51
وقرر حسين أفندي أن يبقى في الفندق حتى يتسلم مرتبه أول الشهر الجديد، وأخذ يقتنع بمرور الأيام بوجوب الانتقال إلى شقة خاصة يتهيأ له فيها الشعور بالاستقرار والطمأنينة على وجه أفضل، وكان حسان أفندي دائبا على تزيين فضائل الإقامة في شقة له، حتى هل الشهر الجديد، فابتاع له فراشا وصوانا صغيرا ومقعدا بحوالي الجنيهين تم الاتفاق على أدائها على أربعة أقساط بضمان حسان أفندي، ولما كان إيجار الشقة جنيها فلم تزد نفقاته شيئا، وكانت الشقة الجديدة تشغل نصف سطح البيت الذي يقيم حسان أفندي بطبقته الوسطى، وكانت مكونة من حجرتين غير المرافق. فأغلق الشاب حجرة لعدم الحاجة إليها وفرش الأخرى بالأثاث الجديد وكان للحجرة نافذة تطل على شارع ولي الله - حيث يوجد مدخل البيت - وينسرح أمامها الفضاء بلا عائق لارتفاعها عما حولها، فشعر الفتى - بعد ضيق - براحة الفضاء وطلاقة الجو، وسر لذلك كثيرا، وكان يوم انتقاله إلى الشقة الجديدة يوما سعيدا حقا، إذ إنه وجد نفسه - لأول مرة في حياته - صاحب بيت وأثاث مرتب. ولم يكن نسي ذلك الإحساس اللطيف بالارتياح والسرور الذي انبعث في نفسه وهو يتسلم مرتبه صباح ذلك اليوم، ولا كيف دارى ابتسامة انطلقت من قلبه إلى شفتيه؛ حياء أن يطلع الصراف على فرحه، ولكن هذا السرور كله لا يعد شيئا إلى السرور الذي امتلأ به قلبه وهو يبعث بالجنيهين إلى أمه، كانت لحظة عظيمة عرف أثناءها أن صبره الطويل لم يذهب سدى، وما كاد يستقر به المقام حتى زاره حسان أفندي مهنئا وقال له: «لن تكون غريبا ما دمت بيننا» فشكر له فضله وحفظ له في نفسه من الامتنان ما هو خليق بقلبه الشكور، وغفر له ما يلقى منه في المدرسة من حدة الطبع وسوء التصرف، والارتباك في العمل، والحق أنه قد ألف هوسه، متعزيا بطيبة قلبه وخفة روحه، ولم يرض حسان أفندي أن يتركه منفردا، ودعاه إلى قضاء سهرته بشرفة شقته، فذهب معه مغتبطا، وجلسا معا وحسان أفندي يقول: يبدو لي أنك لا تحب المقاهي، فاجعل من هذه الشرفة ناديك الليلي.
وكانت الشرفة مهيأة للجلسة الطيبة ففي جانبها الأيمن كرسيان من القش، بينهما خوان وفي الجانب الآخر شلتة كبيرة تقوم وراءها وسادة، وعلى خوان في ركن من الشرفة وضعت صينية صفت بها قلتان وإبريق، وقد عام على الماء المجتمع في وسطها الليمون البنزهير، وراح حسان أفندي يتحدث بلا توقف تقريبا وكيفما اتفق، وقد بدا في جلبابه الفضفاض أصغر منه في البدلة فلم يكن شيئا يذكر، أو كان لسانا فحسب. ورحب حسين بالجلسة لما عاناه من الفراغ في الأسابيع الماضية، فلم يكن يدري ماذا يفعل بالوقت، ولم تنفع القراءة في تزجية فراغه، إلا قليلا، لا لأنه كان يضيق بها، ولكن لأن نقوده لم تسعفه بشراء ما يحب من الكتب فاكتفى مضطرا بكتاب غير الجريدة اليومية، وجرب الاختلاف إلى المقهى، ولكنه لم يهش له، وخاف أن يجره إلى بعثرة نقوده المعدودة فيما لا يجدي، وكان بطبعه حريصا؛ لهذا كله رحب بدعوة حسان أفندي وصدقت نيته على أن يجعل منها تسلية محبوبة مهما كلفه هذا. وتأدى الحديث إلى الشقة الجديدة فقال حسان أفندي: لا يهمك تنظيف شقتك؛ فقد أمرت الخادم بأن يتعهدها بالتنظيف كل صباح، وسوف أوصي غسالة تعرفها «الجماعة» بأن تذهب إليك كل يوم جمعة.
فشكر حسين صنيعه في حياء وتأثر، ولكنه تضايق بعض المضايقة لأنه كان يستطيع أن ينظف حجرته بنفسه، ولأن قيام الخادم بهذه الخدمة اليومية يوجب عليه أن ينفحه ببعض النقود بين آن وآخر، الأمر الذي لا يمكن أن يتقبله بارتياح، وضحك حسان أفندي بسرور ثم قال: أما مفاجأة المفاجآت التي أعدها لك فهي النرد .. هل تجيد لعبها؟
فقال حسين بسرور: بعض الإجادة.
فغادر الرجل الشرفة في حماس ثم عاد بالنرد ووضعها على الخوان، وهو يقول بفخار صبياني: أنا بحمد الله خير من يلعبها بالوجه البحري، وربما بالقبلي أيضا.
سر حسين حقا بهذه التسلية التي لم يكن يتوقعها وتساءل: عادة أم حبس؟
فقال حسان أفندي بثقة: اختر لنفسك ما تشاء؛ إنك على الحالين لمغلوب.
وبدآ يلعبان. وقد اتضح لحسين أن حسان أفندي يرش وجه المستمع إليه عن قرب برذاذ ريقه إذا حادثه؛ فأمل أن يلهيه اللعب عن الكلام، ولكنه كان يواصل اللعب والكلام معا، وكان اللعب نفسه يهيئ له فرصا لا تنتهي للثرثرة، فكان يعلق على أية نقلة للقطع مزهوا بلعبه ساخرا من لعب الشاب، ثم صاح به بعد أن غلبه أول عشرة: العن سوء الحظ الذي رمى بك بين يدي، وهيهات أن تذوق الفوز ما دمت حيا.
وعاودا اللعب بحماس وتحفز، وانهمك فيه حسين انهماكا شديدا ؛ فلم يفق حتى طرق سمعه صوت أقدام خفيفة تقترب من الشرفة، والتفت نحو الباب بحركة عكسية، فرأى فتاة تحمل بين يديها صينية شاي، وسرعان ما استرد بصره في حياء، وارتبك لأنه أدرك من أول نظرة أن الفتاة لا يمكن أن تكون خادمة، وأحس بشخصها إحساسا غامضا، وهو ينحني قليلا ليضع الصينية على كرسي خيزران، ثم به وهو يذهب مبتعدا، ولم يكن بصره قد ارتد عنها فارغا، أجل، علقت به صورة وجه ممتلئ يميل إلى البياض، وعينين سوداوين - أو لعلهما عسليتان؟ - ذواتي نظرة مليحة. ولبث في ارتباكه مورد الوجه على حين أمسك حسان أفندي عن ثرثرته بغتة، ثم عاد يقول بصوت منخفض: هذه ابنتي إحسان، لم أر بأسا في أن تقدم لنا الشاي ما دمت أعدك كأحد أبنائي.
অজানা পৃষ্ঠা