أيها الرجل الكبير لقد كانت موتتك مثل موتة الشهداء في الجزائر وفي كل مكان، من أعظم أحداث الإنسان، فأنت بموتك لم تمت وإنما انتصرت على الموت، وعلى الحياة، وعلى عالم الرجال الصغار، اللاأبطال، عالمنا، إني أحسدك! (29) نقاش
قضيت اليوم كله في نقاش مستمر مع يسري، هو يحاول أن يقنعني بالعودة لمزاولة الطب، وأنا أحاول إقناعه بضرورة أن يعود هو للكتابة ومزاولة الأدب.
والغريب أن هذا الموقف ذكرني بموقف متشابه له تماما حدث منذ عشر سنوات حين كنا لا نزال طلبة في الكلية، وكان يسري يحاول إقناعي فيه بضرورة ترك تلك المهنة البغيضة (الطب)، والتفرغ نهائيا لعالم الفن الرحب العريض، وكنت أنا أحاول إقناعه بضرورة مواظبته على الكلية حتى يتخرج ويصبح طبيبا.
وكنت وأنا طالب مثالا للطالب المجد المواظب على حضور العمليات والمحاضرات والمرور، ولم يكن في إلا عيب واحد صغير، هو حبي للقصص إلى درجة لا تليق بطالب طب «دكتور». بل أكثر من هذا كان الضعف يستبد بي إلى درجة أني أحيانا كنت كل ثلاثة شهور أو أربعة أكتب قصة أخفيها في قاع مكتبي ولا أطلع عليها أحدا، فالطلبة من حولي كلهم مشغولون بتلقي أسرار علم الكهنوت الأكبر، يحيون في مجتمع مغلق عليهم وعلى الجثث والمراجع الضخمة، مجتمع نجومه علي إبراهيم وعبد الله الكاتب ومورو، وليلة القدر عند أي منهم أن يصبح نائب جراحة، وأنا سائر معهم مدفوع بحركتهم في سبيل التسابق والتنافس واستيعاب كل ما يمكن استيعابه من الأسماء اللاتينية المعقدة، والمراهنة على اسم عصب صغير مهمل يرقد في مكان ما من فروة الرأس.
ولكني أحس بطريقة ما أن الجو ليس جوي، والهدف هدفهم هم وأنا أجري إليه فقط؛ لأني أرى كل من حولي يجري إليه. في تلك الأثناء قرأت ذات يوم قصة في مجلة القصة لكاتب اسمه محمد يسري أحمد أذهلتني، واعتبرت أن كاتبها لا بد فلتة؛ إذ لم أكن قد سمعت هذا الاسم من قبل أو قرأت له. وظلت القصة وإعجابي بها يملآن علي نفسي إلى أن حدث وعرفني أحد أصدقائي القليلين من الطلبة في جلسة من جلسات البوفيه المشهورة بزميل كان يجلس مقطب الجبين، عازفا عن الاشتراك في حديث الطلبة التافه، وقال محمد يسري أحمد. ولم أصدق أبدا أنه هو كاتب القصة التي أذهلتني، ولم أستطع أبدا أن أهضم أنه هو الآخر طالب في الكلية، بل في نفس الدفعة، بل في مجموعتي التي تبدأ بحرف الميم وتنتهي بحرب الياء. غير أن عجبي زال حين عرفت أنه على عكسي وعكس طلبة الطب جميعا بينه وبين الكلية نوع من سوء التفاهم وعدم الاستلطاف، فهو لا يأتي إليها في العام إلا مرة أو مرتين ليطمئن على أنها لا تزال موجودة لم تلغ بعد، أما بقية الوقت فهو مشغول بأشياء أخرى. ولم يكن هذا أول طالب بلطجي أقابله في الكلية، ولكن البلطجية الآخرين كانوا يتركون الكلية للنساء أو الليالي الحمراء والخضراء، أو أشياء أكثر إغراء من الطب. أما أن تترك الكلية لكتابة القصص فهو نوع غريب حقا من البلطجة!
ومنذ ذلك اللقاء لم نفترق. وبعد أن التقينا عدة مرات ووثقت به تماما، صارحته بأني أحيانا أكتب قصصا ولكني أخاف أن أطلع عليها كائنا من كان. وفوجئت حين لم تبد على ملامحه أية علامة من علامات السخرية - بل حدث العكس - وجدته يبتسم لي في ترحيب شديد، بل وجدت نظرته تحفل بإكبار وإجلال لم أكن أتوقعهما، وأصر على استصحابي لكي نقرأ ما كتبته.
وفي وجل شديد، وبقلب يدق، قرأت له آخر قصة كتبتها. وكدت أعتقد أنه مجنون حين وجدته قد أعجب بها، وظل يتحدث معي بضع ساعات عنها.
ولأول مرة أحسست أن كتابة القصة ليست عيبا أو شيئا مخلا بالشرف، وأهم من هذا هو أن الإقناع جاء من طالب طب زميل. وحين غادرني يسري ليلتها أحسست أني أقف على باب عالم جميل غريب مجهول أهون شيء على الإنسان أن يهب عمره لتفقده وتعرف مخابئه وأسراره وكل ما يحتويه.
وليال طويلة قضيناها يقرأ لي ما كتبه وأقرأ له ما كتبته، وشوارع «المدينة النائمة» نجوبها سيرا على الأقدام جوعى مفلسين، نبحث عن الحقيقة ونناقش الفن والخلود وأصل الكون، والفرق بين رومانسية إيليا أبو ماضي ورومانسية ناجي. وكل موضوع نطرقه نتفق فيه بطريقة غريبة إلا موضوع الكلية. أنا أحاول أن أجعله طالبا مواظبا وهو يحاول إقناعي بترك الكلية نهائيا وإلقاء نفسي في بحر الفن الذي لا يغرق فيه إنسان. ولم ينجح في إقناعي ولم أنجح في إقناعه. وجاء الامتحان وتخرجت. وما كاد يمضي على تخرجي بضعة شهور حتى أدركت أن يسري على حق، وأني لم أخلق للطب، وقذفت بنفسي في بحر الفن لأسبح وحيدا؛ فيسري كان قد اقتنع، ولا أدري كيف، أن المواظبة على الكلية والنجاح ليس عيبا ولا شيئا مخلا بالشرف. وهكذا نجح وأصبح طبيبا، وسرعان ما احتواه عالم الطب وما فيه من أسرار ومشاكل، وترك الكتابة نهائيا.
وافترقنا ...
অজানা পৃষ্ঠা