لا بد أن تستل هذه «القوة» المزعومة من العلاقة السببية، إذ ليس هناك إلا تتابع بين الحوادث لوحظ اطراده، فجعلناه قانونا من قوانين الطبيعة، نعم إن «القوة السببية» طريقة يستخدمها الإدراك الفطري في فهم الحوادث، فترانا نقول مثلا إن الناس يشيدون المنازل ويعبدون الطرق، ونقصد بذلك أنهم بقوة إرادتهم كانوا سببا في حدوث ما حدث، ونقول عن رجل إنه «قوي» الإرادة حين نعني أن إرادته سببية في مجال واسع، وترانا كذلك لا نستغرب أن تتحرك كرة البلياردو إذا دفعناها بالعصا، وأن تتحرك العربة إذا شدها حصان، وأن يرتفع الحمل إذا حمله إنسان بقوة ساعديه، كل هذه أمثلة لا نستغرب حدوثها؛ لأنها تقع كما يتصور الإدراك الفطري حدوث الحوادث، وهو أن يكون هناك سبب ذو «قوة» يلزم عنه مسبب بحكم الضرورة، ومن أمثال هذه الحوادث التي يتدخل فيها الإنسان بإرادته نشأت فكرة «القوة» في الأسباب التي تكون بين حوادث الطبيعة، أو بعبارة أخرى، قد خلعنا إرادتنا البشرية على الحوادث في عالم الطبيعة، بحيث تصورنا الحادثة التي تكون سببا لوقوع حادث آخر كالإنسان الذي يدفع الكرة بعصاه، أو كالحصان الذي يجر العربة وراءه.
لكن لا سبيل إلى فهمك الطبيعة على حقيقتها إلا إذا أخرجت منها هذه الفكرة البشرية، فكرة «القوة»؛ إذ الطبيعة كل ما فيها حوادث تتعاقب أو تتعاصر، فإذا ما رأينا ضربا من التجاور بين الحوادث قد اطرد، قسنا ما بين الحوادث من مسافة مكانية أو فترة زمانية واستخرجنا ما قد يكون واحدا من قوانين الطبيعة، دون أن نزعم أن واحدة من الحوادث قد «ألزمت» أخرى على أن تتبعها أو تقع معها في آن واحد؛ ولذلك ليس ما يمنع منطقيا أن تكون الحوادث على ترتيب آخر غير الذي وقعت عليه، وعندئذ تتغير قوانين الطبيعة التي نسجل بها ما نلاحظه.
وإذا أردت أن تفهم العلاقة بين «أ» التي هي السبب و«ب» التي هي المسبب؛ كيف أنها علاقة لا «إلزام» فيها، فاقلب الوضع مسببا لسبب، وذلك جائز؛ لأننا كما يجوز أن نستنتج من السبب نتيجته، كذلك نستنتج من النتيجة سببها، فإذا جاءك خطاب فأنت على حق إذا استنتجت من ذلك أن أحدا قد كتب هذا الخطاب، ولكنك لا ترى أن تسلمك للخطاب قد «ألزم» الراسل أن يكتبه، وإذا كانت فكرة «الإلزام» منتقية بين النتيجة وسببها، فكذلك تنتفي بين السبب ونتيجته، ونعود فنقول إن فكرة «الإلزام» هذه صفة بشرية لا تعرفها حوادث الطبيعة، وهي ذات معنى في حياة الإنسان؛ إذ نقول عن الإنسان إنه «ملزم» بكذا وكذا من الأفعال حين يضطر إلى فعله اضطرارا رغم ميوله الطبيعية ورغباته الغريزية، ولو لم يكن عند الإنسان هذه الميول والرغبات التي قد يجيء ما يقاومها لما كان للإلزام معنى في حياته، ولما كانت ظواهر الطبيعة ليست مما له «ميول» أو «رغبات» إذن فهي ليست مما يوصف بالإلزام والاضطرار، وإذا أردت توضيحا لما نريده حين نقول إن حوادث الطبيعة إنما تحدث حدوثا وتقع وقوعا، ولا «قوة» هناك ولا «إلزام» يرغمها على ذلك الحدوث وهذا الوقوع، فانظر إلى صورتها في المرآة، انظر مثلا في المرآة إلى صورة رجل يدفع كرة البلياردو بالعصا فتتحرك الكرة، فأنت عندئذ لا تقول إن تتابع الحوادث كما يبدو في المرآة يتضمن «قوة» في العصا هي التي حركت الكرة، إنما تنظر إليها في تتابعها فقط تتابعا منزوعا منه كل ضرورة واضطرار، وهكذا تكون العلاقة بين الحوادث في الطبيعة ذاتها، وإن أوهمتك طبيعتك البشرية بغير ذلك.
على أنه إذا لم يكن بين مجموعتي الحوادث اللتين نطلق عليهما لفظتي «سبب» و«مسبب» قوة في الأولى تضطر الثانية إلى الحدوث، فبينهما علاقات ترتبطان بها، وهذه العلاقات هي التي نقيسها ونصوغ من أرقام المقاييس قوانين الطبيعة، وقد تكون هذه العلاقات السببية قائمة بين ذرات الشيء الواحد، فنتوهم لارتباطها بعضها مع بعض أنها تكون «شيئا»، وهي في الواقع حوادث تجمع بعضها إلى بعض، فليس هنالك فارق جوهري من حيث الشيئية أو العنصرية بين الإلكترون في الذرة الواحدة وبين شعاع الضوء؛ فكل منهما في حقيقته خيط من حوادث، ومع ذلك ترانا في حالة شعاع الضوء نميل إلى تصوره على هذه الصورة، على حين أننا في حالة الإلكترون نود أن نتصوره «شيئا» متحركا، مع أنه لا فرق بين الحالتين، وبالتالي لا فرق بين شعاع الضوء في تكوينه من سلسلة من حوادث وبين المنضدة التي هي مجموعة من ذرات، كل ذرة منها كشعاع الضوء في تكوينها.
ويترتب على هذا التغير في وجهة نظرنا إلى تكوين الأشياء بعض التغييرات الجوهرية في اعتقاداتنا عن العالم الطبيعي، فمثلا ترانا بحكم إدراكنا الفطري لا نتصور كيف يمكن أن تكون هنالك حركة بغير «شيء» يتحرك، لكن وجهة النظر الحديثة تقتضي هذا رغم ما يوهمنا به إدراكنا الفطري، والعجيب في أمرنا هو أننا نستسيغ فكرة وجود الحركة بغير وجود «الشيء» المتحرك في بعض المجالات دون بعضها، فمثلا نجيز الحديث عن «الحركة» في المسرحية، أو في القطعة الموسيقية دون أن نتطلب لهذه «الحركة» متحركا يكون موجودا وجودا كاملا في كل لحظة من لحظات الأداء، وذلك هو ما نريد لأنفسنا أن نتصوره في سائر «الأشياء»؛ لا بد لنا من تصور «الشيء» كائنا ما كان على أنه كالمسرحية أو كالقطعة الموسيقية، خيط من حوادث يرتبط بعضها ببعض بعلاقات سببية معينة، فيكون بينها من الوحدة ما يبرر لنا أن نطلق على «الشيء» اسما واحدا، لكن لا يجوز أبدا أن نزل في الخطأ حين نرى «اسما» أو «كلمة» فنقول إن مسمى ذلك الاسم، أو مدلول هذه الكلمة لا بد أن يكون شيئا واحدا بذاته، فما أطلقنا الاسم الواحد على مجموعة كبرى من الحوادث، أو من الحالات، إلا على سبيل التيسير في التعبير والتفاهم، وكما نخطئ حين نتصور «الشيء» وحدة واحدة متماسكة، لا خيطا من حوادث، نخطئ مرة أخرى حين نقول عن ذلك «الشيء» إنه «تحرك» حين نرى مجموعة الحوادث التي هي مؤلف منها ليست في مكان واحد، ولعل أبسط ما يوضح لك الموقف على حقيقته هو أن ترى شريط السينما، وطريقة تصويره للحوادث، فأنت إذا رأيت رجلا يسقط من قمة بناء مرتفع، قلت مدفوعا بإدراكك الفطري إن «الجسم» الواحد قد تحرك من مكان إلى مكان، لكن صور ما وقع على شريط سينمائي، تجد أن ما صورته عدد كبير من الأحداث المتعاقبة، وأن ظنك الأول بأنه «شيء» واحد قد تحرك إنما هو ظن خاطئ لا يصور حقيقة الواقع، فحقيقة الواقع هي هذا الذي صورته آلة السينما على شريطها: حوادث تتابعت خيطا طويلا. •••
وما دامت الطبيعة قد ارتدت بالعلم الحديث إلى مجموعات من حوادث بعد أن كانت «أشياء» مادية لها صلابة وتماسك، ثم ما دامت الحياة العقلية هي كذلك خيط من حوادث، أو سلسلة من حالات فكرية وشعورية، دون أن يكون هنالك «شيء» واحد يمسكها في وحدة مما يصح أن نطلق عليه «عقلا» أو «وعيا» قائما بذاته، أفلا تكون المادة والعقل من طبيعة واحدة متجانسة؟
هكذا نشأت نظرية «الواحدية المحايدة» أو «الهيولى المحايدة» عند رسل، مستوحيا إياها من المقال المشهور الذي كتبه وليم جيمس بعنوان «هل للوعي وجود؟» «الواحدية المحايدة» نظرية مؤداها أن العقل والمادة ليسا ضربين من الموجودات مختلفين اختلافا جوهريا، بل العقل والمادة كلاهما مشتق من «هيولى» محايدة لا هي عقل ولا هي مادة، لكن أجزاءها إذا ما ارتبطت بمجموعة معينة من العلاقات أسميناها عقلا، وإذا ارتبطت بمجموعة أخرى من العلاقات أسميناها مادة، وأما المادة الخامة، أو «العجينة» أو المبدأ الذي منه يتكون العقل والمادة كلاهما فعلى الحياد، لا هو هذا ولا تلك، لا هو عقل ولا مادة، والأمر في ذلك شبيه بأن تتناول عددا من الحصى المتجانس، وترصه مرة على هيئة مربع، ثم ترصه مرة أخرى على هيئة دائرة، فالمربع والدائرة بالطبع بناءان مختلفان، لكنهما معا مؤلفان من مادة بعينها لم يصبها تغير بين الحالتين، وإنما الذي تغير هو العلاقات الكائنة بين قطع الحصى، كانت علاقات من نوع معين، فكان الناتج مربعا، ثم كانت من نوع آخر، فكان الناتج دائرة، وهكذا قل في العقل والمادة، يتألفان من مقومات هي هي بعينها لم تتغير في كلتا الحالتين، وإنما ارتبطت أجزاؤها بنوع من العلاقات، فكانت «عقلا»، ثم ارتبطت بنوع آخر من العلاقات، فكانت شيئا ماديا.
إن ما نسميه شيئا ماديا - كالمنضدة التي أمامي مثلا - هو كما أسلفنا خيط من حوادث، فهذه المنضدة هي سلسلة طويلة من لمعات ضوئية تختلف قليلا أو كثيرا حسب النقطة التي يراها منها الرائي، وهي سلسلة طويلة من لمسات بالأصابع أو براحة اليد مثلا، وهي سلسلة طويلة من موجات صوتية تحدث حين تنقرها بأصبعك أو تخبطها بأي جسم آخر، وهكذا، هي باختصار هذه الحزمة الكبيرة جدا من معطيات حسية تبعثرها في كل نقطة من نقط المكان يصلها بها خط مستقيم، ولا تنتظر إلا جهازا عصبيا لكائن حي يوضع في أية نقطة من هاتيك النقط المكانية، فيكون لها وجود عقلي عند من يدركها، فليست المنضدة إلا هذه «الظاهرات» من لمعات الضوء والشكل واللمس والصوت، وليس وراء «الظاهرات» عنصر غيبي خفي يمسكها في «شيء» واحد كما يتصور الإدراك الفطري.
وأما ما نسميه «بالعقل» في فرد من الأفراد، فهو أيضا سلسلة طويلة من حاضرات حسية، وصور ذهنية، دون أن يكون هنالك عنصر غيبي خفي يمسك تلك السلسلة المتتابعة في وعاء واحد يدوم على الزمن.
ولكي نفهم نظرية الواحدية المحايدة فهما واضحا، افرض أن العالم الطبيعي قوامه شيئان فقط: كتاب نرمز له بالرمز «أ»، ومنضدة نرمز لها بالرمز «ب»، فأينما وقفت سترى الكتاب وسترى المنضدة، على اختلاف يسير أو كبير في درجة اللون وفي الشكل وفي الحجم، فهذه كلها ستختلف بقربك مما ترى أو بعدك عنه، فما معنى ذلك؟ معناه أن الكتاب له «ظاهر» موجود في كل نقطة مكانية؛ أي إنه موجود بظواهره في كل أرجاء المكان، وكذلك المنضدة موجودة بظواهرها في كل أرجاء المكان؛ الكتاب والمنضدة هما بمثابة مركزين يشعان خيوطا من لون وشكل وحجم، فإذا جاء إنسان مدرك ووقف في نقطة معينة التقط ما في تلك النقطة من ظواهر الكتاب، أو ظواهر المنضدة، أو ظواهرهما معا إن كانت الخيوط المنبعثة منهما متلاقية في تلك النقطة؛ تلك الظواهر المنبعثة من المركزين موجودة في كل أرجاء المكان غير مدركة، ثم تصبح ظواهر مدركة حيثما تلقاها بصر في كائن حي، وإذن ففي كل نقطة من أرجاء الكون يتكون «منظور» للكون على استعداد أن يضاف إليه جهاز عصبي وأعضاء حس، فينشأ كون مدرك ... ولك الآن أن تزيد من عدد أشياء الكون، بدل أن تقتصر على كتاب ومنضدة يشعان الظواهر فتتلاقى في نقاط الكون، لك أن تزيد من عدد الأشياء كما تريد، فلا يتغير الموقف؛ إذ ستظل كل نقطة من نقاط الكون مكانا «لمنظور» تتلاقى فيه الظواهر المنبعثة من كافة الأشياء التي تصلها بذلك المكان خطوط مستقيمة، فإذا ما أضيف إلى ذلك المكان جهاز عصبي بما فيه من أعضاء الحس، تكون كون مدرك.
অজানা পৃষ্ঠা