وليس هذا مكان الاستطراد في تفصيلات «الوضعية المنطقية»، وحسبنا منها في هذا الموضع أن نقول إن رجالها الأولين كانوا من تلاميذ برتراند رسل في كيمبردج، والحركة كلها نتيجة متأخرة لما كان رسل قد قام به منذ ثلاثين عاما من تحليلات منطقية، و«رسل» هو الذي قدم بمقدمة طويلة لكتاب لدفج فتجنشتين «رسالة في الفلسفة والمنطق»،
8
وهو كتاب يعد بمثابة الإنجيل للوضعية المنطقية، ولما مات «فتجنشتين» (29 أبريل 1951م في كيمبردج) كتب عنه برتراند رسل
9
يقول: «لما التقيت لقاء التعارف بفتجنشتين أخبرني أنه معتزم أن يكون مهندسا، وذهب إلى مانشستر، وهذا الهدف نصب عينيه، غير أنه خلال دراسته للهندسة أغرم بالرياضة، ثم خلال دراسته للرياضة أغرم بأصول الرياضة، وسأل الناس في مانشستر - كما أنبأني - إن كان ثمة موضوع كهذا، وإذا كان قد تناوله بالدرس واحد من العلماء، فأجابوه بأن مثل هذا الموضوع قائم، وأنه يستطيع أن يزداد بالأمر علما إذا هو زارني في كيمبردج، وهكذا فعل ... (وأخذ في الدراسة معي) وسرعان ما تقدم في المنطق الرياضي بخطى واسعة، ولم يلبث أن ألم بكل ما كان عندي من علم أستطيع تعليمه إياه، وأظنه لم يكن حينئذ يعرف «فريجه» معرفة شخصية، لكنه قرأه وأعجب به إعجابا شديدا، ولم أعد أراه بطبيعة الحال خلال حرب 1914-1918م، لكنني تلقيت منه خطابا بعد الهدنة بقليل، كتبه من «مونت كاسينو» أخبرني فيه أنه وقع في الأسر، وكان معه - لحسن الحظ - مخطوطه (الذي هو كتابه «رسالة في الفلسفة والمنطق») فاستخدمت كل ما أملك من قوة لأحمل الحكومة الإيطالية على إطلاق سراحه من الأسر، ثم التقيت به في لاهاي، حيث ناقشنا كتابه «رسالة ...» سطرا سطرا ...»
هذه «الوضعية المنطقية» التي جاءت فرعا عن «الواقعية الجديدة»، ونتيجة متأخرة للتحليلات المنطقية التي قام بها رسل في كتابيه «أصول الرياضة» و«أسس الرياضة»، هي في الحقيقة مزيج من تجريبية ومنطق رياضي، فأهم ما أنتجته هذه المدرسة الجديدة هو - في اعتقادي - هذا الكشف التحليلي الرائع الذي ثبت أساس الفلسفة التجريبية إلى الأبد، وأعني به الكشف عن طبيعة الرياضة والمنطق بواسطة تحليل قضاياهما؛ ذلك أن أكبر مشكلة كانت تقف في وجه التجريبيين هي هذه: إذا قلنا إن العلم أساسه التجربة الحسية، فبماذا نعلل يقين الرياضة والمنطق مع أن قضايا هذين العلمين لا تأتي عن طريق الحواس ؟ فالنتيجة التي انتهت إليها «الوضعية المنطقية» في ذلك هي أنه بتحليل قضايا هذين العلمين تبين أنها جميعا تحصيل حاصل، ولا تقول شيئا جديدا، فالقضية في الرياضة - مثل قولنا 2 + 2 = 4 هي قضية «تكرارية»، وليست قضية «إخبارية»، إنها تكرر شيئا واحدا في لفظين، وإنما اتفقنا على أن يكون اللفظان أو الرمزان بمعنى واحد بحكم تعريفنا لهما، كقولك مثلا إستانبول هي القسطنطينية، والصديق هو أبو بكر، فمصدر اليقين في الرياضة هو أنها لا «تخبرنا» بجديد، وإذن فلم يعد هنالك ما يبرر الاحتجاج بالرياضة، ويقينها على الفيلسوف التجريبي الذي يقول إن مصدر كل علم جديد هو الحواس، وبالخبرة الحسية وحدها يكون حكمنا على الكلام الذي ينطق به الناس بالصدق أو بالكذب، والنتيجة النهائية التي ينتهي إليها «الوضعيون المنطقيون» هي أنه إذا لم تكن العبارة التي أمامك «إخبارية» تعتمد في خبرها على الحواس، ولم تكن «تكرارية» - كما في الرياضة - تحصل حاصلا، ولا تضيف علما جديدا، إذن فهي كلام فارغ من المعنى، وهذا هو ما قصد إليه هيوم في عبارته التي ذكرها، في ختام كتابه «بحث في العقل البشري»: «إذا تناولنا بأيدينا كتابا كائنا ما كان، في اللاهوت أو في الميتافيزيقا المدرسية مثلا، فلنسأل أنفسنا: هل يحتوي هذا الكتاب على شيء من التدليل المجرد فيما يختص بالكمية والعدد؟ كلا، هل يحتوي على شيء من التدليل التجريبي فيما يختص بأمور الواقع والوجود؟ كلا! إذن فألق به في النار؛ لأنه عندئذ يستحيل أن يحتوي على شيء سوى سفسطة ووهم.»
تيار الفكر الفلسفي المعاصر - إذن - يمكن تلخيصه في هذه العبارة الآتية: موجة مثالية من فلسفة «كانت» وفلسفة «هيجل» سيطرت على إنجلترا (وأمريكا) منذ سنة 1880م إلى 1920م، فثورة واقعية أخذت تفعل فعلها في مقاومة تلك الموجة المثالية منذ بداية القرن العشرين، حتى إذا ما كان عام 1920م كانت لها السيادة، وعلى رأس هذه الثورة «رسل» و«مور»، وأضرابهما من فلاسفة «مدرسة كيمبردج»، وعن هذه «الواقعية الجديدة»، ومنهجها التحليلي تفرعت شعبة أطلقت على نفسها اسم «الوضعية المنطقية»، استمدت بدايتها وهدايتها من المنهج التحليلي الذي استخدمه فلاسفة «الواقعية الجديدة»، وإن تكن قد استقلت وحدها بنتائج - كإنكار الميتافيزيقا - قد لا يوافقها عليها رجال «الواقعية الجديدة»، ومنهم «رسل».
على أن هاتين الجماعتين: جماعة الواقعية وجماعة الوضعية المنطقية - ومنهما يتألف تيار الفكر المعاصر في إنجلترا وأمريكا بوجه عام - إن اختلفتا في بعض النواحي، فلا شك أنهما متفقان على روح واحدة في البحث، هي التي يمكن أن نصف بها الفلسفة المعاصرة، وهي التحليل المنطقي لكثير جدا مما كان يسمى فيما مضى «بالمشكلات الفلسفية»، بحيث تبين أن تلك «المشكلات» الكبرى لم تكن في حقيقة أمرها إلا غموضا في العبارات اللغوية التي صيغت فيها تلك «المشكلات»، ويكفي أن تصب ضوءا تحليليا على التركيب اللغوي لتلك العبارات لتنحل «المشكلات»، أو قل لتتبخر في الهواء، نعم إن رجال الفلسفة التحليلية المعاصرة لا ينتهون بتحليلاتهم هذه إلى «بناءات» فلسفية شامخة تبهر العيون، وتفتن الألباب كبناءات الفلاسفة الميتافزيقيين من أمثال أفلاطون وسبينوزا وهيجل، لكنهم في نتائجهم «المتواضعة» أقرب جدا إلى العلماء من حيث الصلابة والتعاون الذي يجعل الواحد منهم مكملا للآخر ومضيفا إليه، هذا إلى النتيجة البالغة الخطورة التي انتهوا إليها في تحليل الرياضة مما أزال المشكلة الكبرى في المعرفة الإنسانية: لماذا تكون تلك المعرفة يقينا في الرياضة، واحتمالا في العلوم الطبيعية؛ فلقد شهد تاريخ الفلسفة اتجاهين رئيسيين قسما الفلاسفة مجموعتين مختلفتين: أما أولهما فاتجاه رياضي بمعنى الرياضة عند فيثاغورس، وهو المعنى الذي تكون فيه الرياضة ضربا من المعرفة قريبا من التصوف، يبلغ اليقين، ولا يستخدم الحواس في سبيله إلى ذلك اليقين، وتلك هي الفلسفة المثالية التي تنسج من العقل فلسفاتها متسقة الأجزاء في بناءات متكاملة على نحو ما يخرج الرياضي - كإقليدس مثلا - بناء نظرياته الرياضية، وأما ثاني الاتجاهين فهو طبيعي تجريبي، يلتفت إلى الطبيعة الخارجية، ويجعل تجربة الحواس وسيلة العلم، وأما الفلسفة التحليلية المعاصرة، فقد أفلحت في استخراج العنصر الفيثاغوري من أصول الرياضة، وفي بيان أن الرياضة تحصيلات حاصل، وبذلك يزول الألغاز في يقين نتائجها بالنسبة إلى العلوم الطبيعية، وما تنتهي إليه من نتائج تتفاوت في درجات احتمالها وقربها من اليقين دون أن تبلغ قط ذلك اليقين الكامل، وبهذه التفرقة الواضحة بين «القضية التكرارية» في الرياضة و«القضية الإخبارية» في العلوم الطبيعية استقامت نظرية المعرفة على أيدي رجال التحليل المعاصرين «فالمدرسة التجريبية التحليلية الحديثة ... تختلف عن تجريبية «لك» و«باركلي» و«هيوم» بكونها أولا أدمجت الرياضة (مع العلوم الطبيعية) في بناء واحد، وبأنها ثانيا طورت في منهج البحث أداة منطقية قوية، وبهذا استطاعت أن تعالج عددا معينا من المشكلات، فتقدم لها حلولا محدودة عليها من طابع العلم أكثر مما عليها من طابع الفلسفة، ومن مميزاتها إذا قارناها بالفلسفات التي أقام بها أصحابها «بناءات» متسقة الأجزاء، أنها استطاعت أن تتناول مشكلاتها واحدة بعد واحدة، بدل أن تخلق بجرة واحدة من القلم نظرية شاهقة عن الكون بأسره، إنني لا أشك أبدا في أنه إذا كانت المعرفة الفلسفية في حدود المستطاع، فلا يكون ذلك إلا بأمثال هذه المناهج، كذلك لا شك عندي في أنه بفضل هذه المناهج قد اهتدينا إلى حل كثير من المشكلات القديمة حلا نهائيا».
10 (2) الفلسفة الرياضية
11
অজানা পৃষ্ঠা