نعم، إن القول بأن الكل وجزءه يمكن أن يتساويا في عدد الحدود، قول لا يسهل قبوله عند الإدراك الفطري الساذج، كأنما الإنسان بفطرته مهيأ للحكم على الجزء بأنه أصغر حتما من الكل الذي يحتويه، مهما يكن نوع هذا الكل وذلك الجزء، لكن تحليلنا للأعداد اللانهائية ينتهي بنا إلى أن الإدراك الفطري لا ينبغي أن يركن إليه في هذا الموضوع؛ لأن الحقيقة التي لا مناص من قبولها هي أن الكل والجزء يتساويان في الأعداد اللانهائية، وأن عدم تساويهما إنما يكون محتوما في مجال الأعداد النهائية وحدها. (3) المنطق وعالم الواقع
36
أمامك ألفاظ وعبارات مكتوبة مقروءة، أو منطوقة مسموعة، وسؤالنا الآن هو هذا: إلى أي حد يمكن استدلال حقيقة العالم الخارجي من هذه الألفاظ والعبارات؟ أتكون اللغة مرآة للعالم الواقع أو لا تكون؟
يلقي «رسل» على نفسه سؤالا كهذا،
37
ثم يسرع إلى إثبات جوابه مجملا بأن هنالك - في رأيه - علاقة بين الطريقة التي تبنى بها عبارات اللغة والطريقة التي تترابط بها حوادث العالم التي تشير إليها تلك العبارات، ثم يستطرد ليقول إن العلاقة التصويرية القائمة بين ألفاظ اللغة وبين غيرها من حقائق الكون، قد تناولها معظم الفلاسفة فانقسموا إزاءها شيعا ثلاثا: (أ)
فلاسفة يستدلون خصائص العالم من خصائص اللغة، وهؤلاء هم من بين الصف الأول من كبار الفلاسفة، أمثال بارمنيدس وأفلاطون وسبينوزا وليبنتز وهيجل وبرادلي. (ب)
وفلاسفة يرون أن المعرفة الإنسانية كلها محصورة في دائرة ما يعرفه الناس من ألفاظ وعبارات، أعني أنهم لا يرون وسيلة ينفذون بها خلال اللغة إلى حيث الحقيقة الخارجية التي تعبر عنها تلك اللغة، ومن هؤلاء فريق «الاسميين»، وطائفة من رجال الوضعية المنطقية. (ج)
وطائفة ثالثة من الفلاسفة تذهب إلى أن ثمة جانبا من المعرفة يستحيل على اللغة أن تعبر عنه، مع أنهم إذ يقررون ذلك تراهم يحاولون استخدام هذه اللغة نفسها ليدلوا بها على تلك المعرفة ذاتها، ومن هؤلاء جماعة المتصوفة، وبرجسون، وفتجنشتين.
فأما هذه الطائفة الثالثة، فيمكن أن نغض عنها النظر لما في موقفها من تناقض صريح، وأما الطائفة الثانية فليس من اليسير قبول وجهة نظرها لما تكتنفها من مشكلات، أقل ما يذكر منها هو أنني أعلم عن عبارات اللغة نفسها حقائق ليست في ذاتها جزءا من اللغة، كأن أعرف مثلا أي الألفاظ قد ورد في هذه العبارة وبأي ترتيب ورد، وأما الطائفة الأولى التي تعتقد أن من اللغة وتركيبها يمكن استدلال حقيقة العالم وطبيعته، فهي التي تستحق النظر والتحليل، ذلك أن «رسل» يعتقد - كما يعتقد أفراد هذه الطائفة من الفلاسفة - بأن للغة دلالة على حقيقة العالم الخارجي وطبيعته، غير أنه يتخذ لنفسه في هذا الاتجاه موقفا خاصا به، هو الذي سنتناوله بالشرح فيما يلي.
অজানা পৃষ্ঠা