وارتاح البك للجواب. لقد انزلق إلى السؤال متأثرا بالحياء والذوق، ولم يكن ارتياحه لبخل مركب في طبعه، ولا لأنه يكره أن يمد يد المساعدة إلى أرملة صديقه، ولكن لأنه كان على ثرائه لا يكاد يبقي على شيء؛ لكثرة نفقاته على نفسه وأفراد أسرته. كان يضايقه أن يأخذ بيد هذه الأسرة حتى تبلغ بر السلامة. ولكنه كان على استعداد للبذل لو سألته المرأة إياه. وقد غاب عن المرأة أن زوجها لم يكن صديقا للبك بالمعنى الذي يفهمه البك من الصداقة. ولعله كان صديقا من أصدقاء الدرجة الثالثة. كان يحبه، ويقربه، ويود سمره وفنه دون أن يعده ندا له، أو صديقا كسائر البكوات والباشوات. ولكن نيته صدقت على السعي لخدمة هذه المرأة حتى يصرف لها المعاش؛ إكراما لذكرى الراحل، وتفاديا من التورط في مساعدتها، ونهضت المرأة مستأذنة في الانصراف فودعها بالاحترام. ولما خلصت إلى الطريق تنهدت في أمل، ولكنها قالت لنفسها في شبه ندم: «لو أوتيت قدرا من الشجاعة لما ضيعت على نفسي معونة أنا في أمس الحاجة إليها.»
8
وخلا حسين وحسنين لنفسيهما أول مرة بعد الوفاة. كانت نفيسة في المطبخ والأم في وزارة المعارف سعيا وراء همومها الجديدة، وحسن لا يعلم بمكانه إلا الله، وكان حسين متربعا على فراشه، والآخر جالسا إلى مكتب المذاكرة بركن الحجرة، يرعش بين أصابعه قلما في نرفزة ويقول: يبدو أن الحياة لم تعد تطاق.
وانتظر أن يتكلم حسين، ولكنه تجاهل ملاحظته فرفع إليه بصره في حنق. كان حسنين آخر عنقود الأسرة، فلم يكن غريبا أن يبحث لمشكلاته عن حلول عند الآخرين. وضاق صدره بصمت أخيه فسأل: ما رأيك؟
فتساءل حسين متجاهلا: فيمه؟ - فيما قالت! أتحسب حقا أن حالنا بهذا السوء؟
فهز منكبيه قائلا: ولماذا تكذبنا؟
فتألقت عينا الفتى ببريق أمل، وقال: كي تكسر من حدتنا، كي نخاف ونتئد. وليس هذا عجيبا؛ فالشدة مركبة في طبعها، ولولا المرحوم والدنا ما عرفنا المرح!
فقال حسين بحزن: ليتنا ما عرفناه قط! - ماذا تقول؟ - أقول ليتنا ما عرفنا التدلل أبدا؛ إذن لهانت الحياة الجديدة المقضي علينا بها!
فقال حسنين وقد ساوره الخوف: إذن فأنت تصدق ما قالت! أحقا لم يترك والدنا شيئا؟ ألا يسد المعاش نفقاتنا؟
فتنهد حسين قائلا: إني مؤمن بكل كلمة نطقت بها. هذه هي الحقيقة.
অজানা পৃষ্ঠা