضى،
3
وكذلك الهومو فلوريسنسز، وهو إنسان قزم يشبه في بنيته وحجم مخه أشباه البشر الأوائل على نحو ملحوظ، وكان يعيش في جزيرة فلوريس في إندونيسيا في عهد حديث منذ 12 ألف عام مضت.
4
قد تكون سرعة التطور الثقافي ومرونته هي سبب ازدهار الإنسان الحديث تشريحيا خلال العصر الجليدي الأخير، في حين انقرض سريعا النياندرتال وكل أشباه البشر الآخرين الذين كانوا على قيد الحياة، مع أغلب حيوانات القطب الشمالي الضخمة.
5
اكتشاف فنون العصر الحجري القديم
تلال كانتابريا على الساحل الشمالي الشرقي لإسبانيا زاخرة بالأحياء البرية ومزدهرة الزرع من غزارة الأمطار. كانتابريا في عصور ما قبل التاريخ بجداول مائها العذب، وقربها من المحيط، ومروجها المرتفعة، وغاباتها الجبلية، وكهوفها وملاذاتها الصخرية المتعددة، كانت وطنا لعدد كبير من البشر الحديثين تشريحيا، الذين خلفوا وراءهم إحدى أثرى مجموعات مواقع العصر الحجري القديم الأثرية التي عثر عليها على الإطلاق.
يشمل العصر الحجري القديم ثلاثة عصور طويلة في التاريخ التطوري لأشباه البشر. أقدمها هو العصر الحجري القديم السفلي، الذي بدأ قبل ثلاثة ملايين عام تقريبا مع أشباه البشر الأوائل واستمر طوال زمن البشر الناشئين. يليه في القدم العصر الحجري القديم الأوسط، الذي بدأ تقريبا قبل 250 ألف عام ويتزامن مع عصر النياندرتال. الأحدث عهدا هو العصر الحجري القديم العلوي، الذي بدأ قبل نحو 50 ألف عام وهو مرتبط ببشر الكرومانيون وبشر آخرين حديثين تشريحيا. لقد استخدمت مصطلح «العصر الحجري القديم العلوي» كثيرا في هذا الفصل للإشارة إلى الفترة التي عاش فيها الإنسان الحديث تشريحيا في أوروبا في فترة تتراوح ما بين 50 ألف سنة حتى قبل 11 ألف سنة مضت؛ لأن هذا يساعد على تمييزهم عن مجتمعات العصر الحجري الحديث المنتجة للغذاء التي سيأتي وصفها في الفصل التالي.
6
في الفترة بين قبل 17 ألف عام و11 ألف عام، كان يسكن كانتابريا شعب أوروبا المجدليني،
7
الذين صنعوا شفرات حجرية متقنة للغاية شكلت بحيث تركب لها مقابض مثل الأدوات اليدوية وأنصال المقذوفات. بالإضافة إلى العديد من الأمثلة الرائعة لأدوات وأسلحة من الأحجار والعظام والقرون، ترك شعب كانتابريا المجدليني أيضا أدلة وفيرة على أنهم كانوا قادرين على التعبير عن خواطرهم وأفكارهم من خلال رمزية التعبير الفني.
حين بدأ اختصاصيو علم الحفريات في أواخر القرن التاسع عشر استكشاف المواقع التي عاش فيها الشعب المجدليني في فرنسا وإسبانيا، اكتشفوا نوعا من بقايا ما قبل التاريخ التي كانت، في ذلك الوقت، مجهولة تماما في العلم الحديث: مجموعة ثرية من الرسومات واللوحات والرموز والأيقونات التي تركها هذا الشعب المميز على جدران الكهوف التي سكنوها وأسقفها.
ذات يوم من عام 1868م كان الصياد الإسباني موديستو بيريس وكلبه يطاردان ثعلبا في مكان يسمى ألتاميرا في تلال كانتابريا، حين اختفى كلبه فجأة عن الأنظار. اكتشف موديستو في النهاية أن الكلب قد سقط في صدع صغير حجبته الصخور والزرع، وهبط بداخل كهف كبير لم يكن أحد يعلم بوجوده. بعد إنقاذ الكلب، عاد موديستو لمنزله وأبلغ مالك الأرض النبيل الإسباني، مارسيلينو سانز دي ساوتولا، بما اكتشفه، لكن التلال قرب ألتاميرا كانت مليئة بالكهوف، ولم يأبه دي ساوتولا كثيرا بهذا الاكتشاف في البداية.
بيد أنه مع مرور عدة سنوات صار مارسيلينو دي ساوتولا مهتما بعلم الحفريات الجديد وبالعدد المتزايد لبقايا ما قبل التاريخ التي كانت تكتشف في الكهوف الأوروبية، وفي عام 1875م بدأ التنقيب في الرواسب التي تراكمت بالقرب من مدخل الكهف الواقع في ألتاميرا. وسريعا ما عثر دي ساوتولا على الكثير من الأدلة على سكنى بشر من الثقافة المجدلينية التي ازدهرت في أوروبا في الفترة قبل 17 ألف عام حتى 11 ألف عام مضت، وبدأ يرتاد كهف ألتاميرا أكثر، حتى صار من عادته إحضار ابنته ذات الخمسة أعوام ماريا معه ليأنس بصحبتها. ولما كانت ماريا فتاة فضولية فقد كانت تطلب من أبيها مرارا أن يسمح لها باستكشاف باطن الكهف المظلم، لكن دي ساوتولا كان يرفض دائما، مصرا أن سكان الكهف سكنوا بالقرب من مدخله فقط، وأنه لن يعثر على شيء يثير الاهتمام داخل الكهف (انظر شكل
5-1 ).
شكل 5-1: مارسيلينو سانز دي ساوتولا وابنته ماريا، اللذان اكتشفا معا إحدى أكبر وأروع مجموعات فن عصور ما قبل التاريخ، في كهف ألتاميرا، في إسبانيا. (صورة ماريا سانز دي ساوتولا من متحف ما قبل التاريخ في سانتاندر.)
وفي عام 1878م سافر دي ساوتولا إلى فرنسا لحضور معرض باريس العالمي، وبينما هو في باريس تمكن من فحص بعض بقايا إنسان الكرومانيون التي استخرجها لويس لارتيت من الكهف الواقع في ليز إزيه. في الصيف التالي، بعد العودة إلى كهف ألتاميرا، أخذت ماريا مرة أخرى تلتمس من أبيها السماح باستكشاف الكهف من الداخل. رضخ دي ساوتولا أخيرا وأعطاها شمعة، وشدد عليها باتخاذ حذرها حيث سارت. غابت ماريا في الظلام، وبعد دقائق قليلة، تردد فجأة صوت ماريا من باطن الكهف وهي تصرخ قائلة: «ثور! ثور!» وحين هرع دي ساوتولا داخلا في الظلام وجد ماريا واقفة في معرض كبير تتطلع بنظرها إلى السقف. وهناك اندهش لرؤية صور نابضة بالحياة لبيسون منقرض، مرسوما بواقعية عجيبة على سقف الكهف (انظر شكل
5-2 ).
شكل 5-2: رسم لبيسون منقرض وجدته ماريا دي ساوتولا في كهف ألتاميرا. هذه الرسومات التي أنكرها في البداية علماء الحفريات، صارت الآن من أهم شواهد فن ما قبل التاريخ. (المصدر: ويكيميديا كومونز.)
تواصل دي ساوتولا مع صديقه خوان فيلانوفا إي بييرا، المتخصص في الجيولوجيا وعلم الحفريات في جامعة مدريد، وبعد فترة قصيرة سافر فيلانوفا إلى ألتاميرا ليرى الرسومات بنفسه. كان فيلانوفا مقتنعا بأن اللوحات بالتأكيد من إبداع ساكني كهوف العصر الحجري القديم؛ لانبهاره بثراء فنها وتميزه. هكذا أعد الرجلان تقريرا علميا بهذا الاكتشاف الاستثنائي، ونشرا في عام 1880م النتائج في عدة صحف إسبانية. وسرعان ما صار فن العصر الحجري القديم البارع الذي وصفاه مثار حديث أوروبا، بعد أن أشاد به الجمهور الإسباني. وفي وقت لاحق من ذلك العام، في مؤتمر عن عصور ما قبل التاريخ عقد في لشبونة، في البرتغال، عرض البروفيسور فيلانوفا رسميا وصفه لفن ألتاميرا على اختصاصيي علم الحفريات المجتمعين من جميع أنحاء أوروبا.
إلا أنه مع خاتمة العرض التقديمي لفيلانوفا غشي القاعة صمت لا يبشر بخير؛ فلم يكن أي من اختصاصيي علم الحفريات الموجودين في مؤتمر عصور ما قبل التاريخ مستعدا لتصديق أن بشر عصور ما قبل التاريخ الذين عاشوا في الكهوف ، والذين كانوا يعتبرونهم همجا وغلاظا وبدائيين، كان باستطاعتهم تنفيذ أعمال فنية بهذه المقدرة. وفي الحال شككوا في أصالة رسومات ألتاميرا. وهكذا استهزأت الكوادر العلمية، بزعامة اختصاصي علم الإنسان الفرنسي، جابرييل دي مورتييه، باستنتاجات فيلانوفا ودي ساوتولا، وأدانت منشوراتهما باعتبارها «أعمال تلفيق وخبل».
في ذلك الوقت، كان من القناعات السائدة بين مفكري أوروبا العصر الفيكتوري أنه من غير الممكن أن تستطيع مجموعة من «بدائيين» من عصور ما قبل التاريخ إنتاج فن بالواقعية والتعقيد والمهارة التقنية التي تميزت بها رسومات كهف ألتاميرا. هكذا فإن اختصاصيي علم الحفريات في مؤتمر عصور ما قبل التاريخ، رفضوا رفضا قاطعا فكرة أن تكون رسومات ألتاميرا من عصور ما قبل التاريخ، وانتهوا إلى أنها لا بد أن تكون من إبداع فنانين معاصرين، حتى إن بعض المشاركين في المؤتمر افترضوا أن «اكتشاف» دي ساوتولا كان تزويرا متعمدا نفذه فنان إسباني معاصر بناء على أوامر دي ساوتولا.
هكذا قهر دي ساوتولا، وعاد إلى إقطاعيته، وقد صار مادة للشفقة والسخرية، وعانى من الاكتئاب، وتدهورت صحته حتى وافته المنية بعد ثماني سنوات. أما مدخل كهف ألتاميرا فقد أغلق، ولم تسمح ماريا دي ساوتولا لأي شخص بدخوله لسنوات.
لكن في السنوات اللاحقة، اكتشفت أمثلة من فنون ما قبل التاريخ تعود لنفس فترات العصر الحجري القديم في مواقع أخرى عدة من عصور ما قبل التاريخ في فرنسا وإسبانيا. وتضمن الكثير من فن ما قبل التاريخ هذا رسومات في كهوف أبدعت بمهارة وحرفية تضاهي تلك التي في ألتاميرا.
8
وأخيرا في عام 1902م قرر عالم الآثار الفرنسي، إميل كارتياك، الذي كان من أكثر من جاهروا بالتشكيك في دي ساوتولا في مؤتمر لشبونة أن يسافر إلى إسبانيا مع اختصاصي علم الحفريات الفرنسي، الأب بري، ليرى بنفسه الرسومات التي في ألتاميرا.
حين وصل العالمان إلى ألتاميرا، أقنعا ماريا دي ساوتولا بأن تسمح لهما بدخول الكهف وفحص الرسومات. مذهولا بما رآه، تراجع كارتياك عن موقفه في الحال، ونشر اعتذارا رسميا في الصحيفة العلمية الفرنسية «لانثروبولوجي»، لكن لم يعش أي من دي ساوتولا أو البروفيسور فيلانوفا، اللذين ماتا قبل ذلك بتسع سنوات، حتى يريا تبرئة مزاعمهما ورد شرفهما المهني، إلا أن كهف ألتاميرا صار بمثابة كنيسة البابا في فن العصر الحجري القديم، ويعتبر الآن واحدا من أكبر وأهم مجموعات فن ما قبل التاريخ التي عثر عليها على الإطلاق .
عثر منذ ذلك الوقت على كنوز لفن شبيه في عدة كهوف أخرى في أنحاء العالم، في شرق أوروبا والهند وجنوب شرق آسيا وأفريقيا، وكذلك في الأمريكيتين الشمالية والجنوبية. وقد وثق علماء آثار ما قبل التاريخ في فرنسا وإسبانيا وحدهما أكثر من ثلاثمائة كهف تحتوي على أعمال من فنون ما قبل التاريخ، أغلبها كان يسكنه الشعب المجدليني في الفترة بين ما قبل 18 ألف عام و11 ألف عام.
عثر على أشهر هذه المجموعات من فنون ما قبل التاريخ في كهف نيو (الذي استقصى بشأنه إميل كارتياك نفسه عام 1907م)، وكهف بيش ميرل (الذي اكتشفه صبية مراهقون بالمصادفة عام 1922م)، وكهف لاسكو (أيضا اكتشفه صبية مراهقون بالمصادفة عام 1940م). أما أقدم الأمثلة على فن عصور ما قبل التاريخ التي عثر عليها حتى الآن فهي موجودة في كهف شوفيه، الذي اكتشفه علماء اكتشاف الكهوف في فرنسا عام 1994م. يحتوي كهف شوفيه على رسومات عدة نابضة بالحياة لحيوانات صيد وضوار، ويعود تاريخه إلى ثلاثين ألف عام مضت، قبل أول ظهور للثقافة المجدلينية بعشرة آلاف عام على الأقل.
ورغم أن الأصول الحقيقية لفن العصر الحجري القديم وقدمه الشديد قد تأكدت بما لا يدع مجالا للشك، فإنه لا يزال هناك سؤالان مطروحان.
أولا: لماذا رسم صيادو العصر الحجري القديم هذه المناظر في مناطق موغلة داخل هذه الكهوف - في بعض الحالات بعيدا عن مداخلها بمئات الأقدام - في أماكن كان يصعب الوصول إليها ويستغرق بلوغها وقتا، ولا يستطيع ضوء النهار التسلل إليها، وحيث كان الضوء الوحيد المتاح لفنان ما قبل التاريخ يأتي من ألسنة اللهيب المرتعشة للشعلات؟
ثانيا: لماذا يمثل العديد من هذه الرسومات أنواعا حيوانية - مثل الماموث ووحيد القرن وثور البيسون - لم تكن فقط نادرة نسبيا، وإنما من الخطر صيدها كذلك؟ ولماذا كانوا نادرا ما يرسمون صورا للغزلان والأيائل وحيوانات الصيد الأصغر حجما التي كانت تشكل القسم الأكبر من الحيوانات التي كانت تصطادها هذه الجماعات وكانت تمثل عماد غذائهم؟
الإجابة الأكثر شيوعا على السؤال الأول هي أن فن العصر الحجري القديم كان مخفيا في أماكن عميقة داخل الكهوف لأنه كان يقصد به شكلا من السحر، لضمان النجاح في الصيد؛ فربما رسمت الصور على سبيل إقامة طقوس سرية جدا لدرجة أنه لا يمكن أداؤها إلا في أكثر الأماكن التي عرفتها شعوب هذه العصور تعذرا في الوصول إليها، بعيدا عن العيون والآذان المتطفلة للدخلاء. في الواقع ما زال اختصاصيو علم الإنسان الذين درسوا ثقافات شعوب الصيد وجمع الثمار يجدون باستمرار أن أهم وأقدس طقوس هذه الشعوب تؤدى دائما في سرية بالغة. وطقس تجديد السهم لدى شعب الشايان، الذي سيأتي وصفه لاحقا في هذا الفصل، إنما هو واحد من آلاف الأمثلة على هذه الأعراف الإنسانية العالمية.
السؤال الثاني أكثر استعصاء على الإجابة، لكن لدينا دليلا مهما في ملاحظة أدلى بها اختصاصي علم الإنسان الرائد، برونيسلاف مالينوفسكي، الذي عاش في جنوب المحيط الهادئ مع سكان جزر تروبرياند البحارة من عام 1914م حتى 1918م، حيث لاحظ مالينوفسكي أنهم كانوا دائما ما يؤدون طقوسا سحرية معينة كجزء من الأعمال المهمة التي توقف عليها معاشهم، مثل زراعة الحدائق، وصنع قوارب من أجذاع الأشجار المجوفة، والصيد في المحيط المفتوح. وقد أشار إلى أن كل هذه الأنشطة تشمل عنصرا مهما من عدم اليقين؛ إذ إن الحدائق قد تضعف، والقوارب قد تتحطم، وحملات الصيد في أعالي البحار لم تكن خطيرة فحسب، وإنما كانت كثيرا ما تنتهي بعودة الحملة خالية الوفاض.
لكن حين كان سكان تروبرياند يصطادون في المياه الهادئة لبحيرات جزرهم، كانوا يستخدمون سما محليا لم يخفق قط في أن يأتي بنتيجة متوقعة تماما؛ صيد وفير. ومما له مغزاه أنهم لم يكونوا يمارسون أي سحر قبل القيام بحملات صيد في البحيرات. هكذا يكون من المرجح أن شعوب العصر الحجري العلوي لم يروا ضرورة في إقامة طقوس سحرية للحيوانات التي كانت متوفرة وسهلة الصيد، في حين كان صيد الأنواع النادرة والخطيرة من الحيوانات عملا غير مضمون، ينطوي على مخاطر ومكافآت جمة، حيث بدا أداء سحر طقسي أمرا لا مفر منه.
9
تماثيل الكرومانيون المصغرة لجسد المرأة
من بين أشهر أمثلة فن ما قبل التاريخ التي بقيت من العصور الحجرية القديمة، بعيدا عن الرسومات والتصاوير النابضة بالحياة لحيوانات الصيد؛ تلك التماثيل المسماة بتماثيل فينوس المصغرة. هذه التماثيل الصغيرة الممتلئة في إغراء وشديدة الرمزية لنساء ما قبل التاريخ، التي لا يعدو طولها بضع بوصات، خالية تماما من الوجوه البشرية، ولديها سيقان وأذرع خالية من الواقعية والتفاصيل، إلا أنها نحتت بتصوير مبالغ فيه للأجزاء المرتبطة بالجنس والخصوبة في جسد المرأة: أثداء ضخمة متدلية، وبطون منتفخة، وأفخاذ هائلة، وأرداف كبيرة، وأعضاء تناسلية بارزة.
كانت فكرة أن هذه التماثيل المصغرة المنحوتة دائما من عاج الماموث أو الأحجار الرخوة هي تماثيل لفينوس - أي إنها تمثل إلهة الحب - وهما حديثا، وإن كان ثمة القليل من الشك بأن هذه المنحوتات كانت تلعب دورا مهما في معتقدات ما قبل التاريخ عن الجنس والخصوبة. ومما لا يقبل الجدال أن تماثيل فينوس المصغرة كان لها أهمية رمزية لدى مجتمعات الكرومانيون في العصر الحجري القديم العلوي (انظر شكل
5-3 ).
شكل 5-3: فينوس ليسبوج من فرنسا (يسارا) وفينوس ويليندروف من النمسا (يمينا) ترجعان لنفس الفترة الزمنية، بيد أن أساليبهما الفنية تعكس الثقافات المتمايزة لهذين المجتمعين المختلفين من مجتمعات العصر الحجري القديم. (صورة فينوس ويليندروف من تصوير ماتيس كيبل، مصرح بنشرها بموجب رخصة المشاع الإبداعي.)
ربما أبرز حقيقة عن هذه التماثيل المصغرة هو انتشارها الواسع لدرجة مدهشة في الزمان والمكان؛ فقد عثر عليها في مواقع تعود إلى العصر الحجري القديم وتمتد من جنوب غرب فرنسا في الغرب حتى سيبيريا في الشرق - مسافة تزيد على أربعة آلاف ميل - وتعود لفترات زمنية قديمة بدأت منذ 40 ألف عام وحديثة منذ 10 آلاف عام. يكاد يشمل هذا الامتداد الزمني والمكاني المدهش كل تاريخ الإنسان الحديث تشريحيا في عصور ما قبل التاريخ في أوروبا، غير أن تماثيل فينوس المصغرة من كل عصر من عصور ما قبل التاريخ وكل مكان من أماكن ما قبل التاريخ كانت منفذة بأسلوب خاص ومميز، وهذا التنوع الكبير في الأسلوب من تمثال لآخر لهو دليل آخر على أن البشرية كانت منذ عشرات آلاف السنين قد قسمت نفسها إلى ثقافات متمايزة، كل منها مرتبط بزمن ومكان معين.
بالإضافة إلى الرمزية الجنسية المبالغ فيها في «تماثيل فينوس المصغرة»، نحت بشر الكرومانيون أيضا أغراضا أخرى شديدة الواقعية من العاج الذي أخذوه من حيوانات الماموث التي اصطادوها ومن القرون التي نزعوها عن الأيائل التي قنصوها. شملت هذه الأغراض العديد من أدوات رمي الرماح الحافلة بالزخارف وبعض المنحوتات الدقيقة لأشخاص وحيوانات. من أشهر هذه القطع منحوتة لرأس امرأة، معروفة باسم «السيدة ذات القلنسوة» عمرها 25 ألف عام، عثر عليها في كهف في جنوب غرب فرنسا عام 1892م. والقطعة الأخرى هي رأس حصان ذات واقعية مذهلة منحوتة من قرن أيل، وقد استخرجت من كهف ما دازيل في جبال البرانس الفرنسية (انظر شكل
5-4 ).
شكل 5-4: يبلغ رأس الحصان هذا، المنحوت من جزء من قرن أيل، خمسة عشر ألف عام. وهو يبرهن على مهارة فنان قبل التاريخ الممتازة في تصوير ملامح الحيوانات. (المصدر: ويكيميديا كومونز.)
تبين هذه التماثيل وأمثلة رفيعة أخرى من فن العصر الحجري القديم أن بشر الكرومانيون استخدموا قدراتهم الفنية السريعة التطور في تصوير الحيوانات والناس الذين سكنوا عالمهم، لكن البشر في تلك الحقبة استخدموا كذلك تصاميم تصويرية ذات طبيعة أكثر غموضا لتسجيل المعلومات والخواطر والأفكار وتناقلها. ربما لا يوجد بين الأشياء التي ظلت باقية من عصور ما قبل التاريخ ما هو أكثر إيحاء وأكثر غموضا من التصاميم الرمزية المسماة نقوشا حجرية التي رسمت ونقشت على جدران كهوف العصر الحجري القديم. وسوف نتناول موضوع النقوش الحجرية بالبحث بالتفصيل لاحقا في هذا الفصل، لكن لا بد أولا أن نتدبر السؤال التالي: كيف صار البشر يستخدمون تصاميم مرئية للتعبير عن الخواطر والأفكار في المقام الأول؟
رمزية آثار أقدام الحيوانات
البصر هو الأهم بين كل الحواس للرئيسيات، بما في ذلك أشباه البشر. بعد عشرات ملايين السنين من التكيف مع الحياة على الأشجار، صار أسلافنا من الرئيسيات أكثر اعتمادا بكثير على حاسة البصر من حاسة الشم. بالنسبة إلى الحيوانات التي تعيش على الأرض، حيث تبقى الروائح وتكثر، فهي تميل لأن يكون لديها حاسة شم متطورة للغاية، وهذا ينطبق بوجه خاص على الثدييات. أما في قمم الأشجار التي تتخللها الرياح فيرجح أن تذرو الرياح الروائح، في حين يكون من المهم رؤية حركة الضواري أو لون الفاكهة الناضجة من مسافات بعيدة. نتيجة لهذا، فقد أسلافنا ساكنو الأشجار الكثير من قدرتهم على الشم تدريجيا، لكنهم اكتسبوا بصرا أقوى بدرجة كبيرة، مع رؤية الألوان والقدرة على الرؤية في الفضاء الثلاثي الأبعاد.
حين أضاف أشباه البشر الأوائل استراتيجية الصيد لدى المفترسات إلى استراتيجية جمع الثمار لدى الرئيسيات الأسلاف، صاروا لا يمتلكون سوى حاسة الشم المتضائلة التي ورثوها من أسلافهم ساكني الأشجار؛ لذا بدلا من تعقب فريستهم بحاسة شم شديدة التطور كما هو معهود في أغلب الثدييات المفترسة الأخرى، اعتمد أشباه البشر بدلا من ذلك على بصرهم المتطور للغاية.
دائما ما يجد اختصاصيو علم الإنسان الذين دأبوا على دراسة مجتمعات الصيد وجمع الثمار أن الصيادين الرحل متمكنون من تقفي الأثر بالبصر؛ فأقل الأشياء التي قد يغفل الناس عن ملاحظتها من غصون مكسورة أو أوراق حشائش منحنية انحناءة بسيطة، أو أثر قدم على تربة رطبة يستطيع الصائد المحنك قراءته بالسهولة التي أستطيع أنا وأنتم بها قراءة عناوين الصحف. وبمجرد أن يطعنوا فريستهم بالرمح أو يسمموها - رغم أنها قد تعدو بعيدا عن النظر - ستكشف أقل قطرة دماء في فيض الحشائش أو أدق تغير في لون فضلاتها لعين الصياد الخبير أثر الحيوان الذي أصابوه.
على مدى المليون سنة الماضية، مع تطور البشر الناشئين إلى صيادين متزايدي المهارة، تطور تفسير آثار الحيوانات إلى فن راق؛ فلم يعد البشر الناشئون يعتمدون على رؤية فريستهم رأي العين، وتعلموا كيف يشعرون بوجود فريستهم ويقتفون حركاتها بالتعرف على إشارات واضحة تركتها في البيئة حيوانات الصيد التي كانت تعيش بالقرب منهم والتي تمر بأراضيهم.
مع تزايد بروعهم في الربط بين العلامات المرئية لآثار الحيوانات وبين نوعيات وحالة الخنازير البرية والغزلان والظباء والأيائل والخيول وثيران البيسون والماشية الوحشية التي كانوا يطاردونها، تطور لدى البشر الناشئين، بالإضافة إلى قدراتهم الشديدة الحساسية والتمييز على الإدراك البصري، القدرة الفريدة على الربط بين أنماط مرئية محددة وأنشطة الحيوانات والناس، وحالاتهم، والأعمال التي دلت عليها تلك الأنماط.
لا بد أن بشر النياندرتال، الذين كانوا صيادين فائقي الموهبة، كانوا يمتلكون قدرة شديدة التطور على اقتفاء الأثر باستخدام حاسة البصر، لكن بشر الكرومانيون وغيرهم من البشر الحديثين تشريحيا هم الذين أخذوا الخطوة التطورية المنطقية التالية، وابتكروا إشارات ورموزا خاصة بهم لتمثل حيوانات وأشخاصا وحالات وسلوكيات وأفعالا معينة. وبمجرد أن أخذ الإنسان الحديث تشريحيا هذه الخطوة الحاسمة، بدأ يتوسع في تقنية التواصل الرمزي لدرجة غير مسبوقة في تاريخ أشباه البشر. وفي خضم ذلك أطلق العنان لتحول أساسي آخر في الحياة والمجتمع البشري.
أقدم الأدلة على استخدام الرموز
رغم أن رسومات كهوف بشر الكرومانيون ونقوشهم الحجرية قد تكون مثالا خالصا على التواصل الرمزي الذي تركه بشر ما قبل التاريخ، فإنه يوجد دليل مثير يعود لأزمان سابقة على ظهور بشر الهومو سيبيانز بوقت طويل؛ إذ يوحي هذا الدليل بأن الهومو إريكتوس وغيره من البشر الناشئين قد بدءوا يرسمون تصميمات على العظام والأصداف منذ مئات آلاف السنين.
من بين مجموعة القطع الأثرية التي جمعها يوجين ديبوا من جزيرة جاوة الإندونيسية عام 1891م، تعرفت مؤخرا عالمة الآثار الهولندية جوزفين جوردينز وزملاؤها على أصداف مياه عذبة نقش عليها عمدا تصميمات هندسية. وعثر على عدد من القطع الأثرية الباهرة عام 1969م في موقع يعود لعصور ما قبل التاريخ في بيلزينجسليبين، في ألمانيا، كان يسكنه بشر الهومو هايدلبيرجينسيس الناشئون
10 (هذا هو الموقع نفسه الذي كان به دوائر حجرية تبدو أنها أساس مساكن موغلة في القدم). يعود الموقع الذي في بيلزينجسليبين للفترة التاريخية الممتدة بين 380 ألف عام و400 ألف عام مضت، ويحتوي على أدلة تشير إلى أن الهومو هايدلبيرجينسيس ربما كانوا يستخدمون شكلا بدائيا من الرموز لتدوين الأعداد أو الكميات.
من القطع العديدة التي تحمل علامات بفعل فاعل في بيلزينجسليبين أداة دق مصنوعة من عظام الأفيال، وهي واحدة من عدة أدوات مشابهة كان يستخدمها البشر الناشئون في وضع اللمسات النهائية على مطارقهم اليدوية الأشولية. يبلغ طول الأداة المصنوعة من عظام الفيل ست عشرة بوصة تقريبا، وتحمل إحدى وعشرين علامة يبدو أنها كانت ترمز لنوع ما من عمليات العد. وتنقسم العلامات إلى مجموعتين؛ سبع علامات في المجموعة الفوقية وأربع عشرة علامة في المجموعة التحتانية.
لاحظ ديتريش وأورسولا مانيا، عالما الحفريات اللذان نقبا في هذا الموقع، أن الثلث السفلي من الأداة قد انخلع، واعتزما ترميمه بحيث يحمل هذا الثلث المفقود سلسلة من سبع علامات شبيهة بتلك التي في الثلث الفوقاني. افترض آل مانيا علاوة على ذلك أن عظام الفيل المرممة بعلاماتها الثمانية والعشرين كانت تعبيرا رمزيا عن التقويم القمري، حيث كانت كل علامة تمثل يوما واحدا في الدورة القمرية ذات الثمانية والعشرين يوما. إذا كان هذا صحيحا فإن العلامات السبع الأولى ستمثل الفترة من المحاق حتى طور الربع الأول، وتمثل الأربع عشرة علامة التالية فترة الأربعة عشر يوما من طور الربع الأول مرورا بالبدر حتى الربع الأخير، وتمثل العلامات السبع الأخيرة الفترة من الربع الأخير حتى المحاق التالي.
ليست آلة الدق المصنوعة من عظام الفيل هذه إلا واحدة من عدة أغراض عثر عليها في بيلزينجسليبين تحمل علامات مشابهة، وقد أوحت كثرتها للعالم جون فيليكس الزعم بأن بشر الهومو إريكتوس لم يمتلكوا لغة منطوقة فحسب، وإنما امتلك هؤلاء البشر الناشئون معرفة متطورة للغاية بالموسيقى والرياضة أيضا.
11
غير أن انعدام أي أدلة أخرى على أن الهومو إريكتوس كان لديهم ملكات فكرية تباري ملكات الإنسان الحديث الفكرية توحي بأن فيليكس قد يكون بالغ فيما ذهب إليه.
رغم أن احتمال استخدام الهومو إريكتوس للرموز ما زال مسألة بحاجة للحسم، فإنه ثمة دليل مادي على أن بشر النياندرتال كانوا يصنعون أشكالا بدائية من الحلي مثل القلائد وزينة الشعر وربما الأقراط قبل أن يأتي الإنسان الحديث تشريحيا بزمن طويل. ولم يكن المقصود من هذه الزينة الشخصية تدفئة الجسم أو حمايته من تأثيرات الطقس، وإنما كانت تلبس باعتبارها رموزا للمكانة، أو كتمائم سحرية لدرء المرض أو الإصابة، أو للتزين فحسب. فلم تكن تستخدم في أغراض عملية؛ إذ كان الغرض منها رمزيا محضا.
في موقعين من مواقع كهوف النياندرتال في جنوب شرق إسبانيا، عثر على أصداف متعددة أحدثت بها ثقوبا، بحيث يمكن نظمها كقلائد أو ربط الشعر أو الملابس بها. كذلك احتوت مواقع الكهوف على أصباغ حمراء وصفراء كانت تستخدم في تلوين الأصداف بألوان زاهية. وفي كهف في شمال إيطاليا كان يستخدمه بشر النياندرتال، تعطي بقايا عظام أجنحة النسور والعقبان والحمام والغربان أدلة واضحة على نزع الريش الكبير من أجنحتهم عن عمد. وحيث إنه لا يوجد دليل على أن بشر النياندرتال استخدموا أيا من هذه الأنواع للغذاء، فمن الجلي أنهم كانوا يقتلعون ذلك الريش من أجنحتها لارتدائه كأغراض للزينة، ربما أقراطا أو أغطية للرأس.
وأخيرا، بشر النياندرتال هم أول شعب من شعوب عصور ما قبل التاريخ الذين عرف عنهم دفنهم للموتى. كل قبور النياندرتال التي عثر عليها في أوروبا لها نسق مشابه: توضع جثة المتوفى في قبر صغير غير عميق في وضع الجنين، مع ثني الركبتين لأعلى وإحناء الرأس للأمام. وفي مقبرة لبشر النياندرتال يبلغ عمرها 75 ألف عام، اكتشفت في خمسينيات القرن العشرين في كهف شاندر في العراق الحديث، عثر اختصاصيو علم الحفريات على بقايا حبوب لقاح لنباتات مزهرة معروفة بخواصها الطبية. وقد افترض أن باقات من هذه الزهور قد وضعت عن عمد على جثة المتوفى، في إجراء يذكرنا بالعادة الأوروبية الحديثة حيث توضع الزهور على القبور.
فسر بعض العلماء مدافن كهف شاندر بأنها دليل على أن بشر النياندرتال كانوا يعتقدون في الحياة الآخرة اعتقادا ظل مرتبطا طوال التاريخ البشري كله بالرمزية وإقامة شعائر دينية. بيد أن اختصاصيي علم الحفريات الآخرين الذين أجروا تحليلات أحدث لهذه المدافن، استنتجوا أنه من المحتمل أن تكون حبوب اللقاح التي في قبر شاندر قد ذرتها الرياح إلى القبر، أو حملتها قوارض صغيرة تعيش تحت الأرض فحسب.
إلا أنه عثر في العديد من مواقع دفن شعوب النياندرتال، التي يبلغ عمر بعضها 200 ألف عام، على آثار لمغرة حمراء؛ إحدى الصبغات الطبيعية التي كانت تستخدمها شعوب الصيد وجمع الثمار أثناء إقامة شعائرهم. وهذا يشير على أقل تقدير إلى أن شعوب ما قبل التاريخ تلك كانت تعد الموت مرحلة مهمة في حياة البشر، وأن وفاة أحد أفراد الجماعة كان يقام لها الشعائر التي كان يلعب فيها استخدام مواد رمزية، مثل الصبغة الحمراء، دورا مهما.
لكن مع وصول الإنسان الحديث تشريحيا إلى أوروبا، يصير استخدام الرموز في أقوى أشكاله غزيرا في سجل الحفريات. وقد تكون أروع مجموعة لاستخدام الرموز من عصور ما قبل التاريخ في العالم هي آلاف النقوش الحجرية التي عثر عليها في كهف إسباني آخر في كانتابريا، وهو كهف لا باسيجا.
أسرار كهف لا باسيجا
في قلب كانتابريا، على بعد أقل من أربعة عشر ميلا جنوب شرقي كهف ألتاميرا، استكشف اختصاصي علم الإنسان وعالم عصور ما قبل التاريخ السويسري، هيوجو أوبيرماير، كهف لا باسيجا لأول مرة عام 1911م. سكن كهف لا باسيجا في البداية لفترة امتدت نحو ستة آلاف سنة، منذ فترة تتراوح بين 20 ألف عام و14 ألف عام، الشعب السولوتري ثم الشعب المجدليني، وهذا الكهف يحتوي على أغنى كنوز النقوش الحجرية التي عثر عليها على الإطلاق.
تمثل بعض النقوش الحجرية في لا باسيجا حيوانات أو أشخاصا، والبعض الآخر يمثل فيما يبدو أعدادا أو كميات، وما زال بعضها يمثل بأكمله لغزا. فيضم كهف لا باسيجا آلاف النقوش الحجرية، لكن باستثناء بعض صور حيوانات الصيد لم تفك شفرة أي من النقوش الحجرية مطلقا، إلا أنه في حين أننا قد لا نستطيع حل ألغاز هذه النقوش أبدا، فمن الواضح أنها ذات طبيعة رمزية؛ فهي ليست سطورا ونقاطا بلا معنى خربشت عشوائيا بلا سبب.
إنما النقوش الحجرية التي في لا باسيجا هي أشكال وأنماط نفذت بعناية حيث تتكرر عناصر تصويرية معينة، لكن ليس على نحو عشوائي. وهي من هذه الناحية تمثل الحروف المستخدمة في الكتابة الفعلية للثقافات المتحضرة (انظر شكل
5-5 ). كذلك تختلف النقوش الحجرية للغاية عن الأشكال الزخرفية المحضة التي نجدها في فخار وسلال مجتمعات ما قبل عصر الصناعة، حيث كثيرا ما يغطي تصميم واحد مساحة كبيرة بقليل من التنوع أو من دونه. علاوة على ذلك، رسمت النقوش الحجرية في مناطق موغلة من الكهوف لا يمكن بلوغها؛ مما يوحي بأنها لم ترسم عرضا. وأخيرا، نما إلى علمنا من دراسات إثنية معاصرة أن رسومات الكهوف ونقوشها الحجرية كانت تعدها شعوب الصيد وجمع الثمار أشكالا من السحر وكثيرا ما ترتبط بطقوس دينية.
شكل 5-5: الأشكال متقنة التنفيذ في كهف لا باسيجا تؤكد أنها وضعت لتسجل معلومات محددة وتنقلها في شكل رمزي.
لكل هذه الأسباب لا بد من اعتبار النقوش الحجرية تصاميم رسمت عمدا للتعبير عن معان محددة، ولتمثيل أشياء وأحداث معينة في الزمن والمكان، لكن ماذا كانت هذه الأشياء والأحداث بالضبط؟ للأسف، لا يوجد لدينا أدنى فكرة عن ذلك.
فلا يوجد حجر رشيد يكشف عن أسرار النقوش الحجرية بلغات مكتوبة نستطيع ترجمتها وفهمها، ولا يوجد ناس أحياء من الشعب السولوتري أو الماجدليني ليفسروا معانيها لنا. في الواقع، لا يقتصر الأمر على أننا ليس لدينا فكرة عن اللغة التي تحدث بها هؤلاء الناس، لكن كذلك حتى لو استطعنا سماعهم يتحدثون سنظل لا نفقه ما يقولونه؛ إذ تعتمد المعاني المشفرة في شكل رسائل رمزية، بطبيعتها الجوهرية، على الذاكرة الحية لأولئك الذين نشئوا وعاشوا في الثقافات التي ابتكرت تلك المعاني. وحين يختفي كل أولئك الناس وتصير ثقافاتهم في طي النسيان، يصبح لدينا القليل أو حتى لا شيء لنبدأ العمل به.
شكل 5-6: العديد من النقوش الحجرية التي في كهف لا باسيجا تحتوي على نقاط أو خطوط ربما كانت تعبر عن أعداد أو كميات.
قد لا نعرف على وجه التحديد لماذا نفذ الشعب المجدليني والكرومانيون رسومات كهوف ألتاميرا ولاسكو وشوفيه المتقنة، لكننا نعلم على الأقل أن هذه الرسومات الشبيهة بالواقع تمثل أنواعا حيوانية حقيقية ويمكن تحديدها على نحو قاطع. الأمر ليس كذلك مع النقوش الحجرية؛ فلا يساورنا شك أن هذه النقوش قد رسمت ولونت حتى تدون معلومات وتنقلها إلى آخرين عبر الزمان والمكان، لكن يظل السؤال حول كنه تلك المعلومات، وكيف ترجمت إلى شكل رمزي، سرا عجزت أفضل عقول علم الحفريات الحديث تماما عن حله.
إذا كانت الكلمة المكتوبة - التي تشمل كلا من الأشكال البسيطة مثل الأبجدية المسمارية أو الأبجدية الرومانية والأشكال المعقدة مثل الهيروغليفية المصرية وكتابة المايا - هي التمثيل الرمزي لمعلومات عبر عنها في حديث البشر؛ فإن نقوش العصر الحجري القديم الحجرية تعتبر أول وأقدم أشكال الكتابة البشرية التي عثر عليها على الإطلاق، كما أنها تعد أفضل دليل ممكن على أن الناس الذين كتبوا هذه النقوش الحجرية كانوا يستخدمون لغة. في الواقع، يعتقد بعض العلماء أن قدرة شعوب ما قبل التاريخ على رسم صور ذات مغزى في المقام الأول هو بينة على احتواء ثقافاتهم على أنظمة مشتركة للمعاني عبروا عنها في شكل لغات منطوقة بالفعل.
12
لكن رغم عدم إمكانية سماع أشخاص يتحدثون لغات ما قبل التاريخ تلك مطلقا، ظلت هناك أدلة مذهلة حول نشأة كلام البشر في البقايا الحفرية لهياكل أشباه البشر العظمية.
العظمة اللامية وأصول اللغة
في الفصول السابقة رأينا كيف يمكن للأدلة الحفرية المستقاة من تشريح الإنسان أن توفر أدلة مهمة عن سلوك أشباه البشر في عصور ما قبل التاريخ، حتى حين يكون السلوك المعني قد وقع منذ زمن طويل ولا يمكن ملاحظته على نحو مباشر. وهذا يطرح السؤال المثير للاهتمام عما إذا كانت البقايا الحفرية لأشباه البشر المنقرضين قد تعطي بعض الخيوط التي تدلنا على الوقت الذي بدءوا فيه استخدام اللغة المنطوقة لأول مرة. وحيث إن اللسان والحنجرة والجزء العلوي من الحلق - أعضاء الكلام الأساسية - تتكون بالكامل تقريبا من أنسجة رخوة، فلم يصمد أي من هذه الأنسجة أمام الفترات الزمنية الطويلة التي انقضت خلال تطور الإنسان.
غير أنه يوجد بالفعل عظمة صغيرة جدا - واقعة في الجزء العلوي من حلق الإنسان، فوق الحنجرة مباشرة وملتصقة بها - تلعب دورا مهما في حركات عضلات اللسان والحلق التي تشكل أصوات كلام البشر. وتسمى هذه العظمة، المتخذة شكل حدوة الحصان ويبلغ عرضها نحو بوصة ونصف، «العظمة اللامية».
بينما تختلف العظمة اللامية لدى الإنسان الحديث اختلافا بالغا في شكلها عن العظمة اللامية لدى الشمبانزي، تكاد تكون مطابقة للعظمة اللامية لدى إنسان النياندرتال، وتتشابه جدا مع تلك الموجودة لدى إنسان هومو هايدلبيرجينسيس الناشئ؛ لذا يبدو من المحتمل أن يكون الكلام البشري قد بدأ منذ مئات آلاف السنين لدى جماعة من إنسان هومو هايدلبيرجينسيس، وأن يكون بشر النياندرتال تحدثوا شكلا متطورا من اللغة يشبه كلامنا الحديث. ومما لا ريب فيه أن الإنسان الحديث تشريحيا، الذي ترك أدلة وفيرة على استخدامه الرموز المرئية في تدوين المعلومات وتناقلها، كان قادرا تماما على الكلام بطريقة البشر.
شكل 5-7: شكل العظمة اللامية لدى قردة الشمبانزي (أ) يختلف جدا عن الأشكال المتشابهة جدا للعظام اللامية لبشر النياندرتال (ب) والإنسان الحديث (ج)؛ مما يوحي بأن بشر النياندرتال ربما كانوا يتحدثون لغات منطوقة تضاهي لغاتنا.
ذهب بعض العلماء إلى أن اللغة تطورت لأول مرة حين بدأ أشباه البشر تشكيل مجموعات أكبر في حجمها من العدد الصغير من الأفراد المعهود لدى الجماعات الاجتماعية للسعادين والقردة وأشباه البشر الأوائل. وفقا لوجهة النظر هذه، فقد تطورت اللغة - مع تزايد حجم المخ - بحيث يستطيع البشر الناشئون الترابط مع العدد الأكبر من الأفراد الذي أخذ يتكون في المجموعات البشرية الأحدث عهدا. ورغم أن السعادين والقردة تترابط مع أفراد آخرين في المجموعة عن طريق عملية التنظيف الجسدي، فهناك حدود لعدد الأفراد الذين يستطيع الواحد منهم العناية بنظافتهم؛ من ثم فاللغة تجعل من الممكن زيادة هذا العدد زيادة بالغة.
13
موسيقى ما قبل التاريخ
الأغنيات التي يشدو بها البشر لا تشبه الأغنيات التي تصدر عن آلاف الأنواع من الطيور أو القليل من الثدييات، مثل الجيبون والحيتان، التي تغني أثناء حياتها اليومية. «أغاني» تلك الحيوانات لا تختلف إلا بقدر ضئيل من فرد لآخر أو مجموعة لأخرى داخل كل نوع؛ مما يشير إلى أنها فطرية بدرجة كبيرة ومبرمجة مسبقا بالوراثة الجينية.
أما أغنيات البشر فهي تتنوع كثيرا من جماعة بشرية لأخرى، ومن فرد لآخر؛ لذا يبدو أن الغناء، مثل اللغة، واحد من تلك السلوكيات التي رغم تميز الطبيعة البشرية بها لا بد أن تلقن مثل اللغة. والموسيقى التي يأتي بها البشر باستخدام تقنية صنع آلات موسيقية هي واحدة من تلك السلوكيات التي ينفرد بها نوعنا تماما.
لم يتمكن اختصاصيو علم الحفريات قط من تحديد الوقت الذي بدأ فيه بشر ما قبل التاريخ عزف الموسيقى لأول مرة، لكن من الوارد أن تكون قدرة البشر على الغناء قد تطورت أولا، ثم اخترعوا تقنية الآلات الموسيقية لاحقا. وإذا كان الغناء بدأ مع استخدام اللغة فقد يكون بدأ منذ 300 ألف عام. وإذا كان بشر النياندرتال قد أصبح لديهم لغة منطوقة بحلول وقت استقرارهم في أوروبا ما قبل التاريخ منذ أكثر من 100 ألف عام، وهو الأمر الذي يبدو مرجحا جدا، فقد يكون الغناء قديما بالدرجة نفسها على الأقل.
أقدم الآلات الموسيقية التي عثر عليها حتى الآن هي بقايا العديد من «المزامير» الصغيرة يتراوح طولها بين خمس وتسع بوصات، صنعها منذ نحو 35 ألف عام بشر حديثون تشريحيا كانوا ينتمون إلى الثقافة الأورينياسية. صنع الأورينياسيون أغلب هذه الآلات بنقر ثقوب للأصابع في عظام مجوفة من أجنحة البجع والعقبان، وقد استخرج العديد من هذه المزامير الأورينياسية من مواقع كهوف العصور الحجرية القديمة الواقعة في وديان الأنهار في جنوب غرب ألمانيا. حين أعيد بناء أحد هذه المزامير المصنوعة من عظام الطيور، استطاع الباحثون استخدامها في إصدار النغمات الموسيقية سي ودو وري وفا .
بعض المزامير الأورينياسية التي عثر عليها في هذه المواقع كانت مصنوعة من العاج، وكان هذا يتطلب عملية تصنيع معقدة، حيث كان يشق قطاع من ناب الماموس العاجي إلى نصفين، ويجوف كل نصف بامتداد طوله، وتحفر فتحات الأصابع في مواقع محددة، ثم يلصق النصفان معا حتى يصير مغلقا بإحكام بحيث لا ينفذ الهواء. الوقت والعناية والمهارة اللازمة لصنع هذه الآلات الدقيقة من العظام والعاج لا تدع مجالا كبيرا للشك في أن الموسيقى - وحرفة صناعة الآلات الموسيقية - كانت تعد بالفعل جزءا مهما من الحياة منذ عشرات آلاف السنوات.
ربما كانت أغنيات ورقصات الحضارة الأورينياسية والكرافيتية والسولوترية والمجدلينية تؤدي في حياة عصور ما قبل التاريخ الغرض نفسه الذي تؤديه في الحياة الحديثة الآن: وسيلة للتنفيس العاطفي، وطريقة لخلق مشاعر الصحبة والانتماء بين أعضاء الجماعة الاجتماعية، وطريقة للتعبير عن الهوية الثقافية للفرد. ليس من قبيل المصادفة أن كل الدول القومية الحديثة لديها نشيد وطني يغنيه أفرادها معا للتعبير عن تكاتفهم كمواطنين في ثقافاتهم القومية، ولدعم هويتهم المشتركة بصفتهم أعضاء في هذه الجماعات البشرية الضخمة.
الرموز والهوية الإثنية المشتركة
في شهر يونيو في أوائل العقد الأول من القرن التاسع عشر، في السهول العظمى في غرب أمريكا الشمالية، كان قيظ الصيف يقترب، وكانت جماعات هنود الشايان المتفرقة، المشهورة بصيد الجاموس في السهول العظمى الأمريكية تسير على مهل من ملاذ معسكراتها الشتائية في الوديان الحرجية نحو دائرة المخيمات الكبرى التي ستقام قريبا في حقل مفتوح على ضفاف نهر بلات. وهناك، في صباح الانقلاب الصيفي، تقام ألف خيمة، تمثل قبيلة الشايان بأسرها، في حقل كبير مفتوح، حيث ستؤدى مراسم تجديد السهم المقدس.
طوال الجزء الأكبر من العام، كانت جماعات الشايان العديدة المتنوعة تعيش في مخيمات متناثرة على نطاق واسع، تصطاد طعامها وتجمعه في جماعات تتكون من أسر غير مترابطة، لكن حين كانت قوة القبيلة في أشدها سيطر أقل من 4000 هندي من الشايان على منطقة من البراري اتسعت مئات الأميال من مونتانا في الشمال حتى كانساس في الجنوب؛ مساحة تعادل ضعف مساحة تكساس. كيف دافعت قبائل الشايان بنجاح عن أرضها الشاسعة ضد القبائل الهندية الأخرى في السهول التي كانت تطمع في مناطق صيدها، والتي لم تكن أكبر منها حجما فحسب، وإنما تعادلها في التمكن من فنون الحرب أيضا؟ يبدو أن الإجابة هي أن قبائل الشايان اكتسبت القدرة على التصدي لأعدائها بجبهة متحدة تماما، وهو الأمر النادر نسبيا بين قبائل سهول أمريكا الشمالية.
كان أعضاء قبائل الشايان صائدي جاموس ومحاربين لا يستهان بهم متمكنين من فنون القتال. وكان قتل شخص من إحدى القبائل المعادية أو إصابته يعد إنجازا عظيما بين ظهراني قبيلة الشايان، وعملا يحق لصاحبه الزهو به ما تبقى له من العمر، لكن بين الرجال الذين يعرفون كيف يقتلون، دائما ما يوجد خطر أن يتصاعد النزاع على الأرض أو الملكية أو النساء ليصير عنفا يؤدي إلى إصابة أو موت داخل القبيلة. في الواقع، كان مثل تلك الصراعات أمرا معتادا بين العديد من قبائل الأمريكيين الأصليين، ولم يكن من غير المألوف أن ينخرط أفراد هذه القبائل الأخرى في حلقات من الانتقام والهجوم المضاد؛ حيث يؤلبون أفراد القبيلة نفسها بعضهم ضد الآخر.
ما تميزت به قبيلة الشايان على قبائل السهول الهندية الأخرى كان متأصلا في ثقافتهم ومنظومة قيمهم الفريدة، حيث كان تضامن القبيلة فضيلة عظمى، وحيث كان القتل - الذي كان يعرف بأنه قتل أحد أفراد قبيلة الشايان لفرد آخر منها - «يلطخ» السهام المقدسة التي كانت تعد رموزهم العظمى لوحدة القبيلة. كان القتل يضع القبيلة بأسرها في مأزق أخلاقي، فيسلبها حماية الأرواح الإلهية والقوى السحرية الي تتمتع بها السهام نفسها. اعتقد الشايان أن جسد القاتل يتعفن من داخله، ويصير فاسدا ومتفسخا حتى يموت القاتل ميتة بطيئة. يمكن وقف هذه الآثار فقط إن تاب القاتل عن خطيئته بتولي رعاية مراسم تجديد السهم، وهي مهمة شاقة تتطلب شهورا من السفر على صهوة حصان لزيارة كل فرق الشايان المنتشرة على مساحة مترامية من أراضي الصيد التابعة لقبيلتهم وإخبارها.
كان الهدف من مراسم تجديد السهم هو «التطهير» الرمزي للسهام الأربع المقدسة - من خلال الصوم والصلاة وإقامة الشعائر لأيام - التي توارثتها الأجيال من بطل الشايان الأسطوري «طبيب العشب الحلو»، الذي استلمها من الروح العظمى منذ زمن طويل. وكان كل أفراد قبائل الشايان يتجمعون مرة كل بضع سنوات لإقامة مراسم تجديد السهم المقدس، حيث كانت قبيلة الشايان كلها تنادي أرواح أسلافها أن تجدد الأرض، وتمسح آثام الماضي، وتجدد روابط الأخوة بين كل أفراد الشايان؛ وبهذا تضمن وفرة حيوانات الصيد والانتصار في الحرب.
في اليوم الأول من مراسم تجديد السهم - يوم الانقلاب الصيفي - كانت ألف أسرة من أسر الشايان تقيم ألف خيمة، على شكل قوس هلال كبير يواجه الشمس البازغة، حيث يلتقط باب كل خيمة الأشعة الأولى التي تظهر في الأفق. وفي مركز هذا الهلال كانت تقام خيمة جماعية كبيرة، مقام سهم الطبيب؛ حيث كانت السهام المقدسة تجدد وتطهر.
في اليوم الثاني، كان الكهنة يتخذون أماكنهم في مقام سهم الطبيب، وكانت الأضاحي توضع على سبيل القرابين قبالة المذبح القائم في وسط المقام، وبعد أداء طقوس سرية معينة بعناية، وإنشاد أغان مقدسة، وإقامة الصلوات، كانت الصرة التي تحتوي على السهام المقدسة تفتح وتفحص. كان لهذه اللحظة حرمة شديدة، حتى إنه كل أفراد الشايان عدا أولئك المشاركين فعليا في المراسم كان عليهم التزام الصمت والسكون التام في خيمهم، في حين كان أفراد جمعية محاربي الشايان يحرسون منطقة المخيم الكبير في يقظة؛ فإن بدأ طفل في البكاء أسكت سريعا، وإن نبح كلب كان يقتل في الحال بضربة سريعة من هراوة أحد المقاتلين.
في اليوم الثالث من المراسم، كانت الأسهم المقدسة تنظف وتصلح، ويقطع غصن صفصاف طويل لكل أسرة من أسر الشايان. كان كل غصن، واحد تلو الآخر، يباركه كهنة القبيلة بدخان البخور لإعطاء كل أسرة عهدا جديدا. وكان أفراد كل أسرة يحتفظون بغصنهم ويعتنون به باهتمام طوال العام، كتذكرة بأنهم شايان، وأنهم ينتمون إلى شيء أكبر من أنفسهم، وأكبر من أسرهم، وأكبر من الجماعة المحلية من العائلات المترابطة التي عاشت وسافرت معا ، تمارس الصيد وجمع الثمار كل منها داخل أراضيه.
على هذا المنوال، كان الشايان يسخرون القوة العاطفية للتواصل الرمزي في دمج العشرات من المجموعات الرحالة الصغيرة في كيان قبلي واحد قادر في وقت قصير على التضافر في قوة مقاتلة من آلاف الأشخاص. بلغة مشتركة، وولاء مشترك لسلطة السهام المقدسة وغيرها من رموز القبيلة، كانت جماعات الشايان المتعددة تستطيع الانتظام سريعا في مجموعة واحدة كبيرة تضم أغلب أفراد القبيلة. بهذه الطريقة، صار المجتمع الانقسامي الاندماجي الذي ورثه كل من قردة الشمبانزي وأشباه البشر من أسلافهم المشتركين، قادرا على خلق شعور التضامن القبلي بين أفراد الجماعات الرحالة المتناثرة المتعددة.
المجتمع الانقسامي الاندماجي
خلال الفترات القصيرة التي كانت تندمج فيها مؤقتا مجموعتان مختلفتان من قردة الشمبانزي في مجموعة واحدة، كان أفراد المجموعتين يختلطون معا دون أو مع القليل من العنف أو الصراع الواضح، لكن أثناء مرحلة الاندماج هذه تظهر على أفراد المجموعتين أعراض ضغط نفسي، قد تكون في شكل صراخ، واستعراض ل «السيطرة» بكسر فروع الأشجار مثلا، والركض في الأنحاء بهياج شديد عامة، لكن لا مفر من أن يبدأ الضغط النفسي الناتج عن التواصل عن قرب مع أفراد مجموعة أخرى في إحداث آثاره السلبية. وبعد الاختلاط ليوم أو يومين، تفصل قردة الشمبانزي نفسها في مجموعاتها الأصلية وترحل إلى مواطنها.
لكن البشر مضوا بالنموذج الانقسامي الاندماجي لأفق أبعد، بجعل دورة الاندماج جزءا لا يتجزأ من تكيفهم البيئي الموسمي. فكان الإسكيمو الإنويت يقضون شهور صيف القطب الشمالي القصير الدافئة نسبيا في مجموعات أسرية صغيرة تراوحت عامة من فردين إلى اثني عشر فردا، أثناء تجوالهم في منطقة التندرة يجمعون البيض ويصطادون الأرانب. أما في الشتاء، حين كانوا يصطادون حيوانات أكبر حجما، مثل الوعل والفقمة والفظ، التي كانت تتطلب تعاونا بين مجموعة أكبر من الصيادين، كان الإسكيمو يحتشدون في مجموعات أكبر كثيرا. كانت كل أسرة أو أسرة ممتدة من الإسكيمو تستقر في موقع واحد من أجل الشتاء وتبني كوخا جليديا؛ لتقيم مستوطنات تتكون من عدة أكواخ جليدية يقيم فيها خمسون شخصا أو أكثر.
أبدت قبائل البوشمان في صحراء كلهاري نموذجا انقساميا اندماجيا مشابها، بالتجمع بأعداد كبيرة نسبيا قرب آبار الماء الدائمة القليلة في ذروة موسم الجفاف والتوزع في مجموعات أسرية صغيرة خلال الموسم الممطر، حين يكون الغذاء وفيرا، ويمكن العثور عليه متناثرا في أنحاء الصحراء.
حين أدمج الإنسان الحديث تشريحيا التواصل بالرموز في حياتهم اليومية، أطلق العنان للقوة الكاملة للمجتمع الانقسامي الاندماجي؛ فبتبني هويات ثقافية مميزة - ودعم هذه الهويات بالتشارك في اللغة والموسيقى والرقص والفنون والرسم وغيرها من أشكال التواصل بالرموز الأخرى - استطاع الإنسان الحديث دمج جماعات الرحالة الصغيرة التي كان يعيش فيها وقتا طويلا من السنة لتصير مجموعات كبيرة قادرة على التعاون في الصيد والحرب حسبما تقتضي الحاجة وتسنح الفرصة.
رغم أن مجموعات رحالة عصور ما قبل التاريخ الصغيرة ربما كانت مناسبة كأفضل ما يكون لمطاردة الحيوانات الصغيرة وجمع النباتات القابلة للأكل، فإن المجموعات الأكبر كانت أنسب للصيد الجماعي للحيوانات الكبيرة، مثل حيوانات ما قبل التاريخ الضخمة من الماموث ووحيد القرن وثور البيسون والماشية الوحشية. ورغم أن بشر النياندرتال كانوا يصطادون الحيوانات الضخمة باستمرار، فقد ظلت أعدادها تزيد بجانب بشر النياندرتال لعشرات آلاف الأعوام، لكن حين ظهر الإنسان الحديث تشريحيا في الصورة ظلت الحيوانات الضخمة تصطاد فيما يبدو حتى انقرضت في غضون بضعة آلاف عام. فرغم ثقافاتهم القبلية وقدرتهم على تنظيم أنفسهم في مجموعات كبيرة حين تتطلب الظروف، فقد أثبتت الكفاءة القتالية للصيد الجماعي أنها عاجزة أمام الحيوانات الضخمة التي كانت تجوب المناطق الشمالية طوال العصور الجليدية.
منذ خمسة وسبعين ألف عام، كان بشر النياندرتال قد استقروا في غرب أوروبا، وازدهروا هناك طوال خمسين ألف عام على الأقل، لكن بعد وصول الإنسان الحديث تشريحيا بعشرين ألف عام اختفى بشر النياندرتال تماما. وعلى النقيض من الإنسان الحديث تشريحيا، لم يترك بشر النياندرتال سوى القليل من الأدلة على التواصل بالرموز، ولم يتركوا أي أدلة نهائيا على تقاليد ثقافية أو هويات إثنية محددة. ورغم قوتهم البدنية الفائقة لم تكن الجماعات الصغيرة المؤلفة من أفراد من بشر النياندرتال لتصمد أمام إحدى القوات المقاتلة المنظمة المكونة من المئات، بل والآلاف من المحتشدين المنتسبين إلى الحضارة الشاتلبيرونية أو الأورينياسية.
القدرة على السرد
قد يكون أهم تطور في مسيرة التواصل الرمزي قد حدث حين بدأ البشر ضم مجموعات من الكلمات لوصف الأحداث التي جرت بتسلسل معين خلال فترة من الزمن. هذه التسلسلات تعرف عامة باسم «الحكايات ». «قال الملك للأرنب الأبيض: «فلتبدأ من البداية، واستمر حتى تصل إلى النهاية: ثم توقف»»
14 (من قصة «أليس في بلاد العجائب»). هذه الصيغة البسيطة على نحو خادع تصف شكلا قويا من التواصل لا يقدر عليه نوع آخر. مع أنه من الجائز أن البشر الناشئين كان لديهم شكل بدائي من اللغة، ومن شبه المؤكد أن بشر النياندرتال كان لديهم قدرة على استخدام لغة منطوقة، فإن التغييرات الكبيرة التي أدخلها الإنسان الحديث تشريحيا في الحياة الإنسانية ربما كانت راجعة لقدرتهم الفريدة على سرد الحكايات في شكل قصصي.
القدرة على السرد جعلت من الممكن للصيادين عند عودتهم لمقرات إقامتهم بغنائمهم المرجوة من اللحم أن يقصوا كيف عثروا على فريستهم وتتبعوها وحاصروها وأجهزوا عليها وذبحوها. وقد مكن السرد جامعات الثمار من أن يصفن كيف انتقلن من مقرات إقامتهن إلى الموقع المحدد الذي أمكن العثور فيه على الثمار والجذور والدرنات المرغوب فيها وغيرها من الأطعمة. وبفضل السرد أمكن وصف عملية صناعة الأدوات والأسلحة والأوعية والمساكن والملابس خطوة بخطوة، وسائر الأشياء الكثيرة الأخرى التي كان الصيادون والجامعون يعتمدون عليها. كما مكن السرد المعالجين الروحيين والمداوين من شرح مسببات الأمراض، وتعليم تلامذتهم كيفية إجراء طقوس معالجة المرضى والجرحى.
من بين الإسهامات العديدة لقدرة السرد في ثقافة البشر، أنها أتاحت لرواة القبيلة أن يحكوا حياة الأسلاف وآلهة القبيلة وأعمالهم، وأن يشرحوا كيف نشأ الكون، ويرتلوا الأناشيد والطقوس المقدسة التي أضفت معنى وثراء على الحياة القبلية. شكل حاصل مجموع هذه القصص «التراث الشفهي» الذي دونه اختصاصيو علم الإنسان في كل ثقافات عصور ما قبل الصناعة التي درسوها. وكان هذا التراث الشفهي بمثابة مستودعات للتجارب والحكمة الجماعية لكل مجتمع من المجتمعات البشرية حتى ميلاد الحضارة واختراع الكلمة المكتوبة.
وأخيرا منحت القدرة على السرد الإنسان الحديث تشريحيا طريقة لمعرفة كيف جرت الأحداث في الماضي، بل وكيف ستجري في المستقبل أيضا. على هذا المنوال، منح اختراع الحكي لنوعنا القدرة الفريدة على تصور مرور الوقت والاستعداد لأحداث لن تقع قبل أيام أو أسابيع أو شهور في المستقبل.
لذا، ليس من قبيل المصادفة أنه عندما حل مكان بشر النياندرتال الإنسان الحديث الذي تمتع بثقافات ثرية بالتواصل الرمزي - والذي امتلك، من خلال الاشتراك في رمزية اللغة والتراث الشفهي، معلومات أكثر بكثير حول سبل العيش - ازدادت أعداد البشر في أوروبا خلال بضعة آلاف السنين حتى صارت عشرة أضعاف ما كانت عليه خلال زمن بشر النياندرتال.
قوة التطور الثقافي
تتكون الآلية الأساسية للتطور البيولوجي من ثلاث عمليات أساسية؛ أولا: يرث كل جيل خواص والديه من خلال المعلومات المشفرة في المواد الوراثية التي يمده بها كل من الأب والأم. وثانيا: تفقد بعض هذه المعلومات أو تتغير حتما من خلال عملية إلى حد كبير عشوائية نسميها «الطفرة». وثالثا: أغلب الطفرات إما أن تكون بلا تأثير على نمو الكائن أو تكون مضرة أو غير ملاءمة؛ مما يجعل الحياة عسيرة على الأفراد الذين تغير حمضهم النووي.
إلا أنه في حالات قليلة جدا يتضح أن الطفرات العشوائية مفيدة وتساعد الكائن في التكيف مع بيئته بكفاءة أكثر. ونتيجة لهذا، يزداد انتشار الطفرات الأكثر نفعا في الجماعة المتكاثرة، وفي النهاية - إن كانت تلك الطفرات ملائمة بدرجة كافية - تصير النمط الطبيعي الجديد داخل الجماعة المتكاثرة. وهذه هي العملية الأساسية التي نتجت عنها القدرة على السير والعدو على ساقين، واستخدام النار، وطهو الطعام، وبناء المساكن، وحياكة الملابس، وما إلى ذلك.
لكن التطور البيولوجي له حدود؛ فهو مبدئيا بطيء للغاية؛ إذ استغرق أسلافنا الذين عاشوا في عصور ما قبل التاريخ ملايين السنين ليكتسبوا الاستقامة التامة للقامة والحركة الفعلية على القدمين، واستغرق مخ أشباه البشر أكثر من مليون سنة حتى يصل إلى حجمه الضخم الحالي. خلال عملية التطور البيولوجي، لا يمكن أن تنتقل المعلومات الجينية الجديدة والأعظم فائدة إلا من أحد الوالدين لنسله البيولوجي. هذا معناه أنه لا بد من تعاقب أجيال عديدة قبل أن ينتشر الجين المفيد في الجماعة المتكاثرة. وقبل أن ينجح يجب على أبناء وأحفاد وأبناء أحفاد الفرد الأول الذي كان لديه هذه المادة الجينية الجديدة ، أن يتفوقوا باستمرار على أبناء وأحفاد وأبناء أحفاد أفراد الجماعة الآخرين، ويفوقوهم عددا في النهاية.
الحمض النووي للنوع هو مجموعة كاملة من إرشادات بناء كل أعضاء الكائن الحي، مثل وصفة صنع نوع من الكعك أو مخطط تشييد بناء. وإذا تغير أي من هذه الإرشادات لن تصنع الكعكة أو يشيد البناء أو الكائن كما خطط له. وحين تكون هذه التغييرات مجرد إخفاقات عشوائية في استنساخ الإرشادات، ستبدو «أخطاء» في المنتج النهائي؛ لذا من الضروري لأي مجموعة من الكائنات الحية أن تستبعد آلاف من الطفرات الضارة قبل أن تظهر طفرة واحدة مفيدة يمكن الاحتفاظ بها خلال عملية الانتقاء الطبيعي.
أما التطور الثقافي فلا تعترضه أي من هذه العوائق؛ فقد ينشأ نوع جديد من السلوكيات لدى فرد واحد وينتقل سريعا إلى أفراد آخرين من خلال التعلم والمحاكاة. وإذا كان هذا التصرف الجديد يساعد الفرد على التأقلم مع بيئته بنجاح أكثر، فمن الممكن أن ينتشر بسهولة بين أفراد الجماعة الاجتماعية بأسرها خلال جيل واحد.
علاوة على ذلك، تتواصل المجموعات المختلفة من القردة والسعادين والبشر بعضها مع بعض من حين لآخر، وقد يختلط أفراد مجموعتين حين يكون هذا التواصل وديا. وهذا يعطي أفراد إحدى المجموعتين فرصة ملاحظة سلوكيات أفراد المجموعة الأخرى ومحاكاتها. وعلى هذا النحو، من الممكن أن تنتشر سلوكيات جديدة ليس داخل مجموعة اجتماعية واحدة فقط، لكن من مجموعة اجتماعية لأخرى. وهكذا تنتشر في النهاية بين سكان منطقة جغرافية بأسرها.
وأخيرا، نادرا ما تنشأ المستجدات الثقافية كأحداث عشوائية؛ فعلى عكس الطفرات الجينية دائما ما تكون التغيرات في السلوك التي تدفع بالتطور الثقافي مقصودة ومتعمدة؛ ولذلك السبب من المرجح جدا أن تكون أكثر فائدة وقابلية للتكيف بكثير إذا ما قورنت بالطفرات التي تؤدي إلى التطور البيولوجي. هذا لا ينطبق فحسب على غسل الماكاك للبطاطا، ولكن ينطبق أيضا على ابتكار فن الكهوف، واستئناس النباتات والحيوانات، وتطور الآلات الدقيقة، واختراع الكمبيوتر. ومن السهل أن نرى لماذا حين تتحد الطبيعة الهادفة للمستجدات الثقافية مع طرق نقلها وانتشارها السريعة جدا، يكون التطور الثقافي أسرع وأكثر كفاءة من التطور البيولوجي. •••
مع بزوغ الثقافات القبلية - المرحلة التي يرجع الفضل فيها إلى ظهور التواصل الرمزي المشترك بأشكاله العديدة - بدأت البشرية مسار الاندماج في مجتمعات وجماعات اجتماعية متزايدة الحجم. وفي كل خطوة على هذا الطريق - في القرية الزراعية، والدولة المدينة الحضرية، والدولة القومية الصناعية - تضاعف حجم المجموعة البشرية على نحو مطرد. فلولا التواصل الرمزي ما كان هذا النمو المطرد ليصبح ممكنا أبدا، أما مع التواصل الرمزي فقد كان حتميا على الأرجح.
الجماعة الاجتماعية البشرية التي ظلت لملايين السنين لا تزيد على عشرات قليلة من الأفراد، حين حررت نفسها من إرث الرئيسيات وتوسعت في قبائل من آلاف الأشخاص، بدأت عملية دمج بلغت ذروتها بتكوين دول قومية مترامية ضمت ملايين الأفراد، وفرضت سيطرتها على وجه البسيطة بأكملها. ومسألة ما إذا كان نوعنا قادرا على تحقيق عملية دمج أخيرة - حيث يتقاسم كل البشر الأحياء هوية مشتركة كأفراد في ثقافة وحضارة عالمية واحدة - ستحدد مستقبل نوعنا، وكذلك مستقبل أغلب أشكال الحياة على الأرض. وفي واقع الأمر، هذه المسألة من المسائل الجوهرية في هذا الكتاب.
الفصل السادس
تقنية الزراعة
القرى الدائمة وتراكم الثروة
الانتقال من البحث عن الغذاء إلى الزراعة كان أعمق ثورة في تاريخ البشر.
جرايم باركر، «الثورة الزراعية في عصور ما قبل التاريخ»
منذ ثمانية عشر ألف عام كان العصر الجليدي الأخير في ذروته؛ فقد كان يغطي الدوائر الشمالية لأوروبا وآسيا وأمريكا طبقات هائلة من الجليد بلغ سمكها مئات الأقدام. وكان مستوى سطح البحر أقل مما هو عليه اليوم بمقدار ثلاثمائة قدم. وامتدت صحراوات شاسعة عبر أفريقيا وآسيا، وكانت الغابات المطيرة لا تزيد عن نسبة ضئيلة من حجمها الحالي. لكن كان ثمة تغييرات كبرى في المستقبل؛ فمع انحسار العصور الجليدية وارتفاع درجة حرارة الأرض، كانت البشرية على وشك الشروع في تحولها الأكبر التالي.
كل من التحولات الأربعة التي جرت من قبل غيرت الطبيعة البيولوجية لأسلافنا إلى حد كبير؛ فقد حولتنا تقنية الرماح وعصي الحفر من حيوانات رباعية الأرجل إلى ثنائية الأرجل. ونتج عن تقنية النار والطهو أن فقدنا شعر أجسادنا، وحدثت زيادة ضخمة في حجم أدمغتنا، كما حدث تحول في بنيتنا التي كانت مهيأة لتسلق الأشجار. أيضا مكنتنا تقنية الملابس والمأوى من الهجرة من المناطق المدارية، وجعلت من الممكن لمواليدنا «المبتسرين» البقاء على قيد الحياة في المناخ البارد. واشتملت تقنية التواصل بالرموز على تغييرات مهمة في أدمغتنا، فحررتنا من وتيرة التطور البيولوجي البطيئة، ومكنتنا من الاستفادة من سرعة التطور الثقافي ومرونته.
لكن طوال ملايين السنين التي استغرقتها كل هذه التغيرات البيولوجية المهمة، لم تتبدل طبيعة مجتمع أشباه البشر ولا علاقة أشباه البشر ببيئتهم الطبيعية تبدلا ملحوظا؛ فخلال النهار ظل الذكور البالغون يسلكون نمط حياة يعتمد على الصيد بالاقتناص، في حين ظلت الإناث البالغات يبحثن عن نباتات قابلة للأكل. وفي الليل ظلت مجموعات صغيرة من الأقارب تجتمع في مقرات سكنهم للاحتماء من الضواري. ومن حين لآخر كانت الجماعة من أشباه البشر تهجر مقر سكنها وتنتقل لموقع جديد؛ بحثا عن موارد أكثر وفرة للغذاء.
لكن حين اقترب العصر الحجري القديم من نهايته مع تراجع العصر الجليدي الأخير، حررت البشرية نفسها من الحاجة للانهماك الدائم في البحث عن شيء لتناوله، التي تحد حياة كل الحيوانات الأخرى وتقيدها؛ فحين جعلت تقنية الزراعة بإمكان البشر إنتاج غذائهم وتخزينه للمستقبل، ألقى نوعنا عن كاهله العبء الذي كان يحمله، مع كل الحيوانات الأخرى، منذ نشأته.
متحررين من البحث اليومي عن الغذاء، استقر أسلافنا في مستوطنات دائمة ضمت المئات بل الآلاف من الناس، وتعلموا الاشتغال بالفنون والحرف، وبدءوا يتضاعفون. ومكنتنا تقنيات النقل والاتصالات الجديدة والقوية من بناء المدن والتضاعف أكثر لنبني حضارات هائلة مكونة من مئات آلاف الأشخاص. وأتاحت لنا تقنية الآلات الدقيقة إمكانية إنشاء دول قومية صناعية حديثة تضم ملايين الأشخاص؛ ونتيجة لذلك تضاعفنا سريعا حتى بات مستقبلنا البعيد في خطر الآن. وبفضل التطور الحديث للتقنية الرقمية - التي منحتنا القدرة على التجارة مع كل أفراد النوع البشري وزيارتهم والتواصل معهم - أصبح بإمكان البشرية الاندماج في مجتمع عالمي واحد، لأول مرة في تاريخنا.
ما كان لأي من هذه التحولات في المجتمع أن يحدث مطلقا لو كان البشر استمروا في حياة الصيد وجمع الثمار التي بدأها نوعنا، إلا أن مسببات هذا الظهور المفاجئ للزراعة، التي جعلت بإمكان المجتمع البشري أن يخطو أولى خطواته على الطريق لتحول اجتماعي بالغ، ما زالت واحدا من الألغاز الكبرى التي تكتنف قصة البشر.
لغز الزراعة
في الفترة ما بين 12000 و4000 عام مضت، أقدم عدد من المجتمعات البشرية المختلفة، التي كانت تعيش في مواقع متباعدة جدا، على هجر أسلوب حياتها السابق الذي اعتمد على الصيد وجمع الثمار، وبدءوا يزرعون غذاءهم. قدم العلماء العديد من النظريات المختلفة والمتناقضة في كثير من الأحيان لتفسير هذه المصادفة الجديرة بالملاحظة، لكن بعد عقود من النقاش ما زال هناك عدم اتفاق حول الأسباب المحددة التي جعلت البشر حول العالم يقدمون على هذا التحول الكلي من الصيد وجمع الثمار إلى الزراعة في هذا الوقت.
لاحقا في هذا الفصل، سوف أشرح لماذا قد يكون اكتساب اللغة - وخاصة ملكة الحكي - هو ما مكن البشرية من الإقدام على هذا الانتقال من البحث عن الغذاء إلى الزراعة في هذه المحطة بالذات من تاريخها، لكن أولا لا بد أن نرى بعين الاعتبار النظريات التي قدمت في السنوات الأخيرة لتفسير تقنية إنتاج الغذاء الحديثة. ورغم أن العلماء قد يختلفون بشأن المسببات، فإنهم متفقون على أن الزراعة بدأت في الشرق الأوسط منذ نحو أحد عشر ألف عام، في قطاع من الأرض وفير المياه يسمى «الهلال الخصيب». وهذا هو المكان الذي ستبدأ فيه قصتنا.
تبلغ مساحة الهلال الخصيب نحو مائة ميل عرضا وقرابة ألف ميل طولا. ويبدأ من مصر، في الطرف الشرقي من البحر المتوسط، وينتهي عند العراق في الطرف الشمالي للخليج الفارسي. ولما كان الهلال الخصيب واقعا على الممر بين أفريقيا وأوراسيا مباشرة، ولما كان موطنا لأولى الحضارات القديمة، فقد لعب دورا هائلا في تاريخ البشرية منذ هاجر البشر الناشئون إلى أوروبا وآسيا، وذلك منذ أكثر من مليون عام ونصف.
إحدى النظريات الأولى التي فسرت نشوء الزراعة زعمت أن الفلاحة نشأت في الهلال الخصيب لأن بيئة تلك المنطقة كانت في مرحلة جفاف؛ مما جعل العدد المتناقص من الناس والحيوانات ينتقلون إلى الواحات، حيث اضطروا للعيش على مقربة شديدة بعضهم من بعض، وحيث بدأ البشر يربون هذه الحيوانات من أجل الحصول على الغذاء، لكن افترضت نظرية لاحقة أن إنتاج الغذاء لم يبدأ في الواحات، وإنما في الخاصرة الجبلية للهلال الخصيب؛ لأنها كانت منطقة تعيش فيها الأسلاف البرية لبعض من أولى النباتات والحيوانات التي استؤنست، ومنها القمح والشعير والكتان والبازلاء والعدس والماشية والماعز والخراف والخنازير.
شكل 6-1: الهلال الخصيب، الممتد من نهر النيل في الغرب حتى الخليج الفارسي في الشرق، هو المكان الذي ظهرت فيه أقدم أدلة على الزراعة.
لكن جاءت نظرية بعدها افترضت أن الزراعة بدأت حينما بدأت لأن الهلال الخصيب أخذ يكتظ بالسكان، وأخذ الغذاء يندر. وبعد زمن قصير، زعمت نظرية أخرى أن البشر صاروا يعتمدون على أنواع معينة من النباتات والحيوانات، التي كانت بدورها تتطور لأشكال كانت مفيدة جدا، حتى إن البشر شرعوا يحمونها وينشرونها. تلا هذه النظرية أخرى قائلة بأن مجتمعات ما قبل الصيد كانت قد أنتجت بالفعل فائضا من الغذاء؛ مما أباح للأفراد المهيمنين التنافس على الحظوة والنفوذ بإقامة مآدب متزايدة البذخ، وأن الحاجة لإنتاج هذا الفائض من الغذاء من أجل تلك المآدب هو الذي حث على نشوء الزراعة. وأخيرا ارتأت نظرية جديدة أنه بعد نهاية العصور الجليدية صار مناخ الدوائر الشمالية أكثر ملائمة للنباتات، وهذا شجع الناس على الإعراض عن أنماط حياة الترحال السابقة، لما وجدوا أن زراعة غذائهم ببساطة أسهل من صيده وجمعه.
1
وليست هذه إلا ستا من أشهر النظريات وأكثر ما خضع منها للمناقشة الجادة. أدرج عالم الآثار جرايم باركر في دراسته المستفيضة عن أصول الزراعة ما لا يقل عن تسعة وثلاثين سببا طرح على مدار سنوات لتفسير الانتقال من البحث عن الطعام إلى الزراعة، ومنها الرجال الضخام الجثة، وتغير المناخ، والتنافس، والتصحر، والتغلغل، وعلوم الطاقة، واستهلاك الدهون، والولائم، والهرمونات، والذكاء، والحدائق المنزلية، وملكية الأراضي، والبيئات الهامشية، والانتقاء الطبيعي، والإجهاد الناتج عن نقص الغذاء، والواحات، وهجرة النباتات، والضغط السكاني، والطفرات الجينية العشوائية، وتركز الموارد، والبيئات الغنية، والطقوس، والتحول من الترحال إلى الاستقرار، والتخزين، والتحديث التقني، وتوفر الماء، والخوف من الغرباء، والتنوع الحيواني.
2
ثمة مشكلتان رئيسيتان تتعلقان بهذه النظريات. المشكلة الأولى هي أن بعض هذه التفسيرات تبدو فعلا متناقضة بعضها مع بعض؛ فعلى سبيل المثال تفترض إحدى النظريات أن إنتاج الغذاء نشأ بسبب نقص الغذاء، بينما تفترض نظرية أخرى أنه نشأ بناء على وفرة الغذاء. المشكلة الثانية هي أن الأحداث والظروف التي يعتقد أنها أنذرت ببداية إنتاج الغذاء كانت قد وقعت كلها من قبل في تاريخ أشباه البشر. وحين تكون الأحداث والظروف نفسها قد وقعت بالفعل دون أن تسفر عن النتائج نفسها، يبدو بديهيا أن أيا من هذه الظروف لم يكن كافيا وحده ليأتي بالتحول العظيم الذي وقع حين اخترع البشر الزراعة، لكن خلال بضعة آلاف من السنين اخترعت الزراعة في أحد عشر موقعا مختلفا على الأقل في أنحاء العالم.
ظهرت أقدم الأدلة على الزراعة في الفترة ما بين أحد عشر ألف عام وثمانية آلاف عام مضت، مع استئناس القمح والشعير والكتان والبازلاء والعدس والماشية والماعز والخراف والخنازير في الهلال الخصيب، لكن بعد ذلك بوقت قصير - قبل تسعة إلى ثمانية آلاف عام - استؤنس الأرز والدجاج والخنازير والماشية وجاموس الماء في أحواض أنهار شرق الصين، كما استؤنس الدخن في شمال الصين.
شكل 6-2: بدأ استئناس النباتات والحيوانات في أحد عشر موقعا مختلفا على الأقل في الفترة منذ أحد عشر ألف عام وأربعة آلاف عام في كل القارات الرئيسية ما عدا أوروبا: (أ) الهلال الخصيب. (ب) وسط الصين. (ج) شمال الصين. (د) غينيا الجديدة. (ه) وادي المكسيك. (و) جبال الأنديز. (ز) شمال شرق أمريكا. (ح) أمريكا الجنوبية الاستوائية. (ط) غرب حوض الأمازون. (ي) أفريقيا جنوب الصحراء. (ك) شمال الهند.
واستؤنس الذرة
3
والقرع في وادي المكسيك قبل فترة تتراوح بين ثمانية وستة آلاف عام مضت، بينما استؤنس اليام والقلقاس والموز في مرتفعات غينيا الجديدة منذ نحو سبعة آلاف عام. في الوقت نفسه تقريبا، كان اليام والقطن والبطاطا الحلوة تستأنس في المنطقة الاستوائية المعروفة الآن بالإكوادور وكولومبيا، بينما كان الفول السوداني والفلفل الحار والبفرة (يعرف أيضا باسم الكاسافا وجذور التابيوكا) تستأنس في الأراضي المنخفضة المدارية من حوض الأمازون.
واستؤنست البطاطا والكينوا في مرتفعات ما صار يعرف الآن ببيرو وبوليفيا قبل سبعة إلى خمسة آلاف عام. واستؤنس عباد الشمس واليقطين والقرع في شرق أمريكا الشمالية قبل خمسة إلى أربعة آلاف عام، بينما في الوقت نفسه تقريبا كان الدخن والذرة البيضاء واليام والبن تستأنس في أفريقيا جنوب الصحراء، وكان الخيل يستأنس في وسط آسيا.
4
لماذا جرى مثل هذا التغيير الجوهري في العلاقة بين البشرية والبيئة الطبيعية في جميع أرجاء العالم في الفترة ما بين قبل أحد عشر ألف وأربعة آلاف عام؟ لماذا ظهرت الزراعة في الوقت نفسه تقريبا في العديد من الأماكن المختلفة في أنحاء العالم؟ ولماذا بدأت الزراعة في كل منطقة بخليط من النباتات والحيوانات مختلف عن تلك التي استؤنست في الهلال الخصيب، بدلا من الانتشار من نقطة انطلاق واحدة في الشرق الأوسط؟ إذن يظل السؤال هو: ما الشيء الجديد أو المختلف الذي اتسم به بشر العصر الحجري الحديث؟ وماذا كان لديهم من قدرات تمكنهم من ابتكار أسلوب حياة مختلف جذريا؛ قدرات لم تكن لدى فصيلة أشباه البشر في الفترات السابقة؟
هل اللغة المنطوقة هي الحلقة المفقودة؟
كتب عالم الآثار البارز أندرو شيرات عام 1997م قائلا: «يبدو أن نزعة التدخل في البيئة بطرق غير مسبوقة كانت سمة متأصلة لدى الإنسان الحديث؛ من هذا المنطلق ترتبط «نشأة الزراعة» بظهور اللغة والأنظمة الرمزية بقدر ما ترتبط بالتغير المناخي.»
5
هل كانت تقنية التواصل الرمزي هي العنصر الحاسم الذي كان مفقودا في الثقافات البشرية خلال فترات أقدم من عصور ما قبل التاريخ في حياة البشر؟ هل كان «ظهور اللغة والأنظمة الرمزية» جنبا إلى جنب مع ارتفاع درجة حرارة الأرض، هما العاملان المتضافران اللذان مكنا البشرية من إنتاج غذائها أخيرا؟
الأدلة الباقية من ثقافات العصر الحجري القديم العلوي في أوروبا توحي بأن التواصل الرمزي لم يتعد المرحلة البدائية حتى لدى الإنسان الحديث تشريحيا قبل ثلاثين أو أربعين ألف سنة مضت، وهي الفترة التي تتزايد بعدها الأدلة على الموسيقى والفنون والرسم واستخدام الرموز باطراد من حيث الكم والتنوع، لكن طوال العصر الحجري القديم العلوي كله طغت آثار العصر الجليدي الأخير على مناخ الأرض، والموائل التي عاشت فيها شعوب ما قبل التاريخ تلك كانت بوجه عام شديدة البرودة وشديدة الجفاف بما يجعلها بيئة غير مواتية لإنبات المحاصيل.
ذروة العصر الجليدي الأخير - المعروفة أيضا باسم الذروة الجليدية الأخيرة - وقعت قبل ثمانية عشر ألف عام تقريبا، بعدها ارتفعت درجة حرارة الأرض عامة، وصار هطول الأمطار أغزر، وأصبحت ظروف زراعة الطعام مواتية أكثر. حدثت الذروة الجليدية السابقة لتلك منذ نحو 140 ألف عام، واستمرت الفترة الدافئة الفاصلة بين عصرين جليديين التي تلتها نحو عشرة آلاف عام، لكن هذا كان قبل ظهور الإنسان الحديث تشريحيا في أوروبا بزمن طويل، وربما قبل أن يتطور لدى أي من أشباه البشر اللغات المنطوقة بحق التي يتحدث بها كل البشر الآن. فإذا كانت اللغة ضرورية لنمو الزراعة، فهذا سيفسر لماذا لم تبدأ الزراعة خلال الفترة الفاصلة بين عصرين جليديين التي وقعت تقريبا قبل ما بين 130 ألف و120 ألف عام مضى.
لكن مع حلول آخر ذروة جليدية، كانت ثقافات العصر الحجري القديم العلوي قد صارت ثرية باللغة واستخدام الرموز، وهو التطور الذي يمكن رؤيته بوضوح في البقايا الوفيرة من الرسومات والمنحوتات والنقوش الحجرية التي تركتها شعوب العصر الحجري القديم العلوي. فلا يدل التعقيد والتفصيل المتزايدان في اللغة المنطوقة على أن هؤلاء الناس قد تطورت لديهم القدرة على تقاسم كمية هائلة من المعلومات المعقدة وتناقلها فحسب - مع تطور الحكي الذي يصف الأحداث التي كانت تقع بمرور الزمن - ولكن أيضا على أنهم كانوا قادرين على التعبير عن كيفية توالي الأحداث في تسلسلات متوقعة.
كل المعلومات المفصلة حول دورات حياة النباتات والحيوانات وسلوكها في بيئة المجتمع - التي كانت من قبل مقتصرة على المعلومات التي يستطيع فرد واحد تحصيلها في عمر واحد - صارت هي الحكمة المتراكمة لثقافات بأسرها، حين ابتكر البشر لغات وافية التفاصيل. وعندما أدمجت هذه المعلومات المعقدة في التراث الشفهي لمجتمعات العصر الحجري القديم، صارت تشكل الحكمة الجماعية لآلاف الأشخاص، التي تراكمت على مر أجيال عدة.
ببساطة ربما كان المقدار الضخم للمعلومات الضرورية من أجل النجاح في زراعة المحاصيل وتربية الحيوانات المستأنسة يفوق مقدرة أي فرد على الاكتساب والتذكر؛ لذلك فمن المحتمل أن جمع معرفة آلاف الأفراد وخبراتهم كلها في شكل تراث شفهي، بالإضافة إلى المناخات الأكثر دفئا ورطوبة التي ظهرت منذ أحد عشر ألف عام، كان هو مزيج العوامل المصيري الذي جعل الانتقال من البحث عن الطعام إلى فلاحة الأرض أمرا ممكنا.
إلا أنه ثمة عنصر أساسي آخر كان يجب إضافته إلى هذا المزيج قبل إمكان التحول التام إلى نمط الحياة الزراعي: كان يجب على الناس في هذه العصور التوقف عن حياة التجوال وبدء العيش بشكل دائم في موقع واحد. رغم أنه من المنطقي افتراض أن الناس لم تبدأ العيش في مكان واحد إلا حين بدءوا زراعة غذائهم، فإن الدليل الأثري في منطقة الهلال الخصيب يدل على العكس تماما: جاء العيش في مكان واحد أولا ثم جاءت ممارسة الزراعة. في الواقع لا تظهر مجتمعات العصر الحجري الحديث الزراعية في السجل الأثري إلا بعد أن بدأ الناس العيش في مكان واحد بنحو ألف عام.
العيش في مكان واحد
قبل حدوث تحول الزراعة، حين وجد مجموعة من الصيادين وجامعي الثمار الرحالة أنفسهم في ظروف معيشية مواتية، وبدأ عددهم يزيد بحيث لم يعد مجرد بضع عشرات، كان الأخذ بأنماط التقاسم والتعاون العادية سيصير غير عملي أكثر فأكثر، وكان الناس سينزعون للانقسام إلى فصائل، وكان النزاع بين الفصائل المختلفة سيصبح أكثر تشعبا وتكرارا. في نهاية المطاف، مالت هذه الجماعات البدوية العظيمة الحجم للانقسام إلى مجموعتين أو أكثر، وذهبت كل منها في سبيلها. وهذا مثال على عملية «الانقسام» التي تقع من وقت لآخر في المجتمع الانقسامي الاندماجي المعهود لدى البشر وغيرهم من الرئيسيات. كان نمط الحياة البدوي يجعل الانتقال إلى أراض جديدة أمرا سهلا وطبيعيا بالنسبة إلى الجماعات، وكانت عملية الانقسام تجعل حجم جماعات الصيد وجمع الثمار صغيرا نسبيا؛ مما سهل الحفاظ على التضامن ويسر التعاون بين أفراد الجماعة.
لكن المجتمعات الزراعية ليس لديها هذه الرفاهية؛ إذ إنه مع الاعتماد على محاصيل معينة تنمو سنويا في أماكن محددة، تحتم المصالح الشخصية على الشعب الزراعي البقاء في مكان واحد. فبعد قضاء ساعات لا تحصى في بناء منازلهم الكبيرة الدائمة، لا يمكنهم ببساطة شد الرحال والانتقال إلى أماكن أفضل للصيد؛ لذلك ظلت مستوطناتهم راسخة في مكانها، وكلما يصير الغذاء وفيرا يزيد حجم جماعاتهم الاجتماعية أكثر ولا تستطيع الانقسام بسهولة.
منذ 17 ألف عام، كانت تعيش جماعات قليلة منعزلة من البشر الحديثين يسمون النتوفيين - يعيش أغلبهم في الهلال الخصيب أو بالقرب منه - وقد أخذت تحصد كميات كبيرة من الحبوب البرية وتخزن هذه الحبوب لفترات طويلة. ولا تشبه البقايا الأثرية التي تركوها وراءهم أيا من البقايا التي تركتها الجماعات البشرية السابقة عليهم.
كانت منازل النتوفيين أبنية راسخة من الطوب اللبن، أرضها مغطاة بمادة شبيهة بالملاط مصنوعة من الجير، جرى سحقها حتى صارت مستوية وملساء. وكانوا يصنعون مناجل من حصوات دقيقة صغيرة حادة - شظايا حجرية صغيرة للغاية بالكاد تزيد عن حجم الطوابع البريدية - كانوا يثبتونها في مقابض خشبية، واستخدموا هذه المناجل في حصد نوعي القمح البري الثنائي الحبة والوحيد الحبة الذي كان ينمو بكميات بوفيرة في تلال الهلال الخصيب. وكذلك صنعوا هاونات ثقيلة من أحجار بركانية ضخمة، واستخدموا هذه الهاونات في طحن الحبوب البرية لتصير دقيقا. وأقاموا أبنية خاصة ليستخدموها كمخازن غلال لتخزين كميات كبيرة من الحبوب، ذات أرضيات من الألواح الخشبية مرتفعة عن الأرض لحماية مخزونهم الثمين من الحشرات والقوارض.
تشير كل هذه الأدلة إلى أن النتوفيين بدءوا يعيشون في مكان واحد طوال العام؛ نمط المعيشة الذي يصفه اختصاصيو علم الإنسان بأنه «مستقر». وبالتخلي عن حياة الترحال - حتى مع الاستمرار في الصيد وجمع الثمار - أخذ النتوفيون أول خطوة حاسمة على طريق إنتاج الغذاء، غير أنهم ظلوا باحثين عن الطعام؛ فالحبوب التي كانوا يحصدونها كانت تنمو بريا؛ لا يوجد دليل على أنهم كانوا يعدون الأرض أو يزرعون البذور من أجل محاصيلها من الحبوب، كذلك الحيوانات التي كانوا يذبحونها ويتغذون عليها كانت أنواعا برية؛ إذ لا يوجد دليل على أنهم كانوا يحتفظون بالحيوانات في حظائر أو مرابط ويعلفونها من أجل ذبحها فيما بعد.
لكن حين استقر النتوفيون، وبدءوا يعيشون في منازل دائمة، واحتفظوا بغذائهم في مخازن دائمة، وعالجوا طعامهم بأدوات كانت ثقيلة جدا على النقل من مكان لآخر، وأقاموا قرى دائمة ظلت في مكان واحد طيلة أجيال، بدءوا نمط معيشة جعل بدايات الزراعة ممكنة. وحين انتقل نسل النتوفيين إلى إنتاج الطعام بدلا من صيده وجمعه فحسب، لم يكن أمامهم خيار سوى المكوث في مكان واحد.
بمجرد أن ساد نمط الحياة الزراعي، كان من الضروري إعداد الأرض للزراعة، ثم غرس البذور، ثم إزالة الحشائش، وري الشتلات النابتة (في بعض الحالات)، وحصد المحاصيل الناضجة في النهاية. بعد الحصاد، كان من الضروري تخزين كميات كافية من الغذاء للبقاء على قيد الحياة حتى موسم الزراعة التالي، والبقاء في مكان واحد لحماية مخزون الغذاء من طمع كل من الحيوانات والبشر الآخرين.
قبل أحد عشر ألف عام، كان قد بدأ يظهر دليل جلي على أن بعض المجتمعات التي كانت تسكن الهلال الخصيب كانت تزرع محصولاتها وترعاها عن قصد، والحبوب البرية التي كانت تجنى كان يستعاض عنها تدريجيا بأنواع مستأنسة؛ فقد كانت الغلال المستأنسة تحمل حبوبا أكثر على كل جذع وتنتج محاصيل أكبر. كذلك لم تكن سنابل الحبوب المستأنسة تتفتت أثناء الحصاد بالسهولة نفسها التي تتفتت بها سنابل الحبوب البرية. هكذا استطاع هؤلاء المزارعون القدامى حصد السنابل الناضجة دون الخوف من تبعثر الحبوب على الأرض قبل أن يستطيعوا الرجوع بها إلى القرية من أجل درسها.
السعي وراء الثروة المادية
ثمة حد لكمية الحاجيات المادية التي يستطيع البدو الرحل تكديسها؛ لأن الناس الدائمي الحركة لا يستطيعون الاحتفاظ بحاجيات مادية أكثر مما يمكنهم حمله معهم من مكان لآخر. وحيث إنه من دأب أعضاء الجماعات الرحالة التعاون في العديد من جوانب الصيد وجمع الثمار - ولديهم فرص محدودة لتخزين الغذاء لفترات طويلة - فإنهم يميلون لاقتسام أغلب غذائهم مع أقاربهم بصفة يومية.
أما الجماعات المستقرة التي لا تضطر إلى تغيير أماكن إقامتها عدة مرات سنويا فلا تقيدها هذه الحدود؛ فحيث إن لديها عدة خيارات لتخزين الطعام من أجل المستقبل فهي لا تضطر لاقتسامه مع أشخاص خارج أسرها المباشرة، ولأنها تعيش في مكان واحد فباستطاعتها أن تحشد من الثروة المادية بقدر ما يمكنها بدرجة معقولة تخزينه وحمايته من أن يسرقه أشخاص آخرون. وهكذا، بمجرد أن بدأ الناس يعيشون في مكان واحد، اكتسب السعي وراء الثروة أهمية لم يتمتع بها من قبل قط. ويمكن رؤية الأهمية المتزايدة للثروة والمكانة في الدليل الذي بقي في منطقة الهلال الخصيب من العصر الحجري الحديث، حين بدأ النتوفيون عادة حصد حبوبهم البرية وتخزينها في مخازن غلال.
في البداية، حين شيد النتوفيون مستوطنات دائمة، أنشئوا مخازن غلالهم منفصلة عن منازل الأسر المستقلة. وهذا يوحي بأن مئونة النتوفيين من الحبوب كانت ملكية مشتركة للجماعة ككل. وعلى كل حال، عادة اقتسام مئونة الغذاء التي تعيش عليها المجموعة ككل كانت إرثا فطريا من تاريخ النتوفيين الطويل كصيادين وجامعي ثمار.
لكن بعد مرور نحو ألف عام، اختفت مخازن غلال النتوفيين القائمة بذاتها، وحل مكانها مساحات تخزينية داخل المنازل المستقلة. من ذلك الوقت فصاعدا، ظلت مخازن غلال العصر الحجري الحديث تلحق بالمنازل التي تسكنها أسر مستقلة. يدل هذا على أن رؤية هذه المجتمعات للعالم ومنظومة قيمها كانت تتغير، وأنه بدلا من اعتبار خير الطبيعة شيئا يمكن اقتسامه بين كل أفراد المجموعة، بدأ النتوفيون اعتبار الغذاء ملكية خاصة يحتفظ بها الأفراد والأسر التي أنتجتها في الأصل.
على المنوال نفسه، فإن الأرض التي كانت كل جماعة من الصيادين وجامعي الثمار الرحل يدعون ملكيتها - الأرض التي كانت تماثل «مواطن» جماعات القردة والسعادين التي جاء وصفها في الفصل الأول - بدأت تفقد وضعها الأصلي باعتبارها المورد المشترك للجماعة الاجتماعية بأسرها. ورغم أن المناطق التي ظل من الممكن صيد الحيوانات البرية فيها وظل من الممكن جمع النباتات منها احتفظت على الأرجح بوضعها الأصلي كملكية مشتركة، فإن المساحات الأصغر من الأراضي الخصبة التي كانت مناسبة للزراعة صارت تدريجيا ملكية خاصة لأسر مستقلة. وفي النهاية، ورث الأبناء من الآباء أفضل مساحات الأراضي القابلة للزراعة ضمن ميراث ممتلكات الأسرة.
توضح الأدلة المستقاة من العديد من مجتمعات ما قبل الصناعة أنه بمجرد أن يبدأ أحد المجتمعات العيش في مكان واحد - حتى إن ظل يعيش على الصيد وجمع الثمار ولم يتطور لنمط الحياة الزراعية - فإنه يبدأ في السعي وراء جمع الثروة المادية بطرق تتشابه تشابها ملحوظا مع عادات الشعوب الزراعية. وتتضح أوجه التشابه هذه بجلاء في ثقافات شعوب الصيد وجمع الثمار المستقرة في الساحل الشمالي الغربي لأمريكا الشمالية.
قبائل النوتكا: صيادون وجامعون يعيشون في قرى دائمة
قبائل النوتكا في مقاطعة بريتيش كولومبيا خير مثال على قبائل الأمريكيين الأصليين الذين سكنوا الساحل الشمالي الغربي لأمريكا الشمالية، والذين كانوا جميعهم صيادين وجامعين ولم يمارس أي منهم الزراعة قط. اصطادت قبائل النوتكا الحيتان والفقمات والقضاعات في مياهها الإقليمية، وكذلك الدببة والغزلان وحيوانات الإلكة في الغابات الداخلية. وكانت تلك القبائل تصطاد أسماك الهلبوت والرنكة والقد، وتجمع القشريات من البحر والجذور والثمار العنبية التي كانت تنمو بوفرة في الوديان والغابات القريبة المتشبعة بمياه الأمطار. وبجانب كل هذا الرخاء الطبيعي، كانوا يصطادون أعدادا هائلة من السلمون الذي كان يهاجر سنويا لوضع البيض إلى منابع الأنهار العديدة التي تصب في البحر. كان السلمون يصطاد بالشباك والمصائد والسدود ثم يجفف ويدخن بكميات كبيرة، بحيث يوفر لقبائل النوتكا مخزونا من السمك يكفيهم طوال العام حتى يهاجر السلمون مرة أخرى.
ونظرا لأن الساحل الشمالي الغربي ثري جدا بأشكال برية من الغذاء - ولأن الحياة البحرية الزاخرة كانت تتجدد باستمرار بعمليات طبيعية - لم تكن قبائل النوتكا بحاجة لاتباع سبل الترحال في العيش؛ نمط الحياة المعهود في أغلب مجتمعات الصيد وجمع الثمار؛ فقد استقرت النوتكا منذ زمن طويل في قرى دائمة واقعة في مناطق مميزة على امتداد المنافذ المنحدرة في اتجاه البحر من الجبال الساحلية.
وحيث إن قبائل النوتكا كانت تقيم في مكان واحد، فهي لم تقتصر على سكنى الأكواخ البسيطة المؤقتة للشعوب الرحالة، التي كانت دائما ما تبنى في ساعات أو أيام وتهجر عادة بعد الإقامة فيها لبضعة أسابيع أو شهور، وإنما بنت قبائل النوتكا «مساكن جماعية» ضخمة، بلغ بعضها أربعين قدما عرضا ومائة قدم طولا، من جذوع أشجار الأرز والتنوب والشوكران التي كانت تنمو بوفرة في الغابات الباردة الرطبة في شمال غرب المحيط الهادئ. ورغم أن مساكن النوتكا الجماعية كانت تفكك وتنقل عدة أميال مرتين سنويا من المخيمات الصيفية على شاطئ البحر إلى المخيمات الشتوية في الداخل وتعود مرة أخرى، فإنها كانت مساكن دائمة تسكنها جماعة الأسر المتقاربة نفسها لسنوات.
ونظرا لأن موارد الغذاء النباتي والحيواني الغنية كانت دائما موجودة في المواقع نفسها، فقد كان عرفا بين قبائل النوتكا أن يرث الذكر الأكبر من الأبناء حقوق الإشراف على مناطق محددة لصيد الحيوانات والأسماك، وعلى المناطق التي ينمو فيها الغذاء النباتي بوفرة. وحين كان أحد الأقارب يمارس حقوقه في الصيد أو جمع الغذاء في هذه المناطق، كان لا بد أن يذهب جزء من الغنائم إلى الفرد الذي «يملك» هذه الموارد. وحيث إن الابن الأكبر كان يرث هذه الحقوق من الأب فقد نتج عنها «نظام طبقي»، حيث كان الأبناء الكبار يتمتعون بثروة طائلة، في حين كان الأبناء الصغار - الذين كانوا غالبا أفرادا في العائلة نفسها - يعيشون في فقر نسبي.
كان لنظام المكانة والهيبة المعقد أهمية فائقة في ثقافة قبائل النوتكا، والقبائل المستقرة الأخرى في الساحل الشمالي الغربي، وكانت زعامة القبيلة التي يتسلمها الابن الأكبر من الأب لا تنطوي على مزايا اقتصادية فحسب، وإنما على عدد من الحقوق والامتيازات الرمزية كذلك. شمل هذا ألقابا شرفية، والحق في إنشاد أغان شعائرية معينة وأداء رقصات طقسية محددة، والحق في ارتداء أنواع معينة من الملابس، والحق في ارتداء أشكال خاصة من الحلي الشخصي، والحق في الجلوس على مقاعد محددة (أعدت بعناية وفقا للمرتبة أو المكانة) كانت تقتضي التقاليد استخدامها أثناء المآدب الاحتفالية، والحق في العيش في أفضل مناطق في المسكن الجماعي.
في هذه المجتمعات المهتمة بالمقام، كان الأفراد الرفيعو المقام يتنافسون منافسة حامية بعضهم مع بعض على إقامة مآدب حافلة، كان يستهلك فيها كميات هائلة من الطعام والمنسوجات والأدوات والأسلحة أو تمنح أو تدمر في بعض الحالات من قبل أصحابها في نوبات من الانغماس في الاستهلاك بغرض التباهي. ولم تكن حيازة الممتلكات مقتصرة على السلع المادية فقط؛ فقد مارست قبائل النوتكا، مثل أغلب قبائل الساحل الشمالي الغربي، نوعا من الاستعباد، وهو من الأشياء التي دائما ما نربطها بحضارات أكثر «تقدما». فكان حين يؤسر أفراد القبائل المعادية في الحروب، يصبحون ملكا للمحاربين الذين أسروهم، ويظلون جزءا من أهل بيت مالكيهم، حيث كان يفرض عليهم أداء أحقر المهام في حياة قبائل النوتكا.
كل هذه السلوكيات كانت ستلقى الاستهجان التام في مجتمع الصيادين وجامعي الثمار الرحل التقليدي؛ حيث كان بلوغ المرتبة العالية يكتسب بالسلوك المثالي وإتيان أعمال الشجاعة والجود. فلم تظهر مجتمعات الصيد وجمع الثمار اهتماما كبيرا بتكديس السلع المادية، وإنما كانوا ينأون بأنفسهم عن استعراض الثروة المادية في تباه، ويمنحون المكانة فقط للرجال الذين يفلحون في الصيد والحرب وتوفير الغذاء، وللنساء اللائي كن جامعات منتجات وزوجات وأمهات مثاليات.
وراثة المرتبة والمكانة
عندما أصبحت وراثة الثروة والأملاك جزءا تقليديا راسخا من ثقافات الشعوب الزراعية، لم يكن هناك مناص من أن يستهل أبناء أثرى الأفراد والأسر حياتهم بأملاك وامتيازات أكثر من الأشخاص الذين كان أسلافهم أقل حظا. هكذا صارت الاختلافات بين الأغنياء والفقراء، التي كانت قد نشأت بين الصيادين وجامعي الثمار المستقرين مثل قبائل نوتكا ، أكثر حدة في مجتمعات الزراعيين المستقرين بمرور الأجيال.
فبدلا من أن تقوم الفوارق في الثروة على الفرق بين الأخ الأكبر والأخ الأصغر - كما كان معهودا في شعوب الساحل الشمالي الغربي - صارت الفروق في الثروة لدى المجتمعات الزراعية تدريجيا امتيازا لأسرة كاملة ويورث من الآباء للأبناء. في النهاية أدت هذه الفروق المتوارثة في الثروة والمركز إلى تكون طبقات اجتماعية دائمة، وإلى نشأة المجتمعات «الطبقية» التي تتميز بأنظمة طبقية تقليدية تتسم بانعدام المساواة في الثروة والمكانة والامتيازات استمرت لأجيال.
عثر على أدلة واضحة على أن انتشار الزراعة أدى إلى نشأة الطبقات الاجتماعية وتكريس التفاوت في الثروة والمكانة في الأطلال الأثرية الخاصة بأقدم شعوب العصر الحجري الحديث في أوروبا. هذه الشعوب المسماة شعوب «ثقافة الخزف الخطي» ظهرت في شرق أوروبا قبل نحو 7500 عام، وانتشرت سريعا خلال الخمسمائة سنة التالية حتى أقامت مستوطناتها الزراعية في وديان الأنهار الخصبة في أنحاء أوروبا.
كان شعب الخزف الخطي يدفن كل موتاه، لكن في حين كان نصف الرجال يدفنون مع قدائم (جمع قدوم، وهو أداة للنحت وللقطع تشبه الفأس، كانت تستخدم لتنعيم أو نحت الخشب) حجرية مصقولة لم يكن النصف الآخر كذلك. كانت شعوب العصر الحجري الحديث تستخدم القدوم في أعمال النجارة الهامة، وكان أداة قيمة، حتى إن وضعه في قبر أحد الأشخاص كان يعني أن المتوفى تمتع بمنزلة عالية في الحياة. في عام 2012م نشر فريق من علماء الآثار نتائج دراسة لمينا الأسنان المأخوذة من 300 هيكل عظمي كانوا في مدافن شعب الخزف الخطي المنتشرة في أنحاء أوروبا من فرنسا إلى المجر.
6
بتحليل النسب النوعية لنوعين أو نظيرين لعنصر الاسترونشيوم الذي يدخل في مينا الأسنان في مرحلة الطفولة، استطاع العلماء أن يحددوا بهذه «البصمات النظائرية» ما إذا كان الشخص قد ترعرع في وديان الأنهار الخصبة، حيث وفرت التربة الغنية بالرواسب الطميية مستوى معيشة مرتفعا نسبيا، أم نشأ في التلال الأقل خصوبة التي أحاطت بوديان الأنهار، حيث كانت الحياة أصعب ومستوى المعيشة أكثر تقشفا.
ومما لا يدعو للدهشة، أن الرجال الذين دفنوا مع قدائم حجرية كان لديهم بصمات نظائرية تدل على أنهم نشئوا في وديان الأنهار الغنية، في حين أشارت البصمات النظائرية لأولئك الذين دفنوا دون قدائم حجرية إلى نشأتهم في مناطق التلال الأكثر فقرا. صارت هذه الفروق في الثروة والمنزلة أبرز وأوضح مع مرور الزمن، مع زيادة حجم القرى الزراعية، ومع تكديس الأسر المزارعة كميات أكبر من الثروة والأملاك.
سنطالع لاحقا في هذا الفصل الدليل على أن شعب الخزف الخطي لم يجلب الزراعة فقط إلى أوروبا في العصر الحجري الحديث، وإنما كان أيضا هو من بدأ فيها الحروب، لكن من المهم أولا أن نضيف شيئين آخرين إلى القائمة الطويلة للتغييرات التي أسفر عنها تبني الزراعة في المجتمع. الشيء الأول هو أن الأطفال صاروا أصولا اقتصادية لعائلاتهم. والثاني هو أن الجانب الجنسي للنساء صار بمثابة تهديد لاستقرار المجتمع.
الأطفال كملكية خاصة
كان لأطفال الصيادين وجامعي الثمار في العادة فرص قليلة للمساهمة بطريقة مفيدة في إعالة أسرهم وأقاربهم؛ لأن كل أنشطة الحصول على الطعام تقريبا لدى الصيادين وجامعي الثمار كانت تتطلب قوة البالغين وجلدهم ومعرفتهم وخبراتهم. أما أطفال المزارعين والرعاة، على الجانب الآخر، فكان باستطاعتهم أن يصيروا بسهولة موارد قيمة من أجل ثروة الأسرة واستقرارها وطول أجلها.
كانت عملية صيد الحيوانات البرية مهمة خطيرة ومعقدة، وتحتاج انضباطا ومهارة في استخدام الأسلحة وبأس البالغين. ورغم أن أطفال الصيادين وجامعي الثمار كانوا كثيرا ما يلعبون أدوار الصيادين مستخدمين لعبا على هيئة أسلحة، فإنهم لم يكونوا قادرين على مطاردة وقتل أي شيء أكبر حجما من حشرة كبيرة أو حيوان صغير من الزواحف أو فرخ. في الواقع، كان الأمر يستغرق أعواما من الفرد كي يكتسب الخبرة والمهارة الكافيتين من الصيادين البالغين قبل أن يصير صيادا منتجا؛ فقد كان يتعين عليه تعلم عادات كل نوع من أنواع حيوانات الصيد العديدة، وكان عليه أن يتعلم كيف يقتفي أثرها ويحاصرها ويقتلها دون أن يجرح، وكيف يذبحها ويدافع عن صيده من أطماع الضواري الأخرى، وكيف ينقل الأجزاء القابلة للأكل والاستخدام عائدا إلى المخيم حيث يمكن طهو اللحم وتناوله، وحيث يمكن معالجة الجلود الخام والعظام والأوتار لاستخدامها كمنتجات جلدية وأدوات وحبال.
على النحو نفسه، كانت مهمة جمع الخضروات تحتاج معرفة مفصلة بأماكن العثور على نباتات قابلة للأكل وجذورها ودرناتها وثمارها وبذورها؛ فقد كانت تتطلب القدرة على التعرف على العلامات التي تقود إلى كل هذا وسط أراضي الغابات الشاسعة وفي أجمة الأدغال المتشابكة. وكان على المرأة أن تعرف في أي وقت من السنة تتوفر كل من هذه الأطعمة وتصير قابلة للأكل، وكيف تنقلها إلى موقع المخيم، وكيف تعالجها - بالطحن والهرس والنقع والشي والسلق - حتى يمكن تناولها وهضمها في أمان. كذلك في حالة الجذور والدرنات القابلة للأكل - التي شكلت جزءا كبيرا من موارد أكل الصيادين وجامعي الثمار - كان لا بد من قوة بدنية شديدة لحمل عصا طويلة وثقيلة وانتزاع الغذاء النباتي الذي كان كثيرا ما ينمو عميقا تحت سطح الأرض.
وعلى النقيض من ذلك، كان أطفال المزارعين يستطيعون بسهولة إنجاز العديد من المهام الأساسية التي اشتملت عليها زراعة المحاصيل ورعاية الحيوانات؛ فالأمر لا يحتاج قدرا كبيرا من المهارة أو سنوات الخبرة أو قوة البالغين وجلدهم لرعي قطيع من الماعز، أو إطعام خنازير مستأنسة في مرابطها، أو انتزاع الحشائش من الحدائق القريبة، أو حتى حصد بعض المحاصيل التي يزرعها المزارعون. كما يستطيع الأطفال في الأسر الزراعية رعاية أشقائهم الصغار بسهولة؛ مما يسمح للأم بحرية أكبر للعمل في الحقول، بل وإنجاب الأطفال في تواتر أكثر من النساء في مجتمعات الصيد وجمع الثمار. هكذا، مع تطور جامعي الثمار تدريجيا إلى مزارعين، ازدادت قدرة الأطفال على المساهمة في إعالة المجتمع ككل، وأثناء ذلك ازدادت قيمتهم لأسرهم.
زاد من دعم الأهمية الاقتصادية للأطفال أن الأفراد في المجتمعات الزراعية أصبحوا يعيشون حتى يبلغوا الخمسينات والستينات من أعمارهم بمعدلات تفوق كثيرا نظراءهم في مجتمعات الصيد وجمع الثمار؛ فالأنشطة اليومية المتعلقة برعاية المحاصيل وتربية الحيوانات لا تعادل في درجة خطورتها بوجه عام الأنشطة التي تهدد الحياة فيما يتصل بصيد الحيوانات وقتلها، أو خوض رحلات طويلة في البرية المأهولة بالضواري لجمع النباتات القابلة للأكل ونقلها إلى مقر السكن. لهذه الأسباب، مع زيادة الانتشار الواسع لزراعة المحاصيل وتربية الحيوانات، بدأت المجتمعات الزراعية ترى أطفالها كأنها نوع من بوليصة التأمين - وسيلة للإعالة حين يبلغون سنا يصعب معها أن ينتجوا طعامهم - وصارت مهمة توفير الدعم المادي للكبار واجب الأبناء نحو آبائهم بصورة متزايدة.
لكل هذه الأسباب، مالت المجتمعات الزراعية إلى تنمية روابط قوية وفي أحوال كثيرة حصرية بين الآباء والأبناء؛ فقد كانت تسعى لأن تغرس في أطفالها الإحساس بالواجب تجاه آبائهم، وكانت باستثناء حالات قليلة تولي أهمية كبيرة للإخلاص بين الأزواج - خاصة من ناحية النساء - لضمان ألا يكون نسب الطفل لأبيه موضع شك قط. بهذه الطريقة، أدت أهمية الأبناء لآبائهم في المجتمعات الزراعية مع الوقت إلى ثقافة غلب عليها حس الاستحواذ الشديد تجاه الأطفال، وإلى فرض قيود صارمة على الحرية الجنسية لدى النساء. في الواقع، صارت هاتان السمتان الثقافيتان متأصلتين لدرجة عميقة في ثقافات أسلافنا الزراعيين، حتى إن كلتيهما استمرتا حتى وصلتا إلى العصر الحديث.
متى أصبح النشاط الجنسي للمرأة مصدر تهديد؟
في أغلب مجتمعات الصيد وجمع الثمار، كان الزواج عادة علاقة عابرة جدا، بل في الواقع كان الزواج لا ينطوي عادة على أكثر من قرار رجل وامرأة بالغين تناول الطعام والمبيت معا بانتظام. ورغم أن النضج الجسدي للفتيان والفتيات عند بلوغ الحلم كثيرا ما كان يحتفل به في مجتمعات الصيد وجمع الثمار بطقوس احتفائية كبيرة، فإنه كان من النادر أن يلقى زواجهم اهتماما بأي نوع من المراسم الكبرى. وكان من النادر بالدرجة نفسها أيضا أن يحتاج الثنائي الحديث «الزواج» - أو حتى يطلب - موافقة الوالدين، وإنما كان فقط من الضروري دائما ألا تصل القرابة بين الرجل والمرأة للدرجة التي توصف معها العلاقات الجنسية بينهما بسفاح المحارم.
وإذا حدث ولم ينسجم رجل وامرأة - بعد أن عاشا معا لفترة - وصارا متجافيين، أو اتخذا أحباء آخرين، أو ببساطة سئم كل منهما من الآخر، كان الطلاق يحدث بيسر وسريعا وبقليل من المراسم. في الواقع، لم يكن الطلاق عادة يعدو مجرد قرار أحد الشريكين الانتقال من المنزل الذي كان الاثنان يتقاسمانه. وتعود البساطة الملحوظة لكل من الزواج والطلاق في مجتمعات الصيد وجمع الثمار بدرجة كبيرة إلى حقيقة أن أهم العلاقات الاجتماعية لم تكن قائمة على الزواج، وإنما بالأحرى على الانتماء للعشيرة أو النسب الذي ولد فيه كل شخص. ولما كان هذا الانتماء حقا مكتسبا منذ الولادة، فلم يكن الزواج أو الطلاق ليغيره أو يؤثر فيه.
كانت التجارب الجنسية تبدأ في الطفولة، وعند بلوغ النضج الجنسي كانت تشيع العلاقات الجنسية بين المراهقين، ونادرا ما كانت هذه العلاقات تثمر عن حمل.
7
وفي العادة كانت تستمر من كلا الجنسين لسنوات عديدة قبل أن يظهر تدريجيا شريك مفضل. ورغم أنه كان ثمة اختلافات بين مجتمعات الصيد وجمع الثمار فيما يحيط بالزواج وتنشئة الأسرة، فإنه كان من المألوف في أغلب هذه المجتمعات أن يتمتع الأطفال والمراهقون، وخاصة الفتيات بدرجة مذهلة من الحرية الجنسية، على الأقل استنادا إلى معاييرنا.
درس اختصاصيو علم الإنسان الثقافي عددا من مجتمعات الصيد وجمع الثمار القليلة التي ظلت باقية في القرن الحادي والعشرين دراسة متعمقة. وقد لاحظ اختصاصي علم الإنسان، ملفين جيه كونر، في دراسة مقارنة بين الثقافات لسن الرضاع والطفولة في ستة من مجتمعات الصيد وجمع الثمار الباقية أن الحرية الجنسية لدى الأطفال والمراهقين مقبولة اجتماعيا، وتمارس بوجه عام باعتبارها سلوكا طبيعيا بين الجنسين.
8
وقد وصف كونر التجارب الجنسية في قبائل البوشمان في جنوب أفريقيا بأنها تبدأ في مرحلة الطفولة المبكرة وتستمر طوال مرحلة الطفولة المتوسطة والمراهقة. ورغم أن الكبار لا يبوحون بقبولهم المداعبة الجنسية ويصدون عنها حين تصير صارخة، فإنهم يعدون الغريزة الجنسية لدى الأطفال والمراهقين أمرا عاديا، والأطفال الذين ينغمسون في سلوك جنسي على الملأ يوبخون، ولكن لا يعاقبون، بل في واقع الأمر يعتبر البوشمان النشاط الجنسي شيئا ضروريا من أجل سلامة الصحة العقلية، ويعتقدون أن الحرمان الجنسي في مرحلة المراهقة هو السبب الأرجح وراء الاعتلال العقلي .
كذلك أشار كونر إلى أن كلا الجنسين يمارسان الجنس علانية قبل الزواج لدى أقزام قبائل الإفيه والآكا في أفريقيا الاستوائية، حتى إنه في قبائل الإفيه يعد أول حيض للفتاة مناسبة للاحتفال العام، ولا يقدم أحد جديا على وضع قيود على النشاط الجنسي في فترة المراهقة. وقد صرح أحد فتية قبائل الإفيه بأن «الشباب يتغازلون ويجتمعون في حفلات الرقص من أجل ممارسة الجنس، وأن الفتاة من الممكن أن تعاشر عدة فتيان في اليوم نفسه بالتناوب بينهم.»
أما بين قبائل الهادزا في تنزانيا، فإن التجارب الجنسية تمارس علنا أثناء الطفولة أيضا، وممارسة الجنس قبل الزواج هو أمر روتيني وجزء متوقع من حياة المراهقين. وبين قبائل الأتشيه في باراجواي، يبدأ الفتيان والفتيات تجربة الجنس قرب سن الثانية عشرة، ويحتفل بالحيض الأول للفتيات في طقوس علنية للعبور والتطهير تضم كل الرجال الذين كانوا قد جامعوها. وأخيرا، بين قبائل الأجتا في الفليبين، لا يتوقع من الفتيات العفة قبل الزواج؛ إذ يستطعن ممارسة الجنس بيسر نسبي.
ولاحظ اختصاصيون آخرون في علم الإنسان نمطا مشابها من الحرية الجنسية قبل الزواج بين إسكيمو القطب الشمالي، حيث تتمتع الفتيات الصغار بحرية اختيار عشاقهن حسب رغبتهن، وحيث يشتهر الرجال المتزوجون بعرض زوجاتهم وبناتهم على الزوار والضيوف لممارسة الجنس معهن.
وأخيرا، كانت الفتيات بين السكان الأصليين الأستراليين يخطبن حتى قبل ولادتهن، ولكنهن كن يتمتعن بحرية جنسية لا بأس بها قبل وبعد الزواج.
9
وبالرغم من أن الرجال في هذه المجتمعات كان يتوقع منهم دائما أن يكونوا بالنضج الكافي لتوفير مصدر ثابت للغذاء قبل أن يتزوجوا، فإنهم كانوا يظلون أحرارا في مزاولة علاقات جنسية بقدر ما يستطيعون حتى ذلك الوقت، لكن مع وصول المستوطنين الأوروبيين إلى أستراليا حل النموذج الغربي بدرجة كبيرة محل الأنماط التقليدية من خطوبة في الطفولة وزواج قبل النضج الجنسي، حيث زاد رفض الفتيات للزواج من الرجال الذين «خصصن» لهن، ونادرا ما صرن يتزوجن قبل نهاية سن المراهقة؛ كي يصبحن قادرات على اختيار شركائهن.
غير أن الحرية الجنسية التي تمتع بها الشباب، رغم أنها ربما كانت مألوفة طوال حياة البشر في عصور ما قبل التاريخ، فإنها كانت ممكنة فقط في المجتمعات التي كان للنساء فيها حرية اختيار عشاقهن وأزواجهن. أما في المجتمعات التي مارست الزراعة لمدة طويلة - لا سيما المجتمعات التي كانت لوراثة الأرض فيها أهمية - كان اختيار الشريك ودوام الزواج مسألة لها أهميتها البالغة بالتأكيد.
السماح بعلاقات جنسية قبل الزواج في المجتمعات الزراعية كان سيضع على المحك الخطط التي وضعها جيل الآباء بحرص؛ حيث إن الرجال والنساء بطبيعتهم يصبحون متعلقين بشركائهم الجنسيين. فإن تبين أن أولئك الرفاق ليسوا الأزواج المثاليين أو الزوجات المثاليات من ناحية وراثة الأملاك، والحفاظ على المزرعة، وإعالة الآباء، فقد يصير من الصعب جدا على الوالدين إقناع الأبناء أو البنات بالزواج من شخص آخر. بالإضافة إلى ذلك، إذا قرر رجل وامرأة فيما بعد الانفصال وإنجاب أطفال من أشخاص آخرين، فإن كيفية توريث أملاكهما ستكون مسألة معقدة ومثيرة للخلاف، ومن الممكن بسهولة أن تتفاقم فتصير نزاعا علنيا وسخطا طويل الأجل.
من ثم في أقدم المجتمعات الزراعية، حيث ظلت الأسر لأجيال تعيش في القرى نفسها، وأورثت قطع الأراض نفسها لأبنائها وأحفادها لقرون، تشكل الاهتمامات الجنسية لدى النساء - بوجه خاص - خطرا بارزا على انسجام الحياة في القرية واستقرار المجتمع بأسره؛ لذا ليس من المستغرب أن التزام العفة قبل الزواج - خاصة لدى النساء - كان يعد فضيلة كبرى لدى المجتمعات الزراعية التقليدية في الصين والهند وأوروبا، وكان جيل الآباء يفرضها دون توان.
هكذا أخمدت هذه الثقافات تماما الميل الطبيعي لدى الأطفال والمراهقين إلى الانغماس في التجارب الجنسية، حتى إنه كثيرا ما كان يفصل الفتية والفتيات بعضهم عن بعض من سن مبكرة، وكثيرا ما كانت عذرية المرأة في هذه الثقافات تعد ضرورة مقدسة، ولم يكن يسمح للمراهقين غير المتزوجين قط بقضاء وقتهم معا إلا تحت رقابة يقظة من أحد المرافقين، بل وكان من المألوف في العديد من القرى الزراعية التقليدية في أوروبا منذ العصور الوسطى وحتى أواخر القرن التاسع عشر أن تعرض ملاءات فراش الزوجية على الملأ في صباح اليوم التالي لليلة العرس؛ حتى يتسنى للجميع أن يروا بقع الدماء الناتجة عن تمزق غشاء بكارة العروس العذراء بواسطة العريس خلال أول لقاء معاشرة جنسية بينهما.
لكن لم تكن كل مجتمعات الصيد وجمع الثمار متساهلة مع الغرائز الجنسية؛ فقد كان أكثر أسباب الخلافات الخطيرة بين الذكور البالغين شيوعا في أغلب المجتمعات البشرية هو الغيرة من الحظوة الجنسية لدى النساء، وقد ذكر كذلك الصراع بينهم على العلاقات الجنسية مع الإناث بصفته أكثر أسباب المعارك المميتة شيوعا بين ذكور الشمبانزي. وفي حين أن الصراعات بين الذكور من أجل الحصول على اهتمام جنسي من الإناث قد ينتج عنها مناقشات عالية الصوت واتهامات على الملأ في مجتمعات الصيد وجمع الثمار الأكثر سلمية، فإن مثل هذه الصراعات بين المجتمعات المولعة بالحروب كثيرا ما تؤدي إلى موت صياد أو محارب منتج في ربيع حياته؛ لهذا السبب كان يحث على عفة المرأة في العديد من ثقافات الصيد وجمع الثمار المستعدة للتحارب، وكانت عفتها موضع تقدير كبير.
حين درس اختصاصيو علم الإنسان في أوائل القرن العشرين قبائل الشايان النزاعة للدخول في حروب طاحنة، على سبيل المثال، وجدوا أنها كان لديها ثقافة كابتة للجنس؛ فقد كانت قبائل الشايان تعتقد أن الجنس يسلب من الرجل قوته عند الحرب والصيد، وقد عرف عن بعض الرجال الامتناع عن الجنس لسنوات في بعض الأحيان، معتقدين أنهم بذلك سينجبون في النهاية أبناء أقوياء مؤهلين للقتال. ولا عجب أن نساء الشايان كان يذاع عنهم «السيرة العفيفة»، وهو ما كان متناقضا تناقضا صارخا مع ما كانت تتسم به نساء قبائل أمريكية أصلية أخرى من سلوك لعوب.
تتجلى قيمة هذا النوع من الكبت الجنسي حين نتأمل المشكلات التي يسببها الجنس بين قبائل اليانومامي في غابات الأمازون المطيرة التي تميل للقتال ولكنها أكثر إباحة للجنس، حيث كانت العلاقات الجنسية سببا لكثير من العنف الذكوري، وحيث الصراعات على النساء قد تتفاقم إلى حروب خطيرة بين جماعات اليانومامي.
10
لكن في أغلب الحالات دائما ما تصير الحرية الجنسية عاملا يهدد استقرار المجتمعات الإنسانية حين يصير الرجال والنساء ورثة لثروات وأملاك؛ لهذا السبب فضلت كل المجتمعات الزراعية تقريبا زيجات مستقرة تستمر مدى الحياة - دائما ما يرتبها والدا العريس والعروس - والتي كانت تعد للوصول بالأسرة المصغرة لأقصى درجة من الاستقرار والاستمرارية. هكذا، على مدار آلاف السنوات التي كان يظل خلالها الناس مستقرين في مكان واحد وينتجون غذاءهم، كان الكبت الجنسي العام - المفروض بقسوة بين الأطفال والإناث بوجه خاص - يصير تدريجيا هو القاعدة.
نشأة الحروب المنظمة
مع تحول جامعي الطعام إلى مزارعين تدريجيا، صار الطعام والسلع المادية المتراكمة في شون القرى الزراعية ومخازنها أهدافا مغرية حتما لغزوات قبائل معادية. وغرائز الذكور البالغين العدوانية التي تطورت على مدار ملايين السنين التي اصطاد فيها الرجال الحيوانات البرية، صارت موجهة بصورة متزايدة إلى أنشطة عدوانية ضد مجموعات بشرية أخرى.
مع تضاؤل أهمية صيد مجموعات الذكور للحيوانات الكبيرة بصفته ضرورة اقتصادية، صارت الحروب المنظمة التي يشنها الذكور من أجل أرض القرى الزراعية والقبائل المنافسة الأخرى وثروتها المادية ونسائها استراتيجية جذابة لاكتساب الثروة والأملاك والنسل بصورة متزايدة. وهكذا مع توسع قرى العصر الحجري الحديث المستقرة في أنحاء أوروبا، أشار ظهور تحصينات متزايدة الضخامة إلى بداية الحروب الممتدة المنظمة.
انتشرت تقنيات الزراعة في شرق أوروبا وغربها مع ثقافة الخزف الخطي التي ظهرت في وديان أنهار الدانوب وإلبه والراين في ألمانيا الحالية منذ حوالي 7500 عام من منشئها في المجر وصربيا. وطوال الخمسمائة سنة التالية، ظل أفراد ثقافة الخزف الخطي يهاجرون على عجل عبر وديان الأنهار وعبر أوروبا حتى فرنسا وبلجيكا غربا وأوكرانيا شرقا، طاردين - وفي بعض الحالات مبيدين - شعوب الصيد وجمع الثمار الأصلية التي كانت تعيش هناك؛ فقد كانوا يجدون الرواسب الغنية لتربة اللويس - التي كانت وفيرة بصفة خاصة في وديان الأنهار - مثالية لزراعة محاصيلهم من القمح والشعير والدخن والشوفان والبازلاء والعدس والفاصوليا. وبجانب اصطياد الغزلان والحلاليف في الغابات المفتوحة، كان شعب الخزف الخطي يربي الماشية والماعز والخنازير المستأنسة.
ورغم أنه كان يعتقد في الماضي أن هذا الشعب المزارع القديم كان مسالما، فقد عثر مؤخرا على أدلة على حالات قتل عنيف في العديد من مواقع شعب الخزف الخطي، منها أدلة على حوادث إعدام جماعي حيث أبيدت قرى تعود إلى العصر الحجري الحديث بأكملها. وقد وجد علماء آثار مقبرة جماعية في تالهايم في وادي نهر الراين بها أربعة وثلاثون شخصا - نصفهم تقريبا رضع وأطفال - قتلوا بالضرب على رءوسهم بآلة ثقيلة، أغلب الظن مطرقة حجرية من العصر الحجري الحديث.
وقد أسفر التنقيب الجزئي لمقبرة مشابهة قرب فيينا عن بقايا ستة وستين شخصا قتلوا بطريقة مماثلة. وخمن علماء الآثار أن المقبرة ككل ربما كانت تحتوي على ثلاثمائة شخص على الأقل. وفي هيركسهايم، في وادي الراين أيضا، عثر على بقايا أكثر من ثلاثمائة شخص مبعثرة في أنحاء مستوطنة واحدة؛ إذ لم يدفن أي منهم بالطريقة اللائقة في قبور، وكان من بين تلك الأشلاء 173 جمجمة لضحايا قطعت رءوسهم وألقيت في عجالة في خنادق.
ربما ألقى شعب الخزف الخطي جثث الأعداء الذين ذبحوهم في قبور جماعية، لكنهم كانوا يدفنون موتاهم بعناية في قبور؛ فعند التنقيب في هذه القبور وفحص الهياكل العظمية، وجد علماء الآثار أدلة على إصابات رضية في نحو ثلث الرجال البالغين؛ مما يشير إلى أن العنف بين هذه الشعوب كان بالغا كما كان بين أكثر المجتمعات التي درسها اختصاصيو علم الإنسان عنفا وميلا للقتال.
علاوة على ذلك، تزيد معدلات الموت جراء العنف كثيرا مع الانتقال من الشرق للغرب؛ مما يوحي بأن حروب العصر الحجري الحديث كانت أكثر شيوعا حيث انتقل شعب الخزف الخطي إلى أراض يسكنها صيادون وجامعو ثمار، في حين كان العنف أقل شيوعا في المناطق التي استوطنت لفترات زمنية أطول. وأخيرا، كانت قرى شعب الخزف الخطي في العادة محصنة بسياج من أوتاد خشبية، وكثيرا ما كان يحوطها خنادق مائية أو قنوات كانت أحيانا تطوق مستوطناتهم تماما. هذا يشير إلى أنه مع انتقال هذا الشعب الزراعي شمال وديان الأنهار في أوروبا عصور ما قبل التاريخ، كانوا يستولون على أراض كان يسكنها من قبل شعوب أصلية من الصيادين وجامعي الثمار، فكانوا يشتبكون معهم، وفي حالات عديدة يبيدونهم.
ليس المقصود بهذا أن الرحالة الصيادين وجامعي الثمار كانوا دائما مسالمين ولم يخوضوا الحروب قط؛ فقد كان الشايان محاربين ماهرين ومنظمين يفتخرون كثيرا بانتصاراتهم، ويتباهون طيلة حياتهم بالأعداء الذين أزهقوا أرواحهم، لكن «حروب» الصيادين وجامعي الثمار كانت في مجملها عبارة عن مجموعات مهاجمة، لا تختلف عن الغارات التي كانت تشنها قردة شمبانزي نجوجو في أوغندا التي جاء وصفها في الفصل الأول.
كانت الإغارة النموذجية للصيادين وجامعي الثمار هي أن يقدم مجموعة من الذكور على التوغل خلسة في أرض جماعة مجاورة، وعند مقابلة عضو من الجماعة المعادية كان يقضى عليه في الحال، وكان المعتدون يتراجعون سريعا إلى أرضهم، حتى حين كانت مجموعة كبيرة من المغيرين يهاجمون قرية أو معسكرا معاديا بأعداد كبيرة، نادرا ما كان المعتدون يقدمون على إبادة الشعب كله، أو مصادرة أرضه بأكملها، أو سرقة كل أغراضه، رغم أنه كان من المألوف أن تؤسر الإناث في سن الحمل ويعاد بهن كغنائم حرب.
لكن حين بدأ البشر العيش بشكل دائم في مكان واحد وتكديس الثروة، صارت الحروب تدريجيا أكثر فتكا؛ فقبائل النوتكا التي عاشت في الساحل الشمالي الغربي لأمريكا الشمالية - التي كانت تتباهى بسلوكها الهادئ وطبيعتها المتزنة - كانت لا تأخذها الشفقة في الحرب؛ فكان من دأبها حين تهاجم مستوطنة أخرى أن تبيد كل السكان - ما عدا القليل من الأفراد الذين كانت تأسرهم ليصيروا عبيدا - وتفر بكل ما تستطيع حمله.
كقاعدة عامة، كلما زاد حجم المستوطنات الزراعية وزاد استقرارها كانت حروبها أكثر تخريبا ودمارا. وحين نشأت أولى الحضارات المدنية في وديان أنهار دجلة والفرات والنيل والسند واليانجتسي والأصفر - ومع استخلاص المعادن في العصرين البرونزي والحديدي التي زادت كثيرا من فاعلية الأسلحة الفتاكة - نشأ دور الجندي الدائم المحترف؛ فقد نظمت كل الحضارات المدنية القديمة جيوشا دائمة، وصارت الحروب استراتيجية غزو، تندلع على نطاق كبير، من أجل السيطرة على مساحات متزايدة من الأرض وأعداد متصاعدة من الناس وتملك زمام أمرهم. وما كان أي من هذا ليصير ممكنا لولا الانتقال من البحث عن الطعام إلى زراعته.
بذور الحضارة
مع تضاعف أعداد القرى الزراعية، بدأت القرى المتجاورة تكون تحالفات لصد المغيرين والغازين الذين يأتون من مناطق أخرى. ومع الوقت، بدأت كل قرية على حدة تتخصص في إنتاج محاصيل معينة أو تصنيع أنواع معينة من السلع المادية. وبعد قليل بدأ يظهر مواقع للتجارة في مواقع ملائمة جغرافيا، حيث كان باستطاعة الناس اللقاء بانتظام للتقايض على السلع التي يحتاجونها ومبادلة ما كان ينقصهم في قريتهم بما يفيض لديهم من منتجات. وفي كثير من الأحيان، كانت هذه الأسواق تقام في قرى مركزية الموقع، تطورت مع الوقت إلى بلدات تجارية.
كل هذه الأحداث صارت ممكنة بعملية الاندماج الاجتماعي، التي مكنت المجتمعات من النمو لدرجة لم تعهدها المجتمعات الإنسانية من قبل؛ فقد خلق انتشار القرى الزراعية مناطق كثيفة السكان حيث كان الكل يتحدث اللغة نفسها، ويعبد الآلهة نفسها، ويتناول الطعام نفسه، ويعيش في أنوع المنازل نفسها، ويرتدي أنواع الملابس والحلي نفسها، ويلتزم بالأعراف والمحظورات نفسها. خلال هذا، صار الناس ينتمون لا إلى عشرات الأقارب، وإنما إلى آلاف الأشخاص الآخرين الذين يشاركونهم هويتهم الثقافية والإثنية. •••
وبمرور الوقت، بدأت مجتمعات هذه المناطق تبتكر تقنيات جديدة للاتصال وتستخدمها؛ السفن الشراعية، والمركبات ذات العجلات، والخيل المستأنسة، وأنظمة الكتابة التي مكنت الناس والمجتمعات من التواصل رغم حدود الزمان والمكان. نتيجة لهذا، تطورت البلدات التجارية والمراكز الدينية ومجتمعات الأسر الثرية وذات النفوذ تدريجيا حتى صارت مراكز حضرية بدأت تهيمن على البلدات المجاورة الأصغر حجما والأقل قوة. وأخيرا، مع ارتفاع تعقيد تقنيات التواصل وفاعليتها، ربطت هذه المراكز الحضرية المتوسعة بين مستوطنات مناطق كاملة في شبكة من المجتمعات المتحالفة، وفي النهاية صارت هذه المجتمعات بذور الحضارات المدنية التي نبتت، واحدة تلو الأخرى، في مهود الحضارة المتناثرة في أرجاء الأرض.
في نهاية المطاف، كانت تقنية الزراعة هي التي حررت نوعنا من بحث لا ينتهي عن شيء ليأكله، وجعلت من الممكن للبشر الاستقرار في مكان واحد وبناء منازل وقصور ومعابد وأنصاب راسخة يستطيعون توريثها لأجيال مستقبلية. في الفصل التالي سنرى كيف حين جعلت الزراعة الحياة في مكان واحد ممكنة، تبدل حال المجتمع البشري تماما مرة أخرى، وكيف صار أخيرا قوة لها من الحجم والبأس ما يكفي لتغيير العالم.
الفصل السابع
تقنيات التفاعل
السفن والكتابة والعجلة وميلاد الحضارة
تعد الابتكارات في مجال تقنيات النقل من بين أقوى أسباب التغيير في حياة البشر الاجتماعية والسياسية.
ديفيد دابليو أنتوني، «الحصان والعجلة واللغة»
في أبريل عام 2006م، كان الكاتب وعالم الجغرافيا، جاريد دياموند، واقفا في طابور بمطار في بورت مورسبي في غينيا الجديدة، متأهبا لصعود طائرة متجهة إلى داخل الجزيرة، حيث كان يجري دراسة طويلة الأجل على سكان مرتفعات غينيا الجديدة. أخذ دياموند يتأمل حقيقة أنه رغم أن الناس المتكدسين في مطار مورسبي كانوا غرباء بعضهم عن بعض، لم يكن ثمة أثر لعداء أو عنف؛ فقد لاحظ دياموند أنه رغم أن هذه «سمة من السمات التي نسلم بها في العالم الحديث، فإنها كانت من الأشياء المستحيلة الحدوث عام 1931م، حين كانت مقابلة الغرباء أمرا نادرا وخطيرا، ومن المرجح أن يؤدي إلى اندلاع العنف.» أما في عام 2006م فكان شعب غينيا الجديدة يعيش في مجتمع حديث، به المسئولون عن تنفيذ القانون المستعدون للتدخل في حالة وقوع أعمال عنف، لكن في غينيا الجديدة عام 1931م «كانت فكرة السفر من قرية جوروكا إلى قرية وابيناماندا، دون أن تقتل لكونك غريبا مجهولا خلال العشرة أميال الأولى ... ضربا من الخيال.»
1
لم يكن سكان مرتفعات غينيا الجديدة بأي حال من الأحوال استثنائيين في ريبتهم البالغة تجاه الغرباء؛ فخلال الجزء الأكبر من تاريخ البشر عاش الناس حياتهم داخل جماعات رحالة صغيرة تضم أعدادا لا تزيد على بضع عشرات الأشخاص، وكانوا يتعرفون على بضع مئات من أفراد الجماعات المجاورة والقبائل الأخرى على أكبر تقدير. أما أي شخص خارج هذه الدائرة الصغيرة - حتى إن كان يتحدث اللغة نفسها وينتمي إلى الثقافة نفسها - فلم يكن يعد غريبا فقط، وإنما عدوا محتملا أيضا، وكان يعتبر شخصا جديرا بأن يخشى ويجتنب. علاوة على ذلك، كان دائما ما ينظر للشخص الذي لا يتحدث اللغة نفسها ولا ينتمي للثقافة نفسها باعتباره دون البشر، في انعكاس للتفرقة القديمة بين «نحن» و«هم» التي يمكن أن نلحظها في كل جماعة بشرية وفي كل نوع من أنواع الرئيسيات غير البشرية.
لكن حين صار مئات آلاف الأشخاص، المنتشرون على آلاف الأميال المربعة جميعا أعضاء في مجتمع واحد تحت سلطة حضارة مدنية واحدة، تحررت البشرية من الخوف القديم من الغرباء الذي طالما كان مصدر تهديد دائما في المجتمعات الأكثر بساطة للرحالة والقرويين. ولم تكن السلطة المركزية للمجتمعات المتحضرة لتتساهل مع عمليات المداهمة والخطف والقتل والثأر التي كانت سمة دائمة في حياة المجتمعات البشرية الأكثر بساطة؛ فالحضارات لا يمكنها أن تعمل إلا إن كان مواطنوها قادرين على السفر والتجارة والتفاعل بعضهم مع بعض في ثقة، متحررين من الخوف الدائم من العنف والإصابة بمكروه. وقد تحقق هذا الهدف إلى حد ما باللغة المشتركة واستخدام الرموز والهوية الإثنية للانتماء القبلي، لكن تقنيات التفاعل مكنت المجتمعات المتحضرة من التقدم خطوة أبعد من ذلك.
فقد مكنت تقنية الزراعة بعض الناس الذين يعيشون في قرى مستقرة من أن يتخصصوا في الفنون والحرف التي يمكن مقايضتها مقابل الطعام الذي ينتجه آخرون. كانت المدن القديمة أول مستوطنات بشرية تتكون في أغلبها من ناس تحرروا من الحاجة للبحث عن طعام أو إنتاجه، وكانت الحضارات القديمة أول مجتمعات بشرية يتفاعل فيها أعداد كبيرة من الغرباء بحرية في جو من الأمان والثقة. فكانت هذه تطورات جديدة كلية في تاريخ المجتمع البشري.
النجارون والنساجون والبحارة والناسخون
مع انتشار الزراعة تدريجيا في عالم العصر الحجري الحديث واستقرار الناس للعيش في قرى دائمة، وجد أنجح المزارعين أنفسهم ينتجون غذاء يفوق ما كانوا بحاجة لاستهلاكه، وبدأ الفائض يتراكم في شونهم ومخازنهم. وعلى عكس الشعوب في مجتمعات الصيد وجمع الثمار - حيث كل البالغين من أعضاء الجماعة الاجتماعية تقريبا يكرسون أغلب وقت إنتاجيتهم للصيد وجمع الطعام - بدأ بعض قرويي العصر الحجري الحديث يصنعون أشياء يستطيعون مقايضتها من أجل فائض الطعام الذي ينتجه آخرون. ولأول مرة في تاريخ البشر، صار أعضاء كثر في جماعة البشر متحررين من الحاجة بلا انقطاع للصيد وجمع الطعام، ونشأ تقسيم العمل الذي نسميه «الاختصاص الحرفي».
بدأ بعض القرويين يتخصصون في عملية شحذ الأنواع المناسبة من الأحجار وصقلها لصناعة الأسلحة، وأدوات النجارة، ومعدات الزراعة، وهذه العملية تستلزم عمالة كثيفة. وصار آخرون نجارين، وتخصصوا في تركيب الأسطح والأبواب والنوافذ والأثاث للمساكن المستقرة التي كانت أسر العصر الحجري الحديث تعيش فيها لسنوات. كذلك صار آخرون نساجين، وتعلموا كيف يغزلون الخيوط ويصبغونها وينسجون منها أقمشة، في حين تخصص آخرون في دبغ جلود الحيوانات وصناعة منتجات جلدية منه.
وأخيرا، في مجتمعات العصر الحجري الحديث اللاحقة، صار بعض الناس صانعي فخار وأنتجوا أوعية الخزف المستخدمة في الشرب والطهي وتخزين الغلال. وبدأ النجارون المقيمون على سواحل البحار وضفاف الأنهار يتخصصون في بناء القوارب وتصليحها، وأصبحوا أول صناع سفن. وتعلم نجارون آخرون كيفية تركيب وتصليح العربات ذات العجلات التي تجرها الثيران والحمر الوحشية الآسيوية، وصاروا أول من صنع العجلات والعربات وأول من أصلحها.
بعض القرى الزراعية التي بدأت في الأصل ببضع عشرات من السكان صارت في النهاية بلدات بها آلاف السكان، ومكنت تقنيات النقل الجديدة أكبر هذه البلدات من توسيع نفوذها على سكان العديد من البلدات والقرى الأصغر منها حجما في جوارها. وببطء ولكن بثبات بدأت مستوطنات العصر الحجري الحديث الأكبر حجما والأكثر نفوذا تهيمن على البلدات والقرى الأصغر حجما الواقعة بقربها.
وبمرور الوقت، أدى تراكم الثروة والقوة العسكرية والسلطة الدينية لدى المجتمعات التي كانت في مواقع استراتيجية ومحمية جيدا؛ إلى نمو عدد صغير من المراكز المدنية القوية المحصنة. هذه المستوطنات، التي تعدى حجمها أي مستوطنة جاءت قبلها على الإطلاق بدرجة كبيرة، صارت تمارس السلطة التجارية والعسكرية والدينية على تجمعات سكانية ريفية ممتدة، وهكذا نشأت «الدولة المدينة». وكانت هذه أول مجتمعات بشرية، حيث كان من الممكن أن يكون الناس فيها غرباء تماما بعضهم عن بعض، ورغم ذلك يستطيعون العيش والعمل جنبا إلى جنب دون عداء أو ارتياب. وسوف نعود لهذه النقطة الشديدة الأهمية لاحقا في هذا الفصل.
مع نشأة الدولة المدينة، لم تعد اللغة كافية لخدمة أغراض هذه المجتمعات المتحضرة الجديدة، وسرعان ما ظهرت الكتابة الفعلية - تلك التقنية الفائقة للتواصل - لتمكن الناس من التواصل بعضهم مع بعض رغم حدود الزمان والمكان. أتاحت الكتابة للتجار شراء البضائع وبيعها بعضهم من بعض دون السفر شخصيا إلى كل مستوطنة من المستوطنات التي تاجروا معها. كذلك مكنت الكتابة الزعماء السياسيين والدينيين من إرسال معلومات إلى أتباعهم في المجتمعات القصية وإعطائهم أوامر، كما أنها خولت لهم طرح الأسئلة وتوقع الإجابات. وأخيرا، أتاحت الكتابة للبيروقراطيين القدامى تدوين سجلات بالصفقات، والبضائع المشتراة والمخزنة في المستودعات، والخراج والضرائب التي كان يسددها لهم عوام الناس الذين كانوا يخضعون لسلطتهم.
لكن حتى مع خضوع الناس للنفوذ الاقتصادي للمراكز المدنية الناشئة وسيطرتها السياسية، فقد ظل أغلبهم يعيشون ويزرعون في الريف، حيث يربون ماشيتهم ويزرعون محاصيلهم. هذا الانقسام في المجتمع بين مزارعين معوزين نسبيا وقاصري اليد من ناحية وبين سكان مدن أكثر ثراء ونفوذا بكثير من ناحية أخرى، صار سمة كل حضارة من الحضارات المدنية في العصور القديمة، وقد استمر في المجتمعات المتحضرة طوال باقي التاريخ المدون.
على مدار الخمسة آلاف سنة الماضية، ظهرت واندثرت آلاف الدول المدن ومئات الإمبراطوريات، لكن بقي جوهر الحضارة المدنية كما هو حتى بزغ المجتمع الصناعي منذ مائتي عام. وعاش في الريف شعب زراعي كبير، لكن بلا سلطة، وأنتج الغذاء الذي استهلكه المجتمع كله. في الوقت نفسه، كانت هناك طبقة حاكمة صغيرة لكن قوية، شملت مجموعة كبيرة من البيروقراطيين، وجماعة حصرية من رجال الدين، وسلطة عسكرية منظمة، وقد عاشت داخل حدود مركز حضري تحميه تحصينات هائلة، ويزخر بالأنصاب والقصور والمعابد.
بمرور القرون واحدا تلو الآخر، انتشرت المجتمعات المتحضرة من مواضع نشأتها إلى كل القارات، وباتت في النهاية مسيطرة على البشرية جمعاء تقريبا، لكن الحضارة نفسها ما كانت لتقوم لها قائمة لولا ما حدث من اندماج فريد بين عوامل وجدت في وديان الأنهار الكبرى في العالم؛ فعلى ضفاف أنهار العالم الكبرى ضربت الحضارة المدنية جذورها لأول مرة.
سحر الأنهار
ليست مصادفة أن أولى الحضارات المدنية - التي قامت كل منها على نحو مستقل عن الأخرى؛ إذ كان يفصل بينها نحو ألف سنة، وظهرت في ثلاث مناطق شديدة التباعد - قد نشأت جميعها في مناطق تمتد فيها أكبر أودية الأنهار في العالم وأخصبها. أولى هذه المناطق هي منطقة الهلال الخصيب، حيث تقع وديان أنهار النيل ودجلة والفرات. والثانية هي وادي نهر السند في شمال الهند. والثالثة هي سهول الطمي في شرق ووسط الصين، حيث يقع نهرا الأصفر واليانجتسي. فقد صارت كل من هذه المناطق في النهاية «مهدا لحضارتها».
ثمة ثلاثة أسباب مهمة لقيام الحضارة المدنية لأول مرة في وديان هذه الأنهار بدلا من أن تقوم في مناطق أخرى، مثل مرتفعات غينيا الجديدة، حيث وقع التحول إلى الحياة الزراعية المستقرة أيضا منذ آلاف السنين.
السبب الأول هو أن تربة وديان الأنهار الخصبة وتضاريسها المنبسطة أثبتت أنها بيئة زراعية غزيرة الإنتاج، وقد أدت الزيادة في إنتاج الغذاء سريعا إلى ارتفاع هائل في تعداد السكان الذين يعيشون هناك. وربما تتذكرون أن شعب الخزف الخطي انتشر سريعا في شمال أوروبا باستعمار وديان أنهار الدانوب والراين وإلبه، التي كانت غنية بطبقات ممتازة من تربة اللويس التي خلفتها الأنهار الجليدية الذائبة. على غرار هذا، استوطن أول مزارعي العصر الحجري الحديث سريعا وديان أنهار الهلال الخصيب والهند والصين، حيث استؤنس في الأصل العديد من النباتات والحيوانات.
حين حلت مجتمعات زراعية محل مجتمعات الصيد وجمع الثمار التي كانت تسكن وديان هذه الأنهار فيما مضى، تضاعف عدد السكان من البشر عشر مرات. وعندما أقيمت عدة مستوطنات دائمة على مقربة بعضها من بعض، وجد آلاف الناس أنفسهم في نهاية الأمر يعيشون في مناطق صغيرة بدرجة تسمح لهم بعبورها مشيا في مسيرة سفر يوم أو يومين. وقد أثبت هذا التمركز البشري داخل مناطق جغرافية صغيرة أنه بيئة مثالية لظهور مراكز مدنية.
ثانيا: كل هذه الأنهار الكبيرة البطيئة الجريان كانت تغمرها أمطار الربيع أو الصيف كل عام، وكان الطمي الذي تحمله الفيضانات السنوية يجدد أراضي الزراعة الواقعة على امتداد ضفاف الأنهار برواسب جديدة من التربة الخصبة. وكان هذا يضمن عدم اضطرار السكان قط للانتقال بحثا عن أراض زراعية أجدد وأخصب؛ إذ تتدفق المياه عند مصب هذه الأنهار الهائلة تدفقا بطيئا جدا عند اقترابها من البحر؛ مما يتيح لحبيبات الطمي الدقيقة المعلقة في النهر الاستقرار في القاع. مع مرور الوقت، صارت كميات ضخمة من الطمي مترسبة عند مصبات الأنهار، مكونة دلتاوات شاسعة ذات جزر عديدة خصبة التربة، تحيط بها أراض رطبة ذات مستنقعات ومسطحات مائية ضحلة. تبلغ مساحة دلتا نهر النيل مائة ميل من الشمال للجنوب، وتشغل مائة وخمسين ميلا من ساحل البحر المتوسط، وتبلغ مساحتها نحو عشرة آلاف ميل مربع.
كذلك شجعت طبيعة هذه الأنهار الشعوب التي عاشت على ضفافها على وضع خطط لمشروعات طويلة الأجل - مثل تجفيف مستنقعات الدلتاوات وإنشاء أنظمة لري السهول الفيضانية المنبسطة - مما أوجد مساحات جديدة من الأراضي الزراعية الخصبة، لكن مثل هذه المشروعات تطلبت تعاونا وثيقا بين أعداد كبيرة من الأشخاص، وهو الشيء الذي كان قد تحقق بالفعل حين خضع العديد من المستوطنات الصغيرة والعمال الذين عاشوا فيها لسيطرة سلطة مركزية واحدة.
ثالثا: وفرت الأنهار طريقا طبيعيا ربط بين المئات من المدن والقرى التي نشأت على امتداد ضفافها؛ مما أطلق شرارة بداية فترة غير مسبوقة من التجديد في تقنية صناعة القوارب. استخدمت شعوب الصيد وجمع الثمار القوارب والأطواف والزوارق ذات المجاديف الأحادية والثنائية قبل ظهور الزراعة بزمن طويل، لكن هذه الأشكال الأولى من وسائل النقل المائي تطورت سريعا إلى أنواع أكبر كثيرا من قوارب قادرة على السفر لمسافات طويلة في اتجاه منابع الأنهار ومصباتها. وأثمر هذا توسعا هائلا في السفر والتجارة بين المستوطنات الزراعية المتعددة في أودية الأنهار؛ مما مكن المدن والقرى النامية من شحن حمولات ثقيلة من الغلال والجلود والأخشاب والحيوانات والأواني الفخارية بسهولة من مستوطنة إلى أخرى بالنقل النهري؛ فقد كان باستطاعة طاقم قليل الأفراد على متن صندل أو مركب نهري أن ينقل شحنة تزن آلاف الأرطال، في حين كان نقل حمولات بهذا الحجم برا يتطلب أعدادا ضخمة من البشر أو الدواب.
مهود الحضارة: بلاد الرافدين ومصر والهند والصين
ظهرت أقدم المجتمعات المتحضرة أول ما ظهرت في الوادي الشاسع المسمى «بلاد الرافدين» الواقع بين النهرين الكبيرين دجلة والفرات في العراق حاليا. فظهرت الحضارة السومرية في جنوب وادي دجلة والفرات بعد عام 3500 قبل الميلاد،
2
وبعدها بعدة قرون ظهرت الحضارة الأكادية في شمال وادي دجلة والفرات.
بنى كل من السومريين والأكاديين قنوات ري وخلفوا أدلة وفيرة على وجود إدارة مدنية مركزية تدعمها بيروقراطية معقدة؛ فقد مكنهم ابتكارهم المبكر للكتابة من إعداد سجلات بالضرائب والخراج، وكذلك من سن نظام قانوني مكتوب، وقد شيدوا داخل مدنهم المحصنة معابد وقصورا ومخازن وأضرحة معقدة البناء. في البداية كان رجال الدين يحكمون حضارة بلاد الرافدين، لكن فيما بعد فرضت مع ظهور الملوك والمنظومة العسكرية الضرائب وأموال الخراج التي تدفقت من الريف إلى المدن.
في الوقت نفسه تقريبا، نشأت إحدى أبرز حضارات العالم القديم في وادي نهر النيل. حضارة مصر القديمة، التي كان الإغريقيون والرومانيون القدماء يعدونها أعرق المجتمعات في التاريخ وأكثرها حكمة، مشهورة بمعابدها وتماثيلها وأهراماتها الشاهقة، ونصوصها المستفيضة المكتوبة بالهيروغليفية، وبإنجازاتها الهندسية والمعمارية التي قلما ضاهتها إنجازات منذ ذلك الوقت، لكن من الإنجازات الأقل شهرة للحضارة المصرية مهارة المصريين القدماء المبكرة في بناء السفن والإبحار، والتي كانت نتيجة طبيعية لموقع مصر الجغرافي على ضفاف نهر النيل، الذي هيمن على كل جوانب المجتمع والثقافة المصرية.
شكل 7-1: ظهرت أوائل الحضارات المدنية في الهلال الخصيب، في وادي نهري دجلة والفرات في بلاد الرافدين أولا، ثم في وادي نهر النيل في مصر لاحقا.
في ذروة الفيضانات السنوية، يتدفق النيل بمعدل خمسة أميال تقريبا في الساعة وهو يتجه شمالا نحو البحر المتوسط، ويحدث تباطؤ لهذا التيار لأكثر من ثلاثة أميال بقليل في الساعة بمجرد انحسار مياه الفيضان، لكن حيث إن الرياح السائدة في ذلك الجزء من العالم تهب في اتجاه الجنوب، فقد بنى المصريون سفنا قادرة على الإبحار جنوبا، مدفوعة بالرياح الشمالية ومقاومة التيار المتدفق شمالا. وفي رحلة العودة، كان الطاقم ينزل الشراع فحسب، ويطفو بسفينته شمالا مع التيار عائدا إلى البحر المتوسط؛ لذلك كان الرمز الهيروغليفي المصري لكلمة «جنوب» هو سفينة ذات صار قائم وشراع مبسوط للرياح، في حين كان الرمز الهيروغليفي لكلمة «شمال» هو سفينة أنزل صاريها، منجرفة مع تيار النيل.
بمرور الزمن، تطورت قوارب المصريين وسكان بلاد الرافدين النهرية المسطحة ضحلة البدن بإضافة الحواف المرتفعة وعارضات القعر المستديرة التي أتاحت لهم الإبحار في مياه البحار المفتوحة الأكثر هيجانا. أتاحت هذه المراكب البحرية للمصريين القدماء الإبحار من مصب النيل إلى سواحل بلدان شرق المتوسط، ومن البحر الأحمر إلى مواقع في شبه الجزيرة العربية والهند وأفريقيا. ومكنت السومريين القدماء من الإبحار من بلاد الرافدين مئات الأميال جنوبا إلى سواحل أفريقيا وشرقا إلى سواحل الهند. كل من المصريين وسكان بلاد الرافدين كانوا يعقدون صفقات تجارية كبرى باستيراد الأحجار من أجل صناعة الأدوات، وحجر اللازورد الشبه الكريم، ولاحقا خامات القصدير التي كانوا يحتاجونها لصناعة أدوات وأسلحة من البرونز.
في الوقت نفسه، وعلى بعد أكثر من ألف ميل شرقا من بلاد الرافدين كانت نشأة حضارة أخرى في وادي نهر السند في شمال غرب الهند؛ فقد قامت المدينتان البارزتان، موهينجو دارو وهارابا نحو عام 3300 قبل الميلاد على ضفاف نهر السند. وبعد ذلك بتسعمائة عام، أنشئت مدينة لوثال - أحد مراكز الصناعة والتجارة المهمة - على ضفاف نهر سابارماتي. وقد عثر على أدلة على سلع تجارية من لوثال في مناطق بعيدة شرقا بلغت جنوب شرق آسيا، وفي مناطق بعيدة غربا حتى ساحل شرق أفريقيا.
شكل 7-2: تميزت مدن حضارة وادي السند التي نشأت بعد عام 3300 قبل الميلاد بشبكات صرف صحي متقدمة، وشون عامة كبيرة، ومنشآت مرفئية جيدة التجهيز.
بسطت مدن حضارة وادي السند سلطتها على ملايين السكان، ولم يكن يضاهيها أي مراكز مدنية في العالم القديم؛ فقد كانت مجتمعات أنشئت على أساس التخطيط، فكانت ذات شوارع مصممة متعامدة بعضها على بعض؛ التخطيط الشبكي الذي لم يظهر مرة أخرى إلا مع نشأة الحضارة الرومانية بعد 2500 عام. وكانت المنازل مبنية من الطابوق المحروق، وفي هذا تناقض واضح مع الطوب اللبن المجفف في الشمس الذي كان يستخدم في كل مكان خلال هذه الفترة. كذلك كان هناك شبكات معقدة للمياه والصرف الصحي اشتملت على أقدم مراحيض بأنظمة صرف في العالم، وحمامات عامة كبيرة، وشبكة مجارير تحت الأرض كاملة ببالوعات مبطنة بالقرميد.
لم يعثر إلا على أدلة قليلة في حضارة وادي السند تشير إلى الفوراق الشديدة في الثروة، والتي كانت أمرا معتادا في الحضارات القديمة الأخرى، وهذا أمر يثير الانتباه. ورغم أن عمليات التنقيب قد كشفت عن العديد من المخازن والشون والحمامات العامة، فإنه لم يعثر بعد على أثر في أطلال هارابا أو موهينجو دارو أو لوثال للقصور أو المعابد أو المباني العسكرية العملاقة المعهودة في دول مدن الحضارات القديمة الأخرى. يبدو أن مجتمع الحرفيين والتجار هذا ظل لأكثر من ألف عام ينعم بدرجة من المساواة والراحة المادية كانت فريدة في العصور القديمة. بيد أن حضارة وادي السند انهارت سريعا بعد عام 1850 قبل الميلاد، وبحلول عام 1700 قبل الميلاد كانت قد تلاشت تماما. ولم تشهد مرة أخرى قط «حضارة تنعم بالعدالة والمساواة» في العالم القديم.
شكل 7-3: نشأت أقدم حضارات الصين في واديي نهري اليانجتسي والأصفر. وقد ربط بين هذين النهرين لاحقا القناة الكبرى، أكثر مشروعات شبكات المياه أهمية في تاريخ البشرية.
لم تبدأ الحضارة المدنية في الصين حتى حلول عام 2000 قبل الميلاد تقريبا - بعد ظهورها في وديان أنهار الهند والهلال الخصيب بنحو ألف عام - لكنها سرعان ما صارت أكثر الحضارات المدنية القديمة اتساعا وتنظيما واستمرارا. ويبدو أن أول مركز مدني في الصين نشأ في إرليتو، أحد المستوطنات الكبيرة على ضفاف النهر الأصفر، حيث دلت آثار سبك البرونز وبعض بقايا الكتابة الصينية على بدايات المجتمع المتحضر.
كانت أراضي وديان الأنهار المنخفضة الخصبة في الصين أكثر اتساعا عنها في أي مكان آخر في العالم، حيث بلغت مساحة أحد السهول الرسوبية الشاسعة، الذي غطى أغلب المساحة بين واديي النهر الأصفر ونهر اليانجتسي، نحو 750 ميلا عرضا من الشرق للغرب، وألف ميل طولا من الشمال للجنوب. وكان وادي نهر اللؤلؤ في جنوب الصين قطعة مهمة ثالثة من الأراضي الزراعية الخصبة التي امتدت داخليا من بحر الصين الجنوبي لأكثر من خمسمائة ميل حتى حدود فيتنام.
شاب تاريخ الصين القديم عدة قلاقل سياسية حين كانت القوى والسلطة السياسية تتداول، على حين غرة في بعض الأحيان؛ إذ توالى ما لا يقل عن سبع عشرة أسرة حاكمة وحكومة خلال الأربعة آلاف عام التي انقضت منذ ظهور ثقافة إرليتو نحو عام 2000 قبل الميلاد وحتى عام 1911م، حين انهارت أسرة تشينج الحاكمة وأسست الأمة الصينية الحديثة. طوال هذه الفترة، ظلت السلطة السياسية في الصين تتنقل بين أكثر من أربعين عاصمة مختلفة من وقت لآخر، وهي لا تشمل العواصم المتعددة التي أنشئت خلال أربع فترات محددة من الانقسام السياسي، حين انقسم المجتمع الصيني إلى عدة دول مدن متحاربة.
3
بيد أنه توالت على الصين فترات طويلة من الاستقرار والازدهار أيضا؛ فالحضارة الصينية مسئولة عن العديد من الابتكارات التقنية والثقافية البارزة. تشمل هذه الابتكارات اختراع ورق الكتابة والبارود والأسلحة النارية، وبناء أكبر سفن خشبية في العصور القديمة، وتشييد اثنين من أكبر مشروعات الأشغال العامة في تاريخ البشر: سور الصين العظيم والقناة الكبرى.
أما سور الصين العظيم فهو في غنى عن المقدمات الطويلة. هذا السور عبارة عن سلسلة من الجدران، يصل طولها معا لأكثر من خمسة آلاف ميل، بناها في أوقات مختلفة أباطرة صينيون مختلفون، بداية من عام 700 قبل الميلاد تقريبا، وظل البناء مستمرا بتقطع حتى عام 1600 ميلادية تقريبا. وقد شيد سور الصين العظيم من أجل صد المنغوليين وغيرهم من القبائل النزاعة إلى القتال التي عاشت في الجبال والصحراوات التي حدت وسط الصين من الشمال . وقد بني وأعيد بناؤه عدة مرات على مدار تاريخ الصين، لكنه اخترق بصورة بالغة عام 1644م على يد جيوش أمراء حرب شعب المانشو، الذين أسسوا أسرة تشينج وظلوا يحكمون الصين حتى العصور الحديثة.
ورغم أن القناة الكبرى أقل شهرة من عدة جوانب فإنها كانت أهم هذه الإنجازات الضخمة؛ فقد ربطت بين النهر الأصفر ونهر اليانجتسي، لتوفر سبيلا للتجارة والنقل في أنحاء وسط الصين وتساهم بدرجة كبيرة في توحيد الصين وتاريخها بصفتها إحدى أقدم الدول المدن وأكبرها؛ فالقناة الكبرى التي يتعدى طولها ألف ميل هي أطول قناة من صنع الإنسان في العالم. وقد بدأت بداية متواضعة عام 486 قبل الميلاد لتربط نهر اليانجتسي بنهر هواي، لكن بعد عام 600 ميلادية، ظلت القناة تطول وتتسع تدريجيا لتربط في النهاية بين بيكين في الشمال بهانجتشو، وهي ميناء ومركز مهم لصناعة السفن في الجنوب.
في هذه المرحلة، لا بد أن نذكر أنه رغم أن تراث الملاحة لمصر وبلاد الرافدين ووادي السند والصين ساهم مساهمة غير محدودة في تقرير مصائرها النهائية كمهود للحضارة، فإن الأدلة واضحة على أن الملاحة لم تبدأ مع نشأة الحضارات؛ فثمة أدلة كثيرة على أن بشر الهومو إريكتوس وغيرهم من بشر ما قبل التاريخ كانوا يصنعون الأطواف والقوارب ويبحرون بها في عرض البحر، قبل استقرار الإنسان الحديث تشريحيا في قرى دائمة وبدء ممارسته الزراعة بزمن طويل.
الأطواف والقوارب والسفن الشراعية
من حقائق علم الأعراق أن الصيادين وجامعي الثمار ظلوا زمنا طويلا يصنعون زوارق بتجويف الكتل الخشبية، وكانوا يصنعون أطوافا تفوقها طولا بربط الكتل الخشبية أو الخيزران أو الغاب بحبال مصنوعة من الفروع أو اللحاء الممزق. وقد صنعت قبائل شمال غرب المحيط الهادئ الأمريكية الأصلية زوارق مجوفة ضخمة من الجذوع الهائلة لأشجار الأرز والأشجار الصنوبرية القديمة وأبحروا بها في عرض البحر، وهم بكل المقاييس من شعوب الصيادين وجامعي الثمار الذين عاشوا في «العصر الحجري».
يظل القدم الحقيقي للملاحة مسألة مثيرة للخلاف الشديد بين علماء عصور ما قبل التاريخ، لكن لا بد أن أشباه البشر كانوا يصنعون القوارب منذ العصر الحجري القديم العلوي على الأقل، وربما صنعت أول قوارب وأطواف قبل ذلك بزمن طويل. يعتقد بعض العلماء أن استعمار بشر الهومو إريكتوس جزر أقصى الشرق الإندونيسية منذ أكثر من خمسمائة ألف عام ما كان ليحدث إلا لو كان هؤلاء البشر الناشئون قادرين على الملاحة في عرض البحر في مراكب صالحة للملاحة.
4
أيا كان الرأي النهائي بشأن ركوب بشر الهومو إريكتوس البحر، فمن الحقائق المؤكدة أن شعوب ما قبل التاريخ قد استقروا أصلا في قارة أستراليا منذ ستين ألف عام على الأقل. وهو الإنجاز الذي تطلب عبور خمسين ميلا في البحار المفتوحة التي كانت تفصل بين جزيرة تيمور الإندونيسية وساحل أستراليا خلال هذه الفترة من التاريخ الجيولوجي
5 (رغم أن ما يفصل تيمور عن ساحل أستراليا اليوم هو ثلاثمائة ميل من البحار المفتوحة، فإن مستوى سطح البحر خلال العصور الجليدية كان أدنى منه حاليا بثلاثمائة قدم، كما كانت مساحات كبيرة من الجروف القارية على جانبي مضيق تيمور مكشوفة؛ لذا كانت المسافة بين أستراليا وتيمور منذ ستين ألف عام خمسين ميلا من المياه المفتوحة تقريبا). ويعطينا هذا دليلا قاطعا على أن الناس لم يكونوا يصنعون المراكب فقط، وإنما يبحرون أيضا لأيام في عرض البحر منذ عشرات آلاف الأعوام.
في عام 1998م، أجرى اختصاصي علم الحفريات البشرية، روبرت جي بيدناريك، تجربة أعطى فيها توجيهاته ببناء طوف كبير من الخيزران على جزيرة روتي قبالة ساحل تيمور الجنوبي الغربي. كان طوف بيدناريك مصنوعا بالكامل من مواد محلية كانت متوفرة لبشر العصر الحجري القديم. وقد زود بأشرعة منسوجة من ألياف النخيل، واستخدمت في بنائه بالكامل أدوات حجرية من النوع الذي كان يشيع استخدامه منذ ستة آلاف عام. وأبحر بيدناريك هو وطاقم من خمسة أفراد بنجاح بهذا المركب من تيمور إلى أستراليا، وهم يقتاتون بصفة أساسية على السمك الذي كانوا يصطادونه من البحر مستعينين بنسخ مقلدة من حراب العصر الحجري القديم المصنوعة من العظام.
6
إلا أنه يكاد يكون من المستحيل أن نعثر على دليل على الملاحة يعود إلى أوقات العصر الحجري القديم؛ هذا لأن مستويات سطح البحر خلال العصور الجليدية كانت أدنى كثيرا عما هي عليه الآن، كما أن السواحل القديمة للعصر الحجري القديم العلوي - ومعها كل الأدلة على استيطان البشر التي كانت تحتوي عليها - تقبع حاليا تحت ثلاثمائة قدم من مياه البحر.
حتى وإن كان من الممكن تحديد المكان الذي عاش فيه بشر ما قبل التاريخ بالتحديد في هذه السواحل المغمورة الآن، فقد محا تأثير البحر على مدار عشرات آلاف السنين معسكراتهم القديمة منذ زمن طويل، وكذلك بقايا أي قوارب أو أطواف ربما كانوا يستخدمونها، لكن ثمة أدلة مادية من بلاد الرافدين العتيقة تثبت أن سفن الإبحار كانت تصنع من الغاب وتجوب المياه المفتوحة قبل سبعة آلاف عام؛ أي قبل بداية أول حضارة مدنية بكثير.
في عام 2001م، اكتشف فريق من علماء الآثار البريطانيين والكويتيين اثنين وعشرين لوحا من القار قرب سواحل الخليج الفارسي، حيث يصب نهر الفرات في البحر. القار هو مادة سوداء دبقة، تسمى أيضا أسفلت، موجودة في الرواسب الطبيعية في أنحاء الهلال الخصيب، وكانت تستخدم على نطاق واسع خلال العصور القديمة كمادة جلفطة عازلة للماء من أجل كل من حاويات المياه وهياكل قوارب الغاب. وعند التحقق من تاريخ تكون قوالب القار تأكد أنها تكونت ما بين عام 5500 وعام 5300 قبل الميلاد. وهذا كان قبل بدء الحضارة المدنية في بلاد الرافدين بنحو ألفي عام.
وحيث إن القار المخلوط بزيت سمكي وشعب مرجانية مكسرة قد نقل لأكثر من ستين ميلا من المكان الذي تكون فيه، وما زال يحمل آثار الحبال والأسلاك وحزم الغاب التي كانت تستخدم في هذا الوقت في صنع القوارب، فلا يوجد شك أنه كان يستخدم في جلفطة القوارب البحرية، بل في الواقع ما زالت بعض ألواح القار هذه تحمل بقايا البرنقيل الذي كان متشبثا بها؛ مما يثبت أنها بقيت فترة طويلة في البحر.
ولم يكن المصريون متأخرين كثيرا عن الركب في هذا الصدد؛ فقد بقي منذ عام 7000 قبل الميلاد مراكب صغيرة مصنوعة من حزم الغاب المربوطة بالحبال كانت تستخدم في مياه النيل الهادئة نسبيا، كما أثبتت لاحقا قوارب أكبر حجما من الغاب قدرة مدهشة على الإبحار في مياه البحار المفتوحة الأكثر غدرا. وفي عام 1970م، أشرف المغامر النرويجي، ثور هيردال، على بناء نسخة مطابقة لقارب مصري قديم من الغاب، وأبحر به لستة آلاف ميل عبر المحيط الأطلنطي من ساحل المغرب في شمال أفريقيا لجزيرة باربادوس في البحر الكاريبي. ومنذ ذلك الوقت قامت رحلات كثيرة في قوارب من الغاب شبيهة بتلك التي كانت تستخدم في مصر القديمة، للتدليل على أن المصريين والسومريين كانوا سيستطيعون الذهاب في رحلات بحرية طويلة في قوارب مماثلة من الغاب.
بحلول عام 3500 قبل الميلاد، قبيل فجر الحضارات الأولى، كان فن صناعة السفن قد تطور تطورا كبيرا؛ فقد كان كل من المصريين والسومريين قد تجاوزوا المراكب البدائية المصنوعة من الغاب، وكانوا يصنعون قوارب بحرية من ألواح الأخشاب التي كانت «تدرز» معا بأشرطة من الألياف المنسوجة (فالمسامير الحديدية التي استخدمت في النهاية في بناء القوارب لم تبتكر إلا بعد ثلاثة آلاف سنة أخرى). وكانت قوارب الألواح الخشبية هذه تصنع بحيث تفك، وتحمل على ظهور الدواب، وتنقل لمسافات طويلة، ويعاد تركيبها على الشاطئ، حتى إن المصريين كانوا يدأبون على نقل قواربهم لمسافة 125 ميلا عبر صحراء سيناء إلى سواحل البحر الأحمر، حيث كانت تدرز معا، وتجلفط بالقار، وتبحر مئات الأميال إلى سواحل أفريقيا والهند في حملات تجارية.
وبحلول عام 1500 قبل الميلاد كان المصريون الذين صاروا متحضرين آنذاك يبنون صنادل نهرية عملاقة - بلغ بعضها 230 قدما طولا، وثمانين قدما عرضا، وعشرين قدما عمقا - يستطيع كل منها حمل أكثر من ألف طن من الشحنات. وقد استخدم هذا النوع من الصنادل الضخمة في نقل «تمثالي ممنون»، وهما تمثالا الفرعون أمنحتب الثالث، اللذان يزن كل منهما نحو 320 طنا، واللذان نحتا بالقرب من المكان الذي تقع فيه القاهرة في العصر الحالي، ونقلا لمسافة تربو عن أربعمائة ميل في النيل إلى مدينة طيبة القديمة، حيث يقفان الآن.
البزوغ البطيء للكتابة
كثيرا ما يصور اختراع الكتابة باعتباره حدثا فريدا وقع في زمان ومكان محددين؛ إذ دائما ما يوصف بأنه بدأ نحو سنة 3000 قبل الميلاد مع الكتابة المسمارية لسكان بلاد الرافدين القدماء، وانتشر من هناك إلى أماكن أخرى في العالم القديم، غير أن كل الأدلة تشير إلى أن الكتابة بالأحرى تطورت تطورا بطيئا جدا في أماكن عدة، وفي أزمنة عدة، وفي ثقافات عدة، ولم تبتكر في زمن واحد ومكان واحد.
مما لا شك فيه أن البشر ظلوا يستخدمون رموزا مرئية للتعبير عن معان محددة طيلة أكثر من عشرين ألف عام. وقد دل على هذا بجلاء آلاف النقوش الحجرية التي عثر عليها في كهف لا باسيجا، وكذلك مئات المواقع الأخرى التي تعود إلى العصر الحجري القديم في أوروبا (لي كومبريل ولاسكو وليز إزيه وألتاميرا ووادي فال كامونيكا)، وآسيا (كهف كابوفا وكهوف مجفيميفي وكهوف إداكال ولاداخ ونقوش جدول ديجوكشيون)، وأفريقيا (جبال أكاكوس وجبل العوينات وبيدزار ونيولا دوا وكهف بلومبوس وكهف وندرويرك)، وأستراليا (موقع موروجوجا في شبه جزيرة بوروب)، والأمريكتين (بحيرة وينيموكا ولونج ليك وموقع ثري ريفرز وموقع كومب مايو).
غير أن نقوش العصر الحجري القديم العلوي لا ترقى لما يمكننا اعتباره أنظمة كتابة مكتملة؛ إذ يعني مفهوم «الكتابة» في ثقافتنا المعاصرة التمثيل المنهجي والبياني للغة المكتملة النمو، بما لا يقتصر على أسماء فحسب، وإنما كذلك أفعال وأساليب للتعبير عن أزمنة الماضي والحاضر والمستقبل. وفي أغلب الحالات، تشمل الكتابة الحقيقية بعض الإشارات إلى الطريقة التي كانت تنطق بها الكلمات الدالة على المعاني المختلفة في اللغة المنطوقة لدى الشعب الذي دون هذه الكتابة.
شكل 7-4: هذا الخطاب المسماري، المكتوب بقلم إسفيني الشكل على صلصال رخو، أرسل إلى مدينة لكش لملك بلاد ما بين النهرين ليخبر إياه بوفاة ابنه في القتال.
أينما كانت تظهر الحضارات المدنية كانت تتطور أنظمة كتابة مكتملة لأنه كان ثمة حاجة إليها؛ فالمجتمعات المكونة من عشرات أو مئات آلاف الأشخاص - الأغراب بعضهم عن بعض في أغلب الأحيان - تحتاج إلى تقنيات تواصل يمكنها نقل رسائل معقدة بفاعلية ومصداقية عبر الزمان والمكان. ولما كانت هذه المجتمعات المدنية لا تمتلك نظام كتابة - أو ليس باستطاعتها اقتراض نظام كتابة من جيرانها - فقد اخترعت أنظمة خاصة بها.
كانت الثقافتان السومرية والأكادية في بلاد الرافدين من أوائل الشعوب التي وضعت نظام كتابة مكتملا، بدأ برسوم لحركات معينة مثل المشي والأشياء المادية مثل الأغنام والأبقار والخبز والشعير. مع الزمن صارت تفاصيل هذه الرسومات الرمزية مبسطة، وتطورت أخيرا إلى رموز موحدة تشبه الأشياء التي كانت تعبر عنها في الأصل شبها طفيفا. وفي نهاية الأمر، أصبحت كل هذه الرموز ترسم في شكل يسمى «مسماريا»، يتكون من نقوش تحفر في صلصال لين بعود غاب على شكل وتد أو قلم خشبي (انظر شكل
7-4 ).
وبمرور الوقت، تبنى العديد من الثقافات القديمة كتابة السومريين المسمارية باعتبارها «أبجدية» معيارية، وصارت الكتابة المسمارية الطريقة الموحدة لكتابة اللغات القديمة البابلية والآشورية والحوثية والعيلامية والحورية والأورارتية والإجاراتية والفارسية، لكن رغم أنهم جميعا ربما كانوا يستخدمون نظام الكتابة نفسه، فإن الشعوب التي كانت تتحدث هذه اللغات المختلفة لم يكن بعضها يستطيع قراءة نصوص الآخرين التي كانت بالكتابة المسمارية. بالمثل، لا تستطيع الشعوب التي تفهم اللغة الإنجليزية وحدها أن تقرأ نصوصا سوى المكتوبة باللغة الإنجليزية، ولا تستطيع قراءة النصوص الإسبانية أو البرتغالية أو الهولندية أو الفلمنكية أو الإيطالية أو الفرنسية أو الألمانية، رغم أن هذه اللغات كلها تستخدم أساسا الأبجدية نفسها.
في الوقت نفسه كانت أنظمة الكتابة تتطور أيضا في حضارات قديمة أخرى؛ فقد شاع استخدام نظام الكتابة الفريد الذي أسماه الإغريقيون الهيروغليفية أو «النقوش المقدسة» في وادي النيل بعد عام 3000 قبل الميلاد بقليل. تحتوي الكتابة الهيروغليفية، مثل المسمارية، على عدد من الرموز الخاصة التي تمثل أصوات الحروف الساكنة (فالهيروغليفية المصرية، شأن العديد من أشكال الكتابة الأخرى، ليس بها ترقيم لأصوات حروف العلة). أما الغالبية العظمى من الرموز الهيروغليفية فهي تمثل معاني محددة. ومع الزمن زاد عدد الرموز الهيروغليفية من ثمانمائة خلال العصور القديمة للحضارة المصرية إلى نحو خمسة آلاف رمز مع بداية الإمبراطورية الرومانية بعد ذلك بعدة قرون.
ورغم أن بعض أشهر النقوش الهيروغليفية هي تلك الموجودة على الجدران الحجرية للأهرامات والمعابد، فإن أغلب الكتابات الهيروغليفية المصرية كانت مكتوبة بشكل «متصل» على أوراق البردي، المصنوعة من نبات المستنقعات نفسه الذي أخذت منه مواد بناء القوارب المصرية القديمة. وقد بقيت لفائف بردي متعددة منذ العصور القديمة في مناخ مصر الصحراوي الجاف، لتوفر مصدرا غنيا بالمعلومات حول ثقافة هذه الحضارة الاستثنائية ومجتمعها (انظر شكل
7-5 ).
شكل 7-5: كانت الهيروغليفية المصرية تنحت على الحجر (فوق)، وتكتب أيضا بشكل أبسط (متصل) على أوراق البردي (تحت). (الشكل العلوي مسموح بنشره بموجب رخصة جنو للوثائق الحرة إصدار 1,2 ورخصة المشاع الإبداعي غير الموطن الإصدار 3,0 التي تقتضي نسب المصنف لصاحبه والترخيص بالمثل.)
في وادي نهر السند، كانت هارابا وموهينجو دارو، الدولتان المدينتان الناشئتان، لديهما الحاجة نفسها لتدوين الصفقات مثل السومريين، وقد ظهر الدليل على وجود لغة مكتوبة تسمى «الكتابة السندية» بعد عام 2700 قبل الميلاد. ظلت الكتابة السندية باقية في شكل أختام مصنوعة من الصلصال المحروق التي احتوت على متتاليات من الرموز، المصحوبة أحيانا بصور جميلة. وقد احتوى هذا الشكل من الكتابة على أكثر من أربعمائة علامة ورمز مختلف، مستنسخة في تسلسل واضح المعالم، إلا أنه للأسف كان القماش القطني هو خامة الكتابة التي اعتاد شعب حضارة وادي السند استخدامها، وقد ضاع تقريبا كل سجلات الكتابة السندية التي كتبت على هذه الخامة الشديدة القابلية للتلف بمرور الزمن (انظر شكل
7-6 ).
شكل 7-6: : بدأت الكتابة في وادي السند بأشكال كانت تنقش على أختام من الصلصال (أ) مع أشكال في أحيان كثيرة (ب) ومختومة على صلصال رخو أو شمع (ج). يدل استخدام رموز مكررة على أن كتابة وادي السند كانت لغة مكتوبة بحق. (الأشكال (أ) و(ب) و(ج) مصرح بنشرها بموجب رخصة جنو للوثائق الحرة إصدار 1,2؛ الشكل «د» مصرح بنشره بموجب رخصة جنو للوثائق الحرة إصدار 1,2 ورخصة المشاع الإبداعي غير الموطنة الإصدار 3,0 التي تقتضي نسب المصنف لصاحبه والترخيص بالمثل.)
استؤنست النباتات والحيوانات في الصين تقريبا في نفس وقت استئناسها في منطقة الهلال الخصيب، وبحلول عام 7000 قبل الميلاد كان واديا النهر الأصفر ونهر اليانجتسي موطنا لشعب كبير ومتزايد من المزارعين المقيمين في قرى دائمة. ويعود لهذه الفترة المبكرة أول دليل على استخدام الرموز المصورة في الصين (انظر شكل
7-7 ).
شكل 7-7: أشكال للكتابة القديمة في الصين، (أ) من جياهو، عام 6600 قبل الميلاد، (ب) وداديوان، عام 5800 قبل الميلاد، (ج) ولونجشان، عام 3000 قبل الميلاد، (د) و«نص مكتوب على إحدى عظام العرافة» من أسرة شانج، عام 1200 قبل الميلاد. ((ج) أعاد رسمه تومشين عام 1989؛ (د) نسخة مقلدة لصدفة سلحفاة عليها نصوص عرافة صينية قديمة؛ النشر بموجب رخصة المشاع الإبداعي الإصدار 3,0 التي تقتضي نسب المصنف لصاحبه والترخيص بالمثل من موقع ويكيميديا كومونز.)
تظهر أقدم أدلة على الكتابة الصينية في موقع جياهو الذي يعود إلى العصر الحجري الحديث، بتاريخ عام 6600 قبل الميلاد تقريبا، وكذلك في بقايا أحواض الخزف التي عثر عليها في موقع داديوان، وتعود إلى عام 5800 قبل الميلاد تقريبا، وكان مرسوما عليها رموز شبيهة شبها ملحوظا ببعض النقوش الحجرية التي في كهف لا باسيجا الذي تبقى من إسبانيا العصر الحجري القديم، لكن أكثر ما يشبه حروف الكتابة الصينية الحديثة شبها واضحا من أقدم بقايا الحروف الصينية هي «عظام العرافة» التي استخدمت خلال حكم أسرة شانج ما بين سنة 1500 و1200 قبل الميلاد؛ فقد كان الصينيون في ذلك الوقت يحفرون نقوشا في العظام أو أصداف السلاحف ثم يسخنون هذه الأشياء في النار. وكان يتكهن بالمستقبل بتفسير الشقوق التي تظهر في عظام العرافة بعد تسخينها. ويعد الكثيرون «كتابات عظام العرافة» للصين القديمة أقدم مثال على اللغة الصينية المكتوبة التي ما زالت مستخدمة حتى الآن.
ظهرت الكتابة في القارتين الأمريكيتين في وقت لاحق بعض الشيء عن ظهورها في آسيا، رغم أن كلا من ممارسة الزراعة ونشأة المجتمعات المستقرة بدأتا في الأمريكتين منذ سبعة آلاف عام على الأقل، لكن ربما كان عدم وجود وديان أنهار واسعة هو العامل الرئيسي وراء تأخر نشأة الحضارات المدنية في تلك المناطق. رغم ذلك نهضت أخيرا دول ما قبل عصر كولومبوس في القارتين الأمريكيتين، ويماثل نموها الأنماط المشهودة في الحضارات المدنية للعالم القديم إلى حد باهر.
حضارات المايا والأزتيك والإنكا وغيرها من حضارات ما قبل عصر كولومبوس هيمنت على جيرانها بوسائل العنف؛ فقد كانت كلها مجتمعات هرمية التسلسل مقسمة إلى طبقة دنيا من عمال مزارعين وطبقة عليا من الأرستقراطيين بالوراثة الذين كانوا يمسكون بزمام الحكم في المراكز الحضرية، في حين كان هناك طبقة من رجال الدين المحترفين الذين يمارسون الطقوس الدينية في معابد متقنة البناء. ولم تحتفظ هذه المجتمعات بسجلات مكتوبة فحسب، وإنما وضعوا كذلك أشكالا متقدمة من الرياضيات والكتابة والعلوم الفلكية، حتى إن شعب المايا كان قادرا على حساب أحداث فلكية ستقع في المستقبل البعيد.
وبحلول عام 400 قبل الميلاد، كان شعب المايا يستخدم أحد أشكال الكتابة بالرموز الذي تطور في النهاية إلى نظام في نفس تعقيد أي من الأنظمة التي تطورت في العالم القديم (انظر شكل
7-8 ). وقد تكونت كتابة المايا من مئات الرموز التي كانت تدمج معا في صور معقدة تسمى «الصور الرمزية»؛ شكل من الكتابة الحقيقية المستخدمة في التعبير عن الأرقام والأشياء والأفعال والأصوات.
شكل 7-8: كانت الكتابة الهيروغليفية البالغة التعقيد لحضارة المايا تكتب على ألواح من لحاء الأشجار المسطح (أعلى)، وكذلك تنقش على واجهات المعابد الحجرية (أسفل). (الصورة السفلى منشورة بموجب رخصة المشاع الإبداعي الإصدار 3,0 التي تقتضي نسب المصنف لصاحبه والترخيص بالمثل.)
من العصر الحجري إلى البرونزي
رغم أنه جرت العادة لزمن طويل على تقسيم تاريخ البشر بأكمله إلى عصر حجري وعصر برونزي وعصر حديدي، فإن الفروق بين هذه العصور الثلاثة من ناحية حياة البشر ليس كبيرا بالدرجة التي قد توحي بها أسماؤها. وقد نشأت هذه الطريقة في تصنيف تاريخ البشر عام 1825م، حين صك جامع التحف القديمة الدنماركي، كريستيان جيرجينسين تومسين، هذه المصطلحات لتكون طريقة ملائمة لتصنيف مجموعات القطع الأثرية القديمة حسب ترتيب زمني معقول. كان هذا قبل أن يقترح داروين ووالاس نظرياتهما بشأن التطور، وقبل اكتشاف بقايا بشر النياندرتال وغيرهم من بشريي عصور ما قبل التاريخ، وقبل تطور علم الآثار الحديث بزمن طويل.
في الواقع، استطاعت الإنكا والمايا والأزتيك وغيرها من المجتمعات المتقدمة في الأمريكتين أن تنشئ حضارات متطورة مع الاستمرار في الاعتماد الشديد على أدوات وأسلحة مصنوعة من الأحجار. وكانت صناعة الأدوات المعدنية في تلك المجتمعات مقتصرة بدرجة كبيرة على صهر المعادن الرخوة مثل الذهب والفضة والنحاس وتشكيلها؛ إذ يمكن إذابة هذه المعادن في نيران الأخشاب العادية التي يسخنها العمال بشدة بنفخ الهواء فيها من خلال أنابيب طويلة، لكنها كانت تفتقر إلى الصلادة والصلابة الضروريتين لصنع أدوات وأسلحة فعالة.
هكذا، في المكان الذي كان موقعه الجغرافي مؤاتيا، كانت الحياة الزراعية المستقرة كافية - حتى مع غياب الأدوات والأسلحة المعدنية - لتشجيع ميلاد حضارات، بما يكملها من دواوين الدولة، والديانات المنظمة، والحروب المنظمة، والتجارة البعيدة المدى، وأنظمة الكتابة، والمعرفة المتقدمة بالرياضيات والفلك، إلا أن تطور التعدين في وديان الأنهار القديمة لعب بالفعل دورا مهما في تطور الحضارات المدنية، ليس فقط بتزويدها بأدوات وأسلحة فائقة، وإنما بتحفيز الابتكار في تقنيات النقل على الأخص، التي كانت ضرورية من أجل ممارسة التجارة بين مجتمعات واقعة في مناطق جغرافية متباعدة.
بدأ تشكيل المعادن أولا في الشرق الأوسط منذ نحو عشرة آلاف عام مع صهر شذور النحاس الموجودة في الطبيعة في جبال شرق تركيا وشمال سوريا وطرقها؛ فالنحاس معدن رخو يسهل تشكيله، ومن خلال التسخين المتكرر لشذور النحاس في نيران الأخشاب العادية، كان يمكن طرقها بسهولة لتحويلها إلى أشكال متعددة. في البداية ، كانت الكميات الصغيرة من النحاس التي يمكن استخراجها من الرواسب الطبيعية تكفي فقط لصنع الخواتم والخرز والدلايات المستخدمة في الزينة الشخصية، وكان للنحاس أثر ضئيل في النواحي التقنية الأخرى والحياة الاقتصادية.
غير أن صانعي الفخار في مصر ووادي نهر السند بدءوا في نهاية الأمر إجراء تجارب على طلاءات الزجاج المصنوعة من خلطات معدني المالكيت الأخضر والأزوريت الأزرق الزاهيين - وكلاهما من خامات النحاس - لصناعة قطع الخزف ذات اللون الأخضر المائل للزرقة الذائعة الشهرة المسماة قيشاني. وسرعان ما اكتشفوا أن هذه الخامات يمكن صهرها لتصير نحاسا معدنيا بخلطها بالفحم النباتي وتسخينها في فرن مشتعل لدرجة الابيضاض لعدة ساعات.
وقد أدى هذا الاكتشاف إلى تشكيل النحاس المصهور في قوالب لصنع أدوات وأسلحة مثل القدائم ورءوس المطارق ورءوس الرماح، غير أن النحاس كان نادرا وباهظ التكاليف، كما أنه كان رخوا لدرجة يصعب معها صنع أدوات وأسلحة رفيعة وحادة منه، مثل السكاكين ورءوس السهام، التي كانت مهمة في هذه التقنيات المبكرة. هكذا ظل النحاس لزمن طويل مادة هامشية ذات دور محدود في تقنيات المجتمعات الزراعية الأولى.
لكن في وقت ما بعد عام 4000 قبل الميلاد، اكتشف النحاسون في الشرق الأوسط أنه من الممكن صناعة البرونز، وهو الفلز الذي ثبت تفوقه الشديد على النحاس، بخلط النحاس بكميات صغيرة من الزرنيخ - بلورات فلزية سامة - ثم لاحقا بكميات قليلة من القصدير، وهو فلز غير سام. ولم يتميز البرونز بسهولة تشكيله فحسب، ولكنه تميز أيضا بدرجة انصهار أدنى من النحاس النقي. ورغم ذلك كان البرونز يتمتع بالصلابة والصلادة الكافيتين لتصنع منه أدوات وأسلحة تفوق الأدوات والأسلحة الحجرية التي ظلت البشرية تستخدمها منذ فجر ما قبل التاريخ. وقد جعلت سبائك النحاس والقصدير هذه من التعدين تقنية مهمة لأول مرة.
إلا أن استخدام القصدير في صنع البرونز أحدث مشكلة جديدة؛ ففي حين أن رواسب الزرنيخ السام كثيرا ما يعثر عليها مخلوطة مع خامات النحاس، فإن رواسب القصدير - البديل الأكثر أمنا - لم يكن يعثر عليها بالقرب من النحاس قط، بل لم تكن خامات القصدير متوافرة إلا في أماكن قليلة في العالم القديم، ولم تكن أي من هذه الرواسب موجودة في مصر أو بلاد الرافدين.
امتلك المصريون رواسب غنية من النحاس في صحراء سيناء شرقي وادي النيل، لكنهم لم يكن لديهم رواسب من القصدير. ولم يتوافر أي من النحاس أو القصدير بصورة طبيعية في وادي دجلة والفرات؛ فلم تلبث كلتا الحضارتين أن بدأتا البحث عن مصادر للقصدير في الأراضي البعيدة، وحين عثرتا عليها كان لا بد من نقل الخامات الثقيلة إلى الأماكن التي يمكن فيها صهرها في صورة سبائك، وحيث يستطيع الحدادون تشكيل أغراض مفيدة منها.
هكذا أعطت الحاجة للجمع بين النحاس والقصدير زخما جديدا قويا لتطوير تقنيات النقل، ولا سيما النقل البحري. وسرعان ما حول سكان بلاد الرافدين والمصريون، الذين ظلوا قرونا يصنعون القوارب النهرية ويبحرون بها، اهتمامهم إلى صنع سفن بالضخامة والمتانة الكافيتين للإبحار في عرض البحار بحثا عن مصادر النحاس والقصدير.
ومع التوسع في استخدام البرونز، تيسر للجيوش القديمة المتسلحة بسيوف ورماح ورءوس سهام من البرونز إلحاق الهزيمة بسهولة بالجيوش التي كانت مزودة بأسلحة ذات أطراف حجرية؛ بذلك لم يضمن استخدام البرونز انتصار المجتمعات التي تستخدم أسلحة معدنية على أعدائها في الحرب فحسب، بل عجل كذلك بتفوق ثقافات «العصر البرونزي» على ثقافات «العصر الحجري» التي واجهتها وحلت محلها. انتشر استخدام البرونز في صناعة الأدوات والأسلحة سريعا في أرجاء العالم المتحضر، حتى صار شائعا في وادي السند سنة 3300 قبل الميلاد، وفي بلاد الرافدين بعد سنة 2900 قبل الميلاد، وفي الصين مع نشأة أول المراكز الحضرية سنة 2000 قبل الميلاد.
ورغم أنه كان مقدرا أن يحل «العصر الحديدي» محل «العصر البرونزي»، فإن أغلب الحضارات القديمة ظلت تفضل لزمن طويل البرونز بعد أن صارت تقنيات صهر الحديد شائعة ومنتشرة بوقت طويل؛ لأن البرونز كان متفوقا على الحديد في عدة جوانب مهمة.
فأولا: كان البرونز ينصهر في درجات حرارة أدنى كثيرا من الحديد. وكانت سخونة نار الخشب قديما كافية لصهر النحاس والقصدير والبرونز والذهب، لكنها لم تكن تبلغ درجات حرارة مرتفعة كفاية لصهر الحديد، حتى حين كان العاملون يفرطون في إحمائها بنفخ الهواء فيها من خلال أنابيب طويلة.
وثانيا: يمكن طرق البرونز لتشكيله حين يكون باردا، أما الحديد فلا يمكن تشكيله بالطرق إلا وهو ملتهب. وكان معنى هذا أنه لا بد لتشكيل الحديد من صنع ممساكات وسنادين خاصة مقاومة للحرارة لم تكن ضرورية لتشكيل البرونز.
وثالثا: كان ينتج عن عملية صهر الحديد القديمة كتلة خشنة هشة إسفنجية، يجب إعادة تسخينها وطرقها مرارا وتكرارا لتتحول إلى «حديد مطاوع» صالح لصناعة أشياء قابلة للاستخدام. أما البرونز فيمكن تشكيله بمجرد صهره.
ورابعا: حين يتعرض البرونز للجو يندمج مع الأكسجين الموجود في الهواء ليكون «زنجارا»، وهو طبقة من المعدن المؤكسد، رفيعة لكن متينة، تغطي الغرض المصنوع من البرونز وتقيه من المزيد من التحلل. أما الحديد فحين يتأكسد ينتج عنه أكسيد الحديد أو «الصدأ»، وهو مادة غبارية ضعيفة لا تحمي سطح الحديد. لهذا السبب، حين تتعرض الأشياء المصنوعة من حديد للهواء والماء لفترات طويلة، ينفذ الصدأ إلى باطنها، فيبريها وتصير عديمة الفائدة في النهاية.
لماذا إذن حل الحديد محل البرونز في كل المجتمعات المتحضرة؟ يبدو أن السبب كان بدرجة كبيرة يرتبط باعتبارات اقتصادية محضة؛ فخام الحديد موجود بوفرة في أرجاء العالم المأهول، ويمكن العثور عليه ليس في كل القارات فحسب، ولكن أيضا في أغلب الجزر الكبرى المأهولة، بما في ذلك أستراليا واليابان ونيوزيلاندا والفلبين. في واقع الأمر، توسعت مجتمعات العصر الحجري القديم في أوروبا في استخدام «المغرة الحمراء» - شكل من أشكال خام الحديد - في رسومات الكهوف وعمليات الدفن وغيرها من الطقوس الدينية.
حين كانت الحروب أو انهيار إحدى الحضارات القديمة يعرقل التجارة بين المناطق المتباعدة - وهو من الأحداث المألوفة على مدار التاريخ - كانت خامات النحاس والقصدير تندر وترتفع أثمانها، في حين كان من الأسهل الحصول على الحديد الخام الأكثر وفرة. غير أنه بسبب صعوبات تشكيل الحديد، لم ينته أخيرا استخدام البرونز في صناعة الأشياء المعدنية الشائعة ويحل محلها الأدوات والأسلحة المصنوعة من الصلب - التي كانت أصلب وأمتن من نظيراتها الحديدية أو البرونزية - إلا في العصور الوسطى مع انتشار استخدام الأفران المشتعلة بالفحم، وحين تحسنت عملية صناعة الصلب المعقدة.
الخيل والعجلة والحرب
7
ظل البشر الناشئون، وبعدهم بشر النياندرتال، وبعدهم بشر العصر الحجري القديم العلوي المتطورون تشريحيا يصطادون الخيل بين ما يصطادونه من حيوانات الصيد الأخرى طوال 400 ألف عام على الأقل، بل وحين استأنس بدو سهوب أوراسيا الخيل أصلا منذ 6000 عام تقريبا، لم يكن ذلك من أجل استخدامه وسيلة للتنقل، وإنما بالأحرى كمصدر للغذاء. والسبب بسيط: فالحصان هو الحيوان الوحيد القادر على تغذية نفسه في المرعى المغطى بالثلوج.
تتعرض المروج المترامية في سهوب أوراسيا لبرد قارس في الشتاء، ويغطيها كثيرا من الوقت بساط من الثلوج. كانت شعوب آخر العصر الحجري الحديث قد استأنست الأغنام والماشية بالفعل - التي كانت تفضل لحومها - لكن هذه الحيوانات كان لا بد أن تغذى باليد حين يغطي الثلج والجليد الأرض. صحيح أن الأغنام تستطيع اختراق الثلج المكسو بالجليد بأنوفها لتصل للعشب أسفله، لكن حواف الجليد المتكسرة الحادة ستمزق جلد أنف الأغنام الرقيق. أما الأبقار فهي أكثر عجزا؛ فقد تتضور جوعا في حين أن الغذاء لا يبعد عن السطح بأكثر من بضع بوصات لعدم قدرتها على الكشف عن العشب أسفل غطاء الثلج، لكن الخيل التي نشأت في المروج الفسيحة في المناطق الشمالية قادرة على إزالة الثلج بحوافرها الحادة، وترعى بسهولة في المراعي المغطاة بالثلج.
وبمجرد أن استأنس بدو أوراسيا الخيل لتكون مصدرا بديلا للحوم، اكتشفوا أن هذه الحيوانات يمكن السيطرة عليها بشكيمة توضع في أفواهها وتربط بلجام مصنوع من الحبال أو الجلد. وقد أثبت عالم الآثار ديفيد دابليو أنتوني، بفحص أنماط الاهتراء في أسنان الخيل التي دفنت في قبور أصحابها، أن الخيل كانت تقاد بشكائم وألجمة بسيطة منذ عام 4000 قبل الميلاد.
8
ولم يتعلم بدو أوراسيا امتطاء الخيل فحسب، ولكنهم تعلموا أيضا صناعة عربات من الخشب مغطاة بمظلات من القماش، وابتكروا مرابط مكنت خيلهم من جر هذه العربات لمسافات طويلة على السهوب . وسريعا ما صار الرعاة الأوراسيون أكثر رحالة الأرض تنقلا، حيث كانوا يتنقلون بأسرهم وكل أملاكهم لمئات الأميال سنويا بحثا عن مراع جديدة من أجل قطعانهم. وبعد ذلك بخمسة آلاف سنة، عبر رواد الغرب الأمريكي القفور البدائية للبراري مستخدمين عربات مغطاة بالتصميم نفسه تقريبا.
ورغم أن مسألة ما إذا كان اختراع العجلة قد وقع أولا في سهوب أوراسيا أم في وديان أنهار بلاد الرافدين لم تحسم بعد، فإنه مما لا شك فيه أن استخدام العجلة قد انتشر مثل النار في الهشيم في أنحاء أوراسيا، من غرب أوروبا حتى الصين، بمجرد أن بدأ الناس استخدام العربات ذات الأربع عجلات والعربات ذات العجلتين؛ إذ تظهر أدلة على استخدامهما على نحو مباغت في أنحاء كل من أوروبا وآسيا بدءا من سنة 3500 قبل الميلاد، في شكل رسومات ونماذج من الصلصال لعربات بأربع عجلات، وظهور علامة مكتوبة لكلمة «عربة»، وبقايا أثرية لعجلات وأجزاء من عربات (انظر شكل
7-9 ).
شكل 7-9: تطورت العجلة من قطعة مصمتة من الخشب (أ) إلى تصميم من ثلاث قطع (ب) تطور في النهاية إلى العجلة المتعددة البرامق (ج). كان للعجلات الحربية عجلات بأربعة وستة برامق (د) و(ه). وكانت العجلات المزخرفة (و) تستخدم في الاحتفالات. (الأشكال من (أ) إلى (ه) وضعها المؤلف؛ الشكل (و): بعد العجلة الحربية، الشكل رقم 16657، مركز فلوريدا للتقنية التعليمية. أذن بإعادة نشرها.)
أولى العربات سواء كانت بأربع عجلات أو عجلتين كانت تجرها الثيران في الغالب، حيث كانت دائما ما تربط في أزواج على جانبي قضيب خشبي طويل متصل بالمركبة ذات العجلات، وإن كانت الحمر الوحشية الآسيوية قد استخدمت لهذا الغرض أيضا، وهي نوع صغير من الحمر المستأنسة. كانت العربات ذات الأربع عجلات وذات العجلتين تمكن شخصا أو شخصين من نقل أحمال ثقيلة من الغلال ومواد البناء والأخشاب وغير ذلك من البضائع من مكان إلى آخر دون مساعدة. وفي أغلب الأحيان كانت هذه المركبات القديمة ذات العجلات تستخدم في نقل البضائع لمسافات قصيرة، ربما من قرية إلى أخرى، أو من المزارع والحقول إلى البلدات التجارية، أو من الريف إلى المدن. ونادرا ما كانت تستخدم في نقل البضائع أو الناس لمسافات طويلة، حيث لم تظهر الطرق المعبدة إلا بعد آلاف الأعوام من اختراع العجلة.
بين عامي 3000 و2000 قبل الميلاد، بدأت جيوش بلاد الرافدين القديمة استخدام العربات والمركبات الحربية الثقيلة بعجلات متينة، تجرها الثيران أو أزواج من الجحوش أو الحمر الآسيوية؛ لتكون منصة متحركة لرماة السهام والرماح، إلا أن هذه المركبات كانت بطيئة وصعبة القيادة نسبيا. أما العجلة الحربية التي تجرها الخيول، والتي اخترعها كذلك بدو سهوب أوراسيا وظهرت في بلاد الرافدين بعد عام 2000 قبل الميلاد، فقد كانت شيئا مختلفا اختلافا كليا؛ فالخيل كانت مفطورة على السرعة والقوة والتحمل، على عكس الثيران البطيئة الثقيلة الحركة البليدة والجحوش والحمر الآسيوية الضئيلة الحجم. وحين ربط اثنان أو أربعة من الخيل بعجلة حربية كانت النتيجة باهرة بالتأكيد.
كانت العجلة الحربية خفيفة الوزن سهلة التوجيه، وذات عجلات مزودة بقضبان يجرها زوج من الخيل السريعة ويقودها قائد واحد، وكان يقف خلفه اثنان أو ثلاثة أو أربعة من المحاربين، يطلقون الرماح والسهام على العدو بينما تنطلق العجلة بسرعة كبيرة. وكانت جوانب العجلة الحربية وأرضيتها مصنوعة من أخف وأرق أنواع الخشب أو الجلد، وكانت عجلاتها كبيرة الحجم، وكان الجزء الخلفي منها مفتوحا. ورغم أن العجلة الحربية كانت شبه عديمة النفع في نقل البضائع، إلا أنها كانت منصة مثالية لشن الهجمات على قوات الأعداء.
ولم تكن العجلات الحربية القديمة تحتاج طرقا؛ فقد كانت تنطلق سريعا على الأرض العراء في اهتزاز وصخب، بينما تقطع خيولها الأرض ركضا تحت تأثير سوط السائق، الذي كان يركز في السيطرة على الخيل أثناء هجوم رماة الرماح والسهام على العدو. وقد غير اختراع عجلة الحرب التكتيكات العسكرية للحروب القديمة بدرجة كبيرة، وكانت منذ بدء استخدامها سلاحا حاسما مخيفا. وخلال قرون قليلة، صارت العجلة الحربية جزءا أساسيا من كل جيش من الجيوش القديمة من مصر إلى الصين.
يرجع جزء كبير من نجاح العجلة الحربية إلى المتطلبات الفريدة التي احتاجتها القوس الطويلة القوية، التي كانت السلاح المفضل لرامي الأسهم القديم؛ فقد كانت القوس الطويلة بنفس ارتفاع قامة الإنسان وثقيلة للغاية. وكانت تستلزم أن يقف رامي الأسهم منتصبا، وهو السبب الذي كان يجعل رماة الأسهم يقفون على منصات العجلات الحربية. لكن بعد ابتكار اللجام والشكيمة - وتعلم امتطاء صهوات هذه الحيوانات القوية - اخترع بدو سهوب أوراسيا قوسا أصغر كثيرا وأكثر اكتنازا في نفس قوة ودقة القوس الطويلة.
هذه القوس الجديدة «المركبة»، المقوسة مثل شارب عريض مفتول، كانت تصنع من خشب وعظام وأوتار ملتصقة بعضها ببعض، وكانت في قوة قوس يفوقه مرتين في الحجم ومركبة من قطعة واحدة من الخشب. كما كانت القوس المركبة أو المدعمة بالأوتار تمكن الراكب من إطلاق السهام في أي اتجاه - بما في ذلك الاتجاه الخلفي على العدو الذي يلاحقه - وهو على صهوة جواد راكض. بعد عام 1000 قبل الميلاد، حين صار امتطاء رماة السهام الجياد وتسلحهم بالقوس المركبة شائعا لدى الجيوش القديمة، انسحبت من المعركة تدريجيا العجلة الحربية وركابها رماة الرماح أو مستخدمو القوس الطويلة.
من الصعب علينا مع اعتيادنا على فكرة امتطاء الناس الخيل والبغال والحمير والجمال والأفيال أن نتخيل كم كان تحولا أن يخطر ببال البشر أن باستطاعتهم السيطرة كلية على حيوان يفوقهم حجما وقوة عدة مرات، بل ويتحكمون فيه، ناهيك عن أن يتخيلوا أن بإمكانهم امتطاءه أيضا. وعلى كل حال، فإن امتطاء الحصان لساعات إنما هو فعل «غير عادي» بالنسبة إلى الحصان والراكب على حد سواء. ورغم أنه بحلول عام 3500 قبل الميلاد كانت أنواع عديدة من الحيوانات قد استؤنست بالفعل، إلا أنه لا بد أن فكرة امتطاء حصان والتحكم في حركاته كانت مجازفة من ناحية البدو الرحالة الذين حققوا هذا الإنجاز بعد عام 4500 قبل الميلاد في سهوب أوراسيا شمالي وشرقي بحر قزوين.
لا شك أن الشعوب المتحضرة في الأمريكيتين صدموا صدمة بالغة حين ظهر الغزاة الإسبان في دروع حربية كاملة، ممتطين الخيل التي أحضروها معهم عبر الأطلنطي في أوائل القرن السادس عشر؛ فلم يكن الأمريكيون الأصليون قد رأوا خيلا من قبل، ولم يكونوا قد شهدوا قط بشرا على صهوة هذه الحيوانات الضخمة. وكما يمكن لأي شخص سبق له رؤية جواد وفارس وهما يقتربان ركضا أن يشهد، فالإنسان على صهوة الجواد يبدو باهرا، بل وقد يكون منظره مهيبا ومخيفا.
بمجرد النجاح في تربية الخيل من أجل استئناسها، ظلت هذه الحيوانات عنصرا رئيسيا في الحروب المنظمة لأكثر من ثلاثة آلاف سنة، بل في الواقع لم تأت نهاية التاريخ الطويل لاستخدام الخيل في الحروب إلا في القرن العشرين، مع اختراع محرك الاحتراق الداخلي ونجاح حرب المدرعات في الحرب العالمية الأولى.
المدن والدول والإمبراطوريات
استغرقت تقنية الزراعة وقتا طويلا حتى تصل لأقصى درجات تطورها، وهي العملية التي بدأت بإقامة مستوطنات النتوفيين الدائمة ولم تكتمل إلا بعد آلاف السنوات باستئناس الحبوب والأشجار المثمرة والأغنام والماعز والماشية والخيل. على النقيض، يبدو كأن نشأة الحضارة المدنية قد وقعت بين ليلة وضحاها، مع انتشار مدن عديدة في أنحاء العالم القديم خلال قرون قليلة فقط قبل عام 3000 قبل الميلاد وبعده.
وقع هذا التحول السريع والهائل في حياة البشر حين اندمجت عدة عوامل - ومنها الكثافة السكانية، والطبيعة الجغرافية المواتية لوديان الأنهار، والتخصص الحرفي، والابتكارات في تقنيات النقل والاتصالات - لينتج عنها حالة متقلبة وغير مستقرة تعرف باسم «حلقة التغذية الراجعة الموجبة»، التي من الممكن أن تسبب تغيرات كبرى في فترات زمنية قصيرة على غير العادة.
من الأمثلة على حلقة التغذية الراجعة الموجبة بداية التدافع في قطيع الماشية، الذي قد يبدأ بذعر حيوان واحد فقط؛ مما يؤدي إلى ذعر الحيوانات المجاورة له، ثم يصيب الذعر كل الحيوانات القريبة منها، حتى ينتشر الذعر في القطيع بأكمله خلال لحظات.
أتاح تطور القوارب والمركبات ذات العجلات وأنظمة الكتابة للناس التفاعل عبر الزمان والمكان دون الحاجة للالتقاء وجها لوجه. وقد يسرت تقنيات التفاعل هذه نمو مراكز تجارية وسياسية كبيرة مع ازدياد كفاءتها. وقد حفزت هذه المراكز بدورها ظهور تقنيات نقل واتصالات جديدة وأكثر كفاءة؛ مما أتاح للمدن الناشئة النمو أكثر فأكثر . وسريعا، لأول مرة في تاريخ البشر، بدأت أعداد كبيرة جدا من الناس، بعضهم في المدن وبعضهم في الريف، يعملون كأفراد في مجتمع واحد متضامن.
كانت مدن العالم القديم مثل خلايا نحل تعج بالنشاط، يسكنها الحرفيون والتجار وموظفو الدولة والجنود ورجال الدين والزعماء السياسيون، لكنهم جميعا اعتمدوا على المزارعين والرعاة في المناطق المحيطة للحصول على غذائهم. في الوقت ذاته، كان سكان الريف يعتمدون على المدن من أجل المزايا التي أتاحها المجتمع المتحضر، ومن هذه المزايا المنسوجات والفخار والأثاث والأدوات والأسلحة وغيرها من المنتجات التي كانت تصنع في متاجر حرفيي الحضر، والبضائع التجارية التي كانت تجلب من مناطق بعيدة، والرجوع في الأمور الدينية إلى رجال الدين المتفرغين، والنظام الاجتماعي الذي وضعته الإدارة المدنية، وإمكانية الحماية العسكرية ضد عمليات الهجوم والسرقة والخطف والقتل التي كانت شائعة في المجتمعات الأكثر بساطة في العصور السابقة.
ورغم أن بعض هذه المجتمعات المتحضرة كانت تسمى «مدنا»، بينما كانت تسمى أخرى «دولا»، وتسمى غيرها «إمبراطوريات»، لم تكن الاختلافات بينها هائلة كما توحي الاختلافات بين الأسماء الثلاثة. وقد أشارت التقديرات إلى أن نحو 85 في المائة من سكان المجتمعات المتحضرة كافة على مر التاريخ كانوا من منتجي الغذاء الزراعي، بينما كانت نسبة الخمس عشرة في المائة المتبقية من أصحاب المهن الحضريين الذين جعلوا المجتمع المتحضر ممكنا. وقد وجدت كل مدينة من المدن القديمة أنه من الضروري أن تسيطر على حركة البضائع والناس بين الريف والمدينة؛ لضمان أن يتوفر دائما مورد غذاء ضخم وثابت لسكان المدينة؛ حتى يتمكن سكان الريف من الاعتماد على المدن في المنتجات والخدمات والحماية العسكرية التي كانوا يحتاجون إليها.
نشأ نوع المجتمع الذي نسميه «دولة» حين زاد سكان الحضارات المدنية لدرجة لم تعد معها بإمكان أسرة أو عشيرة أو قبيلة واحدة إدارة شئون المجتمع. وشجع هذا على تكوين الأنظمة البيروقراطية والطبقات الحاكمة التي كانت قائمة في المقام الأول على اشتراكهم في المواطنة كأعضاء في حضارة مدنية محددة بدلا من أن تقوم على صلاتهم العائلية أو اشتراكهم في العشيرة أو انتماءاتهم القبلية.
رغم أن معظم المجتمعات التي نعتبرها «دولا» اشتملت على مراكز مدنية متعددة، فإنه دائما ما كان يوجد مدينة واحدة مهيمنة تؤدي وظيفة «عاصمة» الدولة. على سبيل المثال، من الشائع أن ينسب الفضل إلى الفرعون مينا في «التوحيد» بين مملكتي مصر القديمة الشمالية والجنوبية لتصير أمة واحدة، أما الواقع فهو أن هذه الدولة القديمة تكونت حين غزا مينا وادي النيل بأكمله بالقوة؛ فكانت مصر الجديدة «الموحدة» تحكم من مركز مدني واحد، مدينة منف، الواقعة حيث يتشعب الجزء العلوي من النيل إلى العديد من الجداول والقنوات الأصغر حجما التي تكون دلتا النيل الكبرى.
أما فكرة «الإمبراطوريات» فقد ولدت حين غزت جيوش بعض الدول المدن والأراضي الخاضعة لحكم ثقافات أخرى؛ فحين غزا مينا طيبة ووحد مصر كلها، لم ينتج عن ذلك تكوين «إمبراطورية»؛ لأن قطري مصر الشمالي والجنوبي كليهما تجمعهما ثقافة مشتركة، شملت هذه الثقافة لغة مشتركة، ونظام كتابة مشتركا، واعتناق ديانة مشتركة، وعادات متشابهة في الزراعة، وتربية الحيوانات، وصناعة الفخار، والتعدين، ونقل المياه، وبناء المنازل. لكن لم يكتف الفراعنة ببسط سيطرتهم على ثقافة وادي النيل وحدها، وبنوا إمبراطوريات في نهاية المطاف بالتوسع في حكمهم جنوبا إلى النوبة، وشرقا عبر شبه جزيرة سيناء، وشمالا على امتداد سواحل البحر المتوسط حتى سوريا والحدود الجنوبية لتركيا.
تميز تاريخ الحضارات القديمة بفترات من السلام والرخاء تناوبت مع حروب وغزوات وإخضاع، وقد نشأت الإمبراطوريات التي أسستها الغزوات العسكرية حين كانت بعض الحضارات المدنية تغزو ثقافات أخرى وتفرض عليها خراجا، لكن لم تصمد أي من هذه الإمبراطوريات أكثر من بضعة قرون؛ إذ يتكون التاريخ القديم بالأحرى من سلسلة لا تنتهي فيما يبدو من الحروب والغزوات والائتلافات، وفترات من النمو والاستقرار، يتبعها فترات من الانحلال والفساد وسوء الإدارة والتدهور، ثم أخيرا العودة إلى الحرب. خلاصة القول، كانت أهم الاختلافات بين المدينة والدولة والإمبراطورية هي أن الدولة كانت دائما ما تشمل أكثر من مدينة - رغم أن العاصمة كانت دوما سائدة ومسيطرة بشكل أساسي - أما الإمبراطورية فكانت في العادة تضم أكثر من ثقافة واحدة.
ورغم هذه الاختلافات، فإن الطبيعة الجوهرية للمجتمع المدني كانت ثابتة ثباتا ملحوظا؛ فالسلطة والثروة كانتا متمركزتين في المدن، بينما الغذاء والمواد الخام، وفي بعض الحالات العمالة، كانت تتدفق من قرى الريف إلى المراكز المدنية. ومع إحلال مجموعة من الحكام محل مجموعة أخرى، ظل سكان الريف يزرعون محاصيلهم، ويربون حيواناتهم، ويرسلون إنتاجهم إلى المدن في شكل ضرائب وخراج. وفي الوقت ذاته، ظل سكان المدينة يصنعون أشياء، ويتاجرون مع المناطق البعيدة، ويمارسون السلطات العسكرية والسياسية والدينية التي ربطت هذه الحضارات معا في نسيج واحد.
رقم دنبار والاندماج الكبير
عند التدقيق في تتابع ممالك المجتمعات المتحضرة وأسرها الحاكمة ودول مدنها وإمبراطورياتها، قد نغفل بسهولة عن حقيقة أنها كانت إلى حد كبير أكبر الجماعات البشرية التي اندمجت في جماعات اجتماعية موحدة على الإطلاق؛ فمع تطور الزراعة اتسعت الجماعات البشرية من عشرات الأفراد الذين كانوا يشكلون مجموعة الرحالة إلى مئات الأفراد الذين كانوا يعيشون معا في بلدات العصر الحجري الحديث وقراه، إلا أن ظهور الحضارة المدنية مثل عملية أكبر كثيرا من الاندماج الاجتماعي، هي الأعظم في تاريخ البشرية قبل تكون الدولة القومية الصناعية الحديثة.
تكونت أغلب الحضارات القديمة من مجتمعات بلغ عدد أفرادها نحو مئات الآلاف، وكان كل مواطنيها يعترفون بنفس القادة، ويعدون أنفسهم أعضاء في نفس الثقافة، وكانوا يتفاعلون بصفتهم أفرادا في نفس الجماعة الاجتماعية. وهذا تطور جدير بالملاحظة بالتأكيد، حين نضع في الاعتبار أن المخ البشري قد يكون غير قادر بطبيعته المادية على أن يستوعب أكثر من 150 علاقة مكتملة في نفس الوقت.
في عام 1992م، درس اختصاصي علم الإنسان التطوري، روبين دنبار، العلاقة بين حجم المخ وحجم الجماعة في عدة أنواع من الرئيسيات؛ فوجد أن الأنواع ذات الأدمغة الأكبر حجما كانت قادرة على الحفاظ على أكبر الجماعات الاجتماعية المتماسكة، بينما كانت تلك الأنواع ذات الأدمغة الأصغر حجما قادرة على الحفاظ على أصغر الجماعات الاجتماعية المتماسكة فقط. وقد تصور نموذجه الرياضي أن الجماعات البشرية تظل مترابطة حتى يصل عدد أفرادها إلى 150 فردا تقريبا، مع وضع حجم المخ البشري في الاعتبار. وهكذا يكون رقم 150، الذي صار يسمى «رقم دنبار»، هو تقريبا أقصى عدد من العلاقات المكتملة التي يمكن لإنسان عادي أن يحافظ عليها في نفس الوقت.
9
ويتكرر ظهور رقم دنبار في كل أنواع الجماعات الاجتماعية البشرية؛ فهو متوسط عدد بطاقات التهنئة بالكريسماس التي عادة ما يرسلها الإنجليز إلى قائمتهم المفضلة من الأصدقاء والأقارب. وهو الحد الأقصى الفعلي لقرى اليانومامي والأميش، الذي عادة ما تنفصل بعده إلى وحدات جديدة أصغر حجما. وما يزال هذا العدد منذ قرون هو الحجم المعهود للسرية العسكرية، بل إنه حتى الحجم المثالي للمكتب الحديث، الذي عند تجاوزه تتكون الشلل والفرق التي ينتج عنها تنافر واختلال بين شاغليه. ويعكس رقم دنبار القدرة الفطرية للذهن البشري على إقامة علاقات معقدة. وعلى كل حال، لم يكن البشر بحاجة على مر ملايين سنين التطور في سبيل الحفاظ على علاقات مكتملة إلا لبضع عشرات من الأقارب الذين كانت عادة ما تتكون منهم جماعة الصيد وجمع الثمار.
وبالإضافة إلى عشرات قليلة من العلاقات المتكاملة، يوجد أيضا الناس الذين نعرفهم ولكن قد لا يربطنا بهم أي نوع من العلاقة. فكم عدد الأسماء والوجوه المختلفة التي تستطيع التعرف عليها أو تذكرها؟ من شبه المؤكد أن الإجابة ستكون أقل من ألفين. في قرى المجتمعات الزراعية التي يقل سكانها عن ألفي شخص، يعرف كل شخص كل شخص آخر تقريبا ويألفه. لكن بمجرد عبور هذا الحد، وزيادة المجموعة البشرية عن ألفي فرد، يزيد عدد الأشخاص الذين يعدون أغرابا بعضهم عن بعض.
عدد الألفين شخص الأكبر هذا هو أيضا قدرة ذهنية فطرية؛ فقد تطور في عصور ما قبل التاريخ بدافع حاجة كل فرد للتعرف على أفراد الجماعات الاجتماعية الأخرى التي كان يتواصل معها أحيانا: المعارف العابرة، وأصدقاء الطفولة، وشركاء التجارة العابرون، والأشخاص الذين تربطهم بالفرد قرابة بعيدة، وأعضاء جماعات الصيد وجمع الثمار الأخرى. هكذا كانت القدرة على التعرف على هويات من خمسمائة إلى ألفي شخص وتذكرها هي كل ما احتاج إليه عضو مجتمع الصيد وجمع الثمار على الإطلاق.
لكن حين توسعت قرى العصر الحجري الحديث الزراعية إلى مدن أكبر حجما زاد عدد سكانها عن ألفي شخص، فكانت القدرة على معرفة أعضاء مجتمع واحد بأكملهم والتعرف عليهم مما يفوق الحدود الطبيعية للمخ البشري. ورغم ذلك، فإن الثقافات القبلية التي نشأت خلال العصر الحجري القديم العلوي مع ظهور التواصل الرمزي مكنت الناس الذين قد يكونون أغرابا من الشعور بحس جماعي بالانتماء والتضامن. وكان تكون القبائل والأعراق هو ما مكن غرباء بلدات العصر الحجري الحديث الكبيرة من الثقة بعضهم في بعض والتفاعل بارتياح بعضهم مع بعض، حتى إن لم يكونوا جميعا على معرفة شخصية.
إلا أن تحول المجتمع البشري إلى حضارات مدنية انطوى على اندماج كبير بين الناس والمجتمعات في جماعات كبيرة، لدرجة أنه لم يكن ممكنا الارتباط بعلاقات شخصية مع أكثر من نسبة صغيرة منهم. لكن القدرة البشرية على التضامن القبلي كانت توحي بأنه لا يوجد حرفيا حد أقصى للحجم الذي قد تصل إليه الجماعة البشرية. وإذا اعتبرنا سنة 3000 قبل الميلاد هي الوقت الأقرب إلى اندماج كل عناصر الحضارة المدنية الذي أطلق شرارة هذا التحول الجديد، فإن الأمر لم يستغرق إلا خمسة آلاف سنة حتى تسيطر الدول القومية الكبرى، التي استحوذت على كل شبر من العالم المأهول، على البشرية بأسرها. •••
كان من ثمار الحضارات المدنية الجديدة دراسة الرياضيات والفلك والفلسفة والتاريخ والأحياء والطب، وهي التي طورت تقنيات التعدين والحدادة والمعمار والنجارة وبناء السفن والأسلحة وارتقت بها بدرجة كبيرة، كما اخترعت فن الكتابة وعلم الهندسة العملي. كذلك فإنها ابتكرت الأشكال الحديثة من الدراما والشعر والموسيقى والرسم والنحت. وهي التي أقامت الترع والطرق والجسور والقنوات المقنطرة والأهرامات والمقابر والمعابد والأضرحة والقلاع والحصون بالآلاف في جميع أرجاء العالم، وهي التي بنت السفن التي أبحرت في عرض البحار وطافت حول الكرة الأرضية في النهاية. ومن ثقافاتها انبثقت الديانات العالمية الكبرى؛ المسيحية والبوذية والكونفوشيوسية والإسلام والهندوسية، وهي التي ابتكرت كل شكل من أشكال حكومة الدولة والنظام السياسي التي نعرفها، بدءا من الأنظمة الملكية الوراثية وصولا إلى الأنظمة الديمقراطية التمثيلية.
وقد تبين أن الحضارات المدنية الجديدة بمنزلة محركات ديناميكية للتجديد، وخلال بضعة آلاف من السنوات فقط حررت البشرية من القيود التي ورثتها من ثقافات الصيد وجمع الثمار الغابرة.
لكن حين اخترع صانعو الساعات في أوروبا خلال العصور الوسطى تقنية الآلات الدقيقة في سعيهم لاختراع ساعات دقيقة بحق، أطلقوا بهذا العنان لعملية من التطور الثقافي جعلت المجتمع البشري في النهاية يتحول تحولا أكثر اكتمالا وأكثر عمقا من أي من التحولات التقنية التي وقعت من قبل. وسوف نتناول هذا التحول السابع - الذي ما يزال يشكل الحياة اليومية لكل البشر الموجودين على قيد الحياة في الوقت الحاضر - وذلك في الفصل التالي من هذا الكتاب.
الفصل الثامن
تقنية الآلات الدقيقة
الساعات والمحركات والمجتمع الصناعي
التراث الباقي لصانعي الساعات الأوائل كان التقنية الأساسية للأدوات الآلية، رغم أن ذلك لم يخطر قط في أذهانهم.
دانيال جيه بورستين، «المكتشفون»
حين وجه إمبراطور أسرة مينج الحاكمة، وان لي، دعوة إلى الأب ماتيو ريتشي لزيارة البلاط الإمبراطوري للصين في عام 1601م، كان الأب ريتشي وزملاؤه اليسوعيون أوائل الأوروبيين الذين يدخلون المدينة المحظورة. في ذلك الوقت كان الأب ريتشي، أحد القساوسة اليسوعيين في إيطاليا، يؤدي مهمة تبشيرية في جنوب الصين استمرت قرابة عشرين عاما. وكان قد نجا من شروع أحد الحشود الغاضبة البطش بإرساليته قرب كانتون، وبعد وصوله بفترة قصيرة ألقي القبض عليه وسجن مع زملائه اليسوعيين وهو في الطريق للعاصمة الصينية في بيكين.
غير أن الإمبراطور وان لي تذكر التماسا سابقا وعد فيه ريتشي بإحضار هدية عبارة عن ساعتين حملهما بعناية طوال الطريق من فينيسيا، فأمر بإطلاق سراح ريتشي ورفاقه وإحضار الساعتين إلى القصر الإمبراطوري. أراد وان لي أن يرى هذه الآلات الأوروبية الغريبة، التي قيل إنها تعمل وحدها لأيام وتدق أجراسها لإعلان مرور الساعات.
فحص وان لي ساعتي الأب ريتشي في مسكنه الخاص لعدة أيام قبل وصول اليسوعيين، وكان الإمبراطور مفتونا بهذه الآلات التي لم ير لها مثيلا قط، لكن مع وصول ريتشي ورفاقه إلى البلاط الإمبراطوري كانت أكبر الساعتين قد توقفت عن العمل، وحين حضر اليسوعيون شدد عليهم بضرورة إعادة الساعة للعمل فيما لا يزيد عن ثلاثة أيام وإلا تحملوا عواقب ذلك. ولحسن الحظ، كانت الساعة قد توقفت فقط لأنها كانت بحاجة إلى إعادة ملئها.
أفلحت هدايا ريتشي - وقدرة اليسوعيين على التنبؤ بالوقت المحدد لكسوف الشمس ومدته بدقة أكبر كثيرا من علماء فلك البلاط - في أن تكفل للأب ريتشي ورفاقه حظوة في بلاط مينج. وقد شيد برج خاص للساعة الكبيرة في أحد الأفنية الداخلية للقصر الإمبراطوري، ووضعت الساعة الصغيرة في مسكن وان لي الخاص.
وقد قال الأب ريتشي عن ساعة الإمبراطور: «إنها أفحمت كل الصينيين؛ فقد كانت عملا لم يشهد له نظير أو يسمع به، ولم ترد حتى تصورات بشأنه في التاريخ الصيني.» ولم يكن تقدير وان لي لعلم الأوروبيين وحرفيتهم من دون مكافأة؛ إذ ظل ماتيو ريتشي طوال تسعة الأعوام التالية وحتى وفاته عام 1610م يتلقى راتبا سخيا من الإمبراطور، كما شغل مكانة مميزة في البلاط الصيني. وعند وفاته خرج وان لي عن تقاليد أسرة مينج التي كانت تقتضي عدم دفن الأجانب في الأراضي الصينية، بل أمر أيضا ببناء معبد بوذي على شرف ريتشي في قلب بيكين، حيث ما زال رفاته هناك حتى اليوم.
غير أن وان لي واليسوعيين لم يكونوا على علم بأن ثمة ساعة عملاقة بديعة التفاصيل، تعمل بطاقة تدفق المياه من ساقية طولها إحدى عشرة قدما قد بنيت في الصين قبل ذلك بخمسمائة عام. كانت هذه الآلة الرائعة قائمة في برج طوله أربعون قدما، وكانت من ابتكار الموظف الحكومي العبقري سو سونج من أجل إمبراطور أسرة سونج، شينزونج، عام 1094 ميلادية. وعند وفاة شينزونج أهملت ساعة سو سونج المائية، وصهرت أجزاؤها الآلية البرونزية في النهاية لتصير خردة.
الساعات المائية العديدة التي صنعها سو سونج ومن جاء بعده على مر القرون كانت جميعها آلات فريدة من نوعها بناها عدد من الحرفيين الكبار إرضاء للبلاط الإمبراطوري. أما ساعتا الأب ريتشي، من جهة أخرى، فقد كانتا ثمرة صناعة كاملة، اشتغل بها جيش من الحرفيين المهرة ظلت تنمو بثبات طوال ثلاثمائة عام وانتشرت في أنحاء أوروبا.
في السنوات التي تلت وصول ريتشي، صارت الساعات وساعات الجيب الأوروبية جزءا من تجارة مزدهرة مع البلاط الإمبراطوري الصيني، وبحلول ستينيات القرن الثامن عشر تناقل الآباء اليسوعيون خبرا عن القصر الإمبراطوري قالوا فيه: «إنه يعج بالساعات وساعات الجيب والمصلصلات (مجموعات الأجراس) والساعات العدادة والأراغن والمحلقات (آلات فلكية قديمة مؤلفة من حلقات تمثل مواقع الدوائر الرئيسية في الكرة السماوية) والساعات الفلكية بجميع أنواعها وأوصافها؛ فهناك أكثر من أربعة آلاف قطعة ابتكرتها أيدي أفضل صانعي باريس ولندن.» وكان سفير شركة الهند الشرقية الهولندية في بيكين قد أشار قرب نهاية القرن الثامن عشر إلى أنه عند السفر إلى بيكين؛ «لا بد على وجه الخصوص من إحضار تلك اللعب [الساعات] التي يستخدمها الصبية الأوروبيون في اللهو؛ فهذه الأشياء ستحظى هنا باهتمام أكثر كثيرا من الأدوات العلمية والقطع الفنية.»
1
ورغم أن الصين كانت أكبر كثيرا من أي كيان سياسي عرفه الأوروبيون منذ سقوط روما، ورغم أن الحضارة الصينية طالما كانت متفوقة على الحضارة الأوروبية في مجالات متعددة في الصناعة والنقل والنظام الحكومي والأدب، كان صانعو الساعات الأوروبيون في ذلك الوقت الحرفيين الوحيدين في العالم القادرين على صناعة ساعات شديدة الدقة وصغيرة بدرجة كافية لوضعها على مائدة أو حملها في الكف. كان السبب الأساسي وراء ذلك هو أن الجهود المتواصلة على مدار أجيال قد دفعت بصانعي الساعات الأوروبيين للتفوق على صانعي الأدوات المعدنية في كل المجتمعات المتحضرة الأخرى في مجال واحد بعينه: صناعة الآلات الدقيقة.
نبع الحافز لتطوير الساعات الآلية من الهوس الأوروبي الفريد والخاص بمراعاة الوقت؛ الهوس الذي ألهم صانعي ساعات أوروبا خلال العصور الوسطى لإتقان تقنية الآلات الدقيقة في سعيهم إلى صنع ساعات دقيقة بحق. ومثل التموجات في البحيرة، انتشرت توابع الآلات الدقيقة في كل مجال من مجالات حياة البشر لتحول كل شيء تلمسه.
فقد جعلت الآلات الدقيقة في الإمكان تصنيع أنواع شتى من الآلات التي لم يأت البشر على ابتكارها من قبل: المحركات البخارية، وآلات الطباعة، والأسلحة البعيدة المدى، والمولدات الكهربائية، وأسلاك التلغراف، والتلسكوبات والمجاهر - وهلم جرا - وقد أدت أوجه التضافر التي جاءت مع ما نتج من توسع في المعلومات والعلوم والصناعة والقوة العسكرية إلى ولادة مجتمع من نوع جديد، غير قائم على طاقة البشر والحيوانات المحدودة، وإنما على طاقة الوقود الحفري التي تبدو غير محدودة. وقد بدأ الأمر برمته في العصور الوسطى مع اختراع الساعة الآلية.
عبقرية صانع الساعات
كان أوروبيو العصور الوسطى شعبا ورعا، وكانوا يعدون تلاوة الصلوات الواردة في كتاب فروض الصلوات اليومية في أوقاتها الصحيحة أمرا شديد الأهمية؛ ولهذا السبب احتوت كل الكنائس والأديرة المتعددة في ذلك العصر على برج للجرس، وكان على الرهبان قرع هذه الأجراس في ساعات محددة من الليل والنهار لإعلام المؤمنين عندما تحين أوقات تلاوة صلواتهم. غير أن الساعات الرملية والساعات المائية التي كان يستخدمها الرهبان في أوائل العصور الوسطى عرف عنها أنها لا يعول عليها وغير دقيقة. في الواقع، كان الإغريقيون والرومان والهنود والصينيون يستخدمون المزاول والساعات المائية والساعات الرملية والشموع والساعات البخورية لحساب الوقت منذ العصور السحيقة، لكن كلا من هذه الوسائل كانت به عيوب خطيرة.
كانت المزاول دقيقة فقط حسب دائرة العرض - أو المسافة من خط الاستواء - التي صممت من أجلها، وكانت تصير غير ذات نفع على الإطلاق طوال الليل ومتى غشي السحاب الشمس. أما الساعات المائية - باستثناء القليل منها التي كانت ضخمة في حجم أبنية متعددة الطوابق - فقد كانت تعتمد في سبيل دقتها على تساقط قطرات الماء ببطء من خلال ثقب صغير في قاع إناء. لكن حيث إن قطرات الماء تتدفق ببطء أكثر حين يكون الإناء شبه فارغ من الماء مقارنة بتدفقه حين يكون ممتلئا به، فقد كان من النادر أن تكون الساعة المائية دقيقة. كذلك، كثيرا ما كانت بعض الشوائب أو الفضلات تستقر في ثقب التقطير ، فكانت الساعة تتوقف تماما.
ولم تكن الساعة الرملية أفضل حالا؛ فالساعات الرملية مصممة لحساب فترات زمنية قصيرة فقط؛ لذلك كانت أغلبها تحسب عشرين دقيقة فحسب أو أقل، فلكي يكون حجم الزجاجة كافيا لقياس ساعة واحدة لا بد لأن تكون كبيرة وثقيلة وهشة لدرجة خطيرة. والأسوأ أن الساعة الرملية حتى تحسب أكثر من وحدة زمنية، كان لا بد من قلبها رأسا على عقب في كل مرة ينفد فيها الرمل. من ناحية أخرى أعطى البخور المشتعل طريقة دقيقة لدرجة مدهشة لحساب مرور الوقت ؛ لذا انتشر استخدام الساعات البخورية في أنحاء آسيا طوال قرون، غير أن الساعات البخورية شابها عيب فريد، وهو استهلاك نفسها في عملية تحديد الوقت؛ فبعد احتراق البخور إلى الحد الذي صمم من أجله كان لا بد من وضع كمية جديدة محله، وإلا فلن تخبر الساعة بالوقت.
هكذا، في وقت ما بين عامي 1200 و1300 ميلادية، وفي استجابة لرغبة الكنيسة في ساعات أكثر دقة، بدأ حرفيو أوروبا العصور الوسطى صنع ساعات آلية من المعدن. كانت هذه الساعات الآلية الثورية تعمل بقوة أثقال مدلاة من سلاسل، وهذه القوة هي التي تدير تروس الساعة. وكانت تنظم سرعة تدوير التروس آلية تسمى ميزان الساعة تتناوب القبض على كل سن من أسنان ترس معين وإفلاته. وحركة ميزان الساعة هي المسئولة عن صوت التكة المميز لكل الساعات الآلية.
أتاح ميزان الساعة لهذه الساعات الآلية الجديدة قابلية إخبار الوقت بدقة غير مسبوقة، فمثلت تقدما هائلا في التحمل والدقة مقارنة بكل تقنيات ضبط الوقت التي استخدمتها المجتمعات المتحضرة منذ العصور القديمة، غير أنه لم تكن أي من هذه الساعات مزودة بعقارب أو مينا، وإنما كانت تخبر بالوقت برنين الأجراس (حتى إن كلمة
clock
الإنجليزية جاءت من الكلمة الألمانية
Glocke ، التي تعني «جرس»). ولم يشع استخدام مينا الساعة المألوف لدينا - بعقرب للساعات وعقرب للدقائق يدوران داخل قرص دائري يحمل اثني عشر رقما - حتى عام 1700م، بعد أكثر من أربعمائة عام من تركيب أول ساعات آلية في أبراج كنائس أوروبا وأديرتها.
بالإضافة إلى ذلك، لم تكن أي ساعة من الساعات الأولى مزودة ببندول؛ فقط كان ما ينظم ميزان الساعة في ساعات العصور الوسطى عوضا عن ذلك ذراع دوارة تسمى قضيب التوازن تتأرجح على عامود يسمى محورا. كانت سرعة الساعة ينظمها حركة الأثقال المعلقة في طرفي قضيب التوازن سواء للداخل (مما كان يجعل القضيب يدور أسرع) أو للخارج (وهذا كان يجعله يدور أبطأ)، لكن لم يكن ميزان الساعة ذو القضيب والمحور دقيقا جدا بمعاييرنا، وكان من المألوف أن تقدم هذه الساعات القديمة أو تؤخر عدة دقائق يوميا (انظر شكل
8-1 ).
شكل 8-1: : ظل ميزان «المحور وقضيب التوازن» (أ) يستخدم طوال 350 سنة، لكن حل محله في النهاية البندول وميزان الساعة «ذو المثبت» و«اللاارتجاعي» (ب) و(ج) الأكثر دقة. ((أ): ساعة دي فيك ذات المحور والقضيب لبيير ديبوا، مصرح بنشرها تحت بند الملكية العامة من خلال موقع ويكيميديا كومونز. (ب): ميزان الساعة ذو المثبت لجورج هنري أبوت هازليت، مصرح بنشرها تحت بند الملكية العامة من خلال موقع ويكيميديا كومونز. (ج): ميزان الساعة اللاارتجاعي لفريدريك جيه بريتين، مصرح بنشرها تحت بند الملكية العامة من موقع ويكيميديا كومونز.)
لكن شعوب العصور الوسطى كانوا يعرفون الوقت بالساعة فقط، فلم يكونوا يأبهون لدقة الدقائق. لذلك، كان ميزان الساعة ذو القضيب والمحور دقيقا بدرجة كافية من أجل الأغراض العملية. لكن هذا كان النوع الوحيد من الساعات الموجودة حين قدم الأب ريتشي هداياه إلى الإمبراطور وان لي، وظلت تستخدم في كل الساعات الآلية طوال 350 عاما على الأقل. ولم يعف الزمن على التصميم الأساسي لساعة العصور الوسطى إلا مع اختراع البندول وميزان الساعة ذي المثبت والميزان اللاارتجاعي في القرن السابع عشر.
حين كان عالم الفلك والرياضيات والفيزياء الإيطالي جاليليو جاليلي في التاسعة عشرة من عمره انتابه الفضول إزاء حركة مصباح المذبح المتأرجح في الكنيسة، حين لاحظ أن المصباح دائما ما يتأرجح بنفس معدل السرعة، سواء كانت مسافة التأرجح كبيرة أو صغيرة. وقد كتب جاليليو عن هذه الظاهرة عام 1602م، لكنه لم يضع تصاميم أول ساعة ببندول قبل عام 1641م، بمساعدة ابنه فينشينزو، بعد أن هرم وصار كفيفا. ورغم أن ساعة جاليليو ذات البندول لم تنفذ قط، فإن عالم الرياضيات والفلك الهولندي كريستيان هويجينز الذي صنع أول ساعة ببندول عام 1657م قد أعادها إلى الحياة. وقد تبين أن ساعة البندول أدق عشر مرات من سابقتها، ومع هذه الدرجة الكبيرة من الدقة شاع أخيرا استخدام عقرب الدقائق، الذي لم يكترث أغلب صانعي الساعات بإضافته إلى مينا الساعة قبل ذلك الوقت.
أهم تبعات الهوس الأوروبي بالوقت على الإطلاق كان إنشاء ساعات دقيقة احتاجت آلات قادرة على صنع مكونات دقيقة ومتقنة؛ فقد كانت الساعات الآلية تحتاج إلى عجلات وأعمدة تدوير وأسطوانات كاملة الاستدارة والاستقامة حتى تسير بسرعة ثابتة. وكان لا بد أن توزع أسنان التروس على مسافات متساوية، وكل سن لا بد أن تكون بنفس الحجم والشكل بالضبط. أما الزنبركات التي كانت تشغل ساعات الأزمنة اللاحقة فكان يتعين صنعها بسمك موحد بدقة، وصلابة موحدة بدقة. وكل البراغي الصغيرة التي كانت تربط أجزاء الساعة بعضها ببعض كان لا بد أن تصنع بحيث تلائم الثقوب الملولبة التي صنعت من أجلها، فأن القطع المصنوعة يدويا التي كان يشكلها الحدادون منذ فجر التعدين كانت بعيدة كل البعد عن دقة الأشكال الهندسية، مهما بلغت براعتهم في حرفتهم؛ من ثم لم يكن من الممكن أن يصنع حرفي ساعة آلية دقيقة بحق وهو لا يستخدم سوى الأدوات اليدوية.
في بداية صناعة الساعات كانت صناعة ساعة واحدة تستغرق شهورا - بل وفي بعض الأحيان سنوات - من العمل بمهارة، وفي أغلب الأحيان كان الصانع الذي صنع الساعة فعليا هو وحده القادر على صيانتها أو إصلاحها. لهذا السبب، فإن حاجة صانعي الساعات إلى آلات دقيقة وحاجة الناس المتزايدة إلى الساعات الآلية، دفعت الحرفيين الأوروبيين إلى البدء في اختراع أجهزة خاصة تسمى «أدوات تشغيل»، وهي آلات مصممة لتشكل أجزاء من آلات أخرى.
شملت صناعة آلات أو أدوات التشغيل الجديدة مخارط لصنع قطع تامة الاستدارة، ومثاقب لصنع ثقوب دقيقة، وآلات تفريز لجعل الأسطح مستوية تماما، ومجموعة متنوعة من المناشير والمطاحن وماكينات القشط وماكينات التشكيل التي لم تكن تعمل يدويا، وإنما بأجهزة خاصة مركبة على قضبان أو مسارات. وهكذا لم يكن صانعو ساعات أوروبا في العصور الوسطى مسئولين مباشرة عن اختراع أول آلات تشغيل فحسب، بل وكذلك عن سائر الأنواع الأخرى العديدة من الأجزاء الدقيقة التي كانت آلات التشغيل قادرة على تشكيلها.
ومع استمرار علم الآلات الدقيقة في التطور ظهرت تخصصات جديدة؛ فأثناء تعلم صانعي الساعات كيفية صنع الساعات تعلموا أيضا كيف يصنعون أدوات علمية، وصمموا سدسيات وبوصلات من أجل الإبحار، وأسطرلابات ومزاوي من أجل عمليات المسح، وموازين دقيقة لقياس الأوزان. وابتكر صانعو العدسات عدسات دقيقة، وصنعوا تلسكوبات من أجل رؤية الأجرام السماوية، ومجاهر من أجل رؤية الأشياء التي يصعب رؤيتها بالعين المجردة لصغر حجمها، ونظارات لتحسين الرؤية لدى ضعاف البصر.
كل هذه الأدوات والكثير غيرها حفز التطورات الهائلة في العلم التي حدثت مع اقتراب نهاية العصور الوسطى وتبني أوروبا فلسفات البحث العلمي الجديدة التي ازدهرت حتى عصر النهضة. في الواقع، كانت النهضة ذاتها إلى حد كبير نتيجة للانتشار الواسع للمعلومات الذي بدأ في أوروبا في نهاية القرن الخامس العشر. وقد حدث هذا التدفق في المعلومات حين طبقت مبادئ الآلات الدقيقة على فن الطباعة القديم.
مطبعة جوتنبرج
في منتصف القرن الخامس عشر، اكتشف الحداد الألماني يوهانس جوتنبرج أن سبيكة القصدير والرصاص والأنتيمون بالنسب الملائمة يمكن بسهولة صهرها وصبها في مصفوفة من القوالب البالغة الصغر؛ قالب واحد لكل حرف من الحروف الأبجدية. وأتاح هذا جمع سطور الطباعة من حروف منفصلة، فيما عرف باسم «حروف الطباعة المتحركة». على عكس ذلك، كانت الطباعة بالقوالب الخشبية - أكثر وسائل الطباعة انتشارا في ذلك الوقت - تحتم على عامل الطباعة حفر صفحة كاملة من النصوص والرسوم في قالب خشبي واحد.
ورغم أن فضل اختراع حروف الطباعة المتحركة دائما ما ينسب إلى جوتنبرج، فإن هذا النوع من الطباعة كان قد بدأ فعليا في الصين قبل ذلك بأربعمائة عام، في شكل بلاطات صغيرة جدا من الخزف. لكن بما أن الكتابة الصينية كانت تستخدم عادة خمسة آلاف حرف على الأقل، فقد كان يتعين على عاملي الطباعة الاحتفاظ بمخزون هائل من البلاطات. وكان هذا معناه أن عامل الطباعة الصيني كان عليه أن يبحث بحثا بطيئا وشاقا في هذه القوائم الهائلة عن كل بلاطة يحتاجها ليكمل كل سطر من النص. على النقيض من ذلك، لم تحتو الأبجدية اللاتينية المستخدمة في أنحاء أوروبا الغربية إلا على بضع عشرات من الحروف المتباينة. وكان هذا معناه أنه عندما أصبحت حروف طباعة جوتنبرج المتحركة متوافرة بوجه عام، صار بإمكان منضد الطباعة جمع سطور عديدة من النص بسرعة ويسر.
تبين أن سبائك الرصاص والقصدير والأنتيمون التي توصل إليها يوهانس جوتنبرج مناسبة تماما للطباعة بفلزات الصب، حتى إنها ظلت الصيغة المعيارية للطباعة من وحدات الحروف الطباعية المتحركة حتى يومنا هذا. كذلك ابتكر جوتنبرج وصفة لحبر زيتي كان يترك أثرا قويا وثابتا على الورق. وأخيرا وليس آخرا، نجح جوتنبرج في تعديل المكبس اللولبي ليلائم مهمة الطباعة على الورق. كان المكبس اللولبي - الذي يعمل بضغط سطحين معا عن طريق برغي رأسي يدار باليد - يستخدم في شكل بدائي أكثر منذ الأزمنة القديمة في معالجة المنتجات الزراعية، مثل استخراج العصارة من العنب والزيت من الزيتون، وكان يستخدم في أوروبا بالفعل في زمن جوتنبرج في طباعة الرسومات على القماش (انظر شكل
8-2 ).
شكل 8-2: كان المكبس اللولبي يستخدم منذ العصور القديمة، لكن الآلات الدقيقة أتاحت ليوهان جوتنبرج وآخرين استخدام المكبس اللولبي في مهمة الطباعة على الورق. (يظهر في الصورة ويليام كاكستون وهو يعرض عينات من طباعته للملك إدوارد الرابع وملكته. مصرح بنشرها تحت بند الملكية العامة من خلال موقع ويكيميديا كومونز.)
لكن لجعل المكبس اللولبي قادرا على طباعة النصوص على الورق، كان لا بد من إدخال تعديلات ميكانيكية على أسطوانة الطابعة - وهي صفيحة كبيرة مسطحة تضغط بالورق على سطح الطباعة المحبر - حتى تكون مسطحة وموازية تماما لسطح الطباعة. هذا وإلا ستكون بعض أجزاء الورقة المطبوعة داكنة أكثر من أجزاء أخرى، وربما تصير أجزاء أخرى باهتة جدا بحيث تتعذر قراءتها. الآلات الدقيقة التي كانت متوافرة في عصر جوتنبرج مكنته من تصميم مكبس لولبي بدقة كافية لإعطاء نسخ واضحة ومتسقة من المادة المطبوعة.
عندما دمج جوتنبرج بين حروف الطباعة القابلة للتحرك والحبر الزيتي والمكبس اللولبي الدقيق الصنع، فإن ذلك أطلق العنان لنمو هائل في المواد المطبوعة. وسريعا ما انتشرت المعرفة انتشارا ممتدا وواسعا، وهو ما صار ممكنا بفضل فيض من الكتب والمنشورات الزهيدة والوفيرة التي أصدرتها آلات الطباعة في أوروبا، وكان هذا الانتشار سببا رئيسيا للصحوة الفكرية في عصر النهضة؛ فخلال الخمسين عاما بين عامي 1450 و1500م، طبع في أوروبا أكثر من اثني عشر مليون كتاب بقليل. وبعد ذلك بثلاثة قرون، خلال الخمسين عاما بين عامي 1750 و1800م، زاد هذا الرقم لأكثر من 625 مليون كتاب، وكان هذا قبل إنشاء المدارس العامة وانتشار تعميم تعليم القراءة والكتابة.
في أوروبا خلال العصور الوسطى، كان القليلون الذين يعرفون القراءة والكتابة في أغلبهم رهبانا يعملون ناسخين في الأديرة، إلا أن انتشار مواد القراءة خلال عصر النهضة شجع المزيد والمزيد من الناس على تعلم القراءة، وأصبحت مهارة القراءة والكتابة - التي كانت قد ظلت طوال تاريخ البشر مهارة مهنية خاصة بالناسخ - في النهاية مهارة يتوقع من كل شخص إجادتها.
في الوقت ذاته، أتاحت التطورات في الآلات الدقيقة التي كانت مقدمة للثورة الصناعية العديد من التطورات في تصميم آلات الطباعة في السنوات التالية لعام 1800م. شملت هذه التطورات اختراع آلة الطباعة التي تعمل بالبخار، وآلة الصف الميكانيكي، والطباعة الحجرية، والطباعة الحجرية الملونة. ولم يكن أي من هذا ليتأتى دون تطور الآلات الدقيقة بداية. وقد زادت هذه التطورات من سرعة عملية الطباعة مع تخفيض تكاليف المواد المطبوعة بدرجة هائلة.
ولم يمض وقت طويل قبل أن تصير ظاهرة الجريدة المحلية أمرا شائعا في أنحاء العالم الصناعي، وهو ما تبعه لاحقا ظاهرة المجلة الشعبية. ظهرت الجريدة اليومية أول ما ظهرت في أوروبا في العقد الأول من القرن السابع عشر، وفي الأمريكتين في العقد الأول من القرن الثامن عشر. وفي عام 1800م كان ينشر في أمريكا ثلاث عشرة مجلة. ومع حلول عام 1900م زاد هذا الرقم إلى 3500، وفي تلك السنة نشر أكثر من ثمانية مليارات نسخة من الجرائد والمجلات في الولايات المتحدة وحدها.
2
الأفران العالية والوقود الحفري
حين صارت ساعة البلدة من ضروريات الحياة في أواخر العصور الوسطى، لم يعد بوسع أي مدينة أو بلدة أوروبية معتدة بنفسها أن تستغني عنها. وبحلول عام 1450م كان يوجد خمسمائة ساعة على الأقل في أبراج الكنائس والأديرة الأوروبية، وبعد قرن آخر كان يوجد الآلاف منها. وكانت كل هذه الساعات ضخمة للغاية، ذات تروس كبيرة وسميكة تدور على محاور هائلة، تتحرك تحت تأثير أثقال ضخمة مدلاة من سلاسل ثقيلة. ولم تكن كل ساعة من هذه الساعات ضخمة في حجمها فحسب، وإنما كانت تستخدم كمية كبيرة للغاية من المعادن؛ إذ كانت ساعة البلدة العادية في تلك الأيام تحتوي على طن أو أكثر من الحديد أو الصلب العالي الجودة.
أفرز انتشار هذه الساعات الضخمة الثقيلة حاجات جديدة للتزود بمعادن عالية الجودة، وشجع هذا على مزيد من التقدم في صهر الحديد والصلب وتشكيلهما. فلم يعد كافيا طرق كتل الحديد الخام الشديد الحرارة ليصير في أشكال أولية يمكن تشكيلها لتكون معدات وأدوات وأسلحة من الحديد المطاوع. واستلزم إنتاج كميات كبيرة من الحديد والصلب أفرانا أكبر كثيرا في حجمها وأعلى كثيرا في حرارتها من أفران الصهر التي كانت شكلا معدلا من أفران حرق الفخار التي كانت تستخدم منذ الأزمنة القديمة. ورغم أن رواسب خام الحديد كانت وفيرة نسبيا في أوروبا، فإن الأفران اللازمة لصهر الحديد والصلب لم يكن أمرها هينا بالمرة.
في نهاية الأمر أدت الحاجة إلى إنتاج كميات متزايدة من الحديد والصلب العالي الجودة مباشرة إلى انتشار استخدام الفرن العالي، وهو جهاز مرتفع الحرارة لصهر الحديد اخترعه في الأصل الصينيون في القرن الأول الميلادي. بدأ ظهور الفرن العالي في شمال أوروبا في القرن الثالث عشر، وانتشر في أنحاء أوروبا بعد عام 1500. كان الفرن العالي يملأ بخام الحديد والفحم النباتي والحجر الجيري، ويحمى لدرجات حرارة شديدة الارتفاع بنار يذكيها كير أو مصدر آخر للهواء المدفوع. وكان الخليط الخام يصهر ويكرر في التفاعل الكيميائي للهواء الساخن المندفع في قاع الفرن تحت ضغط مرتفع.
مع انتشار الأفران العالية في أوروبا ارتفع الطلب على الفحم النباتي ارتفاعا حادا، فإن إنتاج الفحم النباتي كان يحتاج كمية هائلة من الخشب. ولم يكن الخشب يوفر فقط المادة الخام الأساسية التي كانت تتحول إلى فحم نباتي بالتعرض للحرارة في بيئة خالية من الأكسجين، لكنه كان ضروريا أيضا للحفاظ على اشتعال النيران لعدة ساعات من أجل تسخين الأفران التي كانت تنتج الفحم النباتي النهائي. وبحلول منتصف القرن السابع عشر، كانت مصانع الحديد في بريطانيا وحدها تستهلك خمسة عشر مليون قدم من الأشجار سنويا (انظر شكل
8-3 ).
3
شكل 8-3: فرن عال يعمل بالحطب من النوع الذي شاع استخدامه في أوروبا في القرن السادس عشر.
علاوة على تزايد الطلب على لحاء الأشجار من أجل دبغ الجلود، وعلى الخشب من أجل صناعة الفحم النباتي والصابون والزجاج، كان الأوروبيون في ذلك الوقت يقطعون الأشجار لتلبية حاجات تعدادهم السكاني المتزايد؛ فقد أزيلت غابات بالكامل من أجل تمهيد الأرض للزراعة، وبناء منازل جديدة - وفي بعض الحالات بلدات كاملة - ولبناء السفن الضخمة الصالحة للإبحار في المحيطات التي احتاجها الأوروبيون من أجل تجارتهم البحرية السريعة التوسع. ومن الأمثلة العديدة على ذلك أنه بحلول عام 1700م قدر الأسطول الملكي البريطاني الأخشاب اللازمة لبناء سفينة خطية واحدة بأربعة آلاف شجرة بلوط كاملة النمو.
4
مع زيادة كل هذه الحاجات إلى الأخشاب في أوروبا عاما بعد آخر، سرعان ما استنفدت مؤن الأخشاب اللازمة لصناعة الفحم النباتي، ومع بدايات القرن الثامن عشر أزيلت الغابات فعليا من المساحات المأهولة على نحو كثيف بالسكان في أوروبا. بدأ جديا حل هذه المشكلة باستخراج الفحم الحجري في القرن الثامن عشر في إنجلترا، إلا أن محاجر الفحم الحجري نفسها كانت تعاني من عدد من المشكلات التقنية. وكما سنرى ، سرعان ما أدت إحدى هذه المشكلات، وهي تكرار غرق المناجم في المياه الجوفية، إلى بداية الثورة الصناعية.
كان الفحم الحجري قد استخدم على نطاق واسع في شمال الصين ومنغوليا منذ عام 2000 قبل الميلاد، وكان معروفا لدى قدماء الإغريق والرومان الذين كانوا يستخرجون الفحم ويستخدمونه في تدفئة منازلهم وبيوتهم الريفية وحماماتهم العامة. وكان الرومان يعلمون تماما بوجود فحم في بريطانيا، وكانوا يستخرجونه بكميات كبيرة، لكن حين غادر الرومان بريطانيا عام 410 ميلاديا توقف استخراج الفحم الحجري، ولم يستخرج مجددا في بريطانيا طوال سبعمائة سنة تقريبا. وظل الخشب طوال العصور الوسطى يؤدي دوره على أكمل وجه كمصدر للحرارة، وأثبت الفحم النباتي المصنوع من الخشب أنه مثالي من أجل صهر خام الحديد. أما الفحم الحجري من ناحية أخرى فقد كان يصدر عنه دخان مؤذ، وكان يعد ضارا بصحة الإنسان، حتى إن حرق الفحم الحجري داخل حدود مدينة لندن حظر بمرسوم ملكي عام 1306م.
وطوال التاريخ القديم للتعدين عد الفحم الحجري غير مناسب بالمرة لصهر الحديد؛ لأنه على عكس الفحم النباتي - الذي يكاد يكون كربونا خالصا - من الممكن أن يكون مليئا بالشوائب، مثل القطران والكبريت والطفل والكوارتز والطباشير والملح وعدة معادن أخرى، وكلها من الممكن أن تعكر بسهولة خام الحديد وتفسد عملية الصهر. حين كان الفحم الحجري يستخدم كوقود في الأفران العالية، كان ينتج حديدا رديء النوع؛ هشا وضعيفا ويصعب التعامل معه. لكن خلال العقد الأول من القرن السابع عشر اكتشف أنه من الممكن تنقية الفحم الحجري من شوائبه العديدة وتحويله إلى وقود صلب وقوي ومسامي ونظيف الاحتراق يسمى فحم الكوك، بحرق فحم حجري عالي الجودة بطريقة مشابهة لإنتاج الفحم النباتي من الخشب. وفي عام 1709م نجح الإنجليزي أبراهام داربي في صهر الحديد في فرن عال يحرق فحم الكوك بدلا من الفحم النباتي.
وكان لابتكار داربي البسيط آثار بعيدة المدى؛ فقد رفع أولا العبء عن احتياطي الغابات المتضائل من الأخشاب ليجيز لأول مرة إنتاج حديد عالي الجودة في العديد من المناطق التي كانت قد صارت خالية من الغابات بشكل خطير في أوروبا لكنها ثرية بالفحم الحجري. وثانيا: كانت نار الفحم النباتي المستخدمة قديما في الصهر قد تخمد عند إنزال كمية زائدة من خام الحديد فوقها، أما فحم الكوك بما يتمتع به من متانة مادية أكثر فيستطيع تحمل أوزان أثقل من الخام. وهذا جعل من الممكن وضع كميات أكبر بكثير من خام الحديد في الفرن في المرة الواحدة. ونتيجة لهذا، سرعان ما بنيت أفران أكبر بكثير مما كان ممكنا من قبل، وقد أعطت هذه الأفران الجديدة إنتاجا أكثر بنفس استثمار الوقت والجهد. وأخيرا، كان استخراج الفحم الحجري وتحويله إلى فحم الكوك أرخص كثيرا من إزالة غابات كاملة وقطع الأشجار من أجل إنتاج فحم نباتي من الخشب.
كان الأثر الكلي المترتب على هذه التطورات انخفاض سعر الحديد انخفاضا مطردا، الذي سرعان ما بدأ استخدامه في عمل طائفة متزايدة من الأشياء المصنعة، تراوحت من الأواني والمقالي البسيطة وصولا إلى الجسور الحديدية العملاقة. وطوال العقد الأول من القرن الثامن عشر شهد استخراج الفحم الحجري توسعا هائلا، وفتحت مناجم فحم جديدة في جميع أرجاء أوروبا. وقد وفر انتشار مناجم الفحم أكثر من مجرد مصدر جديد للطاقة لصهر الحديد؛ فرغم أنه لم يكن بإمكان أحد في ذلك الوقت توقع هذا، فقد كان ثمة مشكلة شائعة تؤثر على أغلب مناجم الفحم، وظلت دون حل حتى اختراع المحرك البخاري؛ أحد أهم الآلات الدقيقة التي أحدثت تحولا، والآلة التي أدت إلى حدوث الثورة الصناعية، أكثر من أي آلة أخرى.
مناجم الفحم الحجري والمحركات البخارية
أغلب مناجم فحم العصور القديمة والوسطى كانت تستخدم عروق الفحم الموجودة قرب السطح، لكن بعد قرون من التعدين استنزف أغلب مناجم الفحم ذات الحفر المفتوحة هذه. بناء على ذلك، كانت تحفر آبار أسفل الأرض، لسحب عروق الفحم الواقعة في أعماق الأرض، لتلبية الطلبات المتزايدة على الفحم الحجري. لكن كثيرا ما كان يجب أن تمر مناجم الفحم العميقة هذه من خلال طبقات هائلة من المياه الجوفية، حيث كانت تقبع كميات وفيرة من المياه أسفل السطح. وحين كانت آبار مناجم الفحم وأنفاقها تمر من خلال هذه الطبقات، كانت تيارات هائلة من الماء تتدفق إلى المناجم لتغرق المناطق التي كان يستخرج منها العمال عروق الفحم.
هكذا ابتكرت طرق متنوعة لضخ الماء خارج مناجم الفحم، كان أهمها المضخة المسلسلة، وهي سلسلة من الأقراص أو الدلاء المربوطة بسلسلة تدور حول بكرات كبيرة، تتحرك حركة مستمرة داخل أنبوب أفقي كبير. ودائما ما كان يدير المضخة المسلسلة زوج من الخيول، غير أن الطاقة التي كان بإمكان الخيول منحها لضخ الماء من مكان سحيق لمكان مرتفع كانت محدودة، وسرعان ما شرع المخترعون البريطانيون في تجربة استخدام البخار لتحقيق هذه المهمة البالغة الأهمية.
ففي عام 1712م صنع رجل إنجليزي يدعى توماس نيوكومين جهازا أسماه «محرك الضغط الجوي»، كان يستخدم البخار تحت الضغط لتشغيل مكبس وأسطوانة يضخان الماء خارج المناجم. رغم صنع أدوات عديدة تستخدم البخار لتوليد طاقة آلية مثل اللعب والتحف منذ أزمنة قديمة، فإن محرك نيوكومين الجوي كان أول محرك يوظف طاقة البخار في استخدام عملي. وحين مات نيوكومين عام 1729م كان قد ركب أكثر من مائة محرك ضغط جوي في مناجم الفحم والقصدير، أغلبها في إنجلترا وويلز، وكذلك أدخل القليل منها في دول أوروبية أخرى؛ فقد ركب أول محرك ضغط جوي في فرنسا عام 1725م لضخ الماء من نهر السين لاستخدامه من جانب سكان باريس.
بيد أن محرك الضغط الجوي كان به عيب خطير؛ إذ كان لا بد من تسخين البخار بداخل الأسطوانة وتبريده بالتناوب من أجل رفع المكبس وإنزاله. ولم يكن هذا يهدر كميات كبيرة من الوقود فحسب، وإنما كان كذلك يحد بشدة من السرعة التي كان يستطيع أن يعلو بها المكبس وينخفض داخل الأسطوانة. وهكذا رغم النجاح التجاري لمحرك الضغط الجوي، فإنه لم يكن يحقق سوى نصف ما هو مطلوب لتطويع قوة البخار.
فرغم أن محرك الضغط الجوي كان قادرا على رفع مكبسه وخفضه بقوة كبيرة، لم يكن قادرا على تحويل حركة المكبس المتذبذبة إلى الحركة الدوارة التي جعلت الساقية مصدرا مفيدا للطاقة الميكانيكية (في الواقع، استخدم أحد محركات نيوكومين في ضخ المياه من بركة أسفل ساقية إلى خزان، حيث كانت المياه تتدفق منه لتعود إلى البركة، لتدير الساقية أثناء ذلك). وقد حاول المخترع الإنجليزي جيمس بيكارد التغلب على هذا القصور، فألحق حدافة بمكبس محرك الضغط الجوي عن طريق ذراع تدوير، الأداة المستخدمة منذ قديم الزمن، وفي عام 1780م وفق بيكارد في تسجيل براءة اختراع تصميمه المزود بذراع التدوير والحدافة.
للأسف كان محرك الضغط الجوي غير مناسب لغرض تدوير السواقي؛ لأن مكبسه وأسطوانته البدائيين كانا قادرين على التحرك مرة واحدة فقط كل خمس ثوان . وكان هذا معناه أن أقصى سرعة للساقية المتصلة بمكبس محرك الضغط الجوي كانت لا تتجاوز اثنتي عشرة دورة في الدقيقة، وهي سرعة بطيئة لدرجة مؤسفة لأي محرك دوار. وقد كانت براءة اختراع بيكارد عقبة خطيرة في سبيل صانع الآلات الأسكتلندي، جيمس واط، الذي كان قد سجل بالفعل براءة اختراع تصميم محرك بخاري أكثر كفاءة بكثير.
أدخل واط تعديلين مهمين على التصميم الأساسي لمحرك نيوكومين؛ فكان التعديل الأول هو السماح للبخار بالاندفاع من الأسطوانة إلى حيز للتكثيف والتبريد مع كل ضربة؛ مما أزال الحاجة إلى تبريد الأسطوانة الأساسية وتسخينها مرارا وتكرارا حيث كانت تهدر الطاقة؛ فقد كان محرك الضغط الجوي يستهلك في عملية إعادة تسخين الأسطوانة وقودا أكثر مما يستخدمه في إعطاء قوة آلية.
وكان التعديل الثاني الذي أدخله واط هو غلق الجزء الخلفي للأسطوانة بغطاء كاتم للضغط، بما يتيح لذراع المكبس وحده بالبروز من ثقب محكم في مركز هذا الغطاء؛ مما جعل البخار يدخل قاع الأسطوانة أولا، دافعا المكبس لأعلى لقمة شوطه، ثم يدخل أعلى الأسطوانة، ضاغطا المكبس لأسفل مرة أخرى. هذه الحركة المزدوجة، التي أعطت الأسطوانة شوطي قدرة بدلا من شوط واحد، ضاعفت قوة المحرك البخاري فعليا دون زيادة في الحجم أو الوزن.
وفي عام 1775م كون واط شراكة مع رجل الأعمال وصاحب المصنع الإنجليزي ماثيو بولتون لصناعة محركه البخاري المعدل، غير أنه كان لا يزال هناك عقبة أخيرة لا بد من التغلب عليها؛ إذ لم تكن المكابس والأسطوانات الضخمة في المحركات البخارية الأولى مشكلة بدقة كافية بحيث تكون محكمة لدرجة تمنع تسرب الهواء؛ مما كان يجعل البخار يتسرب مع كل شوط ليقلل من قوة المحرك وكفاءته بدرجة كبيرة. وقد حل هذه المشكلة صانع مدافع من ويلز يدعى جون ويلكنسون؛ إذ كان قد توصل إلى طريقة لثقب المدافع ثقوبا دقيقة طبقها على ثقب الأسطوانات الضخمة التي في محركات واط الأولى، التي كان أولها مزودا بمكبس تجاوز عرضه أربع أقدام كان يتحرك صعودا وهبوطا داخل أسطوانة بلغ ارتفاعها أربعا وعشرين قدما .
كانت باكورة محركات واط البخارية متقدمة كثيرا عن محركات الضغط الجوي الخاصة بنيوكومين، وقد أنجزت نفس قدر العمل باستخدام ربع الوقود. وقد ترتب على ذلك أن صار محرك واط سريعا الآلية المفضلة لضخ الماء من مناجم الفحم. بيد أن الحركة البسيطة المتذبذبة لهذه المحركات القديمة كانت مناسبة فقط للعمل الذي يتطلب حركة صاعدة هابطة، مثل ضخ المياه أو رفع مطرقة وإنزالها بالتناوب في المسبك الآلي. فكان لا بد من اتخاذ الخطوة الأخيرة: كان لا بد من تحويل الحركة المتذبذبة للمكبس والأسطوانة إلى الحركة الدائرية اللازمة لتوفير الطاقة لمصانع نشر الأخشاب ومطاحن الدقيق ومصانع المنسوجات التي انتشرت طوال القرن الثامن عشر في أوروبا.
وكان بولتون هو من أقنع واط بتزويد مكبس محركه البخاري المعدل بحدافة عن طريق ذراع، إلا أن بيكارد كان قد سجل براءة اختراع تلك الفكرة بالفعل. لكن واط المبدع رفض مشاركة بيكارد واستطاع التحايل على براءة اختراع بيكارد بربط مكبس محركه البخاري المعدل بحدافة ذات ترس «كوكبي» تعمل بمبدأ مختلف عن مبدأ الذراع البسيط. وقد أثبت محرك واط الجديد نجاحا ساحقا، وجعلته شراكته مع بولتون التي استمرت خمسة وعشرين عاما ثريا طيلة حياته.
كان لنجاح واط في اختراع محرك بخاري يولد حركة دائرية بسرعات مرتفعة نسبيا أعظم الأثر؛ فقد حرر المجتمع الأوروبي من اعتماده القديم على السواقي المائية - التي لا يمكن وضعها إلا في مناطق محددة يتوفر فيها مصدر مضمون بالمياه المتدفقة التي يمكن استغلالها - وكذلك طواحين الهواء، التي كانت تعتمد على هبوب الرياح المواتية وتحولها، وهو ما كان صعب التنبؤ به. ولأول مرة كان من الممكن وضع مصدر الطاقة الدوارة أينما عظمت الاستفادة منها.
هكذا أمكن بناء مصانع المنسوجات أينما كان الموقع أفضل. وأصبح من الممكن بناء مصانع نشر الأخشاب ومطاحن الدقيق على ضفاف أنهار هادئة وصالحة للملاحة ومستعدة لاستقبال أحمال الغلال والأخشاب التي تجلبها الصنادل والقوارب النهرية. وقد جعلت رواسب الفحم وخام الحديد العديدة المنتشرة في أنحاء الجزر البريطانية من بريطانيا مكانا مناسبا لتطور الصناعات القائمة على الحديد والصلب والفحم الحجري والبخار.
كان أعظم الآثار المترتبة على اختراع محرك بخاري ناجع ذات حركة دوارة تأثيره الهائل على وسائل النقل برا وبحرا؛ فحين ألحق المحرك البخاري بعجلة ضخمة مزودة بمجاذيف خشبية، نشأت السفينة البخارية. وحين ركب المحرك البخاري في عربة كبيرة وثقيلة مصنوعة بالكامل من الصلب ووضعت على قضبان من الصلب، نشأت السكك الحديدية. ومن بين نتائج المحرك البخاري الدوار الكثيرة، لا بد أن نعد السفينة البخارية والسكك الحديدية بين أكثرها إسهاما في التحول؛ فقد أحدثتا معا ثورة في السفر والتجارة على مسافات بعيدة، وأتاحا أكبر تحول في طبيعة المجتمع البشري منذ نشأة الحضارة المدنية منذ آلاف السنين.
محركات النقل
ظلت السفينة الشراعية لآلاف السنين تحت رحمة رياح البحر، التي قد تهب في تقطع وبغتة من عدة اتجاهات مختلفة. في أوائل القرن التاسع عشر، قبل بناء أول سفينة بخارية عابرة للمحيطات، كان من المألوف أن تستغرق الرحلة من أوروبا إلى أمريكا بالسفينة الشراعية شهرين بحرا في المتوسط. على النقيض من هذا، قامت باخرة، «جريت ويسترن»، أول باخرة بعجلات تجديف تبنى خصوصا لعبور المحيط الأطلنطي، برحلتها الأولى من إنجلترا إلى نيويورك في أبريل عام 1838م في ستة عشر يوما، ومع حلول عام 1875م كان هناك أسطول من السفن البخارية ذات الهياكل الحديدية - مزودة بمحركات بخارية ودافعات مروحية متطورة بدلا من عجلات التجديف - يعبر الأطلنطي في سبعة أيام بصفة منتظمة. كذلك صارت الرحلات الأخرى التي كانت تستغرق شهورا من السفر بحرا إلى أمريكا الجنوبية وأفريقيا والهند والشرق تقطع في نسبة ضئيلة من الزمن السابق. ترتب على هذا أن شهد السفر والتجارة بين القارات زيادة هائلة في القرن التاسع عشر؛ أي بين عامي 1800 و1900م.
أقيمت أول خدمة سكك حديدية منتظمة بين مدينتين عام 1830م في إنجلترا بين مانشستر وليفربول، وقد أثار نجاح السكك الحديدية في العقود التالية هوسا ببناء الخطوط والقطارات والقاطرات في أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية؛ مما استهلك كميات كبيرة من الحديد والصلب. وهكذا صارت الرحلات التي كانت تستغرق فيما مضى أياما تقطع في ساعات، والشحنات الثقيلة التي كانت تنقلها السفن والصنادل والقوارب النهرية ببطء فيما مضى باتت تحمل على عربات بضائع وتشحن برا في نسبة ضئيلة من الزمن الذي كان يستغرقه النقل بالقوارب.
حين عدل صانعو الآلات والمخترعون في أواخر القرن الثامن عشر فن صناعة المكبس والأسطوانة اللذين أصبحا أكثر دقة - وربطوا المكبس بعمود ذراع تدوير دقيق الصنعة - تحولت حركة المكبس المتذبذبة إلى حركة دوارة متصلة، ونشأ «المحرك الترددي». كان المحرك البخاري هو المحرك الترددي الأساسي للقرن التاسع عشر، وسرعان ما صار مصدر الطاقة الأول للمصانع والسفن والسكك الحديدية الأوروبية، غير أن المحرك الترددي كان متجها نحو مستقبل أكثر غرابة وتحولا.
كان المحرك البخاري محركا تردديا دقيقا آليا، حيث كان الوقود يحرق خارج المكبس والأسطوانة، وذلك بحرق الأخشاب أو الفحم الحجري أو فحم الكوك لتسخين المياه في غلاية وتحويلها إلى بخار. وبمجرد أن أدخل المخترعون الأوروبيون تحسينات على المحرك البخاري بدءوا يطرحون فكرة حرق الوقود داخل المحرك. وسرعان ما أتم مهندسون من دول عديدة تصميمات لفكرة محرك الاحتراق الداخلي الجديدة تماما. كانت معظم هذه المحركات تعمل بإشعال كمية صغيرة من الوقود داخل الأسطوانة مباشرة، وكان الهدف أن تؤدي القوة الناتجة عن الغازات المتمددة التي يسخنها احتراق الوقود إلى دفع المكبس إلى الأمام وتدوير الذراع على حدافة.
في زمن مبكر عام 1807م، نجح الشقيقان الفرنسيان نيسيفور وكلود نييبس في الإبحار لمنبع نهر ساون على متن قارب يعمل بمحرك احتراق داخلي يدور بخليط من أبواغ الطحالب وغبار الفحم والراتنج.
5
وقد منح نابليون بونابرت محركهما براءة اختراع على هذا الإنجاز. وتتابعت تجارب أخرى استخدم فيها غاز الهيدروجين وروح التربنتين وقودا. وقد أعقب هذه التجارب محاولات ناجحة أكثر فأكثر طوال القرن التاسع عشر أجراها مخترعون سويسريون وأمريكان وبريطانيون وفرنسيون وألمان وبلجيكيون باستخدام غاز الفحم - أحد المنتوجات الثانوية عن عملية تحويل الفحم الحجري إلى فحم الكوك، والغاز الرئيسي المستخدم في الإضاءة خلال عصر مصابيح الغاز - لتشغيل محركات الاحتراق الداخلي.
وأخيرا نجح المخترع الألماني نيكولاس أوتو في تصميم محرك يعمل بالغاز بالقوة والمتانة الكافيتين للإنتاج التجاري؛ فقد فتح أوتو عام 1864م مصنعا لإنتاج محركات الاحتراق الداخلي، وبحلول عام 1875م كان قد باع ما يزيد عن ستمائة محرك يعمل بالغاز. لكن نظرا لأن إمدادات غاز الفحم كانت تأتي عن طريق أنابيب معدنية مدفونة في الأرض، فلم يكن المحرك الذي يعمل بالغاز مناسبا إلا للمنشآت الثابتة، ولم يكن بمصدر الطاقة العملي للمركبات الآلية.
لكن في عام 1884م صمم المهندس البريطاني إدوارد بتلر أول محرك بنزين حديث، مضاف إليه ملف إشعال وشمعة إشعال ومكربن. وركب بتلر محركه في عربة ذات ثلاث عجلات أسماها الدراجة، كانت أقصى سرعاتها عشرة أميال في الساعة، لكن لم يستطع بتلر أن يجد عملاء لدراجته بسبب قانون الراية الحمراء المعيب الذي أصدرته بريطانيا عام 1865م، الذي قرر سرعة للمركبات ذاتية الحركة بحد أقصى ميلين في الساعة في المناطق السكنية وأربعة أميال في الساعة في الريف. وكان تجاوز هذه السرعات يستلزم أن يمشي شخص أمام المركبة حاملا راية حمراء؛ لذا فقد دمر بتلر اختراعه عام 1896م، وباع المعدن خردة، وتخلى عن سعيه لصنع مركبة آلية، وكرس ما تبقى من حياته لتصميم محركات احتراق داخلي للقوارب.
وفي نهاية المطاف كان المهندسون الألمان هم من نجح في حل المشكلات التقنية التي اعترضت سبيل إنتاج سيارة عملية وميسورة التكلفة؛ إذ أقدم جوتليب دايملر وفيلهيلم مايباخ، اللذان كانا موظفين سابقين في مصنع أوتو، على صنع محرك بنزين صغير ركباه في مركبة ذات عجلتين عام 1885م، ليبتكرا بهذا أول دراجة بخارية في العالم. وبدأ كارل بينز إنتاج أول سيارة تجارية عام 1886م، وفي عام 1890م بدأ دايملر ومايباخ كذلك إنتاج سيارات للسوق التجارية.
وأخيرا، نجح رودولف ديزل في اختراع أول نموذج عملي لمحرك كارنو، مستخدما مبادئ الديناميكا الحرارية التي وضعها المهندس العسكري وعالم الفيزياء الفرنسي نيكولا كارنو. نشرت هذه المبادئ قبل ذلك عام 1824م، حين كان كارنو ما زال في السادسة والعشرين من عمره، وكانت تصف عملية احتراق الوقود في الأسطوانة لا عن طريق الاشتعال بشرارة كهربائية، وإنما بالأحرى بالحرارة التي تولدت حين ضغط المكبس الغازات داخل الأسطوانة. ورغم أن حياة رودولف ديزل لم تستمر طويلا، حيث مات ميتة غامضة في البحر عام 1913م، فإن مبدأه صار مخلدا في محرك الديزل الذي حل محل المحرك البخاري منذ ذلك الوقت ليكون المصدر الأول للطاقة في أكبر وأثقل المركبات الحديثة؛ السفن والقاطرات والشاحنات الثقيلة ومعدات تحريك التربة.
مع نهاية القرن التاسع عشر تطورت الصناعات البترولية، التي بدأت بداية متواضعة للغاية في خمسينيات القرن التاسع عشر في أوروبا بصناعة شمع البارافين من النفط الخام لتصبح قوة صناعية رئيسية، وبحلول عام 1880م كان يضخ أكثر من عشرين مليون برميل نفط خام سنويا من آبار النفط في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها. الجمع بين البنزين المستقطر من البترول ومحركات الاحتراق الداخلي ذات الآليات الدقيقة أتاح ابتكار محرك البنزين الحديث: وهو مصدر طاقة خفيف الوزن، وصغير الحجم، وقوي، ويمكن الاعتماد عليه، وموفر. وقد كان محرك البنزين الحديث هو ما أتاح، أكثر من أي آلة أخرى، لمخترعي أوائل القرن العشرين ابتكار كل من السيارة والطائرة؛ اثنتين من تقنيات النقل لمسافات بعيدة قلصت المسافات الفاصلة بين مجتمعات البشر لنسبة ضئيلة من حجمها السابق.
من الرماح النارية إلى الأسلحة النارية
ليست الحروب بظاهرة جديدة أو حديثة في تاريخ البشر ؛ فحتى قردة الشمبانزي، كما رأينا في الفصل الأول، شوهدت بعض مجموعاتها وهي تستولي على الأرض بالقوة، مستخدمة في ذلك عملية شبيهة شبها مذهلا بحروب البشر. ويوحي الدليل الأثري الذي جاء وصفه في الفصل السادس بأن الحروب المنظمة - بما يشمل تشكيل الجيوش والذبح الجماعي لسكان مدنيين - كانت حدثا شائعا في حياة البشر قبل تطور الحضارة المدنية بزمن طويل. لكن حين طبق علم الكيمياء وتقنيات الآليات الدقيقة على تصميم الأسلحة وتصنيعها وأنظمة إطلاقها، سرعان ما بلغت الحروب مستوى من العنف والتدمير غير مسبوق في تاريخ البشر.
بدأ اختراع الأسلحة النارية في الصين في القرن التاسع الميلادي، عندما اكتشف أن ملح البارود - نترات البوتاسيوم الموجودة في الطبيعة - من الممكن إشعاله بسهولة ليحترق بوهج أزرق مميز. وسريعا ما اكتشف الصينيون أنه بخلط ملح البارود المطحون بكميات أصغر من الكبريت والفحم النباتي، من الممكن الحصول على خليط قابل للانفجار أطلقوا عليه البارود الأسود؛ باكورة البارود الحديث. كان ما يميز البارود الأسود أنه أثناء عملية الحرق كان ملح البارود يطلق أكسجينا أكثر مما يستهلكه بالفعل، وهذا الأكسجين الزائد كان يسمح للكبريت والفحم النباتي بالاشتعال حتى حين يكون الخليط داخل وعاء مغلق، كما الحال عندما يكون داخل ماسورة مسدس.
أما الاعتقاد المنتشر بأن الصينيين اخترعوا البارود ولكن استخدموه في صنع ألعاب نارية بغرض التسلية فهو خطأ تماما؛ فبحلول نهاية القرن العاشر الميلادي كان الصينيون بالفعل يملئون أنابيب الخيزران المجوفة بالبارود الأسود لإطلاق قذائف مسممة الرءوس أو مشتعلة تسمى الرماح النارية، وفي بداية القرن الثالث عشر كانوا يستخدمون البارود في صنع القنابل وقاذفات اللهب والصواريخ والمسدسات والمدافع، وكلها كانت تستخدم بكثرة في الحروب. في هذا الوقت لم يكن الأوروبيون يملكون أسلحة نارية، وكانت الأسلحة الأوروبية مقتصرة في الغالب على الخناجر والسيوف والرماح والقضبان الشائكة والسهام وأقواس السهام، بالإضافة إلى مجموعة متنوعة من مدكات البنادق والمجانق التي صممت لدك أسوار الحصون العسكرية والمدن الحصينة.
ظهرت الأسلحة النارية في أوروبا بعد منتصف القرن الثالث عشر، غير أن جميع الأسلحة النارية ظلت لعدة قرون يعتريها عيوب خطيرة جعلت استخدامها محدودا للغاية؛ فقد كانت الأسلحة المحمولة يدويا ثقيلة، وكانت تستغرق عدة دقائق لحشوها بالبارود والقذائف، وكان يجب حملها بيد واحدة أثناء إشعالها بفتيل مشتعل باليد الأخرى، وكانت غير دقيقة لدرجة معيبة، وكانت أحيانا تنفجر في أيادي أصحابها.
لاحقا في القرن السابع عشر ميلاديا، كانت بندقية المسكيت التي كانت تشتعل بالفتيل وتحشى من الفوهة تشعل بفتيل يقدح بكمية صغيرة من بارود الإشعال عند ضغط الزناد. وقد أدرج دليل للجندي الهولندي نشر عام 1607م ما لا يقل عن ثمان وعشرين خطوة مستقلة يجب على الجندي المسلح ببندقية المسكيت اتباعها قبل أن يكون مستعدا لإطلاق طلقة واحدة من بندقية المسكيت ذات الإشعال الفتيلي.
6
بل في الواقع كانت بندقية المسكيت ذات الإشعال الفتيلي تستغرق وقتا طويلا جدا في الحشو وإطلاق النار، حتى إن استخدام الأسلحة النارية في الحروب لم يبدأ يحل مكان الأسلحة التقليدية المحمولة يدويا إلا بعد استحداث المسكيت ذات الزناد الصواني بعد عام 1650م، حيث كان البارود يشتعل من شرارة اصطدام حجر صوان مزود بزنبرك بصفيحة من الصلب.
كانت المدافع أكثر فتكا من المجانق التي كانت تستخدم منذ العصور القديمة في رشق الأهداف المحصنة بصخور هائلة، إلا أن المدافع القديمة كانت ضخمة وثقيلة إلى حد بشع؛ إذ كان المدفع الواحد يزن في المعتاد آلاف الأرطال، ويحتاج إلى عدد كبير من الخيل لنقله إلى مجال إطلاق النار، وقد يستغرق عدة ساعات قبل تنظيفه، وتزويده بالبارود، وحشوه بالقذائف، ويصير جاهزا لإطلاق طلقة واحدة. كذلك لم تكن المدافع غير دقيقة إلى حد بعيد فحسب، لكنها كانت أحيانا أيضا، مثل الأسلحة المحمولة يدويا، تنفجر وتقتل مشغليها بدلا من إطلاق مقذوفاتها.
كانت مشكلة كل الأسلحة النارية الأولى تكمن في طريقة تصنيعها؛ فكانت مواسير البنادق والمدافع الأولى تصنع بصب البرونز أو الحديد المصهور في قوالب، إلا أن عملية صب المعادن المصهورة لا تعطي مواسير ملساء أو دقيقة الاستقامة، ويمكن للاختلالات الصغيرة داخل الماسورة أن تؤثر على مسار القذيفة. علاوة على ذلك، كانت الأسلحة النارية الأولى ينقصها «الحلزنة» التي تدخل في كل الأسلحة النارية الحديثة. والحلزنة هي أخاديد لولبية تجعل القذيفة تبدأ الدوران أثناء اتجاهها إلى نهاية الماسورة؛ مما يجعل مسار الرصاصة مستقيما بدرجة كبيرة، ويزيد من مجال السلاح ودقته للغاية.
لكن تقنية الآلات الدقيقة جعلت من الممكن تجويف ماسورة السلاح الناري بحيث تصبح أنبوبا أملس ومستقيما تماما، وكان هذا التطور، أكثر من أي تطور آخر، هو ما أعطى السلاح الناري فاعليته الفتاكة، وما أبطل أخيرا سيوف ورماح وسهام العصور الغابرة؛ لهذا السبب حين احتاج جيمس واط إلى صنع مكبس وأسطوانة متلائمين بدقة من أجل محركه البخاري الجديد، اتجه إلى جون ويلكنسون صانع المدافع من أجل الحل.
حين اقترن اختراع البارود والأسلحة النارية الصينية بالتطورات الأوروبية في مجال الآلات الدقيقة، انبثق السلاح الناري ليكون أكثر الأسلحة فتكا في تاريخ البشر؛ فبندقية إم-16 القياسية التي يستخدمها الجيش الأمريكي تستطيع إطلاق عشر طلقات من الذخيرة في الثانية بمرمى فعال يصل إلى مساحة ستة ملاعب كرة قدم مصفوفة جنبا إلى جنب. ويستطيع مدفع رشاش الجيش الأمريكي إم-61 أن يطلق مائة طلقة من الذخيرة في الثانية، ويمكن لمدفع الهاوتزر الحديث أن يطلق قذيفة متفجرة يصل قطرها إلى ست بوصات ويحطم هدفا على بعد ثمانية عشر ميلا. وليست هذه سوى ثلاثة من عشرات آلاف الأسلحة النارية المختلفة التي تصنع وتستخدم في الزمن الحاضر، من مسدسات بالغة الصغر يقل طولها عن أربع بوصات إلى مدافع بحرية يتجاوز طولها ستين قدما، ويصل مرماها إلى اثنين وعشرين ميلا، وتستطيع إطلاق قذيفة متفجرة يصل قطرها إلى ست عشرة بوصة، وتزن أكثر من ألفي رطل.
ظل أشباه البشر الأوائل والبشر الناشئون والإنسان الحديث ملايين السنين يواجهون كلهم مشكلة الدفاع عن أنفسهم ونسلهم أمام تهديد الضواري الكبيرة التي كانت تأهل عالمهم وبيئاتهم الطبيعية. وقد تكون الأسلحة الفتاكة التي تعلم بشر ما قبل التاريخ صناعتها مكنتهم من قتل فرائسهم وأعدائهم الطبيعيين وإلحاق الإصابات بهم، لكن تسلح شعوب ما قبل عصر الصناعة بالرماح والرماح الخفيفة والحراب والسهام القديمة فحسب لم يكن يضمن لهم الصمود في مواجهة مع الأسود والببور والدببة والذئاب والأبقار والأفيال ووحيد القرن والفظ والخيول البرية، وغيرها من الحيوانات الخطيرة التي كانوا يقابلونها أثناء الصيد أو الانتقال بمخيماتهم من مكان إلى آخر؛ لذا فقد هلك قبل اختراع الأسلحة النارية عدد لا حصر له من الصيادين وجامعي الثمار والمزارعين والرعاة جراء هجمات من وحوش مذعورة أو هائجة أو مصابة.
غير أن تطور الأسلحة النارية الدقيقة غير كل هذا؛ فلأول مرة في تاريخ البشر تسنى للصائد المعاصر التسلح بسلاح فتاك يمكنه من إحداث إصابات بحيوانات أخرى وقتلها من مسافة بعيدة. فاعلية الأسلحة النارية الحديثة - مع الانخفاض الحاد في حجم المساحات البرية والانتقال المستمر للمجتمعات البشرية من الريف إلى المدن - قضت نهائيا على التهديد المتربص بحياة البشر الذي كان مصدره وجود الحيوانات البرية في بيئتنا. أما في العالم الحديث، فما يهدد حياة البشر وسلامتهم يكاد يأتي فقط من بشر آخرين.
جميع الأشياء تعمل بالكهرباء
في عام 1820م كان عالم الفيزياء الدنماركي هانز كريستيان أورستد يلقي محاضرة حين لاحظ أن إبرة البوصلة تحركت حين سرى التيار الكهربائي في إحدى البطاريات وتوقف. هكذا كان أورستد أول شخص ينشر اكتشاف نشأة مجال مغناطيسي عند تدفق التيار الكهربائي في سلك. ورغم إجراء علماء آخرين تجارب على اكتشاف أورستد العلاقة بين الكهرباء والمغناطيسية، لم يثبت أحد منهم أن اكتشاف أورستد يعمل بالعكس حتى جاء مايكل فاراداي، ابن أحد الحدادين الإنجليز، في ثلاثينيات القرن التاسع عشر الذي أثبت أن المجال مغناطيسي حين يتحرك عبر موصل كهربائي كالسلك مثلا، ينتج عنه تيار كهربائي. وقد أتاحت هذه الظاهرة المسماة بالحث الكهرومغناطيسي لفاراداي ابتكار نماذج عملية من الجهازين الأساسيين في العصر الكهربائي: المولد الكهربائي والمحرك الكهربائي.
قبل العمل الرائد لفاراداي كان المصدر الوحيد المضمون للكهرباء هو أشكالا بدائية من البطارية السائلة، وهي مكونات كبيرة وثقيلة وقابلة للكسر مليئة بكميات خطيرة من حمض الكبريتيك، لكنه من المهم أيضا أن نتذكر أن فاراداي ما كان ليتمكن من صنع المحرك الكهربائي أو المولد الكهربائي لولا تقنيات الآلات الدقيقة؛ فقد أتاحت هذه التقنيات إمكانية تكوين آليات ذات محامل سلسة ومتينة مكنت دواراتها من الدوران بسرعات هائلة وأدنى حد من الاهتزاز، وهو ما كان ضروريا لتعمل المحركات والمولدات بشكل سليم.
بمجرد رسوخ مبادئ الحث الكهرومغناطيسي وتصميم المولدات الكهربائية وتصنيعها بنجاح، صار ممكنا استخدام أي مصدر طاقة دوارة في توليد تيار كهربائي مستمر. وشيدت أول محطة طاقة عامة في جنوب إنجلترا سنة 1881م، تزودها ساقية ماء بالطاقة. ومع نهاية القرن التاسع عشر كانت المولدات الكهربائية التي تعمل بطاقة البخار والماء تبنى في أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية، ومع أوائل القرن العشرين بدأت الكهرباء تنتشر مثل النار في الهشيم في أرجاء العالم المعمور.
سرعان ما أدت الطاقة الكهربائية الميسورة التكاليف إلى ظهور طائفة من التقنيات الجديدة التي غيرت وجه الحياة البشرية تماما؛ فالمصاعد الكهربائية - الأقوى والأكفأ كثيرا من المصاعد السابقة الهيدروليكية والتي تعمل بالبخار - أتاحت إقامة مبان عالية، وهكذا نشأت ناطحات السحاب. ولأول مرة في تاريخ البشر أتاح التلغراف - ولاحقا الهاتف - للناس التواصل في الحال عبر آلاف الأميال. وحملت قطارات الأنفاق ملايين الناس للعمل يوميا من خلال أنفاق تحت الأرض، وانطلقت حافلات الترام في شوارع المدن الرئيسية في العالم.
وحولت الإضاءة الكهربائية الليل من عالم معتم تضاء فيه المصابيح والشموع المرتعشة إلى عالم اللمبات الكهربائية التي أضاءت الليل على نحو غير مسبوق على الإطلاق؛ لتحرر البشرية من اعتمادها القديم على شروق الشمس وغروبها. وأحدث التبريد تحولا تاما في صناعة الغذاء؛ إذ أتاح نقل اللحوم والدواجن والأسماك آلاف الأميال وتجميدها لأسابيع وشهور دون أن تتعفن. وغير تكييف الهواء حياة كل من يعيشون في المناطق ذات المناخ الحار؛ لتعطيهم حرية العمل واللهو في برودة منعشة. وأذن دخول الإذاعة والسينما والتلفاز - التي لم يكن أي منها ليتأتى لولا الكهرباء - ببداية عصر وسائل الإعلام.
في الوقت ذاته بلغت أدوات العالم الصناعي المميكنة أوجها؛ إذ تحررت من السيور والبكرات وأعمدة التدوير الضخمة الخطيرة التي ظلت تستخدم طويلا في نقل الطاقة من المحركات البخارية إلى خطوط تجميع المصانع، غير أنه حتى عام 1900م كان المحرك البخاري ما زال يوفر أكثر من 80 في المائة من الطاقة المستخدمة في التصنيع، بينما كانت المحركات الكهربائية توفر أقل من 10 في المائة، لكن بعد أربعين عاما انعكست هاتان النسبتان تماما؛
7
فخلال ذلك الوقت كانت الأدوات المميكنة الحديثة كلها تعمل بطاقة المحركات الكهربائية، وأثناء ذلك صارت أصغر حجما وأخف وزنا وأكثر قابلية للحمل، وأكثر كفاءة عن الجيل السابق من الأدوات المميكنة التي كانت تعمل بطاقة المحركات البخارية، أو الأجيال السابقة لذلك التي كانت تعمل بالأيادي والأقدام البشرية التي كانت تدير الأذرع والطواحين. وخلال أقل من مائتي عام أدى الانتشار الواسع للوقود الحفري والمحركات الترددية والكهرباء - التي صارت كلها ممكنة بفضل تقنية الآلات الدقيقة - إلى تغيير كل وجه من وجوه الحياة البشرية كلية.
فقط خلال اللحظات النادرة حين تؤدي عاصفة عاتية أو حادثة بناء إلى انقطاع الضوء لساعات قليلة يتيسر لنا نحن من نعيش في العالم المتقدم مجرد لمحة جزئية ومؤقتة عن الدور المحوري الذي تلعبه الكهرباء في حياتنا اليومية؛ إذ تتعطل أنظمة التدفئة وتكييف الهواء، وتتوقف الثلاجات عن العمل، ولا تشتعل الأفران، وتصير المصاعد معطلة، والتلفاز لا يعمل، وتنطفئ أجهزة الكمبيوتر، ولا يمكن إعادة شحن الأجهزة المحمولة. كما تتعطل كل مقرات عمل العالم الحديث وأنظمة نقله - المكاتب والمصانع والمخازن والمتاجر والمستشفيات والمطارات والقطارات وقطارات الأنفاق والمصاعد التي تجعل الحياة المدنية ممكنة في المجتمع المعاصر - ويتحتم مغادرتها حتى تعود الكهرباء. وحين تنقطع الكهرباء ليلا، يغمرنا ظلام غير مألوف ومزعج في عالم لا يضيئه سوى الشموع والفوانيس.
وهذه لا تعدو كونها التقنيات المعتمدة على الكهرباء التي تولدها محطات الطاقة وتوصلها في أسلاك للمباني وغيرها من المنشآت المستديمة. أما إن اختفت الكهرباء نفسها بغتة فلن تدور أو تسير أي من السيارات أو الشاحنات أو الحافلات أو القطارات، ولن تحلق الطائرات، وستصير قوى القانون والنظام غير قادرة على التواصل، ومع تعطل الهواتف أو الأجهزة المحمولة أو أجهزة اللاسلكي ، لن يستطيع الناس الحديث بعضهم مع بعض على الإطلاق إلا من يتصادف وجودهم في نفس المكان.
من المدهش أن نجد أن الكهرباء نفسها لم تصبح متوفرة في العموم حتى أواخر القرن التاسع عشر حين نضع في الحسبان اعتمادنا البالغ عليها في حياتنا المعاصرة. ومن بين جميع الطرق المتعددة التي غيرت بها الكهرباء طبيعة حياة البشر، قد يكون أهمها - من ناحية تأثيراتها الثقافية والاجتماعية - ازدهار التقنيات المتقدمة في المنازل وتأثير التقنيات المنزلية في أوضاع المرأة في المجتمع الحديث.
الأجهزة المنزلية
أقمت مع أسرتي طيلة خمسة عشر شهرا، بدءا من خريف عام 1967م في جزيرة إيوس اليونانية، حيث درست أساليب المعيشة التقليدية لقرويي الجزيرة اليونانية من أجل رسالة دكتوراه في علم الإنسان الثقافي. وقد اخترت جزيرة إيوس لأنها في ذلك الوقت لم يكن بها مرافق بحرية قادرة على خدمة السفن السياحية، ولم تكن الكهرباء أو العربات المزودة بمحركات قد دخلت الجزيرة بعد. ونتيجة لهذا، كان سكان الجزيرة يعيشون بدرجة كبيرة كما كان يعيش أغلب سكان الجزر الأوروبيين قبل بداية الثورة الصناعية.
كان أهل إيوس ما زالوا يزرعون حبوبهم ويطحنونها لتصير دقيقا في طاحونة القرية. وكانوا يعدون عجين الخبز في منازلهم ليخبزه خباز القرية كل صباح في فرن حجري ضخم يعمل بنار الحطب الذي كان يشعل كل مساء ويظل يحترق طوال الليل. وكان أهل الجزيرة يزرعون محاصيل الزيتون، التي كانوا يعصرونها لاستخراج الزيت؛ ومحاصيل العنب، التي كانوا يعصرونها لاستخراج النبيذ. وكانت كل لحوم الخنازير والخراف والماعز والدجاج والبيض الذي يستهلك على الجزيرة، وكذلك كل الأسماك والخضروات، يرعاها مزارعون محليون ويصطادها صيادون محليون. أما لحم الأبقار فلم يكن متوافرا. وكانت نساء إيوس ما زلن يغزلن خيوطا من القطن والصوف، ويحكن كثيرا من ملابسهن بأياديهن.
وفي صباح أيام الأحد، حين يكون الطقس ملائما، كانت تصل باخرة صغيرة من أثينا عائدة إلى إيوس، على متنها أولئك الذين غادروا الجزيرة قبل أسبوع لزيارة أقاربهم أو لمزاولة أعمالهم. وكانت السيارة الوحيدة على الجزيرة، وهي سيارة أسفار عتيقة، تستخدم في صباح تلك الأيام لحمل كبار السن والواهنين من المسافرين في الطريق الموحل الملتوي الطويل الممتد من الميناء إلى القرية. وكان أغلب الناس غير مستعدين لدفع تكلفة الرحلة، فكانوا يحملون أمتعتهم على دواب، ويتحملون السير طويلا صاعدين سلما حجريا قديما. أما باقي أيام الأسبوع فكانت سيارة الأسفار تبقى دون حركة. وكانت البغال والحمير هي وسيلة الانتقال الوحيدة.
كان الناس في مجتمع قرية إيوس التقليدي يعملون من الصباح الباكر حتى غروب الشمس، فإذا حل الظلام تناولوا العشاء على ضوء الشموع ومصابيح الكيروسين. وكان الأكثر ثراء من القرويين يستخدمون المواقد الغازية للطهي، وكان الأقل ثراء يستخدمون كوانين (مواقد) فحم نباتي. وكانت المياه الباردة تحمل إلى المنازل في صفائح وأسطال تملأ من صنابير عامة في الشوارع. أما تسخين المياه فكان على أسطح التنانير. وكانت الملابس تغسل يدويا خارج المنازل بلوح الغسيل في وعاء معدني. وكانت الأرضيات تنظف بالمقشات والمماسح، فلم تكن الغسالات والثلاجات والمكانس الكهربائية والمواقد الغازية ومكيفات الهواء وغسالات الصحون معروفة. وكان الطعام المعلب يباع في عدد قليل من المتاجر العامة الصغيرة، ولكنه كان يبتاع من أجل المناسبات الخاصة فقط، ولم يكن الطعام المجمد موجودا.
في هذا المجتمع التقليدي والسابق للصناعة إلى حد كبير، كان تقسيم العمل بين الرجال والنساء صارما وشاملا؛ فالرجال يزرعون محاصيل الغلال ويرعون البساتين والكروم، والرجال يربون الحيوانات ويبنون المنازل ويرممونها حين يكون ضروريا، والرجال يتولون الأمور السياسية والوظائف الحكومية، والرجال يسافرون لكسب المال بالعمل على السفن وفي المصانع والمطاعم.
أما النساء فيربين الأطفال ويعتنين بالمنزل. وترعى النساء حدائق الخضروات، وتشتري الطعام وسائر المستلزمات المنزلية، ويحضرن كل الوجبات من مكونات نيئة غير معالجة، ويغسلن الصحون ويكنسن الأرضيات ويمسحنها، ويخرجن الأبسطة وينفضن عنها الغبار، ويغسلن الملابس يدويا ويرتقنها حين تبلى، ويرتبن الأسرة، ويغسلن البياضات، ويغزلن الخيوط من القطن والصوف، ويحكن الجوارب والمعاطف، ويطلين المنازل، ويرضعن المواليد ويحممنهم، ويطعمن الأطفال ويلبسنهم، ويرعين المريض والعاجز والمسن في الأسرة، ولا يألون جهدا في الحفاظ على برودة منازلهن في الصيف ودفئها وجفافها في الشتاء.
وكان الرجل أو المرأة من دون شريك من الجنس الآخر يصير مواطن درجة ثانية في مجتمع الجزيرة؛ فالرجل بمفرده لم يكن لديه من يحمل أطفاله، ويعد طعامه، ويرتق ملابسه ويغسلها، ويحافظ على نظافة منزله وترتيبه. والمرأة وحدها لا رجاء لها في عمل أو مصدر ثابت بالمال أو الطعام أو الحماية. لذلك كانت حياة المرء بمفرده أمرا مستبعدا. وكان الرجال والنساء غير المتزوجين يعيشون مع أبويهم المسنين أو أسر أقاربهم. ولم يكونوا محرومين من منزل خاص بهم فقط، ولكن أيضا المكانة الاجتماعية والكرامة والاستقلال الذاتي الذي كان يأتي معه. وكانت محنتهم الكبرى، في منظومة قيم ثقافة الجزيرة، أنهم لم يكن لديهم أطفال ليجلبوا الفرحة والضحك في حياتهم، أو يعطونهم رؤية مستقبلية، أو يدعمونهم ويقومون على رعايتهم عند الكبر.
ولما كنت آتيا من مجتمع مدني متطور حيث كانت التقنيات المنزلية أمرا شائعا، فلم أدرك في البداية المكانة الفريدة التي احتلتها نساء هذه الجزيرة اليونانية في الحياة اليومية؛ فالرجل دون زوجة في ذلك المجتمع التقليدي ليس إلا نصف إنسان. وحتى إن تحدى العرف وحاول أداء «عمل النساء» بنفسه، فسيقع تحت ضغط شديد ليجد وقتا كافيا لفعل ذلك؛ فنساء قرى هذه الجزيرة كن يقضين اليوم كله في أداء عدد لا يحصى من المهام اللازمة للحفاظ على المنزل في حالة مقبولة. وعلاوة على الحفاظ على نظام المنزل كان يقع على عاتق النساء الأصغر سنا عبء رعاية أطفالهن؛ من تحميمهم وإطعامهم وكسوتهم وحمايتهم من الخطر. لم يكن ممكنا مطلقا أن يعيش الرجل حياة عادية من دون امرأة لترعى حاجاته المنزلية، وكان الرجال البالغون القليلون الذين لم يتزوجوا مادة للشفقة، وفي بعض الأحيان الاستهزاء.
لقد غيرت ميكنة متاع البيت في القرن العشرين ذلك كله؛ فالغسالات الكهربائية والمجففات وغسالات الصحون أتاحت إنجاز كل مهمات الغسيل والتنظيف التي يحتاجها المنزل في وقت أقل كثيرا عما كانت تستوجبه في عصور ما قبل الصناعة. والطعام المجمد والطعام المحضر والطعام الجاهز والثلاجات ومواقد الغاز وأفران الميكروويف، وطائفة من الأجهزة الكهربائية من الخلاطات البسيطة إلى محضرات الطعام المعقدة، كلها اختصرت عملية إعداد الطعام في أعمال أبسط كثيرا يمكن إنجازها في نسبة ضئيلة من الوقت الذي كانت تحتاجه سابقا. وتعتمد كل هذه التقنيات على توفر الطاقة الكهربائية.
ومع ازدهار فرص العمل للنساء - وتزايد قبول الرجال لأداء الأعمال المنزلية الروتينية - صار خيارا واقعيا لكلا الجنسين أن يعيشوا بمفردهم، بل لقد صارت الأسرة المكونة من شخص واحد هو أسلوب الحياة المفضل لثلاثين في المائة تقريبا من الأسر في أوروبا والولايات المتحدة (تصل النسبة في السويد إلى 47 في المائة). وليس سائر العالم بمتخلف كثيرا عن هذا الركب؛ فالأسرة المكونة من شخص واحد أكثر شيوعا في اليابان عنها في الولايات المتحدة، لكن لم تتبن كل الأمم هذه الأسلوب المعيشي؛ فالهند التي ظلت فيها الحياة الأسرية قوية وحيوية لا تتعدى نسبة الأسر المكونة من شخص واحد ثلاثة في المائة.
لا يمكن لأحد أن يجادل بأنه سيكون من الأفضل العودة إلى ظروف الماضي، حين كان الرجال والنساء يعتمد بعضهم على بعض اعتمادا كاملا، حتى إنهم لم يكونوا قادرين أن يعيشوا حياة مقبولة من دون زوج، أو حين كانت النساء يقضين الجزء الأكبر من حياتهن في الطهي والتنظيف وتربية الأطفال. لكن من المفارقات أن الأجهزة الشديدة التوفير للجهد التي اقتنتها الشعوب المعاصرة لجعل عمل المرأة أخف وأسهل كان لها أثر حرمان النساء من مكانتهن الضرورية التي تمتعن بها في علاقاتهن مع الرجال في المجتمع بوجه عام. وفي الوقت ذاته كان من آثار بدء ما يسمى بمجتمع العمل أنه زاد من أهمية الدور الاقتصادي للرجل، الذي كان في الأصل العضو الوحيد في الأسرة الذي لديه حرية مزاولة عمل مدر للربح.
كان من النتائج المباشرة لظهور الأجهزة المنزلية - والتحول التام للأهمية الاقتصادية للأطفال من كونهم أصولا اقتصادية إلى أعباء اقتصادية - أن تقلص إلى حد خطير الدور المهم السابق الذي كانت تضطلع به النساء حين كن حاملات الأطفال وراعيات البيوت. خلال السنوات الأولى من القرن العشرين لم تتعد ميكنة المنزل ظهور تقنيات التنظيف الآلي مثل الغسالات والمكانس الكهربائية. وطوال سنوات الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية، أدت البطالة الهائلة والتجنيد الإلزامي إلى عدم قدرة عدد كبير من الرجال على إعالة أسرهم على نحو كاف. وكان هذا هو الوقت الذي بدأت فيه النساء لأول مرة العمل خارج المنزل بأعداد كبيرة، وقد وجد العديد من النساء في التجربة تمكينا وتحريرا.
لكن حين وضعت الحرب أوزارها عاد الرجال إلى وظائفهم، وحين غادرت النساء وظائفهن وعدن إلى رعاية المنزل وتربية الأطفال، هبطت مكانة المرأة ومنزلة عمل المرأة إلى أدنى مستوياتهما تاريخيا. لهذا السبب بدءا من منتصف القرن العشرين، حين بلغت ميكنة متاع المنزل أوجها، لكن قبل أن يعد من المقبول أن تعمل النساء المتزوجات ذوات الأطفال للحصول على مرتبات في وظائف بدوام كامل؛ بدأت نساء العالم الحديث يخضن أزمة وجودية تتعلق بمكانتهن وكبريائهن ما زالت مستمرة حتى اليوم.
في مجتمعات الصيد وجمع الثمار في الزمن الماضي، لم تكن النساء فقط يجمعن الحطب ويطهين الطعام، ولكنهن أيضا كن يجلبن أغلب الغذاء النباتي الذي لم تكن الجماعة ككل تستطيع الحياة بدونه. وكان ذلك يجعل الرجال البالغين قادرين على قضاء النهار في صيد مؤن اللحم الذي يعادله في الأهمية. وفي المجتمعات الزراعية لم تعمل النساء في الحدائق ويتولين كل أعمال الطهي والتنظيف والغسيل فحسب، لكنهن كن أيضا يحملن ويربين الأطفال الذين يجلبون الثروة والمكانة والأمل بضمان المستقبل للأسرة ككل.
لكن في المجتمع الصناعي الحديث بات العمل الوحيد الذي لا يستغنى عنه بحق هو كسب المال من خلال وظيفة مدرة للربح. ولأنها كانت في البداية «عملا رجاليا» خلال العقود الأولى من التحول نحو الصناعة، فقد هيمن الرجال قديما على هذا القطاع، وما زالوا يتمتعون بحظوة كبيرة على النساء في الوظائف. في الوقت نفسه فقدت أهمية النساء باعتبارهن حاملات الأطفال الكثير من حيثيتها السابقة؛ فقد صارت شعوب العالم المتقدم على نحو متزايد لا تعتمد فقط على أبنائها، ولكن أيضا على استثماراتها ومعاشاتها ومدفوعات الضمان الاجتماعي وسياسات التأمين الصحي لتوفر لهم الضمان الاقتصادي في شيخوختهم.
باختصار، قاست نساء العصر الحديث من الجمود الثقافي؛ ويقصد بذلك نزوع ثقافة ما إلى الاحتفاظ بالقيم والتقاليد التي صارت بالية بسبب تغييرات أخرى في المجتمع. فمن ناحية، ما زال ينتظر من النساء أداء أغلب الأعمال المتعلقة بالطهي والتنظيف والحفاظ على ترتيب المنزل وتنشئة الأطفال، لكن من ناحية أخرى فقدت هذه المهام الكثير من أهميتها السابقة لكل من أزواجهن والمجتمع.
ونتيجة لحصارهن بين الدور التقليدي الذي لم يعد لازما ولم يعد يحظى بالاحترام كما كان فيما مضى ودور غير تقليدي هن فيه مستجدات ومنافسات غير مرحب بهن في أحيان كثيرة، تكافح نساء العصر الحديث ليجدن القبول الاجتماعي والاحترام الذاتي اللذين لم يفقدهما جنس الذكور قط، وما زال أغلب الرجال يتمتعون بهما كأمر مسلم به. غير أن قدوم التقنية الرقمية، كما سنرى في الفصل التالي، وضعت التحديات في طريق الدور التقليدي للرجال البالغين أكثر من أي تحول سابق، وأضعفت مكانتهم بطرق لم يتوقعها قط مخترعو أول أجهزة كمبيوتر.
الحب والجنس والزواج في المجتمع الصناعي
لما صارت وراثة الأرض الزراعية لا تمس حياة المواطن العادي في العصر الحديث، لم يعد مهما للآباء ترتيب زيجات أبنائهم وورثتهم؛ فنادرا ما يتزوج الناس في العصر الحديث لتقوية الأواصر الاقتصادية بين الأسر. وحيث إن عرف الزواج المدبر القديم المعد سلفا عفا عليه الزمن فعليا، فقد تغيرت تطلعات الحياة الزوجية تغيرا جذريا. ونتيجة لهذه التغيرات صار المبدأ الجديد «الزواج بدافع الحب» (القديم جدا في الواقع) هو السبب الرئيسي للزواج لدى الناس في المجتمع المعاصر.
مع انتقال شعوب العصر الحديث من المزارع إلى المدن، لم يعد الأطفال في وضع يسمح لهم بالمشاركة جديا في تحقيق الثراء للأسرة. ولما صار الدعم المالي لكبار السن تدريجيا من مسئوليات الحكومة في أنحاء العالم الصناعي، فقد الأطفال أهميتهم حتى باعتبارهم مصدر أمان لذويهم في شيخوختهم. ولما صار الأطفال في المجتمع المدني الحديث عبئا اقتصاديا على عاتق أسرهم، فليس من العجيب تقلص حجم الأسر مع كل جيل بعد التوسع في الحياة المدنية، واختيار العديد من المتزوجين عدم الإنجاب على الإطلاق.
بدلا من اعتبار الزواج وسيلة لغاية اقتصادية، غدا الشباب في العالم المتقدم يعدون الزواج سبيلا للصحبة والإشباع الجنسي. ومع تزايد اختيار الناس في العصر الحديث لأقرانهم على أساس الانجذاب الجسدي والانسجام العاطفي، سريعا ما فقدت القيم التقليدية للعفة قبل الزواج والعذرية عند الزواج جاذبيتها، لا سيما في المجتمع الغربي.
الاستقلال والحرية الشخصية اللذان جاءا مع ظهور السيارة والحفاظ على سرية الهوية في الحياة المدنية وفرا للشباب فرصا غير مسبوقة للخصوصية، وهجرت بدرجة كبيرة العادة التقليدية التي كانت تقتضي توفير مرافق لكل تواصل شخصي بين الشباب من الرجال والسيدات، بل صار يتوقع من الشباب في المجتمع الحديث بوجه عام الاشتراك في نوع من التواصل الجنسي عند التصاحب كجزء من حياتهم الاجتماعية الطبيعية، وصار من المقبول على نحو متصاعد في أنحاء العالم المتقدم أن يعيش البالغون من كل الأعمار في حرية جنسية كاملة دون ميزة الوضع القانوني للزواج. وفي عام 2013م كان 75 في المائة من النساء الأمريكيات يعشن مع رفيق دون زواج عند بلوغهن سن الثلاثين.
وقد ضاعف بشدة ظهور وسائل فعالة لمنع الحمل تقبل المجتمع الحديث لهذا الارتفاع العام في الحرية الجنسية؛ إذ حررت كلا الجنسين من مجازفة وقوع حمل غير مرغوب فيه عند ممارسة الجنس. هكذا أحدثت التوليفة القوية بين مبادئ الزواج الجديدة بدافع الحب، والمعايير الحديثة للحرية الاجتماعية والجنسية للرفاق غير المتزوجين، وظهور وسائل منع حمل مضمونة التأثير، تحولا في القيم الجنسية لدى المجتمع الحديث؛ إذ الغرائز الجنسية البشرية القديمة عادت إلى إثبات نفسها، وهي في حد ذاتها نتاج ملايين السنين من التطور.
في الواقع لم تكن مؤسسة الزواج التقليدية التي ورثناها عن المجتمعات القديمة مصممة لتوفير الحميمية أو الصحبة أو الانجذاب المتبادل أو الإشباع الجنسي؛ فقد تطور الزواج التقليدي لدى المجتمعات الزراعية كطريقة لإقامة شراكات مدى الحياة، وإنشاء أواصر ذات فوائد اقتصادية متبادلة بين الأسر، وتحقيق أقصى درجة من الاستقرار في ملكية الأرض لدى المجتمع الزراعي. وقد تحققت هذه الأهداف عن طريق مجموعة من الأعراف التي جعلت كلا من الرجال والنساء معتمدا بعضهم على بعض اجتماعيا واقتصاديا ونفسيا. هذه الأعراف - وليس استمرار العاطفة أو الانجذاب المتبادل - هي ما كان يضمن استمرارية الزواج.
بيد أنه منذ صارت فكرة الزواج من أجل الحب هي المعيار لدى المجتمع الحديث، أصبح الرجال والنساء يتطلعون إلى الاستمرار الأبدي للحميمية والصحبة والانجذاب المتبادل والإشباع الجنسي الذي دائما ما يصاحب العلاقات الجديدة، وحين تختفي هذه المزايا، كما يحدث كثيرا مع مرور السنوات، تعظم مشاعر المرارة وخيبة الأمل.
في مجتمعات الصيد وجمع الثمار التي عمت حياة البشر حتى عشرة آلاف عام مضت، كانت العلاقات بين الرجال والنساء عابرة تماما، وفي أغلب الحالات حين كانت تصبح هذه العلاقات غير مشبعة لهم كانوا يقطعونها بالأسلوب العابر نفسه. في أغلب مجتمعات الصيد وجمع الثمار، كما ذكرنا في الفصل السادس، كان من المألوف أن يكون للمراهقين علاقات جنسية متعددة، وكان الزواج الأحادي في أكثر الحالات يحل محل تعدد العلاقات الجنسية المتعددة بعد سنوات من العلاقات الجنسية العابرة. ولم يكن الطلاق في هذه المجتمعات يعدو انتقال أحد الزوجين من منزلهما المشترك، الذي لم يكن على أي حال إلا مسكنا مؤقتا سيهدم أو يهجر حين تنتقل الجماعة بحثا عن موارد جديدة للغذاء.
في مجتمعات الصيد وجمع الثمار كان الأطفال عادة لا «ينتمون» إلى الوالدين، وإنما إلى العشيرة أو أسرة الأم أو الأب، على حسب ما إذا كان المجتمع أمومي النسب (حيث ينتمي الشخص إلى عشيرة أمه ويرث هويته من نسب الأنثى) أو أبوي النسب (حيث ينتمي الشخص إلى عشيرة الأب ويرث هويته من نسب الذكر). ولم يكن الأب والأم ينتميان للعشيرة نفسها إلا فيما ندر؛ لأن الصيادين وجامعي الثمار كانوا عادة ما يعدون أي علاقة جنسية بين أعضاء العشيرة نفسها نوعا من سفاح القربى، وكانت مثل هذه العلاقات محظورة بشدة. وعلى هذا النحو لم تكن وحدة العشيرة تتأثر بالعلاقات الجنسية لأعضائها، ولا تتهدد إن انتهت إحدى هذه العلاقات.
خلاصة القول، صار ما يسمى الأسرة التقليدية واستمرارها المفترض مدى الحياة بالية تماما بعد مدنية المجتمع البشري الذي جعلته تقنية الآلات الدقيقة التقنية ممكنا، وصار الزواج المعد سلفا شيئا من الماضي، وحلت التكاليف الاقتصادية المرتفعة محل المزايا الاقتصادية لإنجاب الأطفال، وتراخى الاتكال الاقتصادي والاجتماعي المتبادل بين الرجال والنساء بدرجة كبيرة، ولم يفقد الحفاظ على العذرية في سن المراهقة وحده أغلب أو كل ما كان يلحق به من وصمة اجتماعية، وإنما كذلك المحظورات التقليدية لإقامة علاقات قبل الزواج أو خارج إطار الزواج.
غير أن الأسرة البشرية ما زالت باقية، وستظل باقية؛ فسيظل الرجال والنساء يقيمون علاقات جنسية، وسيستمرون في إنجاب الأطفال. أما أولئك الذين لا يميلون إلى التناسل فلن ينقلوا سواء نزعاتهم البيولوجية الموروثة أو ميولهم الثقافية المكتسبة للأجيال المستقبلية. ورغم اندثار «الأسرة التقليدية» فإن الأسرة البشرية لم تندثر؛ فطبيعتنا البشرية الفطرية التي هي نتاج ملايين السنين من التطور البشري تؤكد أن الأسرة البشرية ستبقى ما دام نوعنا باقيا.
غرباء عن الكون الطبيعي
مع تمام ازدهار المجتمع الصناعي توقف أغلب البشر عن امتلاك الغذاء أو إنتاجه لأنفسهم؛ فقد ظلوا لأجيال ينتقلون بعيدا عن المزارع التي امتلكتها أسرهم وعاشت فيها أجيالا، واستقروا في المدن للعمل كموظفين مقابل رواتب لدى أغراب. ولأول مرة في تاريخ البشر بزغ مجتمع بشري تعمل نسبة ضئيلة فقط منه في إنتاج الغذاء، بينما يمارس غالبية السكان عملا لا دخل له بالعثور على الغذاء أو إنتاجه.
في عام 1870م كان ما بين 70٪ إلى 80٪ من سكان الولايات المتحدة الأمريكية ما زالوا يعيشون في المزارع ويعملون بها، لكن بحلول عام 2010م انخفضت هذه النسبة إلى واحد في المائة من السكان، إلا أنه نتيجة لميكنة الزراعة التي صارت ممكنة بفضل محرك الاحتراق الداخلي، تنتج نسبة الواحد في المائة من العاملين الزراعيين الباقية في الولايات المتحدة الأمريكية غذاء أكثر مما تستهلكه نسبة التسع والتسعين في المائة المتبقية من السكان.
قبل القرن العشرين كان أغلب الناس يستيقظون على أصوات الديوك والطيور البرية، وفي الليل كانت الحقول والمراعي يضيئها ضوء القمر وحده ، وحين كانوا يخرجون من منازلهم في الصباح كانت أنوفهم تمتلئ بروائح الحيوانات والسماد والقش والغلال والرائحة الطيبة للمراعي، وكانوا طوال حياتهم تحيط بهم الكلاب والقطط والخيول والأبقار والخنازير والغنم والماعز وطائفة من الطيور والحيوانات الأخرى.
يكاد سكان المدن في القرن الحادي والعشرين لا يجربون أيا من تلك الأمور؛ فغالبا ما يستيقظون على صوت المنبه، وليلهم تضيئه مصابيح الشوارع، وحين يخرجون صباحا تمتلئ أنوفهم بعوادم السيارات والشاحنات والحافلات والقطارات، وطوال حياتهم اليومية تحيط بهم الآلات: السيارات والكمبيوتر والهواتف المحمولة وأجهزة التلفاز والمذياع والمواقد والثلاجات والغسالات والمكانس الكهربائية والعديد من الأجهزة الإلكترونية. ويظل البشر هم النوع الوحيد الذي يتواصلون معه بصورة منتظمة ما لم يكن لديهم حيوان أو طائر أليف.
8
وحيث إن تحولا قد حدث في الزراعة بفضل انتشار الآلات الزراعية واندماج ملايين المزارع العائلية الصغيرة في عدد صغير من المزارع الصناعية الضخمة،
9
فإنه حتى حياة عامل المزرعة العادي فقدت ما اعتادت أن تمتاز به من بساطة وتنوع؛ فسواء كان عامل المزرعة النموذجي جالسا لساعات متواصلة في مقصورة مكيفة الهواء داخل إحدى الآلات الزراعية الضخمة، أعلى حقول الذرة والقمح وفول الصويا والبرسيم الشاسعة، أو منحنيا لساعات متتالية بين صفوف لا تنتهي من الطماطم أو الفراولة، فهو يقضي يومه كله بصورة متصاعدة في أعمال متكررة رتيبة من النوعية التي كانت مقصورة على عامل المصنع في الحضر في أحد خطوط التجميع.
هكذا مع تزايد تحضرها تفقد الإنسانية علاقتها الحميمة مع البيئة التي اتسمت بها حياة البشر طوال تاريخ نوعنا تقريبا. وبينما بلغت عملية التحضر هذه أقصى مداها في أغلب الأمم المتقدمة، لم يتخلف باقي العالم كثيرا عن الركب؛ فمنذ زمن قريب وتحديدا في عام 1950م كان نحو 70 في المائة من سكان العالم ما زالوا يعيشون في مجتمعات ريفية، بينما كان 30 في المائة فقط يعيشون في مدن. أما الآن فيكاد عدد سكان الريف وعدد سكان الحضر يتساويان. وبقدوم عام 2050م ستنعكس هاتان النسبتان تماما؛ سيعيش نحو 70 في المائة من سكان العالم في المدن، بينما سيعيش 30 في المائة في الريف.
بالمعدل الحالي ستكون الغالبية العظمى من البشر من ساكني الحضر مع نهاية هذا القرن، وسيكون اتصالهم بالبيئات الطبيعية التي تطور فيها كل أشباه البشر محدودا. ولا يسعنا سوى تخمين ما سيكون لهذه الخسارة غير المسبوقة للاتصال بين البشرية والطبيعة من تأثير على رؤية الأجيال القادمة للعالم.
عالم من الموظفين
قد يكون أعمق تغيير وقع في حياة البشر مع التحول إلى مجتمع صناعي هو الاختفاء العام للنشاط البشري القديم المتمثل في البحث عن الغذاء وإنتاجه، والاستعاضة شبه التامة عنه بالعمل في وظيفة مقابل كسب النقود. قبل عام 1800م كان جزء صغير فقط من سكان الأرض من البشر يعملون في وظائف من أجل الحصول على أجر. وبعيدا عن الحكام بالوراثة كان أغلب الناس مزارعين، وكان البقية تجارا وحرفيين ومهنيين مثقفين وموظفين حكوميين وجنودا ورجال دين، لكن مع انتشار المصانع والمكاتب في القرنين التاسع عشر والعشرين أصبح العمل مقابل أجر أكثر أشكال العمل شيوعا في مجتمع العمل الجديد.
يمكننا أن نسلم بأن الناس يحتاجون لوظائف، وأن رفاهية مجتمعنا مرهونة بتوفر وظائف جيدة الدخل، لكن تظل حقيقة أن المجتمع الذي يتكون بأكمله تقريبا من أشخاص يعملون تحت توجيه أشخاص آخرين - الذين يمدونهم بدورهم بمورد منتظم من المال - هو ظاهرة جديدة تماما في تاريخ البشر. وتظل منظومة القيم والتقاليد التي أفرزتها الثقافات الحديثة لمعالجة المشكلات الاجتماعية والنفسية التي خلقها مجتمع العمل غير مكتملة وفي مرحلة التبلور.
يقضي الأجير عادة الجزء الأكبر من كل يوم عمل في تأدية مهام تحت رقابة وإشراف صاحب العمل، وغالبا ما تكون هذه المهام ضعيفة الصلة أو لا صلة لها باهتمامات الأجير الشخصية أو علاقاته بالآخرين. وإذا قصر في أداء المهام المسندة إليه حسب المعايير التي وضعها صاحب العمل، فالعقوبة ستكون نقدا أو تهديدا بالإقالة أو - إذا كان التقصير كبيرا - فسخ عقد العمل. وحيث إن كل أجير يعتمد على استمرارية العمل لتوفير كل البضائع والخدمات التي يحتاجها من أجل الدعم المادي والراحة والأمان، فالتهديد بالإقالة يمثل احتمالا مخيفا، وإنهاء عقد العمل من الممكن أن يكون من أكثر تجارب الحياة الحديثة إيلاما.
من ثم ليس من المستغرب أن يعاني الناس في المجتمع الحديث من مستويات من القلق والاكتئاب والشك الذاتي تفوق بكثير أي شيء لاحظه اختصاصيو علم الإنسان الذين درسوا ثقافات عصور ما قبل الصناعة، سواء الصياديون وجامعو الثمار أو الزراعيون. إنها بالتأكيد واحدة من أكبر مفارقات تاريخ البشر أن تطور الحياة الحديثة بكل سبل الأمن والأمان والراحة والترفيه، قد اجتاحه وباء غير مسبوق في تاريخ النوع البشري من اضطرابات التغذية ومرض القلب والأرق وإدمان المخدرات والعصاب والذهان والسخط المرضي. •••
في الوقت ذاته الذي تنتشر فيه سريعا آثار الميكنة والتمدن وتوظيف المجتمع وتراجع القيم التقليدية بين الجماعات البشرية كافة، يختمر تحول جديد. وقد تقزم التغيرات التي سيجلبها في حياة البشر حتى التغيرات الضخمة التي وقعت بالفعل منذ ظهور الآلات الدقيقة.
هذا التحول الأخير، الناجم عن اختراع التقنية الرقمية، يحتمل أن يحل محل كل أشكال العمل البشري - البدني منها والذهني - بآلات لا تشتكي قط، ولا تعصي، ولا تحتاج طعاما أو ماء أو نوما أو راحة، ولا تطلب أجرا. لقد زاد عدد سكان الأرض بدرجة كبيرة، حتى إنه لم يعد ممكنا أن يعود البشر إلى الصيد أو جمع الثمار أو زراعة غذائهم. إذن ما نوع العالم الذي سنقبل عليه؟ هذه هي الأسئلة التي سنحاول الإجابة عليها في الفصل التالي من هذا الكتاب.
الفصل التاسع
تقنية المعلومات الرقمية
الشبكة العنكبوتية العالمية للتواصل البشري
ليست قدرة الإنسان على التعلم بأكثر صفاته بشرية؛ إذ يتشارك فيها مع عدة أنواع أخرى، وإنما أكثر ما يميزه كبشر قدرته على تعليم وتخزين ما ابتكره الآخرون وعلموه إياه.
مارجريت ميد، «الثقافة والالتزام»
في عام 1822م صمم عالم الرياضيات والمهندس والمخترع البريطاني تشارلز بابيج آلة يمكنها أداء حسابات لوغاريتمية ومثلثية معقدة استخدمها بحارة ومهندسون وعلماء، وكانت الآلة قادرة على فعل هذا دون احتمالية وقوع خطأ. أسمى بابيج اختراعه محرك فرق، وقد صنع بالكامل من آليات دقيقة، بآلاف العجلات وأعمدة التدوير والتروس لكن من دون أجزاء كهربائية. والسبب بسيط؛ إذ ستمضي سنوات قبل أن ينجح مايكل فاراداي وآخرون في صنع أول محركات كهربائية. حتى ذاك الوقت لم يكن متاحا مصدر ميسور التكلفة ومضمون للطاقة الكهربائية، ولم يكن قد اخترع بعد أي من المرحلات والصمامات المفرغة وسائر المكونات الكهربائية اللازمة لصنع حاسب إلكتروني.
كان محرك الفرق مشروعا عملاقا؛ فقد بلغ ارتفاعه ثماني أقدام، وتكون من خمسة وعشرين ألف قطعة معدنية، وبلغ وزنه نحو خمسة عشر طنا. في عام 1823م عين بابيج المهندس البريطاني المرموق جوزيف كليمنت لصنع محرك الفرق، لكن بعد سنوات عديدة من الجهد لم يكتمل سوى جزء من العمل على صنع الجهاز؛ إذ تشاجر بابيج وكليمنت حول تكلفة العمل، وبعد ثماني سنوات من بدء المشروع انفصل كل منهما عن الآخر. كانت الحكومة البريطانية حينذاك قد أنفقت 17000 جنيه إسترليني على محرك فرق بابيج، وهو ما كان يعادل تكلفة اثنتين وعشرين قاطرة بخارية جديدة في تلك الأيام.
غير أن هذا لم يوهن عزيمة بابيج؛ فأقدم على تصميم آلة حاسبة أكثر تعقيدا أسماها المحرك التحليلي، وتعرف بوجه عام بأنها أول كمبيوتر حقيقي في العالم. فعلى عكس محرك الفرق، الذي كان قادرا على الحسابات الرياضية فقط، ضم المحرك التحليلي أغلب الوظائف الأساسية التي تعد ضرورية في أجهزة الكمبيوتر الحديثة اليوم؛ فقد كان يمكن برمجته باستخدام بطاقات مثقوبة، وكان يستطيع تخزين معلومات في شكل ذاكرة، وكان قادرا على منطق التفريع. لكن لو أن المحرك التحليلي كان قد صنع لصار ضخما لدرجة يستعصي معها تشغيله بطاقة البشر؛ لذلك خطط بابيج لاستخدام محرك بخاري لتشغيل آلاف عجلات وتروس المحرك التحليلي (انظر شكل
9-1 ).
شكل 9-1: كان «محرك فرق» تشارلز بابيج أكثر الآلات الحاسبة تطورا في زمنه. وقد صممت هذه النسخة عام 1849م، وبنيت في متحف لندن للعلوم عام 1989م. (الصورة مصرح بنشرها بموجب رخصة جنو للوثائق الحرة إصدار 1,2 ورخصة المشاع الإبداعي غير الموطن الإصدار 3,0 التي تقتضي نسب المصنف لصاحبه والترخيص بالمثل.)
لكن للأسف لم يصنع أي من محرك الفرق أو المحرك التحليلي قط في حياة بابيج، إلا أن متحف العلوم في لندن نفذ فكرته أخيرا عام 1949م، باستخدام مجموعة من الرسوم التي وضعها بابيج عام 1889م من أجل صورة محسنة من محرك الفرق. وقد اشتغل محرك الفرق الخاص ببابيج على أفضل نحو؛ لينتهي بهذا قرن من التكهنات عما إن كانت آلاته العجيبة قادرة فعليا على أداء العمل المرجو منها أم لا. وفي عام 2010م أطلق مهندس البرمجيات البريطاني جون جراهام كامينج حملة لجمع مائة ألف جنيه إسترليني من العامة، وصنع نموذجا عمليا للمحرك التحليلي من أجل الذكرى المائة والخمسين لوفاة بابيج في أكتوبر عام 2021م. لكن لا بد من تصميم نموذج على الكمبيوتر أولا، وحتى وقت كتابة هذه السطور لم يكن التنفيذ قد بدأ فعليا بعد.
1
رغم أن أجهزة الكمبيوتر الآلية الخاصة ببابيج لم تكن قادرة قط على أداء عمل نافع، فإن مبدأه المتعلق باستخدام الآلات لأداء حسابات رياضية شديدة التعقيد على نحو يستعصي على البشر أداؤها دون أخطاء، كان في حد ذاته حدثا عظيم الأهمية؛ فقد حرر بابيج ومعاصروه البشرية من قصور العقل البشري كوسيلة حسابية، وبدءوا عصرا جديدا قائما على تقنية جديدة جذريا لمعالجة المعلومات.
آلات قادرة على التفكير
في عام 1890م واجه مكتب الإحصاء بالولايات المتحدة مشكلة لوجيستية خطيرة؛ فنتيجة للنمو السريع في عدد سكان الولايات المتحدة كانت جدولة البيانات التي جمعت في الإحصاء تستغرق وقتا طويلا، حتى إنه بحلول وقت نشر النتائج كان الإحصاء يصير قديما على نحو لا يجدي نفعا؛ فلم تصبح نتائج إحصاء عام 1880م التي جدولت يدويا جاهزة للنشر حتى عام 1888م. وتوقع مكتب الإحصاء أنه في حال استمرار الجدولة يدويا لن تكون نتائج إحصاء 1890م الأكبر حجما والأكثر تعقيدا متاحة قبل ثلاثة عشر عاما. وهذا سيؤجل نشر إحصاء عام 1890م حتى عام 1903م، بعد ثلاث سنوات من إتمام الإحصاء التالي الذي سيجرى عام 1900م. لذلك كان مكتب الإحصاء بحاجة لآلة قادرة على أداء كم هائل من الحسابات الرياضية على نحو أسرع وأدق وأكثر موثوقية من التي يستطيع أي عدد من الأدمغة البشرية أداؤه.
في محاولة جريئة لحل مشكلة مكتب الإحصاء، صنع المهندس الأمريكي هيرمان هوليريث حاسبة جدولة تستخدم آلة تثقيب في صنع رزم من البطاقات المثقوبة تستطيع آلته قراءتها أوتوماتيكيا. أثارت آلة هوليريث ضجة حين نجحت في جدولة نتائج إحصاء عام 1890م في عام واحد. هكذا أقدم هوليريث على إنشاء شركة «تابيوليتنج ماشين كومباني»، وأخذ يؤجر آلاته للدول في أنحاء أوروبا لجدولة إحصاءاتها. وفي عام 1911م اندمجت شركة «تابيوليتنج ماشين كومباني» مع ثلاث شركات أخرى، وفي عام 1924م تغير اسمها إلى «إنترناشونال بيزنس ماشين كومباني»، المشهورة باسم «آي بي إم».
كانت آلات هوليريث جميعها أجهزة ميكانيكية ذات حافظات ذاكرة آلية. ورغم أن المهندس الألماني كونراد تسوزه صنع كمبيوترا قابلا تماما للبرمجة في مرحلة مبكرة عام 1939م، إلا أن حساباته كانت تؤدى عن طريق مرحلات كهروميكانيكية، وكان نظام ذاكرته ما زال ذا طبيعة آلية. ولم يبدأ عصر الكمبيوتر الكهربائي كلية حتى عام 1946م، مع إزاحة الستار عن المكامل والحاسوب الرقمي الإلكتروني، أو إنياك، الذي ركب في جامعة بنسلفانيا سرا أثناء الحرب العالمية الثانية من أجل الجيش الأمريكي.
عوضا عن المرحلات الآلية كان إنياك ينفذ عملياته الحسابية عن طريق آلاف الصمامات المفرغة، الشبيهة بتلك التي كانت تشغل أجهزة المذياع والتلفزيون والأجهزة الإلكترونية الأخرى خلال منتصف القرن العشرين. كان إنياك يحتوي على أكثر من سبعة عشر ألف صمام مفرغ، وكان يزن ثلاثين طنا، وعرضه ثلاث أقدام، وارتفاعه ثماني أقدام، وامتداده مائة قدم. وكان أسرع مائة مرة من أفضل أجهزة الكمبيوتر الكهروميكانيكية في زمانه.
ورغم أن جهاز إنياك ظل مستخدما حتى عام 1955م، فإن تقنية الصمامات المفرغة الخاصة به شكلت مشكلات عويصة؛ فقد كان الصمام المفرغ مصمما بنفس المبادئ الأساسية للمبة الكهربائية؛ أنبوب زجاجي، مفرغ الهواء، يحتوي على فتيل معدني يسخن حتى يتوهج عند مرور التيار الكهربائي فيه. لكن آلاف الصمامات المفرغة، بآلاف الفتائل المتوهجة، كان ينتج عنها حرارة شديدة، وعند تشغيل هذه الصمامات وفصلها يوميا كانت هذه الحالات المتناوبة بين التسخين والتبريد تولد ضغوطا تؤدي إلى تعطل بعض هذه الآليات الدقيقة أو تلفها في نهاية الأمر، بل في الواقع كان من المألوف مع التشغيل كل يوم أن يتعطل العديد من صمامات جهاز إنياك المفرغة، تاركة آلة التفكير الضخمة غير قادرة على العمل حتى تحديد موقع الصمامات المعطلة وتبديلها، وهي عملية قد تستغرق عدة ساعات.
وبمرور السنين صممت شركة «ريمينجتون راند كوربوريشن» كمبيوتر صمامات مفرغة أكثر تطورا، وهو الحاسب الآلي العام الأغراض أو يونيفاك، وأنتجته من أجل السوق التجارية، وصار متوافرا في السوق في عام 1951م. كان يونيفاك يزن ثمانية أطنان، وفي حجم مرأب صغير، وسعر الواحد منه مليون دولار. ورغم أن قدرته الحاسوبية كانت ضئيلة قياسا بمعاييرنا الحالية، فإن ثمة حدثا غريبا ارتبط بجهاز يونيفاك شكل نقطة تحول في قبول الجمهور لمثل هذه الآلات الجديدة الرائعة.
ففي عام 1952م، ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية بين مرشح الحزب الديمقراطي أدلاي ستيفنسون، ومرشح الحزب الجمهوري دوايت أيزنهاور، اقترحت شركة «ريمينجتون راند كوربوريشن» على شبكة «سي بي إس نيوز» فكرة جديدة تتمثل في استخدام يونيفاك في بث تلفزيوني مباشر للتنبؤ بنتيجة الانتخابات أثناء تلقي النتائج من مواقع الاقتراع. ورغم أن مذيع شبكة «سي بي إس» وولتر كرونكيت، ورئيس تحريرها سيج ميكلسون، كانا متشككين، فإنهما ارتأيا أنه على الأقل سيكون في تقديم «عقل إلكتروني» تحليلا لتقارير الانتخابات عند صدورها بعض الترفيه. ومع اقتراب يوم الانتخابات كانت أغلب استطلاعات الرأي غير قاطعة في توقعاتها ما بين فوز ساحق لستيفنسون وتساو في عدد الأصوات، لكن الإجماع العام كان على فوز ستيفنسون بالانتخابات (انظر شكل
9-2 ).
شكل 9-2: اليونيفاك نموذج 1103، الذي صمم لإجراء العمليات الحسابية العلمية، والذي أعلنت عنه «ريمنجتون راند كوربورشن» في فبراير عام 1953م.
عند غلق صناديق الاقتراع وبدء صدور تقارير الانتخابات، غذي بها جهاز يونيفاك عن طريق مبرقة كاتبة. ومما أثار دهشة الجميع أن يونيفاك تنبأ في الساعة الثامنة والنصف من مساء يوم الانتخابات أن أيزنهاور سيفوز فوزا ساحقا، وأنه سيحصد 438 صوتا انتخابيا مقابل 93 صوتا لستيفنسون. الخلاصة أن يونيفاك جعل احتمال فوز أيزنهاور بالرئاسة مائة إلى واحد، وقد بدا هذا التنبؤ مستبعدا جدا وغير متفق مع الاعتقاد السائد، حتى إن شبكة «سي بي إس نيوز» قررت ألا تذيعه. لاحقا بعد عدة دقائق بدا أن يونيفاك قد غير رأيه فجأة، وفي الساعة التاسعة بالتوقيت الشرقي للولايات المتحدة أعلن مراسل «سي بي إس» تشارلز كولينجوود أن «العقل الآلي» أعطى أيزنهاور احتمال ثمانية إلى سبعة فقط بالفوز.
إلا أن ما بدا أنه تغيير في رأي يونيفاك كان نتيجة لخطأ كبير حدث أثناء إدخال البيانات. وعند تصحيح الخطأ عاد يونيفاك إلى احتمال مائة إلى واحد كما كان. غير أن «سي بي إس» كانت ما زالت خائفة من هذا التنبؤ الذي بدا غريبا فظلت صامتة. لكن مع انصرام الليل، تبين شيئا فشيئا فوز أيزنهاور الساحق؛ فقد جاء في الإحصاء النهائي 442 صوتا لصالح أيزنهاور مقابل 89 صوتا لصالح ستيفنسون. كانت تنبؤات يونيفاك بالنتائج أقل من النتائج النهائية بنحو واحد في المائة. لاحقا في تلك الليلة أعلن تشارلز كولينجوود محرجا في بث مباشر على التلفزيون أن يونيفاك قد توقع بالفعل نتيجة الانتخابات منذ عدة ساعات، لكن «سي بي إس نيوز» كانت محجمة عن الإدلاء بها. ومنذ ذلك اليوم فصاعدا تحولت مكانة الكمبيوتر في تغطية الانتخابات - وفي نواح عدة من الحياة المعاصرة - من كونه شيئا مستجدا إلى ضرورة ملحة.
الكمبيوتر الشديد التقلص
رغم كل القدرات المميزة لجيل أجهزة الكمبيوتر ذات الصمامات المفرغة مثل إنياك ويونيفاك، فإنها شكلت بعض المشكلات التي انطوت على تحديات بالغة؛ فقد كان حجمها هائلا، وسرعاتها الحاسوبية بطيئة نسبيا، واستهلاكها للطاقة الكهربائية مفرطا، وكمية الحرارة التي تولدها الآلاف من صماماتها المفرغة مربكة. كما كانت الآلاف من صمامتها المفرغة الضخمة والقابلة للكسر كثيرا ما تتعطل وتحتاج للتبديل باستمرار. في الواقع اتسم الجيل الأول من أجهزة الكمبيوتر ذات الصمامات المفرغة، الذي كان مؤلفا من عدة نماذج مختلفة صنعتها عدة شركات مختلفة، بعدم القدرة على العمل المستمر إلا بضع ساعات قبل أن يتعطل أحد مكوناته الكهربائية التي كان يصل عددها لعدة آلاف، ويتحتم غلقه من أجل إجراء الإصلاحات المطلوبة.
2
غير أن تقنية الكمبيوتر انتشرت انتشارا سريعا للغاية بعد منتصف القرن، حين اخترع جون باردين ووالتر براتين وويليام شوكلي في عام 1947م الترانزستور، وهو رقاقة صغيرة من الجرمانيوم أو السيليكون أو زرنيخ الجاليوم. كان الترانزستور يؤدي نفس وظائف الصمام المفرغ، لكنه كان أصغر كثيرا، ويستهلك قدرا ضئيلا من الطاقة التي يستهلكها الصمام المفرغ. وقد فاز باردين وبراتين وشوكلي بجائزة نوبل في الفيزياء على هذا الاختراع عام 1956م.
سريعا ما أحدث الترانزستور ثورة في عالم الإلكترونيات الحديثة، واستعيض به عن الصمام المفرغ في كل الأجهزة الإلكترونية التي كانت تستخدمه فيما سبق، ومنها أجهزة الكمبيوتر ومعدات التسجيل ومكبرات الصوت وأجهزة الراديو وأجهزة التلفزيون والرادارات وأنظمة الطيران والعديد من الأجهزة الإلكترونية الأخرى. وفي عام 1954م بدأت شركة «تكساس إنسترومنتس كوربوريشن» إنتاج الراديو الترانزستور بكميات كبيرة، وسريعا ما استعيض عن الراديو المحمول المستنزف للطاقة القديم، الذي كان دائما ما يستهلك كل طاقة بطارياته في غضون ساعات، بالراديو الترانزستور الصغير الخفيف الوزن، الذي يعمل لساعات وأسابيع دون أن تحتاج بطارياته للتبديل.
وبحلول أوائل خمسينيات القرن العشرين كان هناك علماء ومهندسون آخرون يجتهدون في اختراع جهاز أكثر روعة، يسمى الدائرة المتكاملة. كانت هذه التوليفة من الترانزستورات والمقاومات والمكثفات وغيرها من المكونات الإلكترونية يتصل بعضها ببعض داخل بنية شبه مجهرية مصنوعة من شبه موصل من الجرمانيوم أو السيليكون. في عام 1958م صنع مهندس «تكساس إنسترومنتس»، جاك كيلبي أول دائرة متكاملة قابلة للاستخدام، مستخدما رقائق من الجرمانيوم، وبعد بضعة شهور صنع روبرت نويس من شركة «فيرشايلد سيميكونداكتور» نموذجا معدلا من الدائرة المتكاملة مستخدما رقائق من السليكون.
إذا كان الترانزستور قد نجح في الاستعاضة عن الصمام المفرغ بشيء أصغر وأخف وأمتن للغاية، ولا يحتاج سوى قليل من الطاقة، فالدائرة المتكاملة نجحت في الاستعاضة بشريحة إلكترونية دقيقة واحدة يمكن إنتاجها بكميات كبيرة عن لوحات دوائر كهربائية كاملة، يتكون كل منها من مكونات إلكترونية متعددة متصل بعضها ببعض بأسلاك ملحومة يدويا؛ فقد كانت الدائرة المتكاملة فعليا عبارة عن لوحة دائرة كهربائية في شريحة.
مع مرور الأيام ظل تعقيد الدائرة المتكاملة أو الشريحة الدقيقة وقدرتها المعالجة يزدادان، حيث ابتكر العلماء والمهندسون طرقا لجعل هذه الشرائح الدقيقة أصغر فأصغر، وتكديس كل منها بمزيد من الإلكترونيات، وتصنعيها بتكلفة أقل. وفي عام 1965م نشر جوردون مور، أحد مؤسسي شركة «إنتل كوربوريشن»، مقالا مشهورا في مجلة «إلكترونيكس» بعنوان: «إقحام المزيد من المكونات في الدوائر المتكاملة». توقع مور في هذا المقال أنه بعد عشر سنوات (أي في عام 1975م) سيصل عدد المكونات الإلكترونية المصنعة في شريحة دقيقة واحدة إلى 65 ألف، بل وأضاف واثقا: «أعتقد أنه من الممكن وضع دائرة كبيرة لهذه الدرجة في رقاقة واحدة.»
بعد عدة سنوات، حين تبين صحة توقع مور إلى حد يثير القلق، عرفت الظاهرة التي وصفها باسم «قانون مور»، وهو يفيد بأن عدد المكونات التي تحتوي عليها الشريحة الدقيقة الواحدة - ومن ثم سرعة المعالجة وقدرتها - ستضاعف كل عامين تقريبا. غير أنه تبين أن قانون مور كان متحفظا قليلا، كما خمن مور نفسه.
3
فمنذ عام 1965م تضاعفت قدرة معالجة الشرائح الدقيقة كل ثمانية عشر شهرا تقريبا، وفي عام 2014م أعلنت «إنتل» عن معالج
15-Core Xeon E7 v2 ، وهو دائرة متكاملة بها أكثر من أربعة مليارات وثلاثمائة مليون ترانزستور في شريحة واحدة لا يتعدى حجمها قطعة من المقرمشات المملحة. وكان السعر المقرر لهذه الشريحة الجبارة 7700 دولار أمريكي.
كل من اختراع الدائرة المتكاملة، واستمرار تقدم أنظمة الكمبيوتر من حيث يسر التكلفة وصغر الحجم، منذ ستينيات القرن العشرين، أدى إلى انتشار أنظمة الكمبيوتر في كل جوانب الحياة اليومية، انتشارا لم يكن متوقعا في أيام الصمامات المفرغة مع جهازي إنياك ويونيفاك. فلكي تكون قوة أحد أجهزة كمبيوتر الصمامات المفرغة مثل إنياك مساوية لمعالج
Xeon
الدقيق الصغير الحجم الذي أنتجته «إنتل»، لا بد أن يصير حجمه أكبر نحو 247 ألف مرة. هذا معناه أن كمبيوتر إنياك ذا الثلاث أقدام عرضا وثماني أقدام ارتفاعا، لكي يكون مكافئا في القوة، لا بد أن يزيد طوله عن 4600 ميل، وبتكلفة 1,48 تريليون دولار أمريكي، وسيكون بوزن ست وستين حاملة طائرات من فئة نيمتز؛ أضخم حاملات طائرات في الأسطول الأمريكي، وأضخم سفن حربية صنعت على الإطلاق.
4
ولا شك أنه حتى يكون جهاز إنياك بقوة معالج
Intel 15-Core Xeon E7 v2
فلا بد أن يحتوي أيضا على 4,31 مليارات صمام مفرغ، وحيث إنه من المرجح أن تتعطل سبعة على الأقل من تلك الصمامات المفرغة في أول ثانية من التشغيل، فمن الواضح أن هذا الجهاز العملاق لن يظل يعمل لمدة تسمح بإنجاز مهمة حوسبة واحدة.
5
التصغير المذهل في مجموعة دوائر الكمبيوتر والانخفاض في تكلفة القدرة الحاسوبية أديا إلى انتشار أجهزة الكمبيوتر الصغيرة والخفيفة الوزن التي أدمجت في مجموعة متنوعة من المركبات والآلات والأجهزة. فكل المركبات الحديثة المزودة بمحركات، مثل السيارات والشاحنات والحافلات والقاطرات، صارت الآن تصنع مزودة بأجهزة كمبيوتر تتحكم في عملياتها، وتراقب أداءها، وتشخص مشكلاتها. وتعتمد الطائرات النفاثة وسفن الفضاء المنطلقة صاروخيا الحديثة - وكذلك الطيارات المسيرة - بشدة على التوجيه المحوسب وأنظمة التحكم، حتى إنها لن تستطيع التحليق مطلقا من دون تركيب أجهزة الكمبيوتر بها.
تعتمد طائرات المسافرين النفاثة المتعددة المحركات على أنظمة الكمبيوتر - داخل كابينة القيادة وفي أنظمة مراقبة الحركة الجوية الموجودة على الأرض - ليس فقط من أجل السفر إلى وجهاتها، ولكن كذلك من أجل التوجيه أثناء هبوطها الروتيني في مدرجات المطارات، بل أضحى طيارو الخطوط الجوية يعتمدون بشدة على هذه الأنظمة، حتى إنه في يوليو عام 2013م وقعت حادثة شهيرة في مطار سان فرانسيسكو الدولي حين هبطت طائرة بوينج 777 تابعة لخطوط آسيانا الجوية قبل المدرج، في جو صحو لتوقف نظام الهبوط الحاسوبي في المدرج وعدم قدرة الطيار على الهبوط بالطائرة على نحو صحيح أثناء القيادة يدويا.
6
ورغم أن أنظمة الكمبيوتر أصبحت أصغر وأرخص كثيرا خلال السبعين سنة الماضية، فإنه يبدو من المقدر لقانون مور أن ينتهي أخيرا؛ فقد توقع خبراء مجال أشباه الموصلات أن معدل تضاعف مكونات الدائرة المتكاملة سيبدأ في التراجع مرة كل ثلاث سنوات بعد عام 2013م، ويعتقدون أنه سيتراجع أكثر من ذلك بعد 2020م.
7
والسبب وراء عدم إمكانية استمرار قانون مور إلى أجل غير مسمى هو أن حجم المكونات داخل الدائرة المتكاملة اقترب جدا من الحد الذي لا يمكن بعده أن تتقلص دون أن تفقد قدرتها على العمل، حسبما أشار علماء الفيزياء والكمبيوتر في السنوات الأخيرة.
فكلما زادت مجهرية حجم الدائرة المتكاملة أكثر فأكثر اقترب حجم مكوناتها من الذرات والجزيئات؛ ف «الأسلاك» الموصلة في الدائرات المتكاملة، على سبيل المثال، صار عرضها الآن أقل من خمسين نانومترا (يساوي النانومتر واحدا على مليار من المتر). وهذا لا يعدل سوى خمسة وعشرين ضعفا من عرض جزيء الحمض النووي. وحين يمر التيار الكهربائي في سلك بهذه الرقة، فمن المحتمل أن «يتسرب» التيار من السلك ويؤثر على المكونات المجاورة.
علاوة على هذا، فإنه عندما يتم تصغير بعض المواد لأحجام أصغر من خمسين نانومترا، تصير قوانين الفيزياء عرضة للتأثيرات الكمية، ويبدأ في الظهور على العديد من العناصر المألوفة خصائص لم تكن فيها في أحجامها العادية؛ إذ إنه في هذه الأبعاد دون المجهرية يصير النحاس في شفافية الزجاج، ويمكن حرق الألومنيوم مثل الورق، ويمكن للذهب أن يذوب مثل مكعب السكر في ماء ساخن. وبالطبع مع تغير الخواص الفيزيائية لهذه المكونات في هذه الأبعاد دون المجهرية، لن تعود الدوائر المتكاملة المصنوعة منها تؤدي العمل المعدة من أجله.
لكن لا بد أن نتذكر كم من تقنية كانت تعد في الماضي مستحيلة وصارت ممكنة في نهاية المطاف، وما زال هناك أحداث لتكتب في تاريخ تصغير حجم الكمبيوتر؛ فهناك مجال جديد في الفيزياء والهندسة يسمى تقنية النانو، مكرس بالكامل لصنع أجهزة من مكونات في حجم الجزيئات. وبالفعل تستخدم أنابيب الكربون النانوية، وقضبان الذهب وأكسيد الزنك النانوية، وبنى الحمض النووي النانوية، وتقنيات تجميع ذاتي جزيئي حديثة، في صنع مكونات دون مجهرية قادرة على أداء بعض وظائف الكمبيوتر الأساسية.
من موقعنا الحالي الذي يعطينا منظورا أفضل، لا نملك معرفة ما إن كانت تقنية النانو ستحقق تقدما بمعنى الكلمة يجعل قانون مور ساريا لما بعد 2025م بكثير، لكن مع وجود الدوائر المتكاملة التي تحتوي على مليارات الترانزستورات في السوق بالفعل، لن تحتاج أجهزة الكمبيوتر مزيدا من التصغير حتى تستمر في غزوها المستمر فيما يبدو لكل مجال من مجالات التكنولوجيا، ولكل جانب من جوانب حياة الإنسان.
في العقود الأولى لتقنية المعلومات لم يتخيل أحد أن الكمبيوتر سيصير جهازا شخصيا يستخدمه الأشخاص العاديون باستمرار على مدار حياتهم اليومية؛ فقد اخترع الكمبيوتر تحديدا على كل حال لأداء عمليات حوسبة رياضية كانت بطبيعتها ببساطة طويلة للغاية، وتستغرق وقتا طويلا جدا على نحو يستعصي على العقول البشرية أن تؤديها بدقة أو كفاءة، لكن خطوات التقدم في القدرة الحاسوبية التي تبدو جامحة والتي تنبأ بها قانون مور لم تجعل أنظمة الكمبيوتر صغيرة بدرجة كافية لوضعها على سطح المكتب أو في حجم الكف فحسب، وإنما جعلتها أيضا ميسورة التكلفة بوجه عام.
أحد أهم تبعات تزايد توفر القدرة الحاسوبية بتكاليف ميسورة أنه من الممكن الآن تخزين جميع أشكال المعلومات في صيغ صالحة للاستخدام على الكمبيوتر. وأنظمة الذاكرة الشديدة الضخامة الضرورية لتخزين الملفات التي تتطلب مساحة كبيرة من نصوص رقمية وصور وتسجيلات صوتية وفيديوهات صارت زهيدة للغاية، حتى أصبح كل ما يكتب أو يصور أو يسجل يخزن على نحو روتيني في صيغة رقمية. وقد خلق هذا التطور أفقا جديدا في تاريخ حياة البشر.
آفاق التاريخ الرقمي
لا يوجد في مجال الاتصالات البشرية شيء يحدد الطريقة التي سترى بها أجيال المستقبل عصرنا أكثر من الأنظمة الرقمية الموجودة حاليا لتسجيل السجلات الثقافية لزمننا وتخزينها واسترجاعها؛ إذ يتراكم حاليا يوما بعد يوم سجل كامل بالسلوكيات والأعراف ومنظومات القيم التي سادت في زماننا، محفوظة بدقة رائعة في شكل نصوص وصور وتسجيلات صوتية وأفلام وفيديوهات رقمية، بكميات لم يكن ليتخيلها الناس في الأجيال السابقة نهائيا.
الفرق الأساسي بين التاريخ وعصور ما قبل التاريخ هو بقاء سجلات مكتوبة من فترات تاريخية، في حين لم يبق من أزمنة ما قبل التاريخ سوى قطع أثرية، وليس سجلات مكتوبة. هكذا يبدأ التاريخ، حسب هذا التعريف، في أزمنة مختلفة في أماكن مختلفة؛ فقد بدأ في مصر ومنطقة الهلال الخصيب باختراع الكتابة المسمارية والهيروغليفية نحو عام 3200 قبل الميلاد، وبدأ في الصين بتطور الكتابة لدى ثقافة لونجشان عام 3000 قبل الميلاد تقريبا، وبدأ في الهند بابتكار كتابة وادي السند عام 2700 قبل الميلاد بالتقريب، وفي شبه جزيرة يوكاتان في المكسيك بتطور كتابة شعوب المايا نحو عام 400 ميلاديا.
لكن للأسف يطرح هذا التعريف الشائع مشكلات شائكة؛ فعلى سبيل المثال، هل بدأ تاريخ الصين والهند مع تطور أقدم أنظمة كتابة لهما، رغم أن هذه الأشكال من الكتابة لم تفك رموزها قط؛ أم من المفترض أن يبدأ مع أقدم أشكال كتابة هذه المناطق التي أمكن فك رموزها، رغم أنها جاءت بعد عدة قرون من بدء استخدام الكتابة استخداما واسعا؟
وماذا عن الثقافات التي كانت متقدمة ثقافيا وتقنيا لكنها لم تترك خلفها آثارا مكتوبة؟ فالثقافات الكلتية في أوروبا العتيقة، على سبيل المثال، كانت شعوبا زراعية متقدمة لديهم نظام طبقي متطور ومعرفة معقدة بتشكيل المعادن سواء البرونز أو الحديد. ومع بداية القرن الأول الميلادي كانت الثقافة الكلتية قد انتشرت في أنحاء أوروبا من المجر حتى الجزر البريطانية. ورغم أن الإغريق والرومان كانوا على معرفة بالكلتيين وكتبوا عنهم كثيرا، فإن الكلتيين أنفسهم لم يستخدموا الكتابة. ورغم ذلك سيكون من المضلل بالتأكيد أن يقال إن الثقافة الكلتية من ثقافات ما قبل التاريخ.
أما مؤرخو المستقبل فسيدرسون القرن الحادي والعشرين وهم يتنفسون الصعداء؛ فعام 2000م يميز قرب بداية أفق التاريخ الرقمي، الذي تتوافر بعده المعلومات المسجلة لكل المجتمعات البشرية لأجيال المستقبل بتمام ودقة منقطعتي النظير. على النقيض من ذلك، أكثر التاريخ المسجل قبل عام 2000م مجتزأ وغير مكتمل.
لا يمكن دراسة تاريخ البشر منذ اختراع الكتابة في حضارات وادي النيل والهلال الخصيب القديمة وحتى اختراع التصوير الفوتوغرافي في أواخر القرن التاسع عشر، إلا من بقايا ناقصة ومعيبة من لوحات مرسومة يدويا، ومخطوطات مكتوبة، وكتب مطبوعة، ودوريات . وكل ما بقي منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى أواخر القرن العشرين، من أسطوانات جرامافون وأفلام وبرامج تلفزيونية لتلك الأيام، هي في الغالب مواد أرشيفية مطموسة وغير واضحة المعالم وتالفة في أحيان كثيرة، كانت مخزنة في الأصل على تسجيلات أصلية وأفلام وشرائط مغناطيسية. غير أن أغلب هذه المواد الأرشيفية التي تعود إلى القرن العشرين قد حولت إلى صيغة رقمية وتحولت إلى ملفات على الكمبيوتر؛ لضمان عدم استمرار تدهورها أكثر من ذلك على الأقل.
حتى اختراع التقنيات الرقمية، كانت كل الطرق المستخدمة في صنع نسخ من المعلومات المسجلة تعاني من نفس القصور، وهي أنه في كل مرة تصنع نسخة كانت بعض المعلومات تضيع. وكان هذا معناه أن النسخة لا يمكن أبدا أن تكون بجودة الأصل، والنسخ من النسخة كان أسوأ، وهكذا دواليك. كان كل جيل من النسخ أقل جودة من الجيل السابق له، وهكذا كلما زاد عدد نسخ الشيء كانت جودة النسخة أسوأ. كان هذا ينطبق على الميكروفيلم والنسخ التي كانت تعد لمواد مكتوبة أو مطبوعة على ورق، والنسخ الفوتوغرافية للصور والأفلام، ونسخ التسجيلات الرئيسية والشرائط المغناطيسية وشرائط الفيديو. وحيث إن كل هذه الأشكال من وسائط التخزين كانت مصنوعة إما من الورق أو البلاستيك، فإنها دائما ما كانت تصير هشة وحائلة اللون وعديمة الفائدة في النهاية مع مرور الوقت.
لكن حين تطورت تقنيات لتحويل كل أشكال الوسائط إلى صيغ رقمية كادت تختفي مشكلات صنع نسخ للنصوص والصور وتخزينها. فمتى خزن نص أو صورة أو تسجيل موسيقي أو فيديو على كمبيوتر أو جهاز نقال، يتحول إلى صيغة رقمية؛ أي إنه يتحول إلى كتلة من الآحاد والأصفار المنتظمة بترتيب معين لتمثل النص أو الصورة المعنية. وعند نسخ ملف الكمبيوتر يعاد استنساخ نسق الآحاد والأصفار المحدد كما كان في الأصل بالضبط دون أخطاء؛ ومن ثم دون فقد الدقة. بناء على ذلك، بصرف النظر عن عدد مرات نسخ ملف الكمبيوتر، سوف يظل دائما مكونا من نفس نسق الآحاد والأصفار كما كان من قبل، وسيظل النص أو الموسيقى أو الصور أو الفيديوهات التي تمثلها هذه الآحاد والأصفار كما هي بالضبط.
ما دام الوسط الذي تخزن عليه هذه الملفات عادة ظل سليما من الناحية المادية وقابلا للقراءة - سواء كان شريحة كمبيوتر أو قرصا صلبا أو قرصا مدمجا أو وسيط تخزين لم يخترع بعد - فلن تبلى النسخ أو تضيع أبدا. وحتى إن بدأ وسيط التخزين نفسه يزداد قدما بعد مرور عدة سنوات، يمكن منح الملفات حياة جديدة بنسخها مرة أخرى ببساطة على وسيط تخزين جديد. فحتى إن لم يحدث مزيد من التطور في تقنيات التخزين على أجهزة الكمبيوتر، وهو احتمال بعيد، فإن كل كلمة مكتوبة أو تسجيل موسيقي أو صورة أو فيديو موجود حاليا في شكل ملف كمبيوتر يمكن تخزينه لمئات آلاف السنين.
إذا كان عام 3200 قبل الميلاد يذكر بأنه الزمن الذي عبرت فيه البشرية لأول مرة أفق التاريخ المكتوب، فسوف يذكر عام 2000 ميلادية بأنه الوقت الذي عبرت فيه البشرية لأول مرة أفق التاريخ الرقمي. فكل كتاب أو دورية أو جريدة أو مجلة أو كتيب أو مدونة أو موقع إلكتروني ينشر اليوم - وكذلك كل فيلم أو ألبوم تسجيلي أو برنامج تلفزيوني يبث أو يذاع - قد صار مخلدا في مكان ما على وحدة تخزين على الكمبيوتر في شكل آحاد وأصفار. ورغم ذلك سيتضاءل هذا الكم الهائل من المعلومات، رغم ضخامته، أمام الكم الأكبر كثيرا من الرسائل الإلكترونية والنصوص والتغريدات والصور والفيديوهات التي يضعها ويرسلها يوميا ملايين الأشخاص في أنحاء العالم، وهي غالبا ما يخزنها ويحفظها مزودو خدمة الإنترنت الذين يرسلونها.
أما المشكلة الرئيسية التي سيواجهها مؤرخو المستقبل فهي كيفية البحث في الكم الهائل من المواد التي ستظل باقية؛ فالسجل الثقافي للزمن الحاضر الذي يجري تسجيله وتخزينه الآن في شكل رقمي سوف يمنح زمننا تميزا فريدا في سجل أحداث التاريخ الإنساني؛ إذ صرنا وسنظل أول جيل تحفظ حياته وزمنه بتفصيل شديد ودقة متناهية. فسوف تعيش أهم إنجازتنا وكذلك أتفه أشكال لهونا كلها طويلا في كتل من الآحاد والأصفار بعد رحيلنا بزمن طويل، وسوف تكون متاحة لتوعية وتسلية الأجيال المستقبلية ما دامت الحضارة الإنسانية نفسها باقية.
الروبوتات والتشغيل الآلي ومستقبل العمل الهادف
إذا كانت التحولات الثقافية التي تسببت فيها الآلات الدقيقة قد قللت من وضع المرأة في النهاية في منتصف القرن العشرين بجعل الآلة تؤدي الكثير من الأعمال المنزلية، فإن تحولات التقنية الرقمية قللت هي الأخرى من مكانة الرجل في القرن الحادي والعشرين بجعل أغلب الأعمال الذهنية والبدنية التي كان الرجال يؤدونها في الأصل تقوم بها أجهزة الكمبيوتر والروبوتات والأنظمة الآلية.
في خمسينيات القرن العشرين، حين كانت ظاهرة التشغيل الآلي في مهدها، كان أكثر الأسئلة التي راودت أذهان علماء الاجتماع هو: «كيف سيتكيف الناس في مجتمع المستقبل مع الزيادة الكبيرة في وقت الفراغ التي من المقدر أن تتيحها تقنيات التشغيل الآلي؟» فقد كان ثمة افتراض - يبدو بالأحرى ساذجا الآن - أنه إن استطاعت الآلات تولي أغلب المهام التي كان يؤديها العاملون، فسوف يتقلص أسبوع العمل لكل العمال بما يتناسب بالمقدار الذي تؤديه الآلات من عملهم. وكانت المشكلة المترتبة على هذا تصور دائما من ناحية ما سوف يفعله العامل العادي بكل وقت الفراغ الذي سينتج عن هذا التحرر من روتين العمل اليومي.
8
لكن تبين أن زيادة وقت الفراغ ليست مشكلة كبيرة؛ فرغم أن وقت فراغ العامل الأمريكي العادي قد زاد عدة ساعات أسبوعيا منذ خمسينيات القرن العشرين، فإن معظم وقت الفراغ الإضافي هذا يقضى في مشاهدة التلفزيون. بالإضافة إلى هذا، يتقاعد الملايين من الرجال والنساء من وظائفهم كل عام، ويعيش العديد من المتقاعدين عشرة أو عشرين أو ثلاثين عاما قبل وفاتهم بسبب الشيخوخة. ويجد معظم المتقاعدين أشياء مفيدة ومجزية ليقضوا فيها وقتهم. وهكذا، بدلا من أن تخلق الزيادة في وقت الفراغ مشكلة لا بد من حلها، صارت ينظر إليها باعتبارها فرصة يمكن استغلالها. ولكن لا ينطبق الشيء نفسه على رجال ونساء في أهم مراحل حياتهم وقد حرموا من وظائفهم ورواتبهم والكثير من احترامهم لذواتهم عندما استولت أجهزة الكمبيوتر والروبوتات وأنظمة التشغيل الآلي على العمل الذي كانوا يؤدونه.
يبدو أنه لم يخطر للمعلقين الاجتماعيين في خمسينيات القرن العشرين أنه حين تبدأ الآلات القيام بالعمل الذي كان يؤديه البشر قبل ذلك، لن تكون النتيجة انخفاضا تدريجيا في أسبوع العمل، وإنما بالأحرى اتجاه نحو ارتفاع البطالة والبطالة المقنعة. فلا يبدو أن أحدا قد أدرك أنه حين تصير أجهزة الكمبيوتر قادرة على أداء العمل الذهني وتصير الروبوتات قادرة على أداء العمل البدني، سوف يعفى أغلب الناس الذين كانوا يقومون بهذا العمل من وظائفهم ببساطة، وأنه سيأتي محلهم عدد أقل كثيرا من التقنيين المدربين جيدا اللازمين لبرمجة الأنظمة التي تعمل بالكمبيوتر وتشغيلها وصيانتها.
بالإضافة إلى هذا، لم يأت الجيل الجديد من أصحاب المهارات المعرفية في أغلبهم من صفوف العمال اليدويين، ولكنهم بالأحرى خريجي كليات درسوا مواد من عينة علوم الكمبيوتر والرياضيات وإدارة المشروعات ومراقبة العمليات، لكن يبدو أن هذا هو العالم الذي نعيش فيه الآن، ويبدو يوما بعد يوم أنه سيكون مصير ملايين الأشخاص الذين جرى تعيينهم في مجالي التجارة والتصنيع؛ لذلك هذا هو السؤال الذي يجب أن نجيب عليه الآن: «كيف سيجد كل الناس الذين يفقدون وظائفهم بسبب انتشار أنظمة التشغيل الآلي وظائف هادفة ومجزية في مجال آخر، ويستعيدون كرامتهم ومكانتهم السابقتين في المجتمع؟»
رغم اضطراد تفاقم هذه المشكلة منذ ظهور أنظمة الكمبيوتر الميسورة التكاليف والموثوق بها في منتصف القرن العشرين، فإنه لا يبدو أن هناك إجابة مرضية عن هذا السؤال المحوري. فيتزايد أداء أنظمة التشغيل الآلي لكل المهام الروتينية التي كان يضطلع بها البشر، وتتولى الروبوتات تدريجيا المهام البدنية في التصنيع، وأنظمة الكمبيوتر التي طورت للتحليق بطائرات من دون طيار ستتولى قريبا قيادة مركبات العالم الحديث من وإلى وجهاتها.
وهذا يثير التساؤل حول كيفية توزيع ثروة المجتمع الحديث على أعضاء المجتمع غير القادرين على العثور على عمل مربح؛ فلن يكون من المنطقي افتراض أن يخضع العدد المتقلص من العاملين الذين ما زال لديهم دخول كافية لضرائب بمعدلات مرتفعة، وأن تعيد الحكومات توزيع هذا المال على أفراد المجتمع الذين لا يستطيعون العثور على وظائف. فمن ناحية، ستأتي مرحلة لا يعود فيها من يملكون بالعدد الكافي لإعانة من لا يملكون. ومن ناحية أخرى، يؤدي عدم وجود عمل هادف للأشخاص البالغين إلى تدمير احترامهم لذواتهم. وتقدير الذات لا يمكن استرجاعه بالإعانات.
وقد تصير هذه المشكلة أكثر خطورة على الرجال من النساء في نهاية المطاف؛ لأن أغلب النساء لديهن خيار حمل الأطفال وتربيتهم، ويحظى هذا الدور بقبول اجتماعي عالميا، ويعد مهما من أجل بقاء كل مجتمع إنساني مستقبلا، غير أن مكانة المرأة وكرامتها في المجتمع المعاصر لا تستند إلى دورها الإنجابي فحسب؛ فلو حرمت المرأة من مصدر دخلها المستقل وأمنها الاقتصادي ستتراجع مكانة المرأة سريعا إلى مستواها البائس الذي كان في مجتمع منتصف القرن العشرين.
تجربة القرن العشرين الاشتراكية الكبرى التي حاولت فيها روسيا وأوروبا الشرقية والصين وضع كل الأنشطة الاقتصادية تحت سيطرة حكومات الدول، فشلت في أن تحقق ازدهارا عاما أو اكتفاء ذاتيا أكثر في الحياة لسببين. أولا: لأنها تعارضت مع النزعة البشرية القديمة والغريزية للعمل وتحقيق مكسب شخصي. وثانيا: لأن النظام القائم على مبدأ «من كل على حسب طاقته، إلى كل على حسب حاجته» لا يمكن أن ينجح إلا في مجموعة بشرية متماسكة مثل العائلة، حيث يستمد الأشخاص احترامهم لذاتهم من حب ورضاء الآخرين، ويرون سعادتهم في سعادة أقرب الأشخاص إليهم وشركائهم في الحياة، لكن مهما كانت هذه المبادئ نبيلة فهي لن تنجح على مستوى الدول؛ حيث أغلب الناس أغراب بعضهم عن بعض.
وفي الوقت نفسه نتج عن عصر تكنولوجيا المعلومات بالفعل بعض التقدم الملحوظ في الثقافة البشرية، ومن أهم سماته القدرة غير المسبوقة على التواصل مع الآخرين، وتبادل المعلومات بحرية أكبر وعلى نطاق أوسع، وتجميع حكمتنا الجماعية لتنتفع بها الإنسانية في نهاية المطاف. وتبدأ هذه القدرات مع الفرد الذي منح الآن القدرة على إبداء رأيه بطريقة تسمح لأي شخص آخر على وجه الأرض الاستماع له.
وسائل التواصل الاجتماعي والمنابر الرقمية
من بين كل القدرات البشرية التي أفرزتها تقنية المعلومات حتى الآن، ربما كان أقلها توقعا الانتشار المفاجئ لنظام التواصل المسمى بوسائل التواصل الاجتماعي، حيث ينشئ كل فرد شبكة شخصية من أشخاص آخرين، ويتواصل بانتظام مع الأشخاص الآخرين في هذه الشبكة. ورغم الترحيب بوسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها شكلا جديدا تماما من التواصل الإنساني، فإن مبادئ التواصل البشري التي تجسدها قديمة قدم عصور ما قبل التاريخ.
المجتمعات الأبسط التي درسها اختصاصيو علم الإنسان طوال القرن العشرين - مجتمعات الصيد وجمع الثمار والمزارعين الذين سلكوا نهج قطع أشجار الغابات وحرقها من أجل توفير مساحات للزراعة - كانت لديها طريقة مميزة في إبلاغ الأعضاء الآخرين في جماعتها بأفكارها ومشاعرها. فنظرا لأن مساكن هذه الجماعات كانت عادة صغيرة الحجم ومصنوعة من مواد قابلة للاختراق مثل جلود الحيوانات أو قش النخيل - وبما أنها كانت لا تبعد عادة عن بعضها سوى بضع أقدام فقط - فقد كان أفراد هذه المجتمعات يتمتعون بقدر ضئيل من الخصوصية أو لا يتسنى لهم أي قدر من الخصوصية على الإطلاق. وعندما كانوا يجلسون في خيامهم أو أكواخهم كان أي شيء يقولونه بنبرة عادية يستطيع جيرانهم سماعه، وأي شيء يقال بصوت عال كان يسمعه بسهولة جميع الأشخاص الذين يعيشون في مخيماتهم الصغيرة المتلاحمة.
وكان حين يصير لدى أحد الناس الذين يعيشون في مثل هذه المجتمعات شكوى من زوج أو جار أو قريب أو عدو، يقيم نفسه في منتصف ساحة عامة - في الفسحة التي كانت تقع غالبا وسط مجموعة من الأكواخ أو الخيام، على سبيل المثال - ويبث شكاواه في نبرة اتهام مرتفعة. ولم تكن الخطب التي تلقى على هذا النحو موجهة لفرد واحد، وإنما للمجتمع ككل، وكان المعتاد أن يستمع إليها أفراد المجتمع باهتمام كبير. وفي كثير من الأحيان كان أحد أفراد الجماعة يصيح ببعض تعليقات الاستحسان أو الاستهجان من داخل حدود مسكنه، وأحيانا كان يفترض أن تكون هذه التعليقات الصادرة عن الجمهور غير المرئي غالبا ساخرة، ولم يكن من المستبعد أن تثير هذه التعليقات ضحك أفراد آخرين في الجماعة.
لم يقتصر دور هذه الخطب المشحونة بالعاطفة على إعطاء المتحدث وسيلة للتنفيس عن إحباطاته فحسب، ولكنها كانت تتيح كذلك بث الشكاوى الفردية في ساحة الخطاب العام. وكانت تعليقات المستمعين - التي كانت دائما ما يسمعها أفراد آخرون في المجتمع - هي الأخرى بمثابة وسيلة لاستطلاع الرأي العام، وكانت تعطي فرصة للجماعة ككل للإدلاء بدلوهم في إيجابيات وسلبيات شكوى المتحدث. على هذا النحو، كانت قيم وسلوكيات الجماعة نفسها تبث وتؤيد وتراجع وتجود عن طريق هذه الأفعال الشائعة من إلقاء الخطب.
لكن حين نشأت القرى الدائمة أثناء الثورة الزراعية، لم تكن الطبيعة المادية لهذه المساكن الأكثر استقرارا مرحبة إلى حد ما بهذا الطقس البشري القديم؛ إذ إنه في العديد من المجتمعات الزراعية، كما في المجتمعات الريفية المتناثرة في شمال أوروبا والشرق الأقصى، كانت الأسر المستقلة تميل للعيش في الحقول والحدائق التي امتلكتها، وكانت منازلهم يبعد بعضها عن بعض بعشرات أو مئات الياردات عادة؛ شديدة البعد بعضها عن البعض لدرجة تحول دون سماع إحدى الأسر المجاورة شكوى أحد الأشخاص. علاوة على ذلك، كانت هذه المستوطنات كثيرا ما تفتقر إلى المنطقة المشتركة التي يصل إليها كل أفراد المجتمع بسهولة. وقلما كان الناس الذين يعيشون في هذه المجتمعات يتواصل عن كثب بعضهم مع بعض إلا فيما يطرأ من مراسم جماعية مثل الأعراس أو الجنازات أو الشعائر الدينية.
في أنواع أخرى من المجتمعات الزراعية، وخير مثال عليها القرى الريفية المتوسطية في اليونان وإيطاليا وشمال أفريقيا، تعيش الأسر في مجتمعات كثيفة السكان مكونة من قرى محصنة، حيث يقضي المزارعون الليل في منازلهم القروية ويخرجون من القرى نهارا للعمل في حدائقهم ومراعيهم وكرومهم وبساتينهم. وتميل المنازل في هذه المجتمعات لأن تكون مساكن دائمة مبنية من الطوب اللبن أو الأحجار، بجدران سميكة صلبة ونوافذ وأبواب. ولا يتيح هذا النوع من المعمار بانتقال الأصوات لأبعد من أقرب جار، فقط إن علا الصوت لمرتبة الصياح. وفي هذه الأنواع من المجتمعات نادرا ما كانت شكاوى وآراء الأزواج والزوجات، والمديونين والدائنين، والحلفاء والأعداء، والمحبين والخصوم، تذاع على الملأ، وإنما كانت بالأحرى تهمس سرا. وكثيرا ما كانت مادة للقيل والقال، لكنها قلما كانت موضوعا للنقاش العام على الملأ.
مع التوسع الحضري للبشر الذي جاء مع الثورة الصناعية، لم يعد الجيران بالضرورة أفرادا حتى في نفس المجتمع، ونادرا ما كان بينهم الأقارب الذين كانت تتشكل منهم في الماضي مجتمعات الصيادين وجامعي الثمار. من ثم فقدت ثقافات الشعوب المعاصرة - المنحدرين جميعا من نسل قرويين مزارعين وسكان بلدات - عادة الصيادين وجامعي الثمار إذاعة تظلماتهم أو شكاواهم أو آرائهم على الملأ منذ زمن طويل، إلا أن اختراع وسائل التواصل الاجتماعي وفر الآن الآلية التي اكتشفت بها الشعوب المعاصرة متع وملذات نشر آرائهم على شبكة من الأقران. وقد يكون هذا سبب التحاق عدد غير مسبوق من الناس بشبكات التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة.
ولا يقتصر دور وسائل التواصل الاجتماعي على تمكين كل الناس الموجودة ضمن شبكة كل شخص من عرض تعليقاتهم واستجاباتهم، بل وتجعل كل هذه التعليقات والاستجابات متاحة لكل شخص آخر في شبكة كل شخص. هكذا أدى المنبر الرقمي الناتج عن تطور شبكات وسائل التواصل الاجتماعي إلى إعادة تشكيل الطقس البشري القديم - الذي وجد بين جميع الصيادين وجامعي الثمار الرحل، لكنه تقلص بدرجة بالغة مع ألفيات من الحضارة الزراعية والصناعية - بمشاركة أكثر الأسئلة والملاحظات والآراء خصوصية في حياتهم اليومية مع أقرانهم بصفة يومية. ويوحي شيوع هذه العادة بين الصيادين وجامعي الثمار والقرويين البدائيين حول العالم بأنها حاجة إنسانية أساسية وعادة بشرية طبيعية أن تشارك المعلومات وتعزز القيم ويستقصى الرأي العام بشأن كل متع الحياة اليومية وتقلباتها.
من بين كل التغييرات العديدة التي جلبها تطور تقنية المعلومات، ربما لا شيء يعدل أهمية التوسع غير المسبوق في القدرة على التواصل مع الآخرين، وتحقيقه تحولا في المجتمع نهاية المطاف؛ إذ تتعدى هذه القدرة إتاحة وسائل التواصل الاجتماعي نشر الخاص من الأفكار والمشاعر والسلوكيات على الملأ؛ فهي تشمل في واقع الأمر كل نوع من أنواع التواصل البشري؛ تشارك المعلومات بين الأشخاص الذين تجمعهم نفس الاهتمامات، وتبادل الرسائل الخاصة بين الأفراد، وتبادل البضائع والخدمات، والقدرة على سفر المرء من وطنه من وإلى أوطان ومجتمعات وثقافات أخرى.
الشبكة العنكبوتية العالمية للتواصل البشري
عالمنا السريع التطور ذو أجهزة الكمبيوتر الشخصية والأجهزة النقالة والإنترنت وأقمار الاتصالات الصناعية والطيران التجاري الدولي نتج عنه بالفعل تطورات غير مسبوقة في تقنيات التواصل؛ فقد خلقت تقنية المعلومات عالما زادت فيه قدرة الناس على الكتابة إلى أي شخص آخر على ظهر الكوكب والحديث معه وزيارته والتجارة معه مباشرة على مدار أربع وعشرين ساعة يوميا.
تقنية المعلومات هي التي مكنت المركبات الفضائية من وضع أقمار اتصالات صناعية في مدار الأرض المنخفض. لم تقلل هذه الأقمار الصناعية من تكلفة المكالمات الهاتفية الدولية إلى مستوى معقول فحسب، وإنما أتاحت لكل البشر أيضا مشاهدة الفعاليات الرياضية والكوارث الطبيعية واندلاع الحروب في وقتها على أجهزة إلكترونية. ولأول مرة في تاريخ البشر أنشئت شبكة مواصلات دولية تمكن أي شخص على الأرض من التجارة مع أي شخص أو زيارته خلال ساعات أو أيام. وهذه الحرية في التواصل لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية بأسره.
أدى تطور السفن البخارية والسكك الحديدية في أوائل القرن التاسع عشر إلى ارتفاع هائل في السفر لمسافات طويلة، وكان مسئولا إلى حد ما عن التحام الآلاف العديدة من المدن والقرى والدول المدن التي كانت موجودة منذ عصور سحيقة لتصبح ذلك العدد الصغير من الدول القومية الموجودة الآن. وقد تضاعف مؤخرا عدد الناس الذين يسافرون إلى دول وثقافات أخرى، سواء سائحون أو لأغراض العمل - بدرجة كبيرة نتيجة للتطورات التي حدثت في تقنيات التفاعل منذ عام 1950م؛ فقد زار نحو خمسة وعشرين مليون شخص دولا أخرى بغرض السياحة في ذلك العام. وبحلول عام 2011م زاد هذا العدد إلى مليار تقريبا؛ هذا يمثل زيادة قدرها 4000 في المائة في فترة لا تتعدى عمر إنسان واحد (انظر شكل
9-3 ). ومن المحتمل أن يصل عدد الرحلات السياحية الدولية، بمعدل ارتفاعه الحالي، إلى 1,6 مليار بحلول عام 2020م، وفقا لمنظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة.
9
شكل 9-3: منذ تطور أنظمة النقل المحوسبة، ارتفع عدد الرحلات السياحية الدولية ارتفاعا بالغا؛ لينمو من نحو خمسة وعشرين مليون رحلة سنويا عام 1950م إلى أكثر من مليار رحلة عام 2015م.
صاحب هذا الارتفاع الهائل في السياحة الدولية نمو مواز في عدد الأشخاص الذين هاجروا من قارة لأخرى ومن دولة قومية لأخرى؛ ففي عام 2013م كان نحو 232 مليون شخص ممن يعيشون على الأرض مهاجرين ولدوا في دولة وانتقلوا للإقامة الدائمة في دولة أخرى؛
10
يزيد هذا العدد عن ضعف عدد سكان كوكب الأرض حين بدأت الحضارات المدنية.
سينتج عن هذه الشبكة العنكبوتية العالمية من التواصل البشري تحول بالغ الأثر في الحياة والمجتمع البشري، مثل أي تحول من تحولات الماضي. في الواقع، عند النظر إلى التغيرات التي أحدثتها تقنية الآلات الدقيقة في المجتمع والثقافة، يتضح لنا أنه من الصعوبة بمكان توقع الآثار النهائية لأي تقنية مهمة بتأمل نتائجها المباشرة.
فمن كان يتوقع أن تطوير صانعي الساعات في القرون الوسطى للآلات الدقيقة - الذي كان مدفوعا بمحض رغبة في إنتاج ساعات أكثر دقة - سوف يؤدي سريعا إلى اختراع آلة الطباعة الحديثة ونمو المعرفة ونهضة الفنون والعلوم في أنحاء العالم الغربي ؛ أو أن العالم المتحضر سيبدأ استخراج الفحم، حين تتزايد حاجة صانعي الساعات للحديد والصلب مستهلكة غابات أوروبا، مما سيؤدي سريعا إلى اختراع المحرك البخاري بكل آثاره المتعددة على طبيعة التصنيع والسفر والتجارة؛ أو أن نجاح المحرك البخاري سيثمر الثورة الصناعية التي سينتج عنها خلال قرن واحد محرك الاحتراق الداخلي والسيارة والطائرة وانتشار استخدام الطاقة الكهربائية؟
من كان يتوقع أن تؤدي هذه التقنيات الصناعية في النهاية إلى الانصراف عن إنتاج الغذاء وانتقال الغالبية العظمى من سكان الأرض بأعدادهم الغفيرة من الريف إلى المدن؟ من كان يتوقع أن تؤدي الآلات الدقيقة في النهاية إلى ظهور وسائل الإعلام، ونشأة مجتمع الموظفين، وظهور الآلات المنزلية، وتصحر مساحات من اليابسة، واختلال المناخ العالمي، وانقراض أنواع كثيرة من النباتات والحيوانات، وكل التغييرات الأساسية التي جرت في العادات والتقاليد التي تحكم مؤسسات الزواج ونسيج العائلة ، بل وحتى قواعد السلوك الجنسي للبشر؟
وحيث إن التقنية الرقمية تحرر نوعنا الآن من حدود المكان والزمان التي كانت تقيدنا فيما مضى، فإن التغييرات التي تنتظرنا في المستقبل البعيد لا يمكن تصورها إلى حد كبير، لكننا متأكدون أننا سنشهد في المستقبل القريب تحولا كبيرا واحدا على الأقل؛ ميلاد الحضارة العالمية.
حركة الاندماج الأخيرة
بدأت ظاهرة الاندماج الاجتماعي بين البشر أول ما بدأت خلال العصر الحجري العلوي في عصور ما قبل التاريخ، وقد أطلق شرارتها تقنية التواصل الرمزي؛ فنشأة اللغة والفنون والرموز المرئية أتاحت للجماعات الرحالة في تلك الحقبة - التي كانت كل واحدة منها مكونة من بضع عشرات من الأقارب - أن تتقاسم هوية ثقافية مشتركة مع جماعات رحالة أخرى؛ وبهذا اندمجت في قبائل مكونة من آلاف الأفراد.
وقع الاندماج بين القبائل على نطاق أكبر في أواخر العصر الحجري الحديث، حين اخترع سكان القرى المزارعون في تلك الفترة قوارب نهرية ومركبات ذات عجلات وأنظمة كتابة، واندمجوا في الحضارات المدنية التي ضمت عدة قبائل وكونت مجتمعات بلغ عدد سكانها مئات الآلاف. وأخيرا، حين ابتكرت الثورة الصناعية تقنيات أكثر قوة وكفاءة للسفر والتجارة والاتصال، فإن آلاف الدول المدن التي ظلت باقية منذ فجر الحضارة التحمت خلال أقل من قرنين في أقل من مائتي دولة قومية، تضم أغلبها الآن سكانا يقدر عددهم بالملايين.
والأسباب وراء حركات الاندماج هذه ليست بلغز؛ فحين يجد الناس أن التفاعل عبر الحيز الجغرافي أسهل يصير تصور الشعوب الأخرى على أنها تنتمي إلى عالمهم المألوف أيسر، وكلما كان تواصل بعضهم مع بعض سهلا زاد احتمال أن يسعوا إلى العثور على لغة مشتركة. وكلما زاد سفر بعضهم إلى مناطق بعض واستقرار بعضهم في أراضي بعض، زاد احتمال أن يتبنى بعضهم عادات وتقاليد بعض. ومع الوقت، يزيد احتمال أن يتناولوا نفس الطعام ويرتدوا نفس الملابس، بل ويحتفلوا بنفس الأعياد. ويصيرون أكثر استعدادا للتناسل وإنجاب أطفال ينشئون في ظل أكثر من مجموعة واحدة من العادات والقيم والسلوكيات.
تميل كل هذه الأشياء إلى تقليل الاختلافات الثقافية بين الجماعات التي كانت فيما مضى متباينة ومتباعدة. وفي النهاية يبدأ الناس الذين كانوا ينتمون من قبل إلى ثقافات مختلفة اختلافا بينا في الانخراط في ثقافة جديدة وأوسع نطاقا، لا سيما إن كانت هذه الثقافة الجديدة تقدم مجموعة من القيم والمؤسسات والتقاليد القادرة على التوفيق بين ثقافات الحقبات الماضية رغم الاختلافات بينها. هكذا يمكن التنبؤ بنتيجة واحدة بثقة من بين النتائج المترتبة على التقدم الهائل الذي أحدثته تقنية المعلومات: أن الجماعات البشرية سوف تندمج في مجموعات أكبر من التي وجدت من قبل على الإطلاق.
إلا أنه هناك دائما في المجتمع البشري قوى جبارة تقاوم التغيير. وفي نفس الوقت الذي تلتحم فيه عدة مناطق مأهولة بالبشر تمر مناطق أخرى بالعملية العكسية، وتنقسم إلى الأجزاء المنفصلة التي كانت مجتمعة في كيان واحد قبل ذلك؛ فالإمبراطوريات السابقة تنقسم إلى أجزاء وتصبح أمما مستقلة. ومن الأمثلة الحية على عملية الانقسام السياسي في الزمن المعاصر انحلال الإمبراطورية الإسبانية، والإمبراطورية البريطانية، والإمبراطورية النمساوية المجرية، والإمبراطورية العثمانية، والاتحاد السوفييتي. وقد تفقد الدول القومية كذلك وحدتها السياسية وتنقسم إلى أجزاء كما حدث في تسعينيات القرن العشرين، حين تفتتت جمهورية يوغوسلافيا السابقة إلى دول مستقلة، هي صربيا وكرواتيا وسلوفينيا ومقدونيا والجبل الأسود والبوسنة والهرسك.
أخيرا، بينما تموت لغات الثقافات المندثرة فعلى الأقل عادت الحياة إلى بعض اللغات «الميتة» وصارت لغات حية مرة أخرى؛ فاللغة العبرية التي ظلت قرونا مقتصرة على الطقوس الدينية صارت لغة حديثة يتحدث بها ملايين المواطنين الإسرائيليين بصفة يومية. ويجب ألا ننسى أنه رغم اندماج العالم سياسيا في أقل من مائتي دولة قومية، فما زال هناك في واقع الأمر أكثر من سبعة آلاف لغة يتحدث بها العالم الآن، وتمثل كل واحدة من تلك اللغات جماعة عرقية مستقلة، ذات عادات وتقاليد متمايزة وهوية منفصلة ما زالت باقية، إلا أنه حسب تقديرات خبراء اللغة، تعاني أكثر من ثلث اللغات الموجودة حاليا تدهورا أو في طريقها للاندثار.
11
فحركة الاندماج الثقافي تجري بوتيرة أسرع عن أي وقت مضى في تاريخ البشر.
خلاصة ما سبق أنه كما أظهر تاريخ تحولات الماضي بوضوح شديد، فإن كل تقدم مهم في تقنيات التفاعل أفرز في النهاية شكلا من المجتمع الإنساني أوسع نطاقا وأكثر شمولية. والتطورات التي حدثت في تقنيات التفاعل التي كان مصدرها تطور التقنيات الرقمية هي الأكثر زخما على مدار التاريخ الإنساني بأكمله. من الأرجح أن تستمر هذه العملية الأساسية حتى تبلغ نهايتها: حركة اندماج نهائي؛ إذ تتحرك البشرية على مهل للاتحاد في كيان أكبر لتصبح ثقافة إنسانية عالمية جديدة - باختصار، ميلاد حضارة عالمية. •••
حين يبدأ مجتمع وثقافة عالمية في التشكل، لن يكون المزيد من الاندماج بين البشر ممكنا أو ضروريا. كذلك لن تكون حركة الاندماج الأخيرة والنهائية هذه معناها أن أيا من الجماعات البشرية التي نشأت بالفعل ستختفي من الوجود. فالتاريخ يبرهن لنا أن الجماعات البشرية التقليدية التي انبثقت عن تحولات سابقة - الأسر والعشائر والقبائل والأحياء والقرى والبلدات والمدن والأقاليم والدول والأمم -احتفظت كلها بهوياتها، وحافظت على وحدتها، وظلت هي المتحكمة في مجالات الحياة الملائمة لها، حتى مع ظهور كيانات أكبر وأكثر شمولية.
في الفصل التالي والأخير، سنتناول بالبحث القوى المتعددة - التي أطلقت لها العنان التقنيات نفسها التي جعلتنا بشرا - والتي صارت تهدد استمرار كوكبنا على المدى الطويل وشبكته الهشة من أشكال الحياة. كذلك سنأخذ في الحسبان احتمال استخدام البشر لقوى التقنية الرقمية بهدف إنشاء كيانات عالمية جديدة قادرة على إدارة موارد الأرض - ليس لمصلحة دولة واحدة وإنما لمصلحة البشرية جمعاء، وكل أشكال الحياة الأخرى على ظهر البسيطة.
الفصل العاشر
عالمنا على حافة الهاوية
هل البشر متجهون إلى كارثة كوكبية؟
العالم مكان خطير للعيش فيه؛ ليس بسبب من يقترفون الشرور، وإنما بسبب أولئك الذين يرونهم دون أن يحركوا ساكنا.
ألبرت آينشتاين، «محادثات مع كازالز»
في الحادي والعشرين من يوليو عام 1969م، صار رائدا الفضاء نيل آرمسترونج وباز آلدرين أول اثنين من البشر - وقطعا أول كائنات أرضية - يطآن سطح القمر بأقدامهما، وقد تبعهما على مدار ثلاث السنوات والنصف التالية عشرة آخرون. وربما كان مشهد الأرض من أعماق الفضاء هو الأوقع بين كل المشاهد والتجارب الفريدة التي جاءت مع الهبوط على سطح القمر، من حيث تأثيره على رواد الفضاء أنفسهم.
يتذكر فرانك بورمان، قائد بعثة أبولو 8، تجربة رؤية كوكب الأرض، بكل بهائه وتعدد ألوانه، طافيا في الفضاء على بعد ربع مليون ميل تقريبا؛ إذ كتب قائلا: «تصادف أن نظرت من إحدى النوافذ التي كانت ما زالت رائقة في نفس اللحظة التي بدت فيها الأرض فوق أفق القمر؛ وقد كان أجمل مشهد يأسر الألباب رأيته في حياتي، مشهد أرسل بداخلي حنينا جارفا، واشتياقا بالغا للوطن.»
1
وقد علق جيمس لوفيل، ربان وحدة القيادة، ذات مرة قائلا: «لم يكن أكثر المشاهد التي بهرتني مشهد القمر، ولا الجانب النائي الذي لا نراه قط، ولا الفوهات القمرية، بل كان مشهد الأرض ...»
2
إلا أن مستقبل كوكبنا الفريد الذي ليس له بديل تتهدده الآن التقنيات نفسها التي جعلتنا بشرا تهديدا خطيرا كما لم يحدث من قبل قط؛ فالكوارث البشرية من حروب وتلوث وتصحر وانقراض للأنواع وتغير للمناخ - التي انبثقت كلها من براعاتنا التقنية - جعلت العالم الحي على المحك. لكن قبل أن نبحث كل تهديد من هذه التهديدات بالتفصيل، لا بد أن نفكر مليا في أحد الأسئلة الجوهرية في عصرنا. هل نستطيع أن نهرب من الشرور التي خلقناها بأيدينا بأن نترك الأرض وراءنا ونبدأ من جديد؟ هل نستطيع بناء حياة أفضل للبشرية على أرض بكر لكوكب آخر؟
هل نستطيع استعمار كواكب أخرى؟
ثمة فكرة صارت شائعة في السنوات الأخيرة، حيث يتصور أن أجيال المستقبل من البشر سيفرون من مشكلات الأرض باستخدام تقنيات متطورة لاستعمار كواكب أخرى، لكن حتى إن تجاهلنا التحدي اللوجيستي الهائل المتمثل في إطلاق مئات آلاف الأطنان من المؤن والمعدات في الفضاء - وفكرنا فقط في الظروف البيئية التي نعلم بوجودها في كواكب أخرى - فلن يبدو هدف استعمار أجرام سماوية أخرى غير واقعي فحسب، بل متعذرا فعليا أيضا، بحكم الواقع.
أما قمر كوكب الأرض فهو عالم صامت خال من الهواء يتكون من صخور صماء وغبار لا حياة فيه. واليوم الواحد على القمر يوازي ثمانية وعشرين يوما على الأرض، ودرجات الحرارة على سطح القمر خلال نهار هذه «الأيام» القمرية ساخنة لدرجة تكفي لغليان المياه، بينما قد تنخفض درجات الحرارة خلال هذه «الليالي» القمرية لنحو 300 درجة تحت الصفر على مقياس فهرنهايت.
كوكب عطارد من ناحية أخرى هو كرة عديمة الهواء من الحديد والصخور تدور ببطء شديد، حتى إن اليوم الواحد على عطارد يستمر شهرين تقريبا من أيام كوكب الأرض؛ ولهذا السبب ترتفع درجات الحرارة على سطح عطارد إلى 650 فهرنهايت خلال «النهار»، وتنخفض إلى 274 تحت الصفر خلال «ليل» عطارد.
أما كوكب الزهرة فتكتنفه غيوم ملتفة من حامض الكبريتيك، وغلافه الجوي كثيف، حتى إن الضغط الجوي على سطح الكوكب ثقيل جدا؛ إذ يبلغ 1350 رطلا لكل بوصة مربعة؛ هذا أكثر 92 مرة من الضغط الجوي على الأرض البالغ 14,7 رطلا لكل بوصة مربعة عند مستوى سطح البحر، وهو في الواقع يعادل الضغط الذي سيشعر به الغواص عند الغوص نصف ميل تحت البحر. وبسبب «تأثير الاحتباس الحراري الجامح» لغلافه الجوي المشبع بثاني أكسيد الكربون، ترتفع درجات الحرارة على سطح كوكب الزهرة بشكل دائم عن ثمانمائة درجة فهرنهايت، وهي حرارة كافية لإذابة معظم المعادن اللينة، ومن بينها الرصاص والزنك.
وكوكب المريخ أرض قاحلة متجمدة من الصخور والغبار حمراء اللون بسبب تركز أكسيد الحديد بها بدرجة مرتفعة. ويصل متوسط درجات الحرارة على سطح المريخ إلى 80 درجة تحت الصفر على مقياس فهرنهايت. الغلاف الجوي للمريخ أرق مائة مرة من الغلاف الجوي للأرض، ويتكون 95 في المائة من هذا الغلاف الجوي من ثاني أكسيد الكربون، مع وجود قدر ضئيل من الأكسجين. وبالإضافة إلى درجات الحرارة القاسية والهواء غير الصالح للتنفس، تضرب العواصف الترابية العاتية المريخ بانتظام، وقد تستمر شهورا متتالية، وكثيرا ما يزيد حجمها فتحيط بالكوكب بأكمله.
المشتري وزحل ونبتون وأورانوس - «عمالقة الغاز» في نظامنا الشمسي - تتكون من لب من الجليد والصخور أكبر من الأرض مغطى بغلاف جوي سميك من الهيدروجين والهيليوم، ومدفون تحت محيطات مترامية من الهيدروجين والهيليوم المسيلين يصل عمقها لآلاف الأميال. ليس لأي من هذه الكواكب أي «أسطح» حقيقية بالمعنى الطبيعي للكلمة، وإنما مناطق طرية حيث تنضغط الغازات فتتحول إلى سوائل، وحيث تنضغط السوائل فتتحول إلى مواد صلبة، وكلها مخفية في ظلام دامس ودائم.
حين نضع في الاعتبار قسوة بيئة الكواكب الأخرى التي في مجموعتنا الشمسية على كل أشكال الحياة المعروفة، نجد أنه لا يوجد بينها مرشح مقبول للاستيطان البشري. ولا شك أنه سيكون حلا عمليا أفضل بكثير - وأسهل - أن نستوطن قارة أنتاركتيكا الشاسعة غير المأهولة، حيث تتراوح درجات الحرارة بين 20 و50 تحت الصفر فحسب، وحيث الهواء قابل تماما للتنفس وغني بالأكسجين، وحيث السماء زرقاء. لكن لما كانت خامس أكبر قارات الأرض مفتقرة لعنصر الرومانسية الخيالية الذي يلف الكوكب الأحمر، لم يحدث إقبال لاستيطانها على وجه العموم.
لكن ماذا عن «الكواكب الشبيهة بالأرض» التي اكتشفها علماء الفلك في مجموعات شمسية أخرى قريبة؟ هل يمكن أن يوفر أحدها موطنا ثانيا لفائض السكان من البشر الذين قد يفيض بهم سطح الأرض قريبا، مع وضع معدل الزيادة السكانية الحالي في الاعتبار؟
رغم أن علماء الفلك بوجه عام متفقون على أن الكون يحتوي على عدة كواكب أخرى شبيهة بالأرض، فكل هذه العوالم بعيدة جدا، حتى إننا لا نعرف عن مناخاتها أو سمات سطحها سوى القليل جدا. يعتقد أن أقرب الكواكب الشبيهة بالأرض لمجموعتنا الشمسية يدور في فلك النجم تاو قيطس، الواقع على بعد اثنتي عشرة سنة ضوئية من الأرض، لكن الكوكب الذي يعتقد أن مناخه من الأرجح أن يكون شبيها بالأرض يسمى «جليزا 832 سي»، الواقع على بعد ست عشرة سنة ضوئية من الأرض.
3
حسب التقديرات يعادل حجم جليزا 832 سي خمسة أضعاف حجم الأرض؛ وبهذا يصل وزن الشخص الذي يزن 160 رطلا على سطح الأرض إلى 800 رطل على سطح جليزا 832 سي؛ مما يجعل من العسير على الشخص العادي أن يقف أو يسير، لكن لنفترض جدلا أن مشكلة الجاذبية يمكن حلها بطريقة ما، ربما بربط دعامات معدنية لدعم الجسم تحت وطأة هذا الضغط الهائل، لكن حتى في هذه الحالة سيظل علينا حل مشكلة خطيرة، وهي كيفية بقاء مجموعة من البشر على قيد الحياة طوال رحلة الانتقال الطويلة من مجموعتنا الشمسية إلى هذه المجموعات الشمسية «المجاورة».
يفلت الصاروخ الفضائي النموذجي من جاذبية الأرض بالانطلاق بسرعة 18 ألف ميل في الساعة تقريبا. بعثة وكالة ناسا «نيو هواريزونز»، التي صممت لاكتشاف المنطقة الواقعة خارج مجموعتنا الشمسية، بلغت سرعة انطلاقها 36 ألف ميل في الساعة، وهو ما عزز سرعة المركبة الفضائية لتصل إلى 100 ألف ميل في الساعة، عند اقترانها بسرعة مدار الأرض حول الشمس. رغم أن هذه السرعة كانت كافية للإفلات من جاذبية الشمس، فإن سرعة نيو هورايزونز تراجعت إلى 31 ألف ميل في الساعة حين غادرت المجموعة الشمسية فعليا.
في عام 2018م من المخطط أن تستخدم البعثة التي نظمتها ناسا المسماة «سولار بروب بلاس» (المسبار الشمسي) «تأثير المقلاع» لجاذبية الشمس من أجل الوصول إلى سرعة مذهلة تصل إلى 450 ألف ميل في الساعة أثناء الدوران حول الشمس، وتكفي هذه السرعة للسفر من الأرض إلى القمر في ثلاثين دقيقة، لكن حتى إن استطاعت مركبة فضائية قادرة على حمل بشر أحياء بالإضافة إلى كل متاعهم ومعداتهم - حتى أثناء مجابهة جاذبية الشمس - أن تبلغ سرعة 450 ألف ميل في الساعة أثناء انطلاقها من المجموعة الشمسية، فسيكون عليها السفر في الفضاء أربعة وعشرين ألف عام تقريبا قبل أن تصل إلى جليزا 832 سي.
4
ومن الصعب تخيل أن يستطيع حفنة من البشر الحياة داخل حدود مركبة فضائية لمدة تكاد تفوق خمسة أضعاف تاريخ الحضارة الإنسانية بأسره، بل من الأصعب تخيل كيف سيبدو هذا العدد الصغير من سكان تلك المركبة الفضائية بعد أكثر من سبعة أجيال من زواج الأقارب.
لنفترض أن إحدى حضارات المستقبل سوف تخترع تقنية نجهلها نحن الآن، وتستطيع التغلب على قوانين الفيزياء المعروفة، وتنجح في صنع مركبة فضائية صالحة للعمل وقادرة على السفر بسرعة قريبة من سرعة الضوء، فهل ستستطيع مثل هذه التقنية أن تفتح الكون أمام استيطان البشر للفضاء؟
لكن حتى في هذا السيناريو المستبعد تماما سيظل على هؤلاء المستوطنين الفضائيين البقاء على قيد الحياة لعدة سنوات في الفضاء من دون أجهزة إعاشة من كوكبهم الأصلي قبل أن يصلوا إلى موقع أقرب كوكب شبيه بالأرض؛ لذلك سيحتاج هؤلاء المستعمرون إلى بنية تحتية تقنية قادرة على توفير موارد ثابتة من الغذاء والدفء والهواء القابل للتنفس أثناء سفرهم لسنوات عدة في الفضاء الحالك. حتى الآن فشلت أفضل جهود التقنيات الحديثة تماما في تزويد البشر بوسيلة للبقاء على قيد الحياة إلى أجل غير مسمى بمجرد انقطاع كل اتصال مادي بالغلاف الحيوي، الذي هو إجمالي كل أشكال الحياة والأنظمة البيئية التي تغطي وجه الأرض.
5
الحياة من دون الغلاف الحيوي
تتطلب أي محاولة لاستيطان عوالم أخرى إنشاء نظام بيئي اصطناعي قادر على دعم حياة الإنسان دون الاتصال بالغلاف الحيوي للأرض، وقد أجريت محاولة للقيام بذلك بالضبط عام 1991م، ولكن ليس على كوكب آخر، وإنما في البيئة الأرضية المعتدلة نسبيا في جنوب غرب الولايات المتحدة؛ فقد أقيمت منطقة مسيجة من ثلاثة فدادين بتكلفة 200 مليون دولار سميت الغلاف الحيوي الثاني
6
في صحراء سونوران بالقرب من مدينة توسون في ولاية أريزونا؛ لتكون بمثابة نموذج لبيئة ذاتية الدعم يمكن تكرارها في مستوطنة خارج الأرض. وقد سكنها مجموعة من ثمانية أشخاص سموا أنفسهم سكان الغلاف الحيوي.
شكل 10-1: كان الهدف من الغلاف الحيوي الثاني توضيح كيف يمكن للبشر العيش على كواكب أخرى، لكنه أثبت عوضا عن ذلك أنه لا يمكن للحياة أن تستديم بمجرد انقطاع الاتصال بالأنظمة البيئية الطبيعية للأرض. (لقطة لغروب الشمس في الغلاف الحيوي الثاني من تصوير جون دي ديوس. منشورة بموجب رخصة المشاع الإبداعي من ويكيميديا كومونز.)
كان الرجال الأربعة والنساء الأربع الذين تطوعوا لهذه المهمة اعتزموا العيش داخل هذه المنطقة لسنتين، متكفلين بسبل الإعاشة دون أي موارد خارجية من هواء أو طعام أو مياه، وكان الغلاف الحيوي الثاني مجهزا بالتربة والمياه والزرع والحيوانات، وكذلك ضم بحرا صغيرا، وبيئة سافانا، ومستنقع مانجروف، وغابة مطيرة، وصحراء، ومزرعة . كان الهدف أن تتفاعل هذه البيئات المتنوعة وأجواءها لتكون نظام إعاشة مستقلا يستطيع البشر أن يعيشوا فيه إلى أجل غير مسمى.
في سبتمبر عام 1991م عبر سكان الغلاف الحيوي الحواجز الهوائية للغلاف الحيوي الثاني، وبدءوا مهمتهم التي استمرت عامين، لكن رغم توفر دعم تقني ومالي هائل من خارج المنطقة، أثبتت تجربة الغلاف الحيوي الثاني كيف يمكن أن ينهار نظام بيئي سريعا حين ينقطع اتصاله بالغلاف الحيوي الطبيعي (انظر شكل
10-1 ).
طوال العام الأول من المهمة فشلت المزرعة التي أقيمت داخل الغلاف الحيوي الثاني في توفير غذاء كاف للطاقم. خلال الاثني عشر شهرا الأولى شعر سكان الغلاف الحيوي بجوع مستمر، وسيطر عليهم القلق من ندرة الغذاء، وفقدوا قدرا كبيرا من أوزانهم. ومع نهاية العام الأول انقسم سكان الغلاف الحيوي إلى فئتين متعارضتين كان الكلام بينهما شبه منعدم.
رغم انتشار النباتات الخضراء ظلت معدلات الأكسجين تنخفض باستمرار داخل المنطقة، حتى وصلت في النهاية إلى المعدل الطبيعي الموجود عند ارتفاع 17500 قدم. وفي الوقت ذاته ارتفعت معدلات ثاني أكسيد الكربون ارتفاعا بالغا، متذبذبة بشدة من يوم لآخر. هكذا اضطر مديرو المشروع إلى ضخ الأكسجين في المنطقة المسيجة مرة بعد أخرى، خوفا على صحة الفريق، منذ الشهر السابع عشر من بدء التجربة.
وبمرور الوقت صار الجو داخل الغلاف الحيوي الثاني مشبعا بأكسيد النيتروز، حتى وصل أخيرا إلى معدلات هددت الفريق بتلف دائم في المخ. بالإضافة إلى هذا، أدى سكون الهواء داخل المنطقة المسيجة إلى ضعف وتقصف جذوع الأشجار وفروعها؛ إذ إنها تتقوى بحركة الرياح في الظروف الطبيعية، وصارت معرضة لما أسماه العلماء فيما بعد «انهيارات كارثية خطيرة». في الوقت نفسه، تكاثر نمو لبلاب مجد الصباح ليضيق الخناق على النباتات والأشجار الأخرى، وتطلب الأمر اجتثاثه باستمرار.
وماتت كل أنواع حشرات التلقيح التي أحضرت إلى الغلاف الحيوي؛ مما حال دون تكاثر النباتات الزراعية، وأكد أنها لن تعيش أكثر من معدل عمرها الطبيعي. كذلك ماتت أغلب الحشرات الأخرى، تاركة الغلاف الجوي الثاني في نهاية الأمر تجتاحه كلية أسراب من الصراصير و«النمل المجنون الطويل» التي أخذت تنطلق عشوائيا في كل الاتجاهات.
7
أما المناطق التي كان يزمع أن تكون صحراوات فتحولت إلى غابات حرشية ومروج، وصارت شبكات المياه مشبعة بالمغذيات الكيميائية، حتى إنه صار من الضروري أن تجري المياه كلها فوق حصر طحلبية سميكة كان لا بد أن تجمع وتجفف وتخزن دوريا داخل المنطقة. وأخيرا، لم يبق على قيد الحياة من الخمسة والعشرين نوعا من الطيور والثدييات والأسماك والزواحف التي دخلت الغلاف الحيوي الثاني في البداية سوى ستة أنواع مع انتهاء التجربة بعد أربعة وعشرين شهرا.
في تقرير واقعي حول الدروس المستفادة من الغلاف الحيوي الثاني نشر عام 1996م، توصل عالم الأحياء جويل إيه كوهين وعالم البيئة جي ديفيد تيلمان إلى أنه «لا يوجد في الوقت الحاضر بديل أكيد للحفاظ على استمرارية الأرض. فلا يعلم أحد بعد كيفية تخطيط أنظمة تمد البشر بخدمات الإعاشة التي تنتجها الأنظمة البيئية الطبيعية مجانا.»
8
لا يوجد سوى عالم واحد نعرفه يمكنه دعم البشر بسبل الحياة، وهو كوكبنا الأخضر المزرق الذي أذهل رواد الفضاء وأبهجهم للغاية لدى رؤيته خلال رحلاتهم إلى القمر؛ فليس لدينا وطن آخر، ولا يمكننا تنفس هواء آخر، ولا يمكن لكوكب آخر أن يمدنا بالغذاء. الأرض هي نظام الإعاشة الوحيد على الإطلاق المتاح للنوع البشري، ولا نملك بديلا آخر للحفاظ على سلامة الغلاف الحيوي وحياته حتى نظل نحن أنفسنا في صحة وأحياء. وأي شيء آخر هو خيال علمي ووهم.
آلات الحرب وآلات الهلاك
حين اقترنت الأسلحة النارية الحديثة بمركبات وطائرات تعمل بمحركات الاحتراق الداخلي، بلغت آلات الحرب الحديثة قدرة على القتل والتدمير لم يكن القادة العسكريون لجيوش العصور القديمة والوسطى ليتخيلوها في أكثر أحلامهم تطرفا؛ فقد مات أكثر من مائة مليون شخص في الحروب خلال القرن العشرين وحده، وهو ما يعادل على الأقل أربعة أضعاف عدد الناس الذين كانوا يعيشون على كوكب الأرض حين نشأت الحضارات المدنية الأولى، لكن رغم الحال المرعب الذي وصلت إليه آلات الحرب الحديثة تتضاءل قدرتها التدميرية مقارنة بالأسلحة النووية؛ آلة الهلاك في الحضارة المعاصرة.
رغم أننا لم نعد نفكر إلا نادرا على ما يبدو فيما يشكله الدمار النووي الحراري من خطورة، فإنه يعد أقرب الأخطار التي تهدد الأحياء العاقلة في تاريخ نوعنا؛ فهناك الآن مئات القذائف الباليتسية العابرة للقارات والغواصات النووية وقاذفات القنابل المزودة بآلاف الأسلحة الحرارية النووية التي تستهدف المراكز السكانية الرئيسية في العالم بهدف محدد، وهو القضاء عليها. إذا استخدمت هذه الأسلحة بالفعل من أجل الغرض المحدد لها فلا شك أنها ستقضي على الحضارة الإنسانية، وربما تبيد النوع البشري، وقد تبيد كل أشكال الأحياء الذكية الأخرى التي تشاركنا هذا الكوكب.
شكل 10-2: تنعكس التغييرات في المناخ العالمي في عينة جوفية جليدية أخذت في محطة أبحاث فوستوك في أنتاركتيكا. تظهر هذه البيانات ارتباطا جليا بين مستويات الغبار الجوي وانخفاض درجات الحرارة عالميا خلال العصور الجليدية الأربعة الأخيرة. (الرسم من تصميم المؤلف استنادا إلى بيانات فوستوك بيتي. بتصريح من الترخيص 3,0 المشاع الإبداعي عبر ويكيميديا كومونز.)
حاليا تمتلك تسع دول قومية كل الأسلحة النووية التي في العالم اليوم، وهي الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا والصين والهند وباكستان وإسرائيل وكوريا الشمالية.
9
ورغم أن إجمالي عدد الأسلحة الحرارية النووية التي تمتلكها هذه الدول التسعة هو سر في طي الكتمان، فإن اتحاد العلماء الأمريكيين القائم في واشنطن العاصمة يواظب على جمع تقديرات بها، وينشرها دوريا في دورية «بولتين أوف آتوميك ساينتيستس».
10
ووفق تقديرات هؤلاء العلماء فإنه في عام 2013م كانت الولايات المتحدة وروسيا تملكان معا ستة عشر ألف رأس نووي على الأقل، بينما امتلكت السبع دول الأخرى مجتمعة ألفا أخرى على الأقل.
تمثل هذه الأسلحة النووية مجتمعة إجمالي القوة التفجيرية لمائة وستين مليار طن من مادة ثالث نترات التولوين تي إن تي؛ أي بمعدل نحو ثلاثة وعشرين طنا من ثالث نترات التولوين لكل إنسان على الأرض، لكن حيث إن ما يستخدم من هذه الأسلحة في المرة الواحدة لا يتعدى 25 في المائة منها فقط، فإن القوة التفجيرية التي قد تستخدم في الحال تبلغ نحو ستة أطنان من ثالث نترات التولوين لكل شخص حي اليوم. تعادل الستة أطنان من ثالث نترات التولوين نحو خمسة عشر ألف قطعة ديناميت، وهو أكثر من كاف لقتلك أنت وأفراد أسرتك، وتدمير منزلك، ودك مقر عملك ومدارسك والشركات التي تتعامل معها، وكل الأماكن التي ترتادها من أجل الطعام والترفيه والتأمل والعبادة. باختصار، القوات النووية المستخدمة في الوقت الحالي أكثر من كافية لتدمير كل ما أقامته البشرية منذ فجر الحضارة.
يبين لنا التاريخ أن الناس والمجتمعات لا تقدم عادة على التخلص من التهديد الذي يتربص بسلامتها حتى يطرأ حدث ما يبرهن على خطورة ذلك التهديد برهانا حيا. من ثم يبدو من المحتمل أن تبقى البنية التحتية للحرب الحرارية النووية في مكانها حتى تستنفر واقعة ليست في الحسبان ومأساوية الرأي العام، وتجعل العالم يعود إلى صوابه، مثل تفجير سلاح حراري نووي في منطقة حضرية كبرى ليقتل ملايين الأشخاص. لا شك أن واقعة من هذا القبيل ستؤدي إلى نداء عاجل وقوي بنزع السلاح النووي، لكنه سيكون بالتأكيد ثمنا فادحا مقابل إجراء كان لا بد أن يتخذ منذ زمن طويل باعتباره إجراء منطقيا.
شكل 10-3: رغم أن انقراض أنواع النباتات والحيوانات طالما كان عملية مستمرة طوال تاريخ الحياة على الأرض، فإن عدد الأنواع التي تنقرض سنويا شهد زيادة هائلة منذ بداية القرن العشرين.
من المؤكد أن صناعة آلة الهلاك النووية - واستمرار صيانتها وتطويرها طوال السبعين سنة الماضية - كان أحد أفظع حالات الجنون الجماعي في تاريخ النوع الإنساني؛ فلم توجد قط طوال ملايين السنين التي سكن فيها البشر هذا الكوكب تقنية قادرة على إلحاق القدر نفسه من الإبادة الذاتية الجماعية من على بعد. وفيما هو بالتأكيد أكبر مفارقة في تاريخ البشر، تبنت البشرية آلة الهلاك كوسيلة «ضرورية» لتحقيق «الأمن» القومي، وقد عاش المجتمع الحديث طويلا مع هذا الواقع الغريب حتى صار متراضيا تراضيا غريبا مع خطر الإبادة النووية. بيد أن آلة الهلاك النووي واقع؛ فهي نشطة وقابلة للعمل ومستعدة لتدمير البشرية جمعاء، وتستطيع أي قوة من قوى العالم النووية تفعيلها في غضون دقائق.
ومع ذلك فقد انخفض فعليا احتمال أن يموت أي منا في الحروب بدرجة كبيرة منذ العصر الحجري القديم. والمائة مليون شخص الذين قضوا نحبهم في الحروب خلال القرن العشرين لا يمثلون سوى واحد في المائة من السكان الذين عاشوا على كوكب الأرض خلال فترة المائة عام تلك. على النقيض، تبين الدراسات الإثنية أنه في أشد مجتمعات الصيد وجمع الثمار ميلا للقتال يموت نصف الذكور البالغين نتيجة للتقاتل العنيف مع بشر آخرين. ورغم أن معدل القتل في الحروب قد يكون فظيعا في المجتمعات الحديثة، فإن الحروب الحديثة تميل إلى التقطع، على عكس الحروب المتواصلة إلى حد ما التي شوهدت في العديد من مجتمعات ما قبل الصناعة. ودائما ما تمر بالدول القومية الحديثة عقود من السلام بين حروبها الدامية، كما استطاعت بعض الدول - مثل سويسرا على سبيل المثال - تجنب الحرب طوال أجيال مع الدول الأخرى.
قبل وقوع مأساة الحادثة النووية المروعة يمكن استخدام ترسانة العالم النووية - بما في ذلك القذائف الباليستية المصممة لإرسالها إلى أهدافها - في أغراض أخرى، بل ولا بد من ذلك؛ فبدلا من توجيه قذائف بعضنا النووية إلى بعض وخلق خطر دمار ذاتي دائم، لا بد أن نوجهها إلى خطر متربص بحياة كل البشر؛ أحد الكويكبات الكبيرة المتعددة المحلقة في الفضاء. إذا اصطدمت أحد هذه الكويكبات التي يصل قطرها لأميال بالأرض في وقت ما في المستقبل - مثلما حدث بالفعل عدة مرات في التاريخ الجيولوجي - فسوف يثير هذا في الغلاف الجوي غبارا كافيا لحجب ضوء الشمس عن سطح الأرض.
رغم أن علماء الفلك أكدوا لنا أن الاصطدام بكويكب كبير هو حدث نادر جدا غير محتمل الحدوث في المستقبل المنظور، فإن ما حدث من قبل من الممكن أن يحدث مرة أخرى. وسيكون لذلك الاصطدام آثار كارثية على الغلاف الحيوي؛ فمن الممكن أن يبيد أغلب النباتات الخضراء على الأرض ويخفض مستويات الأكسجين إلى حد خطير، كما ستظل سحب هائلة من الغبار سابحة في الغلاف الجوي لسنوات؛ لتحجب الشمس وتؤدي إلى عصر جليدي قد يكون أشد من أي عصر جليدي سابق في التاريخ الجيولوجي الحديث.
لكن من الممكن أن تؤدي سلسلة من الانفجارات في الأوقات المناسبة على سطح الكويكب المتجه نحو الأرض إلى انحرافه عن مساره ومروره دون إيقاع ضرر، أو تحطمه إلى ملايين القطع الصغيرة، يحترق أغلبها في الغلاف الجوي قبل أن يصل إلى الأرض. لا شك أن هذه المهمة ستكون أكثر رشدا للترسانة النووية من مهمتها الحالية في التعجيل بموعد نهاية الحضارة الإنسانية.
التلوث والبلاستيك
بدأ التلوث الجوي الخطير على يد البشر على نطاق عالمي منذ ألفي عام على الأقل، عندما بدأ الرومان في صهر كميات كبيرة من النحاس. ثمة أدلة أخرى على التلوث الجوي بالنحاس كذلك من العصور الوسطى، عندما كان صهر النحاس منتشرا في كل من أوروبا والصين؛ إذ تشير التقديرات إلى إطلاق ما يقرب من ألفي طن من النحاس في الغلاف الجوي كل عام خلال هاتين الفترتين.
بيد أن التلوث الناجم عن نشاط الإنسان تسارعت وتيرته بدرجة هائلة مع قدوم الثورة الصناعية؛ فقد تدفقت كميات ضخمة من ثاني أكسيد الكبريت وثاني أكسيد النيتروجين وأول أكسيد الكربون والميثان والبوتادين والبنزين والتولوين والزيلين وسائر المذيبات النفطية والمنظفات والكلوروفورم والمبيدات الحشرية ومبيدات الحشائش والأمونيا والأحماض والنترات والفوسفات والمعادن الثقيلة والمستحضرات الدوائية في الغلاف الجوي للأرض وتربتها ومجاريها المائية ومحيطاتها، وينتهي الحال بالكثير من هذه الملوثات في البحر.
شكل 10-4: زادت كمية الكربون المنبعث في الغلاف الجوي كل عام في شكل ثاني أكسيد الكربون من حرق الوقود الأحفوري من ثلاثة ملايين طن في عام 1750م، إلى 54 مليون طن في عام 1850م، إلى 1,63 مليار طن في عام 1950م. تجاوزت انبعاثات الكربون 9 مليارات طن في السنة في عام 2010م، ومن المتوقع أن تتجاوز 15 مليار طن سنويا بحلول عام 2025م.
بالإضافة إلى الكميات المتزايدة من الكيماويات السامة، تحتوي المحيطات اليوم على كمية تقدر بمائة مليون طن من البلاستيك، ترسبت كلها تقريبا بدءا من منتصف القرن العشرين. تحتوي محيطات العالم على مناطق معروفة باسم «الدوامات المحيطية»، حيث تجعل الرياح والتيارات مياه البحار تدور في دوامات حلزونية هائلة، وقد جرفت هذه الدوامات النفايات البلاستيكية العائمة في المحيطات إلى برك ضخمة للغاية. أكبر هذه البرك هو دوامة نفايات المحيط الهادئ، الواقعة بين جنوب شرق آسيا والساحل الغربي لأمريكا الشمالية. بحلول عام 2014م كانت دوامة نفايات المحيط الهادئ قد صارت أكبر حجما من الجزء القاري من الولايات المتحدة الأمريكية.
بيد أن الغلاف الحيوي أظهر مرونة كبرى في مواجهة التلوث الذي صنعه الإنسان؛ فالمجاري المائية التي كانت فيما مضى شديدة التلوث تعافت بحياة برية جديدة بعد تطهير مياهها الملوثة، كما تحسنت جودة الهواء للغاية في لوس أنجلوس في السنوات الأخيرة، وهي التي كانت عاصمة الضباب في الماضي.
11
ورغم أن التلوث ما زال يمثل مشكلة خطيرة في الصين والهند ودول نامية أخرى، فإن التجربة تبرهن على أنه من الممكن إيقاف التلوث ورد آثاره، حين يكون الناس مستعدين لتحمل التكلفة العامة والخاصة التي ينطوي عليها إنهاء التلوث.
الغابات الآخذة في التلاشي
بدأت إزالة الإنسان للغابات في عصور ما قبل التاريخ؛ إذ بدأت أول ما بدأت في وديان أنهار أوروبا منذ عشرة آلاف عام تقريبا، حين استخدمت شعوب ثقافة الخزف الخطي وشعوب أخرى عاشت في أوائل العصر الحجري الحديث مطارق حجرية مصقولة في قطع الأشجار التي كانت تنمو على امتداد ضفاف الأنهار الكبرى لاستصلاح الأرض من أجل الزراعة.
وقد تسارعت وتيرة إزالة الغابات خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد، حين بدأت المجتمعات المدنية في منطقة الهلال الخصيب قطع غابات الشرق الأوسط القديم لتوفير الأخشاب من أجل بناء المعابد والقصور والسفن العابرة البحار التي صاحبت نشأة الحضارة المدنية. فقد أهلكت أشجار الأرز اللبنانية المشهورة في الكتاب المقدس من أجل بناء سفن صالحة للإبحار يستخدمها الفينيقيون والإغريق الذين جلبوا الحضارة إلى الأراضي المتاخمة للبحر الأبيض المتوسط، وجردت الأراضي المنخفضة الغرينية في شرق الصين تدريجيا من غاباتها مع انتشار الزراعة في أنحاء الأودية العظمى لأنهار الأصفر واليانجتسي واللؤلؤ.
سارع من وتيرة إزالة غابات شمال أوروبا تزايد استخدام الحديد والصلب خلال أواخر العصور الوسطى، حين أزيلت غابات كاملة لتوفير الفحم النباتي للأفران العالية التي كانت تستخدم في صهر خام الحديد. وعندما اخترع القارب البخاري في أوائل القرن التاسع عشر، دمرت مساحات كبيرة من الغابات التي كانت تنمو على ضفاف نهر المسيسيبي في الولايات المتحدة باستهلاك نهم للأشجار؛ لتغذية أفران حرق الأخشاب في السفن البخارية المزودة بعجلات التجديف. في واقع الأمر، كانت أغلب الأرض الممتدة شرقي نهر المسيسيبي في أمريكا الشمالية مغطاة بالغابات قبل مجيء الأوروبيين. أما اليوم فقد أزيل جزء كبير من هذه الغابات وحولت إلى أرض زراعية منذ زمن طويل.
ظلت الغابات المطيرة المدارية في أمريكا الجنوبية وجنوب شرق آسيا وأفريقيا على حالها بدرجة كبيرة حتى القرن العشرين، لكن منذ عام 1900 سقط جزء كبير من غابات العالم المطيرة أمام فأس الحطاب. في البرازيل وحدها اختفى نحو 300 ألف ميل مربع من الغابات المطيرة - مساحة تعادل ضعف حجم كاليفورنيا - منذ عام 1970م. في الوقت الحاضر يتلاشى أكثر من عشرين ألف ميل مربع من الغابات المدارية سنويا. وفي حال استمر هذا المعدل من إزالة الغابات ستكون الغابات المطيرة قد اختفت إلى حد كبير مع نهاية القرن القادم. إزالة الغابات المدارية المطيرة على الأخص أمر يدعو للانزعاج؛ لأن هذه الغابات هي موطن ما يقرب من نصف جميع الأشكال الحية في الغلاف الحيوي. هذا معناه أن النباتات والحيوانات التي تنقرض بفقدان كل موئل من الغابات المطيرة أكثر من التي تنقرض مع فقدان أي نظام بيئي أرضي آخر.
شرعت الصين في برنامج طموح لإعادة التحريج أثمر عن زيادة 25 في المائة في حجم غاباتها بين عامي 1990 و2005م. رغم ذلك تستورد الصين حاليا نحو مليار ونصف قدم مكعب من الأخشاب سنويا، أغلبه من الغابات المدارية المطيرة، وهذه الكمية أكبر من نصف كمية الأخشاب التي تشحن لسوق الأخشاب العالمية.
12
على سبيل المثال، خشب الورد، وهو من الأخشاب المدارية البالغة القيمة في صناعة الآثاث، زادت وارداته بنسبة 1500 في المائة في تسع سنوات فقط، من 1,8 مليون قدم مكعب عام 2003م إلى 26,5 مليون قدم مكعب في 2012م.
13
وثمة دول أخرى متورطة في اقتراف هذا الفعل؛ إذ يصدر أكثر من نصف كل الآثاث المصنوع من خشب الورد من الصين إلى دول أخرى. ليست إزالة الغابات بمشكلة قومية إذن؛ وإنما مشكلة عالمية.
ومع ذلك لم تبدأ العديد من الدول برامج جادة لإعادة التحريج فحسب، بل ما زالت بقايا صغيرة من الغابات البكر باقية أيضا حتى في أوروبا، حيث تقوم مقام الملاذ الآمن للأنواع التي اختفت من المناطق التي أزيلت أشجارها. واحدة من أكثر هذه المناطق التي حوفظ عليها هي غابة بياوفيجا، وهي متنزه غابات محمي تبلغ مساحته نحو 120 ميلا مربعا ممتدا على الحدود بين بولندا وبيلاروسيا. وعلى الرغم من أن غابة بياوفيجا أصغر مساحة من العديد من المدن الرئيسية في العالم، فإنها تضم أنواعا حية أكثر من أي بيئة أوروبية أخرى؛ فهي موئل ل 117 نوعا من الطيور، وتسعة وخمسين نوعا من الثدييات، من بينها ابن عرس وخز الصنوبر والراكون والغرير والقندس والقضاعة والثعلب والوشق والذئب والحلوف واليحمور والموظ وحيوان الإلكة، وكذلك ثمانمائة بيسون أوروبي.
الفرق شاسع ويثير التنبه بين الأشجار الباسقة والبيئة الثرية بالطيور والحيوانات في الموئل البكر لغابة بياوفيجا والغابات المهترئة الهزيلة المتعافية من قطع أشجارها، المسماة غابات الجيل الثاني، التي حلت محل موائل مماثلة في أوروبا على امتداد القرون القليلة الماضية.
14
لكن مع مرور الوقت سوف تزدهر غابات الجيل الثاني، عند تعهدها بالعناية والرعاية اللائقتين، وربما تبلغ في النهاية روعة الموائل البكر التي ازدهرت هناك في الماضي. وقد خصصت العديد من المساحات البرية في أفريقيا جنوب الصحراء وجنوب شرق آسيا وأمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية لتكون محميات بيئية، حيث لا تزال الموائل القديمة وأشكال الحياة المتعددة عليها متمسكة ببقاء محفوف بالمخاطر.
الانقراض الجماعي السادس
ثاني أقرب التهديدات المتربصة بالحياة الذكية، بعد خطر الحرب الحرارية النووية، هو خطر الدمار البيئي الهائل وانقراض أشكال الحياة. يقدر العلماء ما ينقرض من الأشكال الحية في الوقت الحالي سنويا بثلاثين ألفا تقريبا، ويرتفع معدل الانقراض باطراد. علاوة على ذلك، بمجرد انقراض نوع من النبات أو الحيوان، يستغرق الأمر عادة ملايين السنين قبل أن يتطور شكل حياة جديد ليحل محله.
وقع بالفعل خمس حالات انقراض جماعي سابقة في التاريخ الجيولوجي، وكلها كانت قبل وجود أشباه البشر بفترة طويلة. كان أولها قبل 445 مليون سنة تقريبا خلال العصر الأوردوفيسي؛ عصر المخلوقات البحرية البدائية مثل ثلاثيات الفصوص وبعض الشعاب المرجانية. وحدث الثاني قبل 360 مليون سنة خلال العصر الديفوني؛ عصر الأسماك البدائية وأقدم النباتات البرية والحشرات. ووقع الثالث قبل 250 مليون سنة خلال العصر البرمي؛ عصر الزواحف البدائية. وحدث الرابع قبل 200 مليون سنة خلال العصر الترياسي؛ عصر البرمائيات الكبيرة والزواحف البحرية.
شكل 10-5: تظهر العينات الجوفية الجليدية من محطة فوستوك للأبحاث في قارة أنتاركتيكا أن تركز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي بنسب عالية قد ارتبط ارتباطا وثيقا بارتفاع درجات الحرارة العالمية خلال الأربعمائة ألف سنة الماضية. (الرسم من تصميم المؤلف استنادا إلى بيانات فوستوك بيتي. بتصريح من الترخيص 3,0 المشاع الإبداعي عبر ويكيميديا كومونز.)
اندثر مع انقراضات العصور الأوردوفيسي والديفوني والترياسي نسبة تتراوح بين 75 إلى 85 في المائة من كل الأنواع الحية، وخلال الانقراض الذي وقع في العصر البرمي هلك ما يقرب من 95 في المائة من كل أنواع النباتات والحيوانات. ويعتقد العلماء أن حالات الانقراض الأربعة هذه وقعت خلال فترات تغيير حاد وسريع في المناخ العالمي. قد يكون السبب الذي أدى إلى فترات تغير المناخ هذه اختلالات في مدار الأرض حول الشمس، أو فترات من النشاط البركاني الحاد والمستمر، أو تفاوتات في النشاط الشمسي، أو اصطدامات مع كويكبات ضخمة، أو أي مجموعة من هذه الحوادث.
وقع الانقراض الجماعي الخامس والأحدث في التاريخ الجيولوجي منذ خمسة وستين مليون عام، في نهاية العصر الطباشيري، عصر الديناصورات والنباتات المزهرة والأشكال الحديثة من الحشرات وأولى الثدييات. ويعتقد عموما أن هذا الانقراض نتج من آثار اصطدام كويكب يزيد عرضه عن ستة أميال بكوكب الأرض قبالة ساحل جنوب المكسيك بسرعة قدرت ب 67 ألف ميل في الساعة.
يعتقد العلماء أن الحطام الذي ألقي في الغلاف الجوي نتيجة لهذا التصادم الهائل - وربما أيضا الناتج عن الثورات البركانية التي من المحتمل أن يكون قد أدى إلى اندلاعها الاهتزاز الطبيعي الناتج عن الاصطدام - خلق سحابة غبار كبرى هائلة انتشرت في جميع أنحاء العالم. من المحتمل أن تكون سحابة الغبار هذه حجبت ضوء الشمس من الوصول إلى سطح الأرض لعدة سنوات؛ مما أدى إلى برودة كبرى في المناخ العالمي. ولم ينتج عن الانقراض الجماعي الخامس اختفاء الديناصورات فحسب، وإنما 75 في المائة أيضا من كل الأنواع الحية على الأرض.
إننا الآن في المراحل الأولى مما قد يصير في نهاية المطاف الانقراض الجماعي السادس لأشكال الحياة في التاريخ الجيولوجي، لكن على النقيض من الانقراضات الخمسة السابقة، لن ينتج هذا عن قوى كونية أو جيولوجية، وإنما عن أنشطة بشرية، منها تلوث البيئة وإزالة الغابات على نطاق واسع، واستنزاف مجموعات النباتات والحيوانات بشدة، وانهيار الأنظمة البيئية البرية والبحرية.
رغم أنه من الطبيعي أن تنقرض أنواع من النباتات والحيوانات بمعدل معين بصفة شبه مستمرة، فقد قدر هذا المعدل الطبيعي أو ما يطلق عليه «معدل الانقراض في الخلفية» بما يتراوح بين عشر ومائة حالة انقراض سنويا. على النقيض من ذلك، قدر المعدل الحالي بنحو ثلاثين ألف حالة انقراض سنويا (هذه تقديرات المدى المتوسط التي تقدم بها عالما الأحياء إدوارد أوه ويلسون ونايلز إلدريدج، أما كل من التقديرات القصوى والدنيا فقد نشرها علماء آخرون). ولا يوجد في الوقت الحالي اتفاق عام بشأن معدل الانقراض أو حتى العدد الفعلي للأنواع الحية في الغلاف الحيوي، لكن ربما تصل نسبة الأنواع الحية التي انقرضت منذ بدء الثورة الصناعة منذ مائتي عام إلى 10 في المائة.
15
إذا استمر تناقص أعداد الأنواع الحية وانقراضها بمعدله الحالي، فمن المحتمل أن تشهد بيئات الأرض الطبيعية سلسلة متعاقبة من الانهيارات في النظام البيئي على غرار تلك التي وقعت داخل الغلاف الحيوي الثاني. قد تؤدي تلك الانهيارات في النظام البيئي إلى تزايد أعداد بعض الحشرات والنباتات والفطريات والطحالب والبكتيريا، وأوبئة لأمراض جديدة لم تكن معروفة من قبل، وعجز هائل في المحاصيل، ومجاعة عامة بين المجموعات السكانية من البشر.
وقد ظهرت بالفعل في السنوات الأخيرة بعض علامات الإنذار المبكر من مثل تلك الانهيارات في النظام البيئي، وتشمل تفشي انهيار مستعمرات النحل، والفطر المستعصي الذي يسبب «متلازمة الأنف الأبيض» في الخفافيش التي قضت على 95 في المائة من تعداد بعض مستعمرات الخفافيش، وفطر آخر غير قابل للعلاج ارتبط بانخفاض أعداد الضفادع في جميع أنحاء العالم منذ تسعينيات القرن العشرين.
16
يقدر الجيولوجيون الزمن الذي استغرقه تطور أنواع جديدة لتحل محل تلك التي فقدت في كل من الانقراضات الجماعية السابقة بمدة تتراوح بين خمسة ملايين وخمسة وعشرين مليون عام. وهذا يعني أن النظم البيئية للغلاف الحيوي ستستغرق خمسة ملايين سنة على الأقل لتتعافى تماما وتستعيد مستوياتها السابقة من التنوع البيولوجي. قبل خمسة ملايين سنة كان أسلافنا قردة رباعية تعيش في الأشجار. وبعد خمسة ملايين سنة من الآن من المحتمل أن نكون نحن البشر قد تطورنا منذ فترة طويلة إلى - أو حل محلنا - شكل آخر من الأحياء الذكية، ربما أكثر حكمة منا؛ إذ لا يسعنا إلا تخمين الأثر النهائي الذي سيتركه هذا الانقراض الذي صنعه الإنسان على الأنظمة البيئية الهشة المتعددة على الأرض وعلى الغلاف الحيوي ككل، ولكن فيما يتعلق بحياة الإنسان العاقل وتاريخه فسوف يكون الأثر دائما ولا رجعة فيه.
ومع ذلك، لا يزال الانقراض الجماعي الحالي في مراحله المبكرة، وربما ما زال يمكن مواجهته، وقد أعيدت عدة أنواع من الطيور والثدييات من حافة الهاوية في السنوات الأخيرة؛ فقد ارتفعت أعداد طائر الكركي بعد أن كانت قد تدنت إلى 23 طائرا في عام 1941م إلى أكثر من 600 طائر في عام 2011م. ومنذ وقت ليس ببعيد لم يكن في كاليفورنيا سوى تسعة من نسور الكندور لا تزال تعيش في البرية، لكن الآن يوجد نحو 175 من هذه الطيور الجارحة المهيبة تعيش وتتكاثر في جبال كاليفورنيا والمكسيك (يوجد 175 أخرى في برامج الاستيلاد في الأسر ). ويعيش الآن أكثر من عشرة آلاف زوج من النسور الصلعاء في الولايات الثمانية والأربعين الدنيا الأمريكية، حيث كاد طائر أمريكا الوطني هذا أن ينقرض قبل ذلك.
علاوة على ذلك، قد يعمل التقدم المستمر في تحديد تسلسل الحمض النووي على تمكين علماء الأحياء في نهاية المطاف من إعادة خلق بعض الأنواع المنقرضة من خلال الدمج بين الحمض النووي المستخرج من عينات المتاحف وخلايا حية من كائنات وثيقة الصلة بها؛ فلدى البشرية آلاف السنين من الخبرة في الاستيلاد الانتقائي، ولدى العلم الحديث عقود من الخبرة في الهندسة الوراثية. من ثم سيكون تطوير أنواع جديدة من خلال هذه التقنيات أسرع بكثير من معدل إنتاج أنواع جديدة عن طريق العمليات الطبيعية للتطور. حتى الآن لم تكتب القصة الكاملة للانقراض الجماعي السادس، ولا يزال يحدونا أمل في نهاية سعيدة.
مخاطر تغير المناخ العالمي
من بين جميع المخاطر التي أصبحت بيئة الأرض معرضة لها والتي تشكلت في السنوات الأخيرة، ربما لم يولد أي منها قلقا عاما ودعوات عاجلة للعمل بقدر خطر تغير المناخ العالمي. ويستند هذا القلق إلى حقيقتين بسيطتين. أولا: هناك كميات متزايدة من ثاني أكسيد الكربون تنطلق في الغلاف الجوي من احتراق الوقود الحفري في المجتمعات الصناعية الحديثة. وثانيا: يحتوي السجل الجيولوجي على أدلة وفيرة على أن الزيادة في تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي للأرض ارتبطت ارتباطا وثيقا بفترات طويلة من الاحترار في المناخات العالمية.
في عام 1751م كان يطلق قرابة ثلاثة ملايين طن من الكربون في الغلاف الجوي للأرض كل عام من حرق أنواع من الوقود الحفري، أغلبه من الفحم. وقد زادت هذه الكمية تدريجيا في البداية، ولم ترتفع انبعاثات الكربون إلى أربعة ملايين طن سنويا إلا بعد عشرين عاما، تحديدا في عام 1771م، لكن بحلول عام 1775م كان جيمس واط قد عدل محركاته البخارية الشديدة الكفاءة لأقصى حد، وأصبح الفحم الوقود الرئيسي لصهر خام الحديد وتوفير الطاقة الميكانيكية، وهكذا بدأت انبعاثات الكربون تتسارع وتيرتها.
في عام 1781م بلغت انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية خمسة ملايين طن سنويا، وبحلول عام 1800م زادت إلى ثمانية ملايين طن سنويا. وعلى مدى المائة عام التالية عندما حل المحرك البخاري محل طواحين الهواء والسواقي التي كانت في الماضي تمد مصانع العالم بالطاقة، ومع الثورة التي أحدثتها الباخرة والسكك الحديدية في النقل لمسافات طويلة، زادت كمية الكربون المنبعثة في الغلاف الجوي من ثمانية ملايين طن عام 1800م إلى 534 مليون طن عام 1900م، بزيادة قدرها 6675 في المائة.
تقلص هذا النمو الهائل في انبعاثات الكربون مرة أخرى حيث بدأ عصر السيارات، وصارت الحياة اليومية في القرن العشرين تسير بالكهرباء بشكل متزايد. ثورة النقل التي أطلق شرارتها اختراع محرك الاحتراق الداخلي خلقت حاجة جديدة ومتزايدة إلى البنزين ووقود الديزل، وانضم احتراق المنتجات البترولية إلى حرق الفحم مع تزايد اتجاه المجتمعات في جميع أنحاء العالم نحو الصناعة. زادت انبعاثات الكربون من حرق الوقود الحفري من 534 مليون طن سنويا في عام 1900م إلى أكثر من تسعة مليارات طن سنويا بحلول عام 2010م، ومن المتوقع أن تتجاوز خمسة عشر مليار طن سنويا بحلول عام 2025م.
17
يضيف حرق الفحم والنفط والغاز الطبيعي بكميات متزايدة ثاني أكسيد الكربون إلى الغلاف الجوي للأرض بوتيرة أسرع بكثير مما تستطيع النباتات الخضراء في قارات العالم ومحيطاته امتصاصه واستخدامه لتخليق جزيئات جديدة من الأنسجة الحية. ونتيجة لذلك زاد محتوى ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي للأرض زيادة مطردة؛ مما زاد من «تأثير غازات الدفيئة» الطبيعي لبخار الماء ومكونات الغلاف الجوي الأخرى التي تحافظ على دفء الأرض بدرجة كافية للحفاظ على الحياة. أجمع علماء المناخ في توقعاتهم بأن يؤدي الاحترار البالغ لسطح الأرض إلى إذابة الكثير من الجليد القطبي، ورفع مستويات البحار في العالم، وزيادة تكرار أحوال مناخية غير معتادة وخطيرة، منها موجات الحر الشديد وأنظمة العواصف الشرسة شراسة غير مسبوقة.
وقد أثبت بيانيا الارتباط الوثيق بين مستويات ثاني أكسيد الكربون ومتوسط درجات الحرارة العالمية بالاستناد إلى بيانات عن عينات جوفية جليدية أخذت عام 1998م في محطة فوستوك للأبحاث في أنتاركتيكا، التي تقع على بعد 800 ميل من القطب الجنوبي. وكشف تحليل عينات فوستوك الجليدية ارتباط ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون وغاز الميثان في الغلاف الجوي ارتباطا وثيقا بارتفاع متوسط درجات الحرارة العالمية لمئات آلاف السنوات، وهما «غازا الدفيئة» الرئيسيان اللذان يحتبسان حرارة الشمس في الغلاف الجوي للأرض.
إلا أن تغير المناخ العالمي ليس بظاهرة جديدة في تاريخ الأرض مطلقا؛ فقد توالت فترات من الاحترار العالمي والتبريد العالمي مرارا وتكرارا لمئات ملايين السنين، ليس فقط قبل وجود أشباه البشر، ولكن أيضا قبل وجود الرئيسيات أو الثدييات أو الطيور أو الديناصورات أو الزواحف أو البرمائيات أو حتى الأسماك. في الواقع، تشك الغالبية العظمى من العلماء أن الانقراضات الخمسة السابقة - وكلها كانت قبل ظهور أي أنواع حديثة من السعادين أو القردة - قد نتجت في المقام الأول عن تغيرات رئيسية في المناخات العالمية.
انتهى العصر الجليدي الأخير قبل 11 ألف سنة، وذلك قبل أن تبدأ مجتمعات العصر الحجري الحديث ممارسة الزراعة. ومنذ ذلك الحين والأرض تمر بإحدى الفترات الدافئة المعروفة باسم «العصور بين الجليدية» التي حدثت على نحو متكرر على مدى المليون سنة المنصرمة. وفي حين أن فترة الدفء الحالية طالت إلى حد ما عن أغلب الفترات بين الجليدية السابقة، فقد كانت هناك فترة احترار عالمي أكثر وضوحا وجلاء قبل 400 ألف سنة تقريبا. خلال هذه الفترة المعروفة باسم النظير البحري المرحلة 11،
18
ارتفعت مستويات البحار العالمية ثلاثين قدما عن مستوياتها الحالية، وانهار معظم الغطاء الجليدي لجرينلاند.
19
ومع ذلك أعقب فترة النظير البحري 11 الشديدة الحرارة عصور جليدية في قسوة برودة غيرها من العصور في التاريخ الجيولوجي الحديث.
خلال الجزء الأكبر من المليون سنة الماضية أو نحو ذلك، استمرت فترات التبريد التي بلغت ذروتها في عصور جليدية قارسة البرودة لمدة 90 ألف عام تقريبا، وقد تخللتها فترات بين جليدية دافئة استمرت كل منها ما يقرب من 10 آلاف عام.
20
مع وضع التاريخ الحديث لمناخ الأرض في الاعتبار، يشير هذا إلى أننا لا بد أننا كنا مقبلين على بدء عصر جليدي آخر قريبا جدا؛ أي كنا سنوشك على بداية عصر جليدي آخر، لولا أن تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي الآن أعلى عما كان في أي وقت خلال المليون سنة الماضية.
خلال فترات معينة في الماضي البعيد جدا، كان تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي أعلى خمس عشرة مرة مما هو عليه في الوقت الحاضر. في الواقع، بلغ تركيز ثاني أكسيد الكربون الجوي ذروته بنحو 6000 جزء في المليون قبل نحو خمسمائة مليون سنة، وبلغ ذروته مرة أخرى بنحو 2500 جزء في المليون قبل حوالي مائتي مليون سنة.
لكن خلال المليون سنة الماضية لم ترتفع تركيزات ثاني أكسيد الكربون عن 300 جزء في المليون خلال الفترات بين الجليدية، أو تنخفض لأقل من 180 جزءا في المليون خلال الفترات الجليدية. ومع ذلك، خلال الفترة القصيرة التي بدأت منذ مائتي سنة، أدى استخدام البشر للوقود الحفري إلى رفع مستويات ثاني أكسيد الكربون إلى 400 جزء في المليون - بنسبة 33 في المائة من حدوده القصوى السابقة - وما زال هذا الارتفاع مستمرا في التسارع. وهذا يعني أن الارتفاع الحالي في ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي لن يؤخر قدوم العصر الجليدي التالي فحسب، بل قد يمنع بالفعل حدوث عصر جليدي آخر من الأساس.
من المهم أن ندرك أن مخاطر تغير المناخ العالمي ليست مقتصرة على آثار الاحترار العالمي فقط. في الواقع، إذا عاد عصر جليدي آخر مشابه للأخير، ستنحدر صفائح جليدية ضخمة يبلغ سمكها مئات الأقدام وتزن مئات مليارات الأطنان ببطء من المناطق القطبية؛ لتسحق كل شيء في طريقها. ورغم أن هذه العملية ستستغرق عشرات آلاف السنين - وهي مدة تفوق تاريخ الحضارة البشرية بأكمله عدة مرات - فإن الآثار المدمرة لعصر جليدي جديد ستكون غير مسبوقة.
في أمريكا الشمالية ستؤدي عودة الصفائح الجليدية القطبية إلى تدمير دولة كندا بالكامل تماما، وتتوغل إلى الولايات المتحدة القارية لتطمر معظم ولاية مينيسوتا وكلا من ولايات ويسكونسن وميشيجان وأوهايو بالكامل، والمناطق الشمالية من ولايات إلينوي وإنديانا وبنسلفانيا، ونيو إنجلاند بالكامل جنوبا وصولا إلى مدينة نيويورك. وستندثر تحت مئات الأقدام من الجليد مدن فانكوفر وكالجاري ووينيبيج وتورنتو وأوتاوا ومونتريال وكيبك وسياتل ومينيابوليس وسانت بول وشيكاغو وكليفلاند وكولومبوس وبافالو وألباني وبورتلاند وبوسطن وهارتفورد ونيويورك، بالإضافة إلى آلاف المدن والبلدات المجاورة. في أوروبا سيلحق دمار تام بالدول الاسكندنافية كلها، ومعظم الجزر البريطانية، وأجزاء كبيرة من ألمانيا وبولندا وروسيا، أما مدن دبلن وبلفاست وجلاسكو وإدنبره وأوسلو وستوكهولم وكوبنهاجن وهلسنكي وبرلين ووارسو وسانت بطرسبرج، بالإضافة إلى آلاف المدن والبلدات المجاورة الأخرى، فستمحى كلية من الخريطة.
بالإضافة إلى ذلك ستكون هناك خسارة فادحة في الأراضي الزراعية في جميع أنحاء العالم؛ فسوف تمتد أراضي التندرا القاحلة الخالية من الأشجار والتربة الصقيعية جنوبا من الصفائح الجليدية القطبية حتى وسط الولايات المتحدة القارية لأقصى الجنوب حتى نيو مكسيكو، وستنتشر التندرا في جميع أنحاء أوروبا حتى الجنوب وصولا إلى إسبانيا والبرتغال. وجنوبا من التندرا ستغطي الغابات الدائمة الخضرة جنوب أوروبا، ومعظم كاليفورنيا، وجميع المناطق باستثناء أقصى جنوب الولايات المتحدة. ومن المعلوم أن التندرا وبيئات الغابات الدائمة الخضرة غير قادرتين على دعم الزراعة البشرية.
علاوة على ذلك، سيكون من الصعب أو المستحيل نقل الإنتاج الزراعي إلى أقصى الجنوب؛ لأن الاستنزاف الهائل لمياه الغلاف الجوي سيجعل صحاري العالم تنمو بدرجة أكبر بكثير عما هي عليه اليوم. فسوف تتوسع الصحراء الكبرى حتى تغطي أكثر من نصف القارة الأفريقية ، وتتوسع صحراء آسيا الوسطى من بحر قزوين شمال إيران الحالية لتجتاز آسيا وصولا إلى المحيط الهادئ. وفي الوقت نفسه سوف تتقلص الغابات المطيرة المدارية في وسط أفريقيا وحوض الأمازون إلى جزء صغير من حجمها الحالي. وبما أن كميات كبيرة من مياه الأرض ستتجمد في شكل جليد قطبي، فسوف تنخفض مستويات سطح البحر في جميع أنحاء العالم ثلاثمائة قدم عن مستوياتها الحالية، تاركة كل المدن الساحلية على الأرض عالقة على بعد عشرات - أو مئات - الأميال من مياه البحار المفتوحة.
هذه هي الظروف الفعلية التي كانت سائدة أثناء العصر الجليدي الأخير منذ ثمانية عشر ألف عام فقط، وهو ليس ببعيد جدا حتى في التاريخ القصير نسبيا للأنواع البشرية. قبل ثمانية عشر ألف عام كانت ثقافات العصر الحجري القديم العلوي تستخدم بالفعل أشكالا متطورة من التواصل الرمزي - منها الفن والموسيقى واللغة والنقوش الحجرية والقصص السردية التي ابتكرها الإنسان الحديث - وكان النتوفيون ومعاصروهم أخذوا يستقرون بالفعل في القرى الدائمة التي نتج عنها في نهاية المطاف الثورة الزراعية.
وفي حين يساورنا القلق المبرر بشأن مخاطر الاحترار العالمي والتأثير المدمر الذي سيحدثه في مجتمعاتنا المعاصرة، لا بد أن ندرك كذلك أن فترة أخرى من التبريد العالمي الشديد - وعودة عصر جليدي آخر - ستشكل جدا تهديدا أكبر بكثير على الحضارة الإنسانية. في الواقع، من الممكن تماما أن يحول إطلاق المجتمعات الصناعية ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي دون عودة عصر جليدي آخر ربما كان لولا ذلك ليعود في المستقبل القريب. ونظرا لأن المستويات المرتفعة من ثاني أكسيد الكربون تسبب تغييرات كبيرة في كيمياء المحيطات، فإن آثار الاحترار العالمي قد تستمر إلى ما لا نهاية تقريبا، وقد تمنع عودة المزيد من العصور الجليدية لمئات الآلاف من السنين في المستقبل.
21
لا بد أن نعترف أيضا بأن الحملة المستمرة بين أكثر دول العالم تقدما للحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري أو خفضها، وخاصة ثاني أكسيد الكربون، قد تسببت في انخفاض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في هذه الدول في السنوات الأخيرة. والواقع أن الارتفاع المستمر في حجم انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في العالم يرجع الآن في الأساس إلى النمو السكاني - والترف - في دول العالم النامية، وخاصة الصين والهند.
علاوة على ذلك، حقق المجتمع الحديث تقدما بالغا في تطوير مصادر طاقة جديدة خالية من الكربون، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. ومن الحري ألا ننسى أنه قد مر قرابة قرن بعد اختراع أول محرك بخاري «جوي» لنيوكومين في عام 1712م قبل إنتاج المحركات البخارية الترددية الآمنة والعملية بكميات كبيرة من أجل الأسواق التجارية، وأن الأمر استغرق خمسة وسبعين عاما من التجارب قبل أن يصير محرك الاحتراق الداخلي الآمن والمتين جاهزا للسوق.
وأخيرا ، على الرغم من تطوير تقنيات جديدة لاستخراج الغاز الطبيعي عن طريق التكسير الهيدروليكي واستخراج رمال القطران، فإن إمدادات الوقود الحفري محدودة؛ ففي غضون بضع مئات السنين على الأكثر سيتعين على البشر التوقف عن الاعتماد على الوقود الحفري، وسيضطرون إلى استبدال مصادر طاقة بديلة بالوقود الحفري. وعندما يحين ذلك اليوم أخيرا، من المرجح أن تكون العلوم والتقنيات الحديثة قد أمضت عقودا عديدة بحثا عن طرق عملية لاستخراج ثاني أكسيد الكربون الزائد من الغلاف الجوي، مع الحرص على عدم استخراج الكثير لدرجة تؤدي دون قصد منا في حدوث عصر جليدي آخر.
بالنظر إلى التاريخ الماضي لإنجازات نوعنا التقنية المذهلة، يبدو من الممكن تماما أن تنجح البشرية في نهاية المطاف في تحقيق هذين الهدفين. والأهم من هذا وذاك أن ظاهرة تغير المناخ العالمي دليل حي على أن مستقبل الحياة على الأرض يعتمد الآن على تصرفات البشرية؛ فقد استولى نوعنا على هذا الكوكب وجعله ملكا لنا، أيا كانت العواقب المترتبة.
كوكب البشر
ينمو عدد سكان الأرض من البشر الآن بمعدل أسرع من أي فترة سابقة في التاريخ؛ إذ أتاح تطوير الزراعة العلمية واستخدام الميكنة في الزراعة إطعام الأعداد المتزايدة من السكان، في حين أدت التطورات الحديثة في فعالية العلاج الطبي إلى خفض معدلات الوفيات البشرية باطراد. مع انتهاء العصر الجليدي الأخير في بطء، وإطلاق تقنية التواصل الرمزي العنان لقوة التطور الثقافي، ازداد عدد الصيادين وجامعي الثمار من البشر بالتدريج حتى ارتفع إجماليا إلى خمسة ملايين شخص تقريبا.
شكل 10-6: بلغ عدد سكان العالم من الصيادين وجامعي الثمار قرابة خمسة ملايين نسمة عام 5000 قبل الميلاد، وزاد إلى 150 مليونا على مدى الخمسة آلاف سنة التالية. ولكن عندما بدأت الثورة الصناعية في عام 1800م انفجر التعداد السكاني، وتزايد سكان العالم من أقل من مليار إلى أكثر من ستة مليارات نسمة في أكثر من مائتي عام بقليل.
ومع تبني الزراعة وظهور الحضارة المدنية، ارتفع عدد السكان بنسبة 3000 في المائة - إلى 150 مليون نسمة - بين عامي 5000 قبل الميلاد والسنة الأولى ميلاديا . حتى مع سقوط الإمبراطورية الرومانية وبدء العصور المظلمة، تضاعف عدد سكان العالم مرة أخرى إلى 300 مليون بحلول عام 1100 ميلاديا. وعلى الرغم من الخسائر الهائلة في الأرواح خلال العصور الوسطى، أثناء مذابح الغزو المغولي في القرن الثالث عشر وأوبئة الطاعون أو الموت الأسود في القرن الرابع عشر، تضاعف عدد سكان العالم مرة أخرى إلى ما يقرب من 600 مليون نسمة سنة 1600 ميلادية.
حين بدأت الثورة الصناعية عام 1800م انفجر التعداد السكاني من البشر حقا، حيث زادوا بنسبة 600 في المائة في مائتي عام من أقل من مليار إلى أكثر من ستة مليارات نسمة. وإذا استمر هذا الانفجار السكاني بمعدله الحالي لن يعود هناك في النهاية على الأرض ما يكفي من الأراضي الزراعية لإطعام جميع الأشخاص الذين سيعيشون على ظهر هذا الكوكب. خلال الخمسين ألف سنة الماضية - التي لا تمثل سوى أحدث نسبة واحد في المائة من تاريخ البشرية - زاد عدد سكان الأرض بمقدار سبعة آلاف مرة عن حجمه الأصلي، ويزيد حاليا بنحو ربع مليون شخص يوميا.
ومع ذلك انخفضت معدلات المواليد في جميع أنحاء العالم منذ ستينيات القرن العشرين، بل وانخفضت معدلات المواليد بحلول عام 2014م إلى ما دون «معدل التعويض» البالغ 2,1 ولادة لكل امرأة في نصف دول العالم تقريبا. وانخفض معدل المواليد في أوروبا ككل إلى 1,5 ولادة لكل امرأة بحلول عام 2005م، ومن المتوقع حاليا أن ينخفض عدد سكان أوروبا بنسبة 14 في المائة من الآن وحتى نهاية القرن الحادي والعشرين.
22
نظرا لأن المجتمعات البشرية صارت على درجة من الثراء تكفي لتوفير مستوى معيشي لائق لسكانها المسنين، لم تعد العادة الإنسانية القديمة المتمثلة في إنجاب أعداد كبيرة من الأطفال لضمان وسيلة دعم في سن الشيخوخة ضرورية.
علاوة على ذلك، بما أن الأعداد الكبيرة من البشر قد انتقلت من المعيشة الزراعية إلى المعيشة المدنية، فقد اختفت إلى حد كبير المزايا الاقتصادية التي كان الأطفال يوفرونها للعائلات المزارعة. في الواقع، أصبح الأطفال فعليا مصدر استنزاف اقتصادي محض لثروات الثنائي المتزوج في المدينة، اللذين يتضاءل دخلهما المتاح إلى حد كبير أمام التكاليف الإضافية التي يحتاجها كل طفل للطعام والملبس والمأوى والرعاية الطبية والتعليم.
لا يساعد إنجاب الأطفال على الاستفادة من الفرص العديدة المتاحة للبشر في المجتمع المعاصر من ترفيه وسفر وتناول الطعام بالخارج، ومتابعة حياتهم المهنية واهتماماتهم الشخصية، بل من المرجح أن يتعارض وجود الأطفال مع مثل هذه الأنشطة بدلا من جعل إقبال الوالدين عليها أسهل. لكل هذه الأسباب انخفضت معدلات المواليد في المجتمعات الأكثر ثراء لدرجة أن بعضا من أثرى دول العالم وأكثرها تقدما، ومنها ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية، تشهد بالفعل انخفاضا في عدد السكان.
هذا لا يعني أن الناس سيتوقفون عن إنجاب الأطفال؛ فالإشباع النفسي الناتج عن إنجاب الأطفال وتربيتهم - والارتباط الذي يوفره الأطفال بالمستقبل وبالأجيال المقبلة - يضمن ألا يتوقف النساء والرجال أبدا عن الرغبة في إنجاب الأطفال؛ لذلك فالأطفال الذين يولدون في عالم اليوم، أكثر من أي وقت آخر في تاريخ البشرية، هم أبناء أشخاص يريدون الأطفال ويقدرون تجربتي الأبوة والأمومة في حد ذاتهما. وفي حين أنه سيكون هناك دائما أفراد يختارون عدم إنجاب أطفال، فلن يورث هؤلاء الأفراد حمضهم النووي ولا اتجاهاتهم أو معتقداتهم الثقافية للأجيال القادمة. وهذه الحقيقة وحدها تضمن أن البشرية لن تتوقف عن التكاثر أبدا.
وقد تحسر بعض الاقتصاديين على معدلات المواليد الراكدة أو الهابطة هذه، واعتبروا هذا نذيرا لانحدار اقتصادي وثقافي. لكن هذه رؤية قصيرة النظر؛ فالنمو السكاني اللانهائي غير ممكن؛ والغلاف الحيوي للأرض محدود الحجم؛ ولا توفر الكواكب الأخرى فرصا واقعية للاستيطان البشري. خلاصة القول، كلما زاد عدد الأشخاص قلت مساحة كل شخص وحصته في الموارد المتاحة، لكن كلما قل عدد الناس زادت مساحة كل شخص وحصته في الموارد المتاحة في نهاية المطاف.
التهديدات المتربصة بالغلاف الحيوي حاليا ليست مجرد عواقب مترتبة على التقنيات البشرية؛ فهي أيضا تعبير عن الطبيعة الحيوانية لبشر الهومو سيبيانز. فعلى الرغم من البراعة التقنية لنوعنا فإنه لا يزال يتحرك بغرائز حيوانية قديمة، ومنها الدافع للتوسع والتكاثر لأقصى حد ممكن. وهذا النوع من المصلحة الذاتية البدائية متوقعة من أي شكل من أشكال الحياة، لكننا في رغبتنا في تزويد أنفسنا بكميات دائمة التزايد من النسل والغذاء والكساء والمأوى والطاقة والأسلحة والممتلكات المادية، كثيرا جدا ما تجاهلنا احتياجات أشكال أخرى من الحياة النباتية والحيوانية. فالهومو سيبيانز أو البشر العاقلون، على أي حال، هم النوع الوحيد القادر على فهم جميع أشكال الحياة الأخرى وتلبية احتياجاتها. لذلك، يتعين علينا أن نستخدم وعينا الأسمى ليس فقط من أجل رفاهنا، ولكن أيضا من أجل رفاهية أكبر لجميع الأنواع الكثيرة التي تشترك معنا في الغلاف الحيوي.
وفي النهاية، حدثت الزيادات الهائلة في عدد السكان لأن الهومو سيبيانز استحوذ فعليا على هذا الكوكب وموارده كلية، وأصبح في خضم هذا مسئولا مسئولية كاملة عن مستقبله. على الرغم من أننا ربما لم نقصد أن نفعل ذلك متعمدين فإننا حولنا الأرض فعليا إلى «كوكب البشر». نتيجة لذلك يجب علينا نحن البشر أن ندير أمور الأرض بحكمة، ليس فقط لمصلحتنا الخاصة، ولكن لمنفعة جميع الكائنات الحية، الآن وفي المستقبل.
ما وراء الدولة القومية
يتكون العالم اليوم من حوالي مائتي دولة تملك فيما بينها كل مساحة الأرض على كوكبنا باستثناء قارة أنتاركتيكا.
23
على الرغم من أن هذه الحالة تبدو طبيعية تماما لنا، فإن هذا العالم المتكون من دول قومية لم يبدأ حتى في التبلور إلا بعد عام 1800م. وقبل ذلك الوقت كانت الدولة القومية بصفتها كيانا سياسيا وثقافيا مميزا شيئا نادرا في الواقع بين المجتمعات البشرية، بل في واقع الأمر من بين المائتي دولة قومية ونيف التي تحكم العالم حاليا لم تنشأ الغالبية العظمى من الدول الموجودة اليوم حتى بداية القرن العشرين.
24
لكن على الرغم من إعلانات الاستقلال والسيادة الوطنية لم تكن الدول القومية في العصر الحالي مستقلة تماما؛ فقد خلقت التجارة العالمية، التي ازدهرت سريعا خلال القرن التاسع عشر، تكاملا اقتصاديا حيويا بين دول العالم منذ فترة طويلة. ومن حقائق الحياة أنه بحلول فجر القرن العشرين، كان قد أنشئ بالفعل اقتصاد عالمي لا يمكن لأي دولة قومية أو منطقة اقتصادية واحدة أن تزدهر فيه بحق دون الحفاظ على علاقات اقتصادية قوية مع العديد من الدول الأخرى.
اتضح الواقع الصارخ لهذه الحقيقة على نحو مذهل، في يونيو عام 1930م، عندما أقر الكونجرس قانون تعريفة سموت-هاولي الجمركية في محاولة مضللة لحماية الصناعة والزراعة الأمريكية من المنافسة الأجنبية خلال التدهور الاقتصادي الذي بدأ عام 1929م، لكن عندما ردت دول أخرى بالمثل - وخاصة كندا، أهم شريك تجاري لأمريكا - برفع تعريفاتها الجمركية على السلع الأمريكية، دخل نظام التجارة العالمية بأكمله في تدهور سريع؛ إذ انخفضت واردات الولايات المتحدة من أوروبا من 1,3 مليار دولار إلى 390 مليون دولار بين عامي 1929 و1932م، في حين تقلصت الصادرات الأمريكية إلى أوروبا من 2,3 مليار دولار إلى 784 مليون دولار خلال السنوات الثلاث نفسها. الواقع أن التجارة العالمية ككل تراجعت بمقدار الثلثين بين عامي 1929 و1934م؛ مما أدى إلى إغراق جميع دول العالم الصناعية في حالة الركود الاقتصادي الذي ساد في الكساد الكبير.
ظهور الدولة القومية بصفتها الشكل الغالب للمجتمع البشري كان أعظم اندماج اجتماعي فريد من نوعه في تاريخ البشرية؛ فلم يسبق أن اعتبر ملايين من الناس أنفسهم إخوة ينتمون إلى الجماعة الإثنية نفسها، وهم يعيشون في آلاف المجتمعات الجغرافية المتمايزة. من الجدير بالذكر أنه في الوقت نفسه الذي زاد فيه عدد سكان العالم من أقل من مليون نسمة إلى سبعة مليارات نسمة وأكثر، ظل عدد المجتمعات البشرية المستقلة يتقلص بالفعل.
لا يوجد سبب لافتراض أن هذا التاريخ الطويل من الاندماج الاجتماعي قد بلغ نهايته، أو أن البشر سيظلون مقسمين دائما إلى مائتي دولة مستقلة؛ فكثيرا ما أدى التقدم الكبير في تقنيات التفاعل إلى اندماج اجتماعي أنشأ جماعات بشرية أكبر بكثير من تلك التي كانت موجودة من قبل. وبما أن اختراع تقنية المعلومات قد أوجد الآن أشكالا جديدة وأقوى من النقل والاتصالات، فمن المنطقي أن نتوقع اقتراب البشرية من عملية كبرى أخرى من الاندماج الاجتماعي في المستقبل غير البعيد. في الواقع، أرسي بالفعل أساس أول حضارة عالمية بحق للبشرية، وإذا أنعمنا النظر يمكننا أن نرى بالفعل الخطوط العريضة المؤقتة لعالم مستقبلي يتشكل خارج حدود دول العالم القومية.
ولادة الحضارة العالمية
إن بذور الحضارة العالمية متعددة، وبعضها قديم جدا؛ فقد بدأت قديما منذ زمن يسوع الناصري على الأقل، الذي بشر بأن كل البشر يتساوون في نظر الله، وأنه بقبول يهوه باعتباره الإله الحقيقي الوحيد يستطيع أي شخص، بصرف النظر عن ثقافته الأصلية، أن ينضم إلى جماعة المؤمنين. وبعد ألفي عام بلغ عدد أتباع يسوع أكثر من ملياري شخص، وصاروا يشكلون أكبر جماعة دينية على وجه الأرض.
وقد مارس الرومان نموذجهم العلماني الخاص من التقبل الثقافي والمساواة الإنسانية، فمنحوا امتيازات المواطنة الرومانية للحلفاء المفضلين، وشيدوا الطرق والحمامات العامة وشبكات المياه العذبة المعقدة، ليس فقط من أجل راحتهم وسلامتهم، ولكن أيضا لرفاهية شعوبهم، وملئوا مخازن غلال مستعمراتهم لحماية رعاياهم من الجوع، وأقاموا المدرجات والمسارح الكبرى للترفيه عن الجميع، وكانوا في أغلب الأحيان يمنحون الشعوب التي يغزونها حرية ممارسة طقوسهم الثقافية وعبادة آلهتهم. في الواقع، كان تسامح الرومان تجاه التقاليد الثقافية الأخرى، جنبا إلى جنب مع شعورهم بالمسئولية عن رفاهية كل شخص يعيش تحت سيطرتهم، هو المسئول إلى حد كبير عن استقرار المجتمع الروماني واستمرار الحكم الروماني طوال سنوات العالم القديم.
في القرون التي أعقبت سقوط روما انتشرت أديان الهندوسية والزرادشتية والمسيحية والبوذية والكونفوشيوسية والإسلام انتشارا واسعا بين ثقافات متنوعة وعبر مناطق جغرافية مترامية. وقد قامت جميع هذه المعتقدات على مبدأ الإدماج الثقافي، وكانت فلسفاتها الشمولية هي التي مكنتها من استيعاب الشعوب الجديدة والأعراق الجديدة، وتجاوز الحدود الثقافية، والصيرورة إلى أديان عالمية بحق.
يجب ألا ننسى أن هذه الديانات الشمولية العظيمة نشأت وازدهرت في وقت لم يكن يمارس فيه الكتابة سوى عدد قليل من أفراد النخبة، عندما كان امتطاء الخيل هو أسرع وسيلة للنقل، حين كانت الطرق بين المدن قليلة ومتباعدة، وعندما كانت السفينة الشراعية عبارة عن سفينة خشبية صغيرة من المرجح أن تدفعها المجاديف مع الرياح. وهذا وحده شهادة على قوة فلسفاتها وجاذبية مؤسسيها، الذين بشروا جميعا بعقيدة الاندماج المتعدد الثقافات. ويوحي النجاح الكبير لهذه الديانات القديمة بأنه سيكون هناك عملية اندماج ثقافي مماثلة على الأرجح مصيرا نهائيا لجنسنا.
ظهر في العقود الأخيرة ظرفان يدفعان البشرية الآن نحو هذا الاندماج النهائي. الظرف الأول هو التهديد المتصاعد بسرعة للبيئة الكوكبية ولجميع المجتمعات البشرية. فلا يمكن لأي دولة بمفردها أو مجموعة دول إقليمية أن تحل مشكلة هذا التهديد العالمي؛ إذ يجب بالأحرى على جميع الدول العمل معا لحلها. الظرف الثاني هو الوسائل المتاحة - التي أصبحت ممكنة بفضل التقنيات الرقمية - للتفاعل السريع والفعال والميسور التكلفة بين سكان جميع المجتمعات والثقافات المختلفة المنتشرة في جميع ربوع العالم. ولا ينبغي التقليل من أوجه التفاعل المحتملة بين هذين الظرفين؛ فالدليل على أن هذه العملية النهائية للاندماج آتية لا محالة يكشف عنه ظهور عناصر اجتماعية وثقافية رئيسية لأول حضارة عالمية للبشرية.
ما لبثت العادات والتقاليد المحيطة بإعداد الطعام - التي يعتبرها اختصاصيو علم الإنسان واحدة من أكثر التعبيرات عن الهوية الإثنية والثقافية تميزا - تمر بعملية اندماج غير مسبوقة؛ فقد انتشرت تقاليد الطهي في أوروبا والأمريكيتين والشرق الأوسط وآسيا الوسطى والشرق الأقصى بعيدا عن ثقافاتهم الأصلية، وأصبحت مفضلة ورائجة في جميع أنحاء العالم.
تمر الموسيقى، وهي تعبير مميز آخر عن الهوية الإثنية والثقافية، بعملية عولمة بدأت مع الانتشار العالمي للموسيقى الكلاسيكية الأوروبية وما يتلوه الآن من انتشار لأنواع موسيقية تقليدية من جميع أنحاء العالم؛ فقد هاجرت أشكال من التناغم والإيقاعات الموسيقية والأنماط المعزوفة من عدد لا يحصى من الإثنيات بعيدا عن ثقافاتهم الأصلية وكونت جماهير عالمية عريضة. في الواقع، بدأ كل من الطعام والموسيقى في دمج تقاليد الثقافات المختلفة في أشكال جديدة من «الامتزاج الغذائي» و«الامتزاج الموسيقي».
إن الاندماج الثقافي الجاري في مجالي الطعام والفنون واضح بالقدر نفسه في المجالات المادية للعلوم والتجارة والصناعة؛ فقد لاقت العديد من العلامات التجارية الاستهلاكية، في مجالات الأطعمة والمشروبات والسيارات والمجوهرات والعطور والساعات والملابس والإلكترونيات، اعترافا عالميا، وتتمتع الآن بالولاء الشديد من مئات ملايين العملاء في جميع أنحاء العالم. وقد أدى صعود الشركات المتعددة الجنسيات - التي تمتلك بعضها اقتصادات يفوق اقتصاد معظم الدول - إلى ربط الاقتصاد العالمي معا بإحكام أكثر من أي وقت مضى.
كان للسعي وراء البحث والتطوير في مجالي العلوم والتكنولوجيا طابع دولي منذ بداياته الأولى، وأصبح منذ فترة طويلة مؤسسة عالمية؛ إذ منح أكثر من نصف جوائز نوبل في الفيزياء والكيمياء والطب خلال السنوات الخمسين الماضية لعلماء متعاونين يعيشون في دول مختلفة.
25
في الواقع، تعد ثقافتنا العلمية التكنولوجية المعاصرة واحدة من أقوى العناصر وأنشطها في هذه الحضارة العالمية الناشئة.
في الوقت نفسه، تتحول مؤسسات التعليم العالي في العالم شيئا فشيئا إلى كيانات عالمية، حيث تتكون كل من هيئات التدريس والهيئات الطلابية على نحو متزايد من أفراد من شتى دول العالم ومتعددي الثقافات. وأخيرا تضاعف عدد المنظمات الدولية أضعافا مضاعفة خلال العصر الحديث؛ فقد كان هناك في عام 1910م ما يقرب من مائتي منظمة غير حكومية ذات طابع دولي. وبحلول عام 2010م زاد هذا العدد إلى ما يقرب من ستين ألفا. وكان نمو المنظمات الحكومية الدولية كبيرا بالقدر نفسه.
لكن حتى مع اندماج الإنسانية في نحو مائتي دولة قومية، فإن كل الجماعات البشرية القديمة التي تشكلت في التحولات السابقة - آلاف لا حصر لها من القبائل والقرى والبلدات والمدن والمناطق التي تشكل نسيج المجتمع البشري - استمرت في الحفاظ على هوياتها المستقلة وتدبر ما يلائمها من أساليب الحياة. وهذا وحده لا بد أن يطمئننا أن الدول القومية في العالم ليست مهددة بالاختفاء؛ فبزوغ الحضارة العالمية ليس المقصود به أن يحل محل دول العالم، وإنما يهدف إلى تيسير الشعور بالهدف المشترك فيما بينها. أخيرا، ليست المؤسسات العالمية إلا شبكات من الناس، ومن أعجب السلوكيات البشرية السهولة التي يستطيع بها البشر التعارف في الوقت نفسه مع جماعات متعددة على مستويات متعددة.
وأخيرا، أظهر التاريخ مرارا أن لا شيء يجمع الناس مثل العدو المشترك؛ فقد كانت مواجهات مع خصم معاد هي المؤدية، ولو إلى حد ما على الأقل، إلى كل حالة تقريبا من حالات الاندماج الاجتماعي والثقافي، التي اندمجت فيها وحدات اجتماعية صغيرة بنجاح في وحدات أكبر. فعندما تضاءلت غابات العالم وموائله البدائية إلى جزء صغير من حجمها الأصلي، وحين استنزفت موارد المحيط إلى حد كبير، وحين أصبحت حتى معجزات الزراعة العلمية غير قادرة على إطعام العدد المتزايد من البشر، لن يكون «عدو» الحضارة الإنسانية سوى التهديدات الوجودية للغلاف الحيوي للأرض التي تنتجها التقنيات البشرية. مع استمرار هذه التهديدات في التضاعف ستضطر البشرية للاختيار بين الاستمرار في المسارات التي تؤدي في النهاية إلى النضوب والانقراض والفناء، أو التحول إلى مسارات جديدة تؤدي إلى الإصلاح والمصالحة والعلاقة المستدامة بيننا وبين الغلاف الحيوي، من خلال التعاون على نطاق عالمي.
لا يجب أن نتوقع أن يتحقق هذا التحول إلى حضارة عالمية بسرعة أو بسهولة؛ فلم يبدأ الشعور بتأثيرات تقنية المعلومات حتى منتصف القرن العشرين، ولم تندمج التقنيات الرقمية مع عمليات المال والتجارة والاتصالات والنقل المعاصرة الاندماج العميق حتى وقت لاحق. نظرا لأننا الآن في بداية هذا التحول الأخير لا يمكننا أن نتوقع حقا التغييرات التي من المقدر له أن يحدثها في حياة الإنسان والمجتمع، لكن تاريخ التحولات الماضية يشير إلى استنتاجين. أولهما: أن التحول الذي ستلحقه تقنية المعلومات بالحياة والمجتمع البشري لن يقل عن التحول الناتج عن التقنيات الرئيسية في العصور السابقة. وثانيهما: أن هناك اندماجا كبيرا آخر للمجتمع البشري بانتظارنا. •••
نحن الذين على قيد الحياة في القرن الحادي والعشرين نقف على قمة الإنجاز البشري، بينما نتأمل كارثة تلوح في الأفق من صنع أيدينا، إلا أن عبقرية الإنسانية لا تشي بأي علامة على اقتراب النهاية؛ فقد أظهرنا، عبر تاريخنا الطويل، قدرة خارقة على الارتقاء إلى مستوى التحديات التي تواجهنا، والتغلب على العقبات التي تقف في طريقنا.
خلال كل تاريخنا الفريد والمتميز استخدمنا نحن البشر التقنيات من أجل إحداث تحولات لأنفسنا، وفي أثناء ذلك غيرنا العالم. دفعتنا التحولات في حياة الإنسان والمجتمع التي أحدثتها الأسلحة والنار والملبس والمأوى والتواصل الرمزي والزراعة والحضارة المدنية والآلات الدقيقة وتقنية المعلومات إلى علاقة جديدة وفريدة من نوعها مع الغلاف الحيوي الذي منحنا الحياة في الأصل. لقد أصبحنا خادميه؛ لقد أصبح مسئوليتنا؛ نحن من يجب أن نقرر مصيره الآن.
ملاحظات
مقدمة
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
المراجع
Agustí, Jordi, and David Lordkipanidzeb. “How 'African’ Was the Early Human Dispersal Out of Africa?”
Quaternary Science Reviews
30, no. 11-12 (2011): 1338-1342.
Aiello, Leslie C. “Five Years of
Homo floresiensis. ”
American Journal of Physical Anthropogy
142, Issue 2 (2010), 167-179.
Aiello, Leslie C., and Peter Wheeler. “The Expensive-Tissue Hypothesis: The Brain and the Digestive System in Human and Primate Evolution.”
Current Anthropology
36, no. 2 (1995): 199-221. --- . “Neanderthal Thermoregulation and the Glacial Climate.”
Neanderthals and Modern Humans in the European Landscape of the Last Glaciation: Archaeological Results of the Stage 3 Project , Tjerd van Andel and William Davies, eds. Cambridge: McDonald Institute for Archaeological Research, 2003.
Aiello, Leslie C., and R. I. M. Dunbar. “Neocortex Size, Group Size, and the Evolution of Language.”
Current Anthropology
34, no. 2 (1993): 184-193.
Albert, Rosa M., Ofer Bar-Yosef, Liliane Meignen, and Steve Weiner, eds. “Quantitative Phytolith Study of Hearths rom the Natufian and Middle Palaeolithic Levels of Hayonim Cave (Galilee, Israel).”
Journal of Archaeological Science
30, no. 4 (2003): 461-480.
Alfred, Randy. “Univac gets election right, but CBS balks.”
Wired , November 4, 2008.
http://www.wired.com/2010/11/1104cbs-tv-univac-election (accessed June 12, 2014).
Algaze, Guillermo. “Initial Social Complexity in Southwestern Asia: The Mesopotamian Advantage.”
Current Anthropology
42, no. 2 (2001): 199-233.
Allen, John, and Mark Nelson. “Biospherics and Biosphere 2, Mission One (1991-1993).”
Ecological Engineering
13 (1999): 15-29.
Allen, Robert C. “Agriculture and the Origins of the State in Ancient Egypt.”
Explorations in Economic History
34, no. 2 (1997): 135-154.
Alperson-Afil, Nira. “Continual Fire-Making by Hominins at Gesher Benot Ya’aqov, Israel.”
Quaternary Science Reviews
27 (2008): 1733-1739.
Amsler, Sylvia J. “Ranging Behavior and Territoriality in Chimpanzees at Ngogo, Kibale National Park, Uganda.”
2009.
Anderson, Stephen R.
How Many Languages Are There in the World?
Linguistic Society of America Brochure Series. Washington, DC: Linguistic Society of America.
Anthony, David W.
The Horse, the Wheel, and Language: How Bronze-Age Riders from the Eurasian Steppes Shaped the Modern World.
University Press, 2007.
Arkush, Elizabeth N.
Hillforts of the Ancient Andes: Colla Warfare, Society, and Landscape.
Gainesville, FL: University Press of Florida, 2011.
Arensburg, B., L. A., Schepartz, A. M. Tillier, B. Vandermeersch, and Y. Rak. “A Reappraisal of the Anatomical Basis for Speech in Middle Palaeolithic Hominids.”
American Journal of Physical Anthropology
83, no 2 (2005): 137-146.
Armstrong, John A.
Nations Before Nationalism.
Chapel Hill, NC: University of North Carolina Press, 1982.
Atkinson, Nancy. “A Conversation with Jim Lovell, Part 2: Looking Back.”
Universe Today , September 27, 2010.
http://www.universetoday.com/74396/a-conversation-with-jim-lovell- part-2-looking-back (accessed June 6, 2012).
Ashton, Nick, Simon G. Lewis, Simon A. Parfitt, Kirsty E. H. Penkman, and G. Russell Coope. “New Evidence for Complex Climate Change in MIS 11 from Hoxne, Suffolk, UK.”
Quaternary Science Review
27, no. 7-8 (2008): 652-668.
Balter, Michael. “Candidate Human Ancestor from South Africa Sparks Praise and Debate.”
Science
328 (2010): 154-155.
Balter, Vincent and Laurent Simon. “Diet and Behavior of the Saint-Césaire Neandertal Inferred from Biogeochemical Data Inversion.”
Journal of Human Evolution
51 (2006): 329-338.
Barker, Graeme.
The Agricultural Revolution in Prehistory.
New York: Oxford University
Bar-Yosef, Ofer. “The Natufian Culture in the Levant, Threshold to the Origins of Agriculture.”
Evolutionary Anthropology
6, no. 5 (1998): 159-177.
Ballard, Chris, Richard Bradley, Lise Nordenborg Myhre, and Meredith Wilson. “The Ship as Symbol in the Prehistory of Scandinavia and Southeast Asia.”
World Archaeology
35, no. 3 (2003): 385-403.
Barnosky, Anthony D., Nicholas Matzke, Susumu Tomiya, Guinevere O. U. Wogan, Brian Swartz, Tiago B. Quental, Charles Marshall, et al. “Has the Earth’s Sixth Mass Extinction Already Arrived?”
Nature
471, no 7336 (2011): 51-57.
Beaver, S. H. “Coke Manufacture in Great Britain: A Study in Industrial Geography.”
Transactions and
17 (1951): 133-148.
Beck, Benjamin B.
Animal Tool Behavior: The Use and Manufacture of Tools by Animals.
New York: Garland Press, 1980.
Bednarik, Robert G., 1997. “The Earliest Evidence of Ocean Navigation.”
International Journal of Nautical Archaeology
26, no. 3 (1997): 183-191. --- . “The 'Australopithecine’ Cobble From Makapansgat, South Africa.”
South African Archaeological Bulletin
53 (1998): 4-8. --- . “Beads and Pendants of the Pleistocene.”
Anthropos
96 (2001): 545-555. --- . “Crossing the Timor Sea by Middle Palaeolithic Raft.”
Anthropos
95 (2000): 37-47. --- . “Middle Pleistocene Beads and Symbolism.
Anthropos
100 (2005): 537-552. --- . “Seafaring in the Pleistocene.”
Cambridge Archaeological Journal
13, no. 1 (2003): 41-66. --- . “Seafaring.”
Encyclopedia of the History of Science, Technology, and Medicine in Non-Western Cultures,
2nd Edition, ed. Helaine Selin. Springer, 2008.
Belfer-Cohen, Anna. “The Natufian Graveyard in Hayonim Cave.”
14, no. 2 (1988): 297-308.
Belfer-Cohen, Anna, and Ofer Bar-Yosef. “Early Sedentism in the Near East: A Bumpy Ride to Village Life,” in
Life in Neolithic Farming Communities: Social Organization, Identity, and Differentiation,
ed. Ian Kuijt. New York:
Bellomo, Randy V. “Methods of Determining Early Hominid Behavioral Activities Associated with the Controlled Use of Fire at FxJj 20 Main, Koobi Fora, Kenya.”
Journal of Human Evolution
27, no. 1-3 (1994): 173-195.
Bellwood, Peter, and Marc Oxenham. “The Expansions of Farming Societies and the Role of the Neolithic Demographic Transition,” in
The Neolithic Demographic Transition and its Consequences.
New York: Springer, 2008, 13-34.
Bentley, Jerry H.
Old World Encounters: Cross-Cultural Contacts and Exchanges in Pre-Modern Times.
Oxford: Oxford University Press, 1993.
Bentley, R. Alexander, Penny Bickle, Linda Fibiger, Geoff M. Nowell, Christopher W. Dale, Robert E. M. Hedges, Julie Hamilton, et al. “Community Differentiation and Kinship among Europe’s First Farmers.”
of Sciences of the United States of America
109, no.24 (2012): 9326-9330.
Benton, Adam. “What Was Neanderthal Clothing Like?”
EvoAnth,
November 13, 2012.
http://www.evoanth.net/2012/11/13/what-did-neandertals-wear/ (accessed December 10, 2013).
Berbesque, J. Colette, Frank W. Marlowe, Peter Shaw, and
Agriculturalists.”
Biology Letters
10, no. 1 (2014).
Berger, Lee R., Darryl J. deRuiter, Steven E. Churchill,
Kibii. “Australopithecus Sediba: A New Species of Homo-Like Australopith from South Africa.”
Science
328 (2010): 195-204.
Berlin, Leslie.
The Man Behind the Microchip: Robert Noyce and the Invention of Silicon Valley.
New York: Oxford University Press, 2005.
Berna, Francesco, Paul Goldberga, Liora Kolska Horwitz, James Brink, Sharon Holt, Marion Bamford, and Michael Chazan. “Microstratigraphic Evidence of
In Situ
Fire in the Acheulean Strata of Wonderwerk Cave, Northern Cape Province, South Africa.”
109, no. 20 (2012): 1215-1220.
Bicho, Nuno, Antonio F. Carvalho, Cesar González-Sainz, Jose Luis Sanchidrián, Valentín Villaverde, and Lawrence G. Straus. “The Upper Paleolithic Rock Art of Iberia.”
Journal of Archaeological Method and Theory
14, no. 1 (2007): 81-151.
Binford, Lewis R. “Post-Pleistocene Adaptations” in
New Perspectives in Archaeology,
ed. Sally R. Binford and Lewis R. Binford. Chicago: Aldine Publishing Company, 1968.
Bird, Michael. “Fire, Prehistoric Humanity, and the Environment.”
Interdisciplinary Science Reviews
20, no. 2 (1995): 141-154.
Bjorklund, David F. “The Role of Immaturity in Human Development.”
122, no. 2 (1997): 153-169.
Black, Brian. “Oil Creek’s Industrial Apparatus: Re-Creating the Industrial Process Through the Landscape of
Environmental History
3, no. 2 (1998): 210- 229.
Bocquet-Appel, Jean-Pierre. “The Demographic Impact of the Agricultural System in Human History.”
Current Anthropology
50, no. 5 (2009): 657-660. --- . “Paleoanthropological Traces of a Neolithic Demographic Transition.”
Current Anthropology
43, no. 4 (2002): 637-650. --- . “Testing the Hypothesis of a Worldwide Neolithic Demographic Transition: Corroboration from American Cemeteries.”
Current Anthropology
47, no. 2 (2006): 341- 365. --- . “When the World’s Population Took Off: The Springboard of the Neolithic Demographic Transition.”
Science
333, no. 6042 (2011): 560-561.
Boesch, Christophe, and Hedwige Boesch. “Hunting Behavior of Wild Chimpanzees in the Tai’ National Park.”
American Journal of Physical Anthropology
78: 547-573. --- . “Optimisation of Nut-Cracking with Natural Hammers by Wild Chimpanzees.”
Behaviour
83, no. 3-4 (1983): 265-286. --- . “Tool Use and Tool Taking in Wild Chimpanzees.”
Folia Primatologica
54 (1990): 86-99.
Boesch, Christophe, and Hedwige Boesch-Achermann.
Chimpanzees of the Tai Forest: Behavioral Ecology and Evolution.
New York: Oxford University Press, 2000.
Boesch, Christophe and Michael Tomasello. “Chimpanzee and Human Cultures.”
Current Anthropology
39, no. 5 (1998): 591-614.
Boorstin, Daniel J.
The Discoverers: A History of Man’s Search to Know His World and Himself.
New York: Vintage Books, 1985.
Borman, Frank.
Countdown: An Autobiography.
New York: Silver Arrow Books, 1988.
Brace, C. Loring.
The Stages of Human Evolution.
5th ed. Upper Saddle River, NJ: Prentice Hall, 1995.
Braidwood, Robert J. “The Agricultural Revolution.”
Scientific American
203 (1960): 130-148.
Brain, Charles K. “Raymond Dart and our African origins,” in
A Century of Nature: Twenty-One Discoveries that Changed Science and the World , Laura Garwin and Tim Lincoln, eds. Chicago: University of Chicago Press, 3-9.
Brain, Charles K., and A. Sillen. “Evidence from the Swartkrans Cave for the Earliest Use of Fire.”
Nature
336 (1989): 464.
Brainard, George C., John P. Hanifin, Jeffrey M. Greeson, Brenda Byrne, Gena Glickman, Edward Gerner, and Mark D. Rollag. “Action Spectrum for Melatonin Regulation in Humans: Evidence for a Novel Circadian Photoreceptor.”
Journal of Neuroscience
21, no. 1 (2001): 6405-6412.
Brantingham, P. Jeffrey. Review of
The Palaeolithic Settlement of Asia
by Robin Dennell.
Geoarchaeology: An International Journal
25, no. 5 (2009): 668-670.
Brink, A. S. “The Spontaneous Fire-Controlling Reactions of Two Chimpanzee Smoking Addicts.”
South African Journal of Science
53 (1957): 241-247.
Broad, William J. “Paradise Lost: Biosphere Retooled as Atmospheric Nightmare.”
New York Times,
November 19, 1996.
http://www.nytimes.com/1996/11/19/science/paradise-lost-biosphere- retooled-as-atmospheric-nightmare.html (accessed June 12, 2014).
Brown, Kyle S., Curtis W. Marean, Andy I. R. Herries, Zenobia Jacobs, Chantal Tribolo, David Braun, David L. Roberts, Michael C. Meyer, and Jocelyn Bernatchez. “Fire as an Engineering Tool of Early Modern Humans.”
Science
35, no. 5942 (2009): 859-862.
Brown, P. T. Sutikna, M. J. Morwood, R. P. Soejono, Jatmiko, E. Wayhu Saptomo, and Rokus Awe Due. “A New Small-Bodied Hominin from the Late Pleistocene of Flores, Indonesia.”
Nature
431, no. 7012 (2004): 1055-1061.
Bryce, Trevor. “The Last Days of Hattusa: The Mysterious Collapse of the Hittite Empire.”
Archaeology Odyssey
8, no. 1 (2005).
Bullfinch, Thomas.
The Age of Fable, or Stories of Gods and Heroes.
Boston: Sanborn, Carter, and Bazin, 1856.
Bunn, Henry T., Ellen M. Kroll, Stanley H. Ambrose, Anna K. Behrensmeyer, Lewis R. Binford, Robert J. Blumenschine, Richard G. Klein, Henry M. McHenry, Christopher J. O’Brien, and J. J. Wymer. “Systematic Butchery by Plio/Pleistocene Hominids at Olduvai Gorge, Tanzania.”
Current Anthropolog
y 27, no. 5 (1986): 431-452.
Burbank, Victoria K. “Premarital Sex Norms: Cultural Interpretations in an Australian Aboriginal Community.”
Ethos
15, no. 2 (1987): 226-234.
Buringh, Eltjo, and Jan Luiten Van Zanden. “Charting the 'Rise of the West’: Manuscripts and Printed Books in Europe: Long-Term
The Journal of Economic History
69, no. 2 (2009): 409-445.
Burton, Frances D.
Fire: The Spark That Ignited Human Evolution.
Albuquerque: University of New Mexico Press, 2009.
Burunat, Enrique. “Love Is the Cause of Human Evolution.”
Advances in Anthropology
4 (2014): 99-116.
Buss, David M.
The Handbook of Evolutionary Psychology.
New York: John Wiley & Sons, 2005.
Calvin, William H. “Hand-Ax Heaven: The Ambitious Ape’s Guide to a Bigger Brain,” in
The Ascent of Mind: Ice Age Climates and the Evolution of Intelligence , chapter 8. New York: Bantam Books, 1990.
Cantor, Norman F.
The Civilization of the Middle Ages: A Completely Revised and Expanded Edition of Medieval History, the Life and Death of a Civilization.
New York: HarperCollins, 1994.
Carmody, Rachel N., and Richard W. Wrangham. “The Energetic Significance of Cooking.”
Journal of Human Evolution
57 (2009): 379-391 .
Carneiro, Robert L. “A Theory of the Origin of the State.”
Science
169, no. 3947 (1970): 733- 738.
Carroll, Lewis.
Alice’s Adventures in Wonderland and Through the Looking Glass.
London: The Folio Society, 1961.
Casals, Pablo, and Josep M. Corredor.
Conversations with Casals.
New York: E.P. Dutton, 1957.
Casson, Lionel.
Travel in the Ancient World.
Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1994.
Center for the Advancement of the Steady State Economy.
Discover the Steady State Economy:
http://steadystate.org (accessed June 6, 2014).
Cerpa, Juan Antonio. “Altamira, un calvario para Marcelino Sanz de Sautuola.”
Red Española de Historia y Arqueología. ”
http://www.historiayarqueologia.com/profiles/blog/show?id=3814916
3ABlogPost
3A295493&commentId=3814916
3AComment
3A295461&xg_source=activity (accessed February 6, 2014).
Ceruzzi, Paul.
Computing: A Concise History.
Cambridge: MIT Press, 2012.
César, González Sainz, and Roberto Cacho Toca. “Paleolithic Cave Arts in Cantabria.”
MUSE Digital Archiving Frontiers.
http://www.muse.or.jp/spain/eng/cantabria/cantabria_top.html (accessed February 10, 2014).
Chagnon, Napoleon.
Yanomamö: The Fierce People.
New York: Holt, Rinehart and Winston, 1968.
Chandler, Alfred D., and Bruce Mazlish, eds.
Leviathan: Multinational Corporations and the New Global History.
Cambridge: Cambridge University Press, 2005.
Chapais, Bernard.
How Pair-Bonding Gave Birth to Human Society.
Cambridge: Harvard University Press, 2008.
Charles, J. A. “Early Arsenical Bronzes: A Metallurgical View.”
American Journal of Archaeology
71, no. 1 (1967): 21-26.
Chase, Kenneth.
Firearms: A Global History to 1700.
Cambridge, UK: Cambridge University
Chazine, Jean-Michel. “Rock Art, Burials, and Habitations: Caves in East Kalimantan.”
Asian
44, no. 1 (2005): 219-230.
Childe, V. Gordon. “Chapter V: The Neolithic Revolution,” in
Man Makes Himself.
Oxford: Oxford University Press, 1936.
Chu, Wei. “A Functional Approach to Paleolithic Open-Air Habitation Structures.”
World Archaeology
41, no. 3 (2009): 348-362. --- . “The Use of Dwellings During the Middle Paleolithic in Northern Europe.”
Abstracts
13-14 (2010).
Clark, J. Desmond, and J. W. K. Harris. “Fire and its Roles in Early Hominid Lifeways.”
The African Archaeological Review
3 (1985): 3-27.
Clayton, Brian. “The Incredible Shrinking Computer: Innovative Technology, Less Hardware.”
27, no. 4 (2011): 32-35.
Cohen, Avner. “Israel and Chemical/Biological Weapons: History, Deterrence, and Arms Control.”
The Nonproliferation Review
8, no. 33 (2001): 27-53.
Cohen, Joel.
How Many People Can the Earth Support?
New York: Norton, 1995.
Cohen, Joel E., and David Tilman. “Biosphere 2 and Biodiversity: The Lessons So Far.”
Science
274, no. 5290 (1996): 1150-1151.
Cohen, Mark N.
The Food Crisis in
Agriculture.
New Haven: Yale University Press, 1977.
Collier, Bruce, and James MacLachlan.
Charles Babbage: And the Engines of
Oxford: Oxford University Press, 1998.
Collier, Paul . Exodus: Immigration and Multiculturalism in the 21st Century.
London: Allen Lane, 2013.
Colomer, Josep M. “On Building the American and the European Empires.”
London School of Economics and Political Science 'Europe in Question’ Discussion Paper Series
6 (2009): 1-29.
Computer History Museum. “A Brief History.”
The Babbage Engine.
http://www.computerhistory.org/babbage/history/ (accessed June 12, 2014).
Conard, N. J., M. Malina, and S. C. Munzel. “New Flutes Document the Earliest Musical Tradition in Southwestern Germany.”
Nature
460, no. 7256 (2009): 737-740.
Connor, Walker. “A Nation Is a Nation, Is a State, Is an Ethnic Group, Is a...”
Ethnic and Racial Studies
1, no. 4 (1978): 379-388.
Currier, Richard L. “Canine Teeth and Lethal Weapons: Was the Fabrication of Wooden Spears and Digging Sticks by Hominin Ancestors Responsible for the Evolution of Bipedal Locomotion?” Available on line at:
http://www.richardlcurrier.com/articles/canine-teeth-and-lethal- weapons.html .
Cutress, Ian. “ Intel Readying 15-core Xeon E7 v2.”
AnandTech , February 11, 2014.
http://www.anandtech.com/show/7753/intel-readying-15core-xeon-e7-v2 (accessed June 6, 2014).
Dart, Raymond A. “Australopithecus Africanus: The Man-Ape of South Africa.”
Nature
115 (1925): 195-199.
Darwin, Charles.
The Descent of Man.
New York: Penguin Books, 2007.
Dawkins, Richard. “Afterward,”
in The Handbook of Evolutionary Psychology.
New York: John Wiley & Sons, 2005.
Davidson, Iain, and William Noble. “The Archaeology of
Current Anthropology
30, no. 2 (1989): 125-156.
Davis, Simon J. M. “The Age Profile of Gazelles Predated by Ancient Man in Israel: Possible Evidence for a Shift from Seasonality to Sedentism in the Natufian.”
9 (1983): 55-62.
Davis, Simon J. M. “Why Domesticate Food Animals? Some Zoo-Archaeological Evidence from the Levant.”
Journal of Archaeological Science
32 (2005): 1408-1416.
Dediu, Dan, and Stephen C. Levinson. “On the Antiquity of Language: The Reinterpretation of Neandertal Linguistic Capacities and Its Consequences.”
Frontiers in
4, no. 397 (2013): 1-17.
Defoe, Daniel.
The Life and Strange Surprizing Adventures of Robinson Crusoe. of Yourk, Mariner.
London: W Taylor, 1719.
DeLong, Bradford J., “The Reality of Economic Growth: History and Prospect,” in Jeffrey Williamson et al., eds.,
Globalization in Historical Perspective.
Appleton, Wisconsin: Lawrence University, 2000: 119-150.
Demay, Laëtitia, Stéphane Péan, and Marylène Patou-Mathis. “Mammoths Used as Food and Building Resources by Neanderthals: Zooarchaeological Study Applied to Layer 4, Molodova I (Ukraine).”
Quaternary International
276-277 (2012): 212-226.
deMenocal, Peter B. “Cultural Responses to Climate Change During the Late Holocene.”
Science
292 (2001): 667-673.
Denham, Tim. “Early Agriculture and Plant Domestication in New Guinea and Island Southeast Asia.”
Current Anthropology
52, no. S4 (2011): S379-S395.
Dennell Robin. “Dispersal and Colonisation, Long and Short Chronologies: How Continuous is the Early Pleistocene Record for Hominids Outside East Africa?”
Journal of Human Evolution
45, no. 6 (2003): 421-440. --- .
The Paleolithic Settlement of Asia.
Cambridge, UK: Cambridge University Press, 2009.
d’Errico, Francesco, Christopher Henshilwood, Graeme Lawson, Marian Vanhaeren, Anne-Marie Tillier, Marie Soressi, Frédérique Bresson, et al. “Archaeological Evidence for the Emergence of Language, Symbolism, and Music-An Alternative Multidisciplinary Perspective.”
Journal of World Prehistory
17, no. 1 (2003): 1-70.
Deutscher, Guy.
Through the Language Glass: Why the World Looks Different In Other Languages.
New York: Metropolitan Books, 2010.
Devine, Warren D. “From Shafts to Wires: Historical
The Journal of Economic History
43, no. 2 (1983): 347-372.
De Waal, Frans. “Bonobo Sex and Society.”
Scientific American
272, no. 3 (1995): 82-88, March, 1995.
De Waal, Frans, and Frans Lanting.
Bonobo: The Forgotten Ape.
Berkeley, CA: University of California Press, 1997.
Dewsbury, Donald A. “Patterns of Copulatory Behavior in Male Mammals.”
The Quarterly Review of Biology
47, no. 1 (March 1972): 133.
Diamond, Jared.
Guns, Germs, and Steel: The Fates of Human Societies.
New York: W. W. Norton, 1997. --- .
The World Until Yesterday.
New York: Viking, 2012.
Diehl, Michael W. “Architecture as a Material Correlate of Mobility Strategies: Some Implications for Archeological Interpretation.”
Cross Cultural Research
26, no. 1-4 (1992): 1-35.
Di Fiore, Anthony, and Drew Rendall. “Evolution of Social Organization: A Reappraisal for Primates by Using Phylogenetic Methods.”
Sciences
91, no. 21 (1994): 9941-9945.
Dirzo, Rodolfo, Hillary S. Young, Mauro Galetti, Gerardo Ceballos, Nick J. B. Isaac, and Ben Collen. “Defaunation in the Anthropocene.”
Science
345, no. 6195 (2014): 401-406.
Dodson, John, Xiaoqiang Li, Nan Sun, Pia Atahan, Xinying Zhou, Hanbin Liu, Keliang Zhao, Songmei Hu, and Zemeng Yang. “Use of Coal in the Bronze Age in China.”
The Holocene
24, no. 5 (2014): 525-530.
Dohrn-van Rossum, Gerhard, and Thomas Dunlap, trans.
History of the Hour: Clocks and Modern Temporal Orders.
Chicago: University of Chicago Press, 1996.
Domínguez-Rodrigo, Manuel. “Hunting and Scavenging by Early Humans: The State of the Debate.”
Journal of World Prehistory
16, no. 1 (2002): 1-54.
Douka, Katerina, Christopher A. Bergman, Robert E. M. Hedges, Frank P. Wesselingh, and Thomas F. G. Higham. “Chronology of Ksar Akil (Lebanon) and Implications for the Colonization of Europe by Anatomically Modern Humans.”
8, no. 9 (2013): e72931.
Duchin, Linda E. “The Evolution of Articulate Speech: Comparative Anatomy of the Oral Cavity in
and
Homo. ”
Journal of Human Evolution
19, no. 6-7 (1990): 687-697.
Dunbar, Robin I. M. “Neocortex Size as a Constraint on Group Size in Primates.”
Journal of Human Evolution
20 (1992): 469-493.
Dunbar, Robin, Clive Gamble, and John Gowlett, eds.
Social Brain, Distributed Mind.
Oxford: Oxford University Press for the British Academy, 2010.
Ecola, Lisa and Martin Wachs. “Exploring the Relationship between Travel Demand and Economic Growth.”
Washington: Federal Highway Administration.
http://www.fhwa.dot.gov/policy/otps/pubs/vmt_gdp (accessed June 24, 2014).
Eldredge, Niles.
Life in the Balance: Humanity and the Biodiversity Crisis.
NJ: Princeton University Press, 1998.
Elwin, Verrier,
The Kingdom of the Young.
London:
Oxford University
Eriksson, Anders, Lia Betti, Andrew D. Friend, Stephen J. Lycett, Joy S. Singarayer, Noreen von Cramon-Taubadel, Paul J. Valdes, Francois Balloux, and Andrea Manica. “Late Pleistocene Climate Change and the Global Expansion of Anatomically Modern Humans.”
United States of America
109, no. 40 (2012): 16089-16094.
Estebaranz, L., and Perez-Perez. “Buccal Dental Microwear Signals in the Gracile Australopithecines A. anamensis, A. afarensis, and A. africanus: Adaptations to Open Environments with Climatic Shift.”
2010 Annual Meeting
2010.
Fagan, Brian.
Cro-Magnon: How the Ice Age Gave Birth to the First Modern Humans.
New York: Bloomsbury Press, 2010.
Febvre, Lucien, and Henri-Jean Martin.
The Coming of the Book: The Impact of Printing 1450-1800.
London: New Left Books, 1976.
Feliks, John. “The Golden Flute of Geissenklösterle: Mathematical Evidence for A Continuity Of Human Intelligence As Opposed To Evolutionary Change Through Time.”
Aplimat-Journal of Applied Mathematics
4, no. 4 (2011): 157-162. --- . “The Graphics of Bilzingsleben: Sophistication and Subtlety in the Mind of Homo Erectus.”
of the International Union of Prehistoric and Protohistoric Sciences.
http://www-personal.umich.edu/~feliks/graphics-of- bilzingsleben/index.html (accessed February 2, 2014).
Fildes, Jonathan. “Campaign Builds to Construct Babbage Analytical Engine.”
BBC News , October 14, 2010.
http://www.bbc.co.uk/news/technology-11530905 (accessed June 12, 2014).
Finlayson, Clive, Darren A. Fa, Francisco Jiménez Espejo, Jóse S. Carrión, Geraldine Finlayson, Francisco Giles Pacheco, Joaquín Rodríguez Vidal, Chris Stringer, and Francisco Martínez Ruiz. “Gorham’s Cave, Gibraltar-The Persistence of a Neanderthal Population.”
Quaternary International
181 (2008): 64-71.
Fish, Jennifer L., and Charles A. Lockwood. “Dietary Constraints on Encephalization in Primates.”
American Journal of Physical Anthropology
120, no. 2 (2003): 171-181.
Flannery, Kent. “The Origins of Agriculture.”
Annual Review of Anthropology
2 (1973): 271- 310.
Flinn, Mark V., David C. Geary, and Carol V. Ward. “Ecological Dominance, Social Competition, and Coalitionary Arms Races: Why Humans Evolved Extraordinary Intelligence.”
Evolution and Human Behavior
26 (2005): 10-46.
Foley, Robert. “Adaptive Radiations and Dispersals in Hominin Evolutionary Ecology.”
Evolutionary Anthropology, Supplement
1 (2002): 32-37.
Foley, Robert, and Marta Lahr. “Mode 3 Technologies and the Evolution of Modern Humans.”
Cambridge Archaeological Journal
7, no. 1 (1997): 3-36.
Fong, Wen, W. Robert Bagley, Jenny F. So, and Maxwell K. Hearn, eds.
The Great Bronze Age of China: An Exhibition from the People’s Republic of China.
New York: Metropolitan Museum of Art, 1980.
Fontana, Luigi, Jennifer L. Shew, John O. Holloszy, and Dennis T. Villareal. “Low Bone Mass in Subjects On a Long-Term Raw Vegetarian Diet.”
Archives of Internal Medicine
165 (2005): 684-689.
Ford, Clellan S., and Frank A. Beach.
New York: Harper Torchbooks, 1951.
Froehle, Andrew W., and Steven E. Churchill. “Energetic Competition Between Neandertals and Anatomically Modern Humans.”
(2009): 96−116.
Fuentes, Augustin. “Re-evaluating Primate Monogamy.”
American Anthropologist
100, no. 4 (1998): 890-907.
Galloway, Robert L.
A History of Coal Mining in Great Britain.
London: MacMillan and Co., 1882.
Georgano, Nick.
Cars Early and Vintage 1886-1930.
New York, Crescent Books, 1990.
Gibbons, Ann. “Stunning Skull Gives a Fresh Portrait of Early Humans.”
Science
342, no. 6156 (2013): 297-298.
Gibran, Kahlil,
The
New York: Alfred A. Knopf, 1923.
Gilby, Ian C. “Meat Sharing Among the Gombe Chimpanzees: Harassment and Reciprocal Exchange.”
Animal Behavior
71 (2006): 953-863.
Gilby, Ian C., Lynn E. Eberly, Lilian Pintea, and Anne E.
Wild Chimpanzees,
Schweinfurthii. ”
Animal Behaviour
72 (2006): 169-180.
Gilligan, Ian. “Neandertal Extinction and Modern Human Behaviour: The Role of Climate Change and Clothing.”
World Archaeology
39, no. 4 (2007): 499-514. --- . “The
Thermal Model.”
Journal of Archaeological Method and Theory
17 (2010): 15-80.
Golitko, Mark, and Lawrence H. Keeley. “Beating
Linearbandkeramik.” Antiquity
81 (2007): 332-342.
Good, Kenneth.
Into the Heart: One Man’s Pursuit of Love and Knowledge Among the Yanomama.
New York: Simon & Schuster, 1991.
Goodall, Jane.
In the Shadow of Man.
Boston: Houghton Mifflin Company, 1971.
Goren-Inbar, Naama, Nira Alperson, Mordechai E. Kislev, Orit Simchoni, Yoel Melamed, Adi Ben-Nun, and Ella Werker. “Evidence of Hominin Control of Fire at Gesher Benot Ya’aqov, Israel.”
Science
304, no. 5671 (2004): 725-727.
Görlitz, Dominique. “Pre-Egyptian Reed Boat
Abora 2
Crosses the Mediterranean Sea.”
Migration & Diffusion
3, no. 12 (2002): 44-61.
Gowlett, John A. J. “The Early Settlement of Northern Europe: Fire History in the Context of Climate Change and the Social Brain.”
Human Paleontology and
5 (2006): 299-310. --- . “Out in the Cold.”
Nature
413, no. 92 (2001): 33-34.
Gowlett, John A. J., J. W. K Harris, D. Walton, and B. A. Wood. “Early Archaeological Sites, Hominid Remains, and Traces of Fire From Chesowanja, Kenya.”
Nature
294, no. 5837 (1981): 125-129.
Graber, Robert B, Randall R. Skelton, Ralph M. Rowlett, Ronald Kephart, and Susan Love Brown.
Meeting Anthropology, Phase to Phase: Growing UP, Spreading Out, Crowding In, Switching On.
Durham, NC: Carolina Academic Press, 2000.
Graham-Cumming, John. “Let’s Build Babbage’s Ultimate Mechanical Computer.”
New Scientist , December 23, 2010.
http://www.newscientist.com/article/mg20827915.500-lets-build- babbages-ultimate-mechanical-computer.html#.U5njTGcg-Uk (accessed June 12, 2014).
Greenhill, Basil.
The Evolution of the Wooden Ship.
Caldwell, NJ: The BlackBurn Press, 2009.
Greenspan, Stanley, and Stuart Shanker.
The First Idea: How Symbols, Language, and Intelligence Evolved from Our Primate Ancestors to Modern Humans.
Cambridge, MA: Da Capo Press, 2006.
Gregory, J. W. “Edward Suess.”
Science
39, no. 1017 (1914): 933-935.
Groves, Colin. “The What, Why, and How of Primate Taxonomy.”
International Journal of
25, no. 5 (2004): 1105-1126.
Groves, Colin, and Jordi Sabater-Pi. “From Ape’s Nest to Human Fx-Point.”
Man
20, no. 1 (1985): 22-47.
Guangwei, He. “China’s Dirty Pollution Secret: The Boom
Tainted Harvest: An e360 Special Report Part I , June 30, 2014.
http://e360.yale.edu/feature/chinas_dirty_pollution_secret_the_boom_poisoned_its_soil_and_crops/2782/ (accessed July 14, 2014). --- . “In China’s Heartland, A Toxic Trail Leads from Factories to Fields to Food.”
Tainted Harvest: An e360 Special Report Part II.
http://e360.yale.edu/feature/chinas_toxic_trail_leads_from_factories_to_food/2784/ (accessed June 28, 2014). --- . “The Soil
Tainted Harvest: An e360 Special Report Part III.
http://e360.yale.edu/feature/the_soil_pollution_crisis_in_china_a_cleanup_presents_daunting_challenge/2786/ (accessed June 14, 2014).
Gullapalli, Sravani, and Michael Wong. “Nanotechnology: A Guide to Nano-Objects.”
Chemical Engineering
107, no. 5 (2011): 28-32.
Haile-Selassie, Yohannes, Gen Suwa, and Tim D. White. “Late Miocene Teeth From Middle Awash, Ethiopia, and Early Hominid Dental Evolution.”
Science
303, no. 5663 (2004): 1503-1505.
Hansen, James, Makiko Sato, and Reto Ruedy. “
Global Temperature Update Through 2013.”
Goddard Institute for Space Studies, January 21, 2014.
Hansen, Karen T. “The World in Dress: Anthropological
Annual Review of Anthropology
33 (2004): 369-392.
Hardy, Bruce L., and Gary T. Garufi. “Identification of Woodworking on Stone Tools Through Residue and Use-Wear Analysis: Experimental Results.”
Journal of Archaeological Science
25 (1998): 177-184.
Hardy, Karen, Stephen Buckley, Matthew J. Collins, Almudena Estalrrich, Don Brothwell, Les Copeland, Antonio García-Tabernero, et al . “Neandertal Medics? Evidence for Food, Cooking, and Medicinal Plants Entrapped in Dental Calculus.”
Naturwissenschaften
99, no. 8 (2012): 617-626.
Harrod, J. “Deciphering Later Acheulian Period Marking Motifs (LAmrk): Impressions of the Later Acheulian Mind.”
OriginsNet Publications.
http://originsnet.org/publications.html#Deciphering
LAmrk (accessed February 19, 2014).
Harvey, David. “Chapter 6: Time-Space Compression and the
The Global Transformations Reader: An Introduction to the Globalization Debate , David Held and Anthony McGrew, eds. Stanford: Stanford University Press, 1999.
Harwood, Catherine. “Oral History Transcript: Frank Borman,”
Johnson Space Center Oral History Archive,
April 13, 1999.
Hassan, Fekri. “The Gift of the Nile,” in
Ancient Egypt , David P. Silverman, ed. New York: Oxford University Press, 2003.
Hatley, Tom, and John Kappelman. “Bears, Pigs, and
Food Resources.”
Human Ecology
4 (1980): 371-387.
Hauser, Marc D. “A Primate Dictionary? Decoding the Function and Meaning of Another Species’ Vocalizations.”
Cognitive Science
24, no. 3 (2000): 445-475.
Hawkes, Kristen, and Nicholas Blurton Jones. “Human Age Structures, Paleodemography, and the Grandmother Hypothesis”
in Grandmotherhood: The Evolutionary Significance of the Second Half of Female Life.
New Brunswick, NJ: Rutgers University Press, 2005.
Hayden, Brian. “Nimrods, Piscators, Pluckers, and Planters: The Emergence of Food Production.”
Journal of Anthropological Archaeology
9, no. 1 (1990): 31-69.
Held, David, Anthony McGrew, David Goldblatt, and Jonathan
Global Transformations: Politics, Economics, and Culture.
Stanford: Stanford University
Held, David, and Anthony McGrew, eds.
The Global Transformations Reader: An Introduction to the Globalization Debate.
Cambridge, MA: Polity Press, 2000.
Hernandez-Aguilar, R. Adriana, Jim Moore, and Travis Rayne
Storage Organs of Plants.”
National Academy of Sciences
104, no. 49 (2007): 19210-19213.
Higham, Thomas, Laura Basell, Roger Jacobi, Rachel Wood, Christopher Bronk Ramsey, and Nicholas J. Conard. “Τesting Models for the Beginnings of the Aurignacian and the Advent of Figurative Art and Music: The Radiocarbon Chronology of Geißenklösterle.”
Journal of Human Evolution
62, no. 6 (2012): 664-676.
Hilbert, Martin, and Priscila López. “The World’s Technological Capacity to Store, Communicate, and Compute Information.”
Science
332, no. 6025 (2011): 60-65.
Hillman, Gordon C., and M. Stuart Davies “Measured Domestication Rates in Wild Wheats and Barley Under Primitive Implications.”
Journal of World
4, no. 2 (1990): 157- 222.
Hills, R. L., and A. J. Pacey. “The Measurement of Power in Early Steam-Driven Textile Mills.”
Technology and Culture
13, no. 1 (1972): 25-43.
Hirst, K. Kris. “Geißenklösterle (Germany): Aurignacian Site in the Swabian Jura of Germany.”
About.com Archaeology.
http://archaeology.about.com/od/gterms/qt/Geissenklosterle-Germany.htm (accessed January 30, 2014). --- . “Molodova I (Ukraine).”
About.com Archeology.
http://archaeology.about.com/od/mterms/g/molodova.htm . (accessed January 23, 2014).
Hobsbawm, Eric.
Nations and Nationalism Since 1780: Programme, Myth, Reality.
Cambridge, MA: Cambridge University Press, 1990.
Hodges, Henry.
Technology in the Ancient World.
New York: Alfred A. Knopf, 1974.
Hoebel, E. Adamson.
The Cheyennes: Indians of the Great Plains.
New York: Holt, Rinehart and Winston, 1960.
Hole, Frank. “Agricultural Sustainability in the Semi-Arid Near East.”
Climate of the Past
3 (2007): 193-203. --- . “A Reassessment of the Neolithic Revolution.”
10, no. 2 (1984): 49-60.
Holloway, Ralph L. “Tools and Teeth: Some Speculations Regarding Canine Reduction.”
American Anthropologist
69, no. 1 (1967): 63-67.
Hong, Sungmin, Jean-Pierre Candelone, Clair C. Patterson, and Claude F. Boutron.“History of Ancient Copper Smelting Pollution During Roman and Medieval Times Recorded in Greenland Ice.”
Science
272, no. 5259 (1996): 246-249.
Hopkins, Anthony G., ed.
Global History: Interactions between the Universal and the Local.
Basingstoke, UK: Palgrave Macmillan, 2006.
Houghton, Richard A. “Why Are Estimates of the Terrestrial Carbon Balance So Different?”
Global Change Biology
9, no. 4 (2003): 500-509.
Howard, William R. “Palaeoclimatology: A Warm Future in the
Nature
388 (1997): 418-419.
Hoyle, Fred, and Chandra Wickramasinghe.“On the Cause of Ice-Ages.”
Cambridge-Conference Network , July 1999.
http://abob.libs.uga.edu/bobk/ccc/ce120799.html (accessed June 13, 2014).
Hu, Yaowu, Songmei Hu, Weilin Wang, Xiaohong Wu, Fiona B. Marshall, Xianglong Chen, Liangliang Hou, and Changsui Wang. “Earliest Evidence for Commensal Processes of Cat Domestication.”
the United States of America
111, no. 1 (2014): 116-120.
Huffman, O. Frank, John De Vos, Aart W. Berkhout, and Fachroel Aziz. “Provenience Reassessment of the 1931-1933 Ngandong Homo Erectus (Java), Confirmation of the Bone-bed Origin Reported by the Discoverers.”
(2010): 1−60.
Hultsman, John, and William Harper. “The Problem of Leisure Reconsidered.”
Journal of American Culture
16, no. 1 (2004): 47-54.
Hunt, Kevin D. “The Evolution of Human Bipedality: Ecology and Functional Morphology.”
Journal of Human Evolution
26 (1994): 183-202.
Hutchinson, Peter. “Magazine Growth in the Nineteenth Century.”
A Publisher’s History of American Magazines,
2008.
Imbrie, John, A. Berger, E. A. Boyle, S. C. Clemens, A. Duffy, W. R. Howard, G. Kukla, J. Kutzbach, D. G. Martinson, A. Mcintyre et al. “On the Structure and Origin of Major Glaciation Cycles: 2. The 100000-year cycle.”
8, no. 6 (1993): 699- 735.
International Technology Roadmap for Semiconductors. “Overall Technology Roadmap Characteristics.”
2010 Update.
http://www.itrs.net/Links/2010ITRS/Home2010.htm (accessed June 17, 2014).
Jablonski, Nina G., and George Chaplin. “Origin of Habitual Terrestrial Bipedalism in the Ancestor of the
Hominidae. ”
Journal of Human Evolution
24 (1993): 259-280.
James Martin Center for Nonproliferation Studies. “Chemical and Biological Weapons: Possession and Programs Past and Present.”
Chemical & Biological Weapons Resource Page.
Monterey Institute of International Studies, 2008.
http://cns.miis.edu/cbw/possess.htm (accessed June 16, 2014).
James, Steven R. “Hominid Use of Fire in the Lower and Middle Pleistocene: A Review of the Evidence.”
Current Anthropology
30, no. 1 (1989): 1-11.
Johanson, Donald and Blake Edgar.
From Lucy to Language.
New York, Simon & Schuster, 1996.
Jones, Eric L.
Cultures Merging: A Historical and Economic Critique of Culture.
Jones, Nate. “The Department of Defense List of 32 'Accidents Involving Nuclear Weapons.’”
Unredacted: The National Security Archive, Unedited and Uncensored , October 9, 2013.
http://nsarchive.wordpress.com/2013/10/09/document-friday-narrative- summaries-of-accidents-involving-nuclear-weapons/ (accessed June 26, 2014).
Keeley, Lawrence H. “War Before Civilization-15 Years On,” in
The Evolution of Violence.
New York: Springer, 2014.
Kelly, Jack.
Gunpowder: Alchemy, Bombards, & Pyrotechnics: The History of the Explosive That Changed the World.
New York: Basic Books, 2004.
Kirkland, Joel. “Global Emissions Predicted to Grow through 2035.”
Scientific American (2010).
Kislev, Mordechai E., D. Nadel, and I. Carmi. “Epipalaeolithic (19000 BP) Cereal and Fruit Diet at Ohalo II, Sea of Galilee, Israel.”
Review of Palaeobotany and
73, no. 1-4 (1992): 161-166.
Kitchen, Martin.
A History of Modern Germany: 1800 to the Present.
New York: John Wiley & Sons, 2011.
Kittler, Ralph, Manfred Kayser, and Mark Stoneking. “Molecular Evolution of
Humanus
and the Origin of Clothing.”
Current Biology
13 (2003): 1414-1417.
Klein, Richard G. “Anatomy, Behaviour, and Modern Human Origins.”
Journal of World Prehistory
9, no. 2 (1995): 167-98. --- . “The Archaeology of Modem Human Origins.”
Evolutionary Anthropology
1 (1992): 5-14.
Knight, Chris, Camilla Power, and Ian Watts. “The Human Symbolic Revolution: A Darwinian Account.”
Cambridge Archaeological Journal
5, no. 1 (1995): 75-114.
Kortlandt, Adriaan. “How Might Early Hominids Have Defended Themselves Against Large Predators and Food Competitors?”
Journal of Human Evolution
9, no. 2: 79-94.
Kremer, Michael. “Population Growth and Technological Change: One Million B.C. to 1990.”
The Quarterly Journal of Economics
108, no. 3 (1993): 681-716.
Kristensen, Hans M., and Robert S. Norris.“Nuclear Warhead Stockpiles and Transparency,” in
Global Fissile Material Report 2013: Increasing Transparency of Nuclear Warhead and Fissile Material Stocks as a Step Toward Disarmament.
Materials. --- . “Russian Nuclear Forces.”
Bulletin of the Atomic Scientists
69, no. (2013): 71-81. --- . “US Nuclear Forces.”
Bulletin of the Atomic Scientists
70, no. 11 (2014): 85-93.
Kuhn, Steven L., Mary C. Stiner, Erksin Güleç, Ismail Őzer, Hakan Yılmaz, Ismail Baykara, Ayşen Açıkkol, Paul Goldberg, Kenneth Martínez Molina, Engin Űnay, and Fadime Suata-Alpaslan. “The Early Upper
Journal of Human Evolution
56 (2009): 87-113.
Kuijt, Ian. “Life in Neolithic Farming Communities: An Introduction,” in
Life in Neolithic Farming Communities: Social Organization, Identity, and Differentiation,
Ian Kuijt, ed. New York: Plenum
--- . “Negotiating Equality Through Ritual: A Consideration of Late Natufian and Prepottery Neolithic Period a Mortuary Practices.”
Journal of Anthropological Archaeology
15 (1996): 313-336.
Kuijt, Ian, and Bill Finlayson. “Evidence for Food Storage and Predomestication Granaries 11000 Years Ago in the Jordan Valley.”
Sciences of the United States of America
106, no. 27 (2009): 10966-10970.
Lallanilla, Marc. “World’s Oldest Harbor Discovered in Egypt.”
LiveScience
April 16, 2013.
Landes, David S.
Revolution in Time: Clocks and the Making of the Modern World.
Cambridge, MA: Belknap Press, 2000.
Laurance, William. “China’s Appetite for Wood Takes a Heavy Toll on Forests.”
Yale Environment 360 , November 17, 2011.
http://e360.yale.edu/feature/chinas_appetite_for_wood_takes_a_heavy_toll_on_forests/2465/ (accessed June 28, 2014).
Lawler, Andrew. “Report of Oldest Boat Hints at Early Trade Routes.”
Science
296, no. 5574 (2002): 1791-1792.
Lawler, Richard R. “Monomorphism, Male-Male Competition, and Mechanisms of Sexual Dimorphism.”
Journal of Human Evolution
57 (2009): 321-325.
Leakey, Meave G., Craig S. Feibel, Ian McDougall, and Alan Walker. “New Four-Million-Year-Old Hominid Species from Kanapoi and Allia Bay, Kenya.”
Nature
376 (2002): 565-571.
Leo, Natalie P., and Stephen C. Barker. “Unravelling the Evolution of the Head Lice and Body Lice of Humans.”
98 (2005): 44-47.
Leonard, William R. “Food for Thought: Dietary Change was a Driving Force in Human Evolution.”
Scientific American
287, no. 6 (2002): 106-115.
Lessa, William A.,
Ulithi: A Micronesian Design for Living.
New York: Holt, Rinehart and Winston, 1966.
Lewis, Bill, “The Gaslight Era: A Revolution in Lighting.”
About.com/Lighting.
http://lighting.about.com/od/Fixtures/a/The-Gaslight-Era.htm . (accessed May 30, 2014).
Lewis, M. Paul, Gary F. Simons, and Charles D. Fennig, eds.
Ethnologue: Languages of the World, Seventeenth Edition.
Dallas: SIL International, 2004.
Lieberman, Daniel E., Brandeis M. McBratney, and Gail Krovitz. “The Evolution and Development of Cranial Form in Homo Sapiens.”
Sciences
99, no. 3 (2002): 1134-1139.
Lieberman, Daniel E., Gail E. Krovitz, Franklin W. Yates, Maureen Devlin, and Marisa St. Claire. “Effects of Food Processing on Masticatory Strain and Craniofacial Growth in a Retrognathic Face.”
Journal of Human Evolution
46 (2004): 655-677.
Lieberman, Philip, Jeffrey T. Laitman, Joy S. Reidenberg, and Patrick J. Gannon. “The Anatomy, Physiology, Acoustics and
Human Speech.”
Journal of Human Evolution
23 (1992): 447-467.
Lindsey, Rebecca. “Tropical Deforestation.”
National Aeronautics and Space Administration, Earth Observatory , March 30, 2007.
http://earthobservatory.nasa.gov/Features/Deforestation/ (accessed June 27, 2014).
Lordkipanidze, David, Marcia S. Ponce de León, Ann Margvelashvili, Yoel Rak, G. Philip Rightmire, Abesalom Vekua, and Christoph P. E. Zollikofer. “A Complete Skull from Dmanisi, Georgia, and the Evolutionary Biology of Early
Homo.” Science
342, no. 6156 (2013): 326-331.
Lovejoy, C. Owen. “The Origin of Man.”
Science (New Series)
211, no. 4480 (1982): 341-350.
Lu, Caitlin.
Matteo Ricci and the Jesuit Mission in China 1583-1610.
Boston: The Concord Review.
Lucas, Adam Robert. “Industrial Milling in the Ancient and Medieval Worlds: A Survey of the Evidence for an Industrial Revolution in Medieval Europe.”
Technology and Culture
46, no. 1 (2005): 1-30.
Luengen, Hans B., Michael Peters, and Peter Schmöle. “Ironmaking in Western Europe.”
Association for Iron & Steel Technology 2011 Proceedings
1 (2011): 387-400.
Mcbrearty, Sally, and Alison S. Brooks. “The Revolution That Wasn’t: A New Interpretation of the Origin of Modern Human Behavior.”
Journal of Human Evolution
39, no. 5 (2000): 453-563.
McCallum, Malcolm L. “Amphibian Decline or Extinction? Current Declines Dwarf Background Extinction Rate.”
Journal of Herpetology
41, no. 3 (2007): 483-491.
McCorriston, Joy, and Frank Hole. “The Ecology of Seasonal Stress and the Origins of Agriculture in the Near East.”
American Anthropologist
93, no. 1 (1991): 46-69.
Macdonald, David, ed.
Oxford, England: Equinox, 1984.
McGrew, William C.
Chimpanzee Material Culture: Implications for Human Evolution.
Cambridge, UK: Cambridge University Press, 1992.
McKibben, Bill.
Deep Economy: Economics as if the World Mattered.
Oxford: OneWorld
McPherron, Shannon Patrick. “Handaxes as a Measure of the Mental Capabilities of Early Hominids.”
Journal of Archaeological Science
27 (2000): 655-663.
Maher, Lisa A., Tobias Richter, and Jay T. Stock. “The
Evolutionary Anthropology
21 (2012): 69-81.
Maisels, Charles K. “The Institutions of Urbanism,” in
The Emergence of Civilization: From Hunting and Gathering to Agriculture, Cities, and the State in the Near East.
London: Routledge, 1990. --- . “The Interactive Evolution of Alphabetic Script,” in
The Emergence of Civilization: From Hunting and Gathering to Agriculture, Cities, and the State in the Near East.
London: Routledge, 1990.
Malinowski, Bronislaw.
Magic, Science, and Religion.
Garden City, NY: Doubleday & Company, 1954. --- .
The Sexual Life of Savages in North-Western Melanesia.
New York: Harcourt, Brace and Company, 1929.
Mania, Dietrich, and Ursula Mania. “Deliberate Engravings on Bone Artefacts of Homo Erectus.”
Rock Art Research
5 (1988): 91-107. --- . “The Natural and Socio-Cultural Environment of Homo Erectus at Bilzingsleben, Germany,” in
The Hominid Individual in Context, Archaeological Investigations of Lower and Middle Palaeolithic Landscapes, Locales and Artefacts
Clive Gamble and Martin
Mann, Alan, and Mark Weiss. “Hominoid Phylogeny and Taxonomy: A Consideration of the Molecular and Fossil Evidence in a Historical Perspective.”
Molecular Phylogenetics and Evolution
5, no. 1 (2996): 169-181.
Mann, Charles C.
1491: New Revelations of the Americas Before Columbus.
New York: Vintage Books, 2006.
Manning, Patrick.
Navigating World History: Historians Create a Global Past.
New York:
Marland, G., T. A. Boden, and R. J. Andres. “Global, Regional, and National Fossil Fuel CO2 Emissions,” in
Trends: A Compendium of Data on Global Change.
Oak Ridge, Tennessee: Carbon Dioxide Information Analysis Center, Oak Ridge National Laboratory, US Department of Energy, 2012.
Marlowe, Frank W. “Hunting and Gathering: The Human Sexual Division of Foraging Labor.”
Cross-Cultural Research
41, no. 2 (2007): 170-195.
Martin, R. M., ed.
State of the World’s Forests 2012.
Rome: United Nations Food and Agriculture Organization, 2012.
Martínez, I., M. Rosa, J.-L. Arsuaga, P. Jarabo, R. Quam, C. Lorenzo, A. Gracia, J.-M. Carretero, J.-M. Bermúdez de Castro, and E. Carbonell. “Auditory Capacities in Middle Pleistocene Humans from the Sierra de Atapuerca in Spain.”
the National Academy of Sciences of the United States of America
10.1 no. 27 (2004): 9976-9981.
Martínez, I., M. Rosa, R. Quam, P. Jarabo, C. Lorenzo, A. Bonmatí, A. Gómez-Olivencia, A. Gracia, and J. L. Arsuaga. “Communicative Capacities in Middle Pleistocene Humans from the Sierra de Atapuerca in Spain.”
Quaternary International
295 (2013): 94-101.
Martínez, Maria del Carmen Rodríguez, Ponciano Ortíz Ceballos, Michael D. Coe, Richard A. Diehl, Stephen D. Houston, Karl A. Taube, and Alfredo Delgado Calderón. “Oldest Writing in the New World.”
Science
313, no. 5793 (2006): 1610-1614.
Mastny, Lisa. “Traveling Light: New Paths for International Tourism.”
Worldwatch Paper 159 , December 2001.
Mead, Margaret.
Cultuer and Commitment: A Study of the Generation Gap.
London: The Bodley Head, 1970.
Mellars, Paul. “Cognitive Changes and the Emergence of Modern Humans in Europe.”
Cambridge Archaeological Journal
1, no. 1 (1991): 63-76.
Mendoza, Sally P., Deeann M. Reeder, and William A. Mason. “Nature of Proximate Mechanisms Underlying Primate Social Systems: Simplicity and Redundancy”
Evolutionary Anthropology, Supplement
1 (2002): 112-116.
Mgeladzea, Ana, David Lordkipanidzea, Marie-Hélène Moncelb, Jackie Desprieeb, Rusudan Chagelishvilia, Medea Nioradzea, and Giorgi Nioradzea. “Hominin Occupations at the Dmanisi Site, Georgia, Southern Caucasus: Raw Materials and Technical Behaviours of Europe’s First Hominins.”
Journal of Human Evolution
60, no. 5 (2011): 571-596.
Milton, Katharine. “Diet and Primate Evolution.”
Scientific American
269 (1993): 86-93. --- . “A Hypothesis to Explain the Role of Meat-Eating in Human Evolution.”
Evolutionary Anthropology
8 (1999): 11-21.
Mitani, John C. and David P. Watts. “Correlates of Territorial Boundary Patrol Behavior in Wild Chimpanzees.”
Animal Behavior
70 (2005): 1079-1086. --- . “Demographic Influences on the Hunting Behavior of Chimpanzees.”
American Journal of Physical Anthropology
109 (1999): 439-454.
Mitani, John C., David P. Watts, and Sylvia J. Amsler. “Lethal Intergroup Aggression Leads to Territorial Expansion in Wild Chimpanzees.”
Current Biology
20, no. 12 (2010): 507-508.
Moore, Gordon E. “Cramming More Components onto Integrated Circuits.”
Electronics
38, no. 8 (1965): 114-117.
Moore, Gordon E., 1998, Cramming More Components onto Integrated Circuits.
IEEE
86(1): 82-85. Available at:
http://www.cs.utexas.edu/users/fussell/courses/cs352h/papers/moore.pdf (accessed June 17, 2014).
Muller, Martin N., and John C. Mitani. “Conflict and Cooperation in Wild Chimpanzees.”
Advances in the Study of Behavior
35 (2005): 275-331.
Müller, Werner, and Clemens Pasda. “Site Formation and Faunal Remains of the Middle Pleistocene Site Bilzingsleben.”
Quartär
58 (2011): 25-49.
Münzel, S., F. Seeberger, and W. Hein. “The Geissenklösterle Flute-Discovery, Experiments, Reconstruction,” in
The Archaeology of Sound: Origin and Organisation.
Rahden/Westfalen: Verlag Marie Leidorf, 2002, 107-118.
Murdock, George P.
Social Structure.
New York: MacMillan Company, 1960.
Murnane, William J. “Three Kingdoms and Thirty-Four Dynasties,” in
Ancient Egypt , Daniel Silverman, ed. New York: Oxford University Press, 20-57.
National Aeronautics and Space Administration. Goddard Institute for Space Studies.
GISS Surface Temperature Analysis (GISTEMP).
Available at:
http://data.giss.nasa.gov/gistemp/ (accessed June 19, 2014).
Needham, Joseph, “Military Technology: the Gunpowder Epoch,” in
Science and Civilisation in China, Chemistry and Chemical Technology (vol. 5, part 2).
Cambridge, UK: Cambridge University Press, 1986.
Newton-Fisher, Nicholas E. “Chimpanzee Hunting Behavior,” in
Handbook of Paleoanthropology,
eds. Winfried Henke, Ian Tattersall, and Thorolf Hardt. New York: Springer, 2007.
Niépce House Museum. “The Pyrelophore.”
Other Inventions.
http://www.niepce.com/pagus/pagus-other.html (accessed May 30, 2014).
Newman, Russell W. “Why Man Is Such a Sweaty and Thirsty Naked Animal: A Speculative Review.”
Human Biology
42 (1970): 12-27.
Noble, William, and Iain Davidson. “The Evolutionary Emergence of Modern Human Behavior: Language and its Archaeology.”
Man (New Series)
26 (1991): 223-253.
Norris, Robert S., William M. Arkin, Hans M. Kristensen, and Joshua Handler. “Israeli Nuclear Forces”
Bulletin of the Atomic Scientists
58, no. 5 (2002): 72-75.
North, J. D., “Wallingford, Richard (c.1292-1336),” in
The Oxford Dictionary of National Biography.
Oxford: Oxford University Press, 2004.
Oates, Joan, Augusta McMahon, Philip Karsgaard, Salam Al Quntar, and Jason Ur. “Early Mesopotamian Urbanism: A New View from the North.”
Antiquity
81, no. 313 (2007): 585-600.
O’Brien, Patrick. Review of
Global History: Interactions between the Universal and the Local , ed. Anthony G. Hopkins. Basingstoke: Palgrave Macmillan, 2006.
Ogawa, Hideshi, Gen’ich Idani, Jim Moore, Lilian Pintea, and Adriana Hernandez-Aguilar. “Sleeping Parties and Nest Distribution of Chimpanzees in the Savanna Woodland, Ugalla, Tanzania.”
International Journal of Primatology
28 (2007): 1397-1412.
Okołów, Czesław, ed . Białowieża National Park: Know It, Understand It, Protect It.
Białowieża, Poland: Białowieski Park Narodowy, 2009.
O’Neill, Brian C., Michael Dalton, Regina Fuchs, Leiwen Jiang, Shonali Pachauri, and Katarina Zigova. “Global Demographic Trends and Future Carbon Emissions.”
National Academy of Sciences of the United States of America
107, no. 41 (2010): 17521-17526.
Organ, Chris, Charles L. Nunn, Zarin Machanda, and Richard W. Wrangham. “Phylogenetic Rate Shifts in Feeding Time During the Evolution of Homo.”
Academy of Sciences
108, no. 5 (2011): 1455-1459.
Osborne, Colin P., and David J. Beerling. “Nature’s Green Revolution: The Remarkable Evolutionary Rise of C4 Plants.”
Biological Sciences
361, no. 1465 (2006): 173-194.
Fewer Parasites.”
Society of London B (Supplement)
270 (2003): S117-S119.
L. Abel, G. Russell Coope, Mike H. Field, Rowena Gale, et al. “Early
Europe.”
Nature
466 (2010): 229-233.
Studies , Tokyo, May 19, 2005. --- . “Towards Further Understanding of the Indus Script.”
, Seoul, October 2008.
Lower Paleolithic.”
Yahoo Voices
Dec 14, 2009.
http://voices.yahoo.com/bilzingsleben-providing-view-lower- paleolithic-5056010.html (accessed January 12, 2014).
Accessible to Early Metallurgists.”
American Antiquity
36, no. 3 (1970): 286-321.
of Big Brains?”
Science
283, no. 5410 (1999): 2004-2005.
Romandini, and Antonio Tagliacozzo. “Late Neandertals and the Intentional Removal of Feathers as Evidenced from Bird Bone Taphonomy at Fumane Cave 44 ky B.P., Italy.”
the National Academy of Sciences of the United States of America
108, no. 10 (2011): 3888-3893.
Natural History
90, no. 10 (1981): 38.
Science News
123, no. 24 (1983): 378-380.
“Prevalence of Earth-Size Planets Orbiting Sun-like Stars.”
United States of America
110, no. 48 (2013): 19273-19278.
J.-M. Barnola, I. Basile, M. Bender, J. Chappellaz, M. Davisk, G. Delaygue, et al. “Climate and Atmospheric History of the Past 420000 Years from the Vostok Ice Core, Antarctica.”
Nature
399 (1999): 429-436.
J. A. Lasheras, R. Montes, and J. Zilhão. “U-Series Dating of
Science
336 (2012): 1409-1413.
Agriculture, and Malnutrition.”
World Watch Magazine
17, no. 5 (2004): 22-25.
Şekercioğlu, and Paul R. Ehrlich. “Human Impacts on the Rates of Recent,
States of America
103, no. 29 (2006): 10941-10946.
Released with 20 New SKU Lineup.”
WCCFTech.com , Feb. 19, (accessed June 24, 2014).
Cattani, G. Dreyfus, S. Falourd, S. Johnsen, J. Jouzel, A. Landais, B. Minster, and B. Stenni. “Links between MIS 11 Millennial to Sub-Millennial Climate Variability and Long Term Trends as revealed by New High Resolution EPICA Dome C Deuterium Data - A Comparison with the Holocene.”
Climate of the Past
7 (2011): 437-450.
Earthrise: How Man First Saw the Earth.
New Haven: Yale University Press, 2010.
Boston: Little, Brown and Company, 1967.
Evolution.”
Yearbook of Physical Anthropology
41 (1998): 93-138.
Bridgland, and S. G. Lewis. “Humans in the Hoxnian: Habitat, Context, and Fire Use at Beeches Pit, West Stow, Suffolk, UK.”
Journal of Quaternary Science
21 (2006): 485-496.
Agriculture: New Data, New Ideas.”
Current Anthropology
52, no. S4 (2011): S163-S174.
Extinction Rates: Past, Present, and Future,” in
Encyclopedia of Biodiversity,
vol. 2, 167-176.
) in the Tomboronkoto Region of Southeastern Senegal.”
News
8, no. 2 (2001): 26-28.
, Hunt with Tools.”
Current Biology
17, no. 5 (2007): 412-417.
Raask, Erich.
Mineral Impurities in Coal Combustion: Behavior, Problems, and Remedial Measures.
New York: Hemisphere Publishing Corporation, 1985.
Ragir, Sonia. “Diet and Food Preparation: Rethinking Early Hominid Behavior.”
Evolutionary Anthropology
9, no. 4 (2000): 153-155.
Reed David L., Jessica E. Light, Julie M. Allen, and Jeremy J. Kirchman. “Pair of Lice Lost or Parasites Regained: The Evolutionary History of Anthropoid Primate Lice.”
BMC Biology
5 (2007): 7.
Reed, Kaye E. “Early Hominid Evolution and Ecological Change through the African Plio-Pleistocene.”
Journal of Human Evolution
32 (1997): 289-322.
Relman, David A., Eileen R. Choffnes, and Alison Mack.
Infectious Disease Movement in a Borderless World: Workshop Summary.
Washington, DC: National Academies Press, 2010.
Renfrew, Colin.
The Emergence of Civilisation: The Cyclades and the Aegean in the Third Millennium BC.
Oxford: Oxbow Books, 1972.
Reyes, Alberto V., Anders E. Carlson, Brian L. Beard, Robert G. Hatfield, Joseph S. Stoner, Kelsey Winsor, Bethany Welke, and David J. Ullman. “South Greenland Ice-Sheet Collapse During Marine Isotope Stage 11.”
Nature
510 (2014): 525-528.
Riall, Lucy.
The Italian Risorgimento: State, Society, and National Unification.
London: Routledge, 1994.
Richerson, Peter J., Robert Boyd, and Robert L. Bettinger. “Was Agriculture Impossible during the Pleistocene but Mandatory during the Holocene?”
American Antiquity
66, no. 3 (2001): 387-411.
Ridley, Matt. “Humans: Why They Triumphed.”
Wall Street Journal , May 22, 2010.
Riehl, Simone, Mohsen Zeidi, and Nicholas J. Conard. “Emergence of Agriculture in the Foothills of the Zagros Mountains of Iran.”
Science
341, no. 6141 (2013): 65-67.
Rindos, David.
The Origins of Agriculture: An Evolutionary Perspective.
New York: Academic Press, 1984.
Roach, Neil T., Madhusudhan Venkadesan, Michael J. Rainbow, and Daniel E. Lieberman. “Elastic Energy Storage in the Shoulder and the Evolution of High-Speed Throwing in Homo.”
Nature
498, (2013): 483-486.
Robinson, Andrew,. “Decoding Antiquity: Eight Scripts That Still Can’t Be Read.”
New Scientist
2710, May 27, 2009.
Rodman, Peter S., and Henry M. McHenry. “Bioenergetics and the Origin of Hominid Bipedalism.”
American Journal of Physical Anthropology
52 (1980): 103-106.
Roebroeks Wil. “The Human Colonisation of Europe: Where Are We?”
Journal of Quaternary Science
21 (2006): 425-435.
Roebroeks, Wil, and Paola Villa. “On the Earliest Evidence for Habitual Use of Fire in Europe.”
of the National Academy of Sciences
108, no. 3 (2011): 5209-5214.
Roebroeks, Wil, Nicholas J. Conard, and Thijs van Kolfschoten. “Dense Forests, Cold Steppes, and the Palaeolithic Settlement of Northern Europe.”
Current Anthropology
33 (1992): 551-86.
Roebroeks, Wil, Mark J. Siera, Trine Kellberg Nielsen, Dimitri De Loecker, Josep Maria Parés, Charles E. S. Arps, and Herman J. Mücher. “Use of Red Ochre by Early Neandertals.”
States of America
109, no. 6 (2102): 1889-1894.
Roeder, Philip G.
Where Nation-States Come From: Institutional Change in the Age of Nationalism.
2007.
Rosena, Arlene M., and Isabel Rivera-Collazo. “Climate Change, Adaptive Cycles, and the Persistence of Foraging Economies during the late Pleistocene/Holocene Transition in the Levant.”
Sciences of the United States of America
109, no. 10 (2012): 3640-3645.
Ross, Philip E. “When Will We Have Unmanned Commercial Airliners?”
IEEE Spectrum , November 29, 2011.
http://spectrum.ieee.org/aerospace/aviation/when-will-we-have- unmanned-commercial-airliners/0 (accessed June 12, 2014).
Rowlett, Ralph M. “Letter: Did the Use of Fire for Cooking Lead to a Diet Change That Resulted in the Expansion of Brain Size in
Homo erectus
from That of
Australopithecus Africanus?” Science
283 no. 5410 (1999): 2005.
Royer, Dana L., Robert A. Berner, Isabel P. Montañez, Neil J. Tabor, and David J. Beerling. “CO2 as a Primary Driver of Phanerozoic Climate.”
GSA Today
14, no. 3 (2004): 4-10.
Ryan, Peter G., Charles J. Moore, Jan A. van Franeker, and Coleen L. Moloney. “Monitoring the Abundance of Plastic Debris in the Marine Environment.”
of the Royal Society B: Biological Sciences
364, no. 1526 (2009): 1999-2012.
Samarth, Nitin. “The Incredible Shrinking Computer.”
http://news.psu.edu/story/141560/1999/05/01/research/incredible- shrinking-computer (accessed June 21, 2014).
Saraswat, Krishna. “Trends in Integrated Circuits Technology.”
Stanford University, EE311/Trends.
http://www.google.com/url?sa=t&rct=j&q=&esrc=s&source=web&cd=1&ved=0CB0QFjAA&url=http
3A
2F
2Fwww.stanford.edu
2Fclass
2Fee311
2FNOTES
2FTrendsSlides.pdf&ei=RCWnU_O2IJPjoATd94D4Bw&usg=AFQjCNGUsBM2PT3G1d7laao1cgoXdc3yOQ&sig2=HlpraPlhV7LR3-9T9tqJcA (accessed June 22, 2014).
Saturno, William A., David Stuart, and Boris Beltrán. “Early Maya Writing at San Bartolo, Guatemala.”
Science
31, 1 no. 5765 (2006): 1281-1283.
Scharf, Caleb A. “The Fastest Spacecraft Ever?”
Scientific American,
February 25, 2013.
http://blogs.scientificamerican.com/life-unbounded/2013/02/25/the- fastest-spacecraft-ever/ (accessed June 12, 2014).
Schlesier, Karl H. “More on the “Venus” Figurines.”
Current Anthropology
42, no. 3 (2001): 410.
Schlosser, Eric
Command and Control: Nuclear Weapons, the Damascus Accident, and the Illusion of Safety.
New York: Penguin Press, 2013.
Schmid, Peter. “Functional Interpretation of the Laetoli Footprints” in
From Biped to Strider: The Emergence of Modern Human Walking, Running, and Resource Transport
Jeffrey Meldrum and Charles E. Hilton, eds. New York: Kluwer Academic/Plenum Publishers.
Schmid, Randolph E. “Ancient Shells May Be Oldest Jewelry.”
LiveScience,
June 22, 2006.
http://www.livescience.com/842-ancient-shells-oldest-jewelry.html (accessed October, 22, 2013).
Schopenhauer, Arthur.
Die Welt als Wille und Vorstellung.
New York: Koneman, 1998.
Service, Elman R. “The Cheyenne of the North American
Ethnology ,
3rd ed .
New York: Harper & Row, 1978. --- . “The Nootka of British Columbia,” in
Ethnology , 3rd ed .
New York: Harper & Row, 1978.
Shaw, Ian. “The Settled World,” in
Ancient Egypt , Daniel Silverman, ed. New York: Oxford University Press, 68-79.
Sherratt, Andrew. “Climatic Cycles and Behavioural Revolutions: The Emergence of Modern Humans and the Beginning of Farming.”
Antiquity
71 (1997): 271-287.
Shipman, Pat.
The Invaders: How Humans and Their Dogs Drove Neanderthals to Extinction.
Cambridge, Massachusetts: Harvard University Press, 2015.
Shostak, Marjorie,
Nisa: The Life and Words of a ¡Kung Woman.
New York: Vintage Books, 1983.
Shurkin, Joel.
Broken Genius: The Rise and Fall of William Shockley, Creator of the Electronic Age.
London: Macmillan, 2006.
Simmons, Alan. “Mediterranean Island Voyages.”
Science
338, no. 6109 (2012): 895-897.
Sica, Edgardo. “International Tourism: A Driving Force for Economic Growth of Commonwealth Countries.”
The Commonwealth Finance Ministers Meeting 2007.
https://www.academia.edu/982748/International_tourism_a_driving_force_for_economic_growth_of_Commonwealth_countries (accessed June 25, 2014).
Skjelsbaek, Kjell. “The Growth of International Nongovernmental Organization in the Twentieth Century.”
International Organization
25, no. 3 (1971): 420-442.
Slurink, Pouwel. “Ecological Dominance and the Final Sprint in Hominid Evolution.”
Human Evolution
8, no. 4 (1993): 265-273.
Smart, Jeffery K. “History of Chemical and Biological Warfare: An American Perspective,”
in
US Army Medical Department, AMEDD Center and School,
Medical Aspects of Chemical and Biological Warfare.
Washington: The Borden Institute, 2008.
Smith, A. H. V. “Provenance of Coals from Roman Sites in England and Wales.”
Britannia
28 (1997): 297-324.
Soffer, Olga. “Recovering Perishable Technologies through Use Wear on Tools: Preliminary Evidence for Upper Paleolithic Weaving and Net Making.”
Current Anthropology
45 (2004): 407-413.
Solem, Børge and Trond Austheim. “Statistics Concerning the Transatlantic Crossing.”
Norway-Heritage: Hands Across the Sea , April 16, 2004.
Spoor, F., M. G. Leakey, P. N. Gathogo, F. H. Brown, S. C. Anton, I. McDougall, C. Kiarie, F. K. Manthi, and L. N. Leakey. “Implications of New Early
Homo
Fossils from Ileret, East of Lake Turkana, Kenya.”
Nature
448 (2007): 688-691.
Stahl, Ann B. “Hominid Dietary Selection Before Fire.”
Current Anthropology
25. no. 2 (1984): 151-168.
Stanford, Craig. “Chimpanzee Hunting Behavior and Human Evolution.”
American Scientist , May-June, 1995.
http://www.americanscientist.org/issues/feature/chimpanzee-hunting- behavior-and-human-evolution/1 (accessed February 1, 2013). --- .
Upright: The Evolutionary Key to Becoming Human.
Boston: Houghton Mifflin Company, 2003.
Stewart, John.
Evolution’s Arrow: The Direction of Evolution and the Future of Humanity.
Canberra: Chapman Press, 2000. --- . “The Meaning of Life in a Developing Universe.”
Foundations of Science
15, no. 4 (2010): 395-409.
Stockwell, Foster.
Westerners in China: A History of Exploration and Trade, Ancient Times Through the
Jefferson, NC: Mcfarland & Co., 2002.
Stoimenov, Miodrag, Branislav Popkonstantinović, Ljubomir Miladinović, and Dragan Petrović. “Evolution of Clock Escapement Mechanisms.”
FME Transactions
40 (2012): 17-23.
Subramanian, Sushma. “Fact or Fiction: Raw Veggies Are Healthier than Cooked Ones.”
Scientific American,
March 31, 2009.
Suwa, Gen, Reiko T. Kono, Scott W. Simpson, Berhane Asfaw, C. Owen Lovejoy, and Tim D. White. “Paleobiological Implications of the
Ardipithecus Ramidus
Dentition.”
Science
326, no. 5949 (2009): 94-99.
Swade, Doron D., 2005, The Construction of Charles Babbage’s Difference Engine No. 2 . IEEE Annals of the History of Computing , July-September 2005, 70-88.
Swisher, Carl C., III, W. J. Rink, S. C. Antón, H. P. Schwarcz, Garniss H. Curtis, A. Suprijo, Widiasmoro. “Latest Homo Erectus of Java: Potential Contemporaneity with Homo Sapiens in Southeast Asia.”
Science
274, no. 5294 (1996): 1870-1874.
Teitelbaum, Michael S. and Jay M. Winter. “Bye-bye, Baby.”
New York Times Book Review , April 4, 2014.
http://www.nytimes.com/2014/04/05/opinion/sunday/bye-bye- baby.html?_r=0 (accessed June 8, 2014).
Testart, Alain, Richard G. Forbis, Brian Hayden, Tim Ingold, Stephen M. Perlman, David L. Pokotylo, Peter Rowley-Conwy, and David E. Stuart. “The Significance of Food Storage among Hunter-Gatherers: Residence Patterns, Population Densities, and Social Inequalities.”
Current Anthropology
23, no. 5 (1982): 523-537.
Thieme, Hartmut. “Lower Palaeolithic Hunting Spears from Germany.”
Nature
385, no. 6619 (1997): 807-810.
Thirgood, J. V. “The Historical Significance of Oak, in:
Oak Symposium Proceedings, 1971 August 16-20:
1-18. Upper Darby, PA.: US Department of Agriculture, Forest Service, Northeastern Forest Experiment Station, 1971.
Thomas, Donald E.
Diesel: Technology and Society in Industrial Germany.
Tuscaloosa: University of Alabama Press, 1987.
Tomasello, Michael. “Primate Cognition.”
Cognitive Science
24, no. 3 (2000): 351-361.
Torres, Abel Mendez. “A Nearby Super-Earth with the Right Temperature but Extreme Seasons.”
Habitability Laboratory, University of Puerto Rico at Arecibo.
June 25, 2014.
http://phl.upr.edu/press-releases/Gliese832 . (accessed July 12, 2014).
Tobias, Phillip V. “Recent Studies on Sterkfontein and Makapansgat and their Bearing on Hominid Phylogeny in Africa.”
South African Archaeological Society, Goodwin Series
10, no. 2 (1974): 5-11.
Toups, Melissa A., Andrew Kitchen, Jessica E. Light, and David L. Reed. “Origin of Clothing Lice Indicates Early Clothing Use by Anatomically Modern Humans in Africa.”
Molecular Biology and Evolution
28 (2011): 29-32.
Trinkaus, Erik. “Anatomical Evidence for the Antiquity of Human Footwear Use.”
Journal of Archaeological Science
32, no. 10 (2005): 1515-1526.
Trinkaus, Eric, and Pat Shipman.
The Neandertals: Changing the Image of Mankind.
New York: Alfred A. Knopf, 1993.
Tsukahara, Takahiro. “Lions Eat Chimpanzees: The First Evidence of Predation by Lions on Wild Chimpanzees.”
American Journal of Primatology
29, no. 1 (2005): 1-11.
Twomey, Terrence. “The Cognitive Implications of Controlled Fire Use by Early Humans.”
Cambridge Archaeological Journal
23, no. 1 (2013): 113-128.
Tyrrell, Toby, John G. Shepherd, and Stephanie Castle. “The Long-term Legacy of Fossil Fuels.”
Tellus B
59 (2007): 664-672.
United Nations, Dept. of Economic and Social Affairs.
World Population Prospects: The 2012 Revision.
http://esa.un.org/wpp/Excel-Data/population.htm (accessed June 23, 2014). --- . Net International Migration.
International Migration Report 2013,
pp. 11-17.
http://www.un.org/en/development/desa/population/publications/migration/migration- report-2013.shtml (accessed June 20, 2014).
United States Department of Agriculture. “2007 Census of Agriculture,” in
United States Summary and State Data
1, no. 51 (2009): 1-639.
United States Department of Defense. “
Narrative Summaries of Accidents Involving U.S. Nuclear Weapons, 1950-1980.”
http://nsarchive.files.wordpress.com/2010/04/635.pdf (accessed June 26, 2014).
Van Derbeken, Jaxton, Demian Bulwa, and Erin Allday. “SF
San Francisco Chronicle , July 8, 2013.
http://www.sfchronicle.com/multimedia/item/boeing-777-crashes-at- sfo-22447.php (accessed June 24, 2014).
Vanhaeren, Marian, Francesco d’Errico, Chris Stringer, Sarah L. James, Jonathan A. Todd, and Henk K. Mienis. “Middle
Science
312, no. 5781 (2006): 1785-1788.
Verhaegen, Marc and Pierre-François Puech. “Hominid Lifestyle and Diet Reconsidered: Paleo-Environmental and Comparative Data.”
Human Evolution
15 (2000): 151-162.
Videan, Elaine N. and W.C. McGrew. “Bipedality in Chimpanzee (
) and Bonobo (
): Testing Hypotheses on the Evolution of Bipedalism.”
American Journal of Physical Anthropology
118, no. 2 (2002): 184-190.
Vigne, Jean-Denis, François Briois, Antoine Zazzo, George Willcox, Thomas Cucchi, Stéphanie Thiébault, Isabelle Carrère, Yodrik Franel, Régis Touquet, Chloé Martin, Christophe Moreau, Clothilde Comby, and Jean Guilaine. “First Wave of Cultivators Spread to Cyprus at Least 10600 y Ago.”
Academic of Sciences of the United States of America, PNAS Early Edition. (May 7, 2012): 1-5.
Villa, Paola.
Terra Amata and The Middle Pleistocene Archaeological Record of Southern France.
Berkeley: University of California Press, 1983.
Wagner, Donald B. “Chemistry and Chemical Technology, Part II: Ferrous Metallurgy,” in
Science and Civilization in China , ed. Joseph Needham. Cambridge: Cambridge University Press, 2008.
Wade, Nicholas. “Chimps, Too, Wage War and Annex Rival Territory.”
New York Times , June 21, 2010.
Wake, David B., and Vance T. Vredenburg. “Are We in the Midst of the Sixth Mass Extinction? A View from the World of Amphibians.”
of Sciences of the United States of America
105, no. 1 (2008): 11466-11473.
Wales, Nathan. “A Fresh Perspective on Neandertal Clothing: Inferring Pleistocene Attire Using Modern Analogues.”
2010 Annual Meeting, Paleoanthropology Society Abstracts.
St. Louis, Missouri, 13-14 April 2010. --- . “Modeling Neandertal Clothing Using Ethnographic Analogues.”
Journal of Human Evolution
63, no. 6 (2012): 781-95.
Wallis, David A. “History of Angle Measurement,” in
Cairo: FIG Working Week, 2005.
Ward, Cheryl “Boatbuilding in Ancient Egypt.” In
The Philosophy of Shipbuilding , Frederick M. Hocker and Cheryl A. Ward eds. College Station: Texas A&M University Press, 2004. --- . “Boat-Building and Its Social Context in Early Egypt: Interpretations from the First Dynasty Boat-Grave Cemetery at Abydos.”
Antiquity
80 (2003): 118-129. --- . “Sewn Planked Boats from Early Dynastic Abydos, Egypt,” in
Ship Archaeology of the Ancient and Medieval World , ed. C. Beltrame, 2003.
Washburn, Sherwood and R. Ciochon. “Canine Teeth: Notes on Controversies in the Study of Human Evolution.”
American Anthropologist
76, no. 4 (1974): 765-784.
Watts, Anthony. “NASA and Multi-Year Arctic Ice and Historical Context.”
Watts Up With That , March 1, 2012.
http://wattsupwiththat.com/2012/03/01/nasa-and-multi-year-arctic-ice- and-historical-context/ (accessed June 27, 2014).
Webb, John and Marian Domanski. “Fire and Stone.”
Science
325, no. 5942 (2009): 821-829.
Weber, Johannes. “Strassburg, 1605: The Origins of the Newspaper in Europe.”
German History
24(3) (2006): 387-412.
Weik, M. H., ed. “Computers with Names Starting with E through H.”
A Survey of Domestic Electronic Digital Computing Systems, US Department of Commerce, Office of Technical Services.
http://ed-thelen.org/comp-hist/BRL-e-h.html (accessed June 15, 2014).
Weisman, Alan.
The World Without Us.
New York: St. Martin’s/Thomas Dunne Books, 2007.
Weinstein-Evron, Mina and Shimon Ilani. “Provenance of Ochre in the Natufian Layers of El-Wad Cave, Mount Carmel, Israel.”
Journal of Archaeological Science
21, no. 4 (1994): 461-467.
Welsh, Jennifer. “Man Entered the Kitchen 1.9 Million Years Ago.”
LiveScience,
August 22, 2011.
http://www.livescience.com/15688-man-cooking-homo-erectus.html (accessed May 22, 2013).
Wenbin, Huang, and Sun Xiufang. “Tropical Hardwood Flows in China: Case Studies of Rosewood and Okoumé.”
Forest Trends , December 2013.
http://www.forest- trends.org/publication_details.php?publicationID=4138 (accessed June 28, 2014).
Wertime, Theodore A.
The Coming of the Age of Steel.
Chicago: University of Chicago Press, 1962.
Wheeler, P. E. “The Evolution of Bipedality and Loss of Functional Body Hair in Humans.”
Journal of Human Evolution
13 (1984): 91-98. --- . “The Influence of the Loss of Functional Body Hair on the Water Budgets of Early Hominids.”
Journal of Human Evolution
23 (1992): 379-388.
White, Mark J.“Things To Do in Doggerland When You’re Dead: Surviving OIS3 at the Northwestern-most Fringe of Middle Palaeolithic Europe.”
World Archaeology
38, no. 4 (2006): 547-575.
White, Randall. “Personal Ornaments from the Grotte du Renne at Arcy-sur-Cure.”
Athena Review
2, no. 4 (2001): 41-46. Abridged version at:
http://www.athenapub.com/8white1.htm (accessed January, 29, 2014).
White, Tim D., Berhane Asfaw, Yonas Beyene, Yohannes Haile-Selassie, C. Owen Lovejoy, Gen Suwa, and Giday WoldeGabriel. “
Ardipithecus Ramidus
and the
Science
326, no. 5949 (2009): 6475-86.
Whiten, Andrew. “Primate Culture And Social Learning.”
Cognitive Science
24, no. 3 (2000): 477-508.
Whiten, Andrew, Jane Goodall, W. C. McGrew, T. Nishida, V. Reynolds, Y. Sugiyama, C. E. G. Tutin, R. W. Wrangham, and Christophe Boesch. “Cultures in Chimpanzees.”
Nature
399 (1999): 682-685. --- . “Charting Cultural Variation in Chimpanzees.”
Behaviour
138, no. 11-12 (2001): 1481-1516.
Whiten, Andrew, and Christophe Boesch. “The Cultures of Chimpanzees.”
Scientific American
284, no. 1 (2001).
Wikipedia The Free Encyclopedia, 2014,
List of Nobel Laureates.
Available at:
http://en.wikipedia.org/wiki/List_of_Nobel_laureates (accessed June, 19, 2014).
Wildman, Derek E., Monica Uddin, Guozhen Liu, Lawrence I. Grossman, and Morris Goodman. “Implications of Natural Selection in Shaping 99.4
Nonsynonymous DNA Identity between Humans and Chimpanzees: Enlarging Genus Homo.”
National Academy of Sciences of the United States of America
100, no. 12 (2003): 7181-7188.
Wilford, John N. “Fossil Skeleton from Africa Predates Lucy.”
New York Times,
October 1, 2009.
Willcox, George. “The Roots of Cultivation in Southwestern Asia.”
Science
341, no. 6141 (2013): 39-40.
Willcox, George, Ramon Buxo, and Linda Herveux. “Late
in Northern Syria.”
The Holocene
19, no. 1 (2009): 151-158.
Williams, Michael.
Deforesting the Earth: From Prehistory to Global Crisis.
Chicago: University of Chicago Press, 2003.
Willman, David, 2014.” $40-Billion Missile Defense System Proves Unreliable.”
Los Angeles Times , June 15, 2014.
http://www.latimes.com/nation/la-na-missile- defense-20140615-story.html#page=1 (accessed June 6, 2014).
Wills, Christopher.
Children of
New York: Basic Books, 1999.
Wilson, David Sloan and Edward O. Wilson. “Rethinking the Theoretical Foundation of Sociobiology.”
Quarterly Review of Biology
82, no. 4 (2007): 327-348.
Wilson, Edward O.
The Diversity of Life.
Cambridge, MA: Belknap Press/Harvard University
Wobber, Victoria, Brian Hare, and Richard Wrangham. “Great Apes Prefer Cooked Food.”
Journal of Human Evolution
55 (2008): 343-348.
World Nuclear Stockpile Report.
Washington, DC: The Ploughshares Fund.
http://www.ploughshares.org/world-nuclear-stockpile-report (accessed June 3, 2014).
Wrangham, Richard.
Catching Fire: How Cooking Made Us Human.
New York: Basic Books, 2009. --- . “The Significance of African Apes for Reconstructing Human Evolution,” in
The Evolution of Human Behavior: Primate Models , ed. W. Kinzey. State University of New York
Wrangham, Richard, James Holland Jones, Greg Laden, David
Cooking and the Ecology of Human Origins.”
Current Anthropology
40, no. 5 (1999): 567-594.
Wrangham, Richard and NancyLou Conklin-Brittain. “The Biological Significance of Cooking in Human Evolution.”
Comparative Biochemistry and Physiology, Part A
136 (2003): 35-46.
Wright, Ronald.
A Short History of
Cambridge, MA: Da Capo Press, 2005.
Wynn, Jonathan G., Matt Sponheimer, William H. Kimbel, Zeresenay Alemseged, Kaye Reed, Zelalem K. Bedaso, and Jessica N. Wilson. “Diet of Australopithecus Afarensis from the Pliocene Hadar Formation, Ethiopia.”
National Academy of Sciences of the United States of America
110, no. 26 (2013).
Zeder, Melinda A. “Central Questions in the Domestication of Plants and Animals.”
Evolutionary Anthropology
15 (2006):105-117. --- . “The Origins of Agriculture in the Near East.”
Current Anthropology
52, no. S4 (2011): S221-S235.
Zhua, Rixiang, Zhisheng An, Richard Potts, and Kenneth A. Hoffman. “Magnetostratigraphic Dating of Early Humans in China.”
Earth-Science Reviews
61 (2003): 341-359.
Zilhão, João, Diego E. Angelucci, Ernestina Badal-García, Francesco d’Errico, Floréal Daniel, Laure Dayet, Katerina Douka, et al. “Symbolic Use of Marine Shells and Mineral Pigments by Iberian Neandertals.”
Academy of Sciences of the United States of America
107, no. 3 (2010): 1023-1028.
Zimmer, Carl. “Hope for Frogs in Face of a Deadly Fungus.”
New York Times , July 9, 2014.
http://www.nytimes.com/2014/07/09/science/hope-for-frogs-facing-a- deadly-fungus.html?ref=science&_r=1 (accessed July 12, 2014).
Zimmerman, Andreas, Johanna Hilpert, and Karl Peter Wendt. “Estimations of Population Density for Selected Periods Between the Neolithic and AD 1800.”
Human Biology
81, issue 2, article 13 (2009).
অজানা পৃষ্ঠা