عاد إلى مجلسه - بعد أن أوصلها إلى الباب - وهو يعيش في حلم، وبحث في ضباب الحلم عن عام. أي عام يا ترى؟ 1925. عام مليء بالأحداث التاريخية، ولكن ميمي كانت أهم من تلك الأحداث جميعا، ميمي وبيتها العجيب، ومنشية البكري القديمة الراقدة في صحراء البنديرة، شارع الملواني، والبيوت الصغيرة ذات الدور أو الاثنين تصطف على جانبيه. ومن أعالي الأبواب الخارجية تتدلى مصابيح للإضاءة ليلا. كل بيت ينطوي على نفسه كالسر. النساء عورة، والحب حرام، والزواج إجراء من اختصاص الرجال، والعروس آخر من يعلم. غير أن بيت آل حلاوة خرق العقل والمعقول، وقام وحده ككلمة متحدية. عرف بالبيت السيئ السمعة، وأحيط بسياج من الرهبة. ومجرد جريانه على لسان صبي أو بنت كان جريرة يستحق من أجلها الزجر. وضربت حوله المقاطعة كأنه وباء. وحتى اليوم لا يذكر إلا مصحوبا بسوء الظن، وبذلك تحدد في التاريخ. آه .. كيف كان ذلك؟
كانت ربة البيت - وهي زوج لموظف كبير - امرأة متبرجة. تتبدى في الطريق في كامل زينتها، عارضة حسنا رائقا رغم بلوغها الخمسين، وهي السن التي انتهت عندها ميمي. وكانت أول امرأة في الحي ترى سافرة، فلا برقع أبيض ولا أسود. وقد تصطحب معها بناتها الأربع فتمضي بهن سافرات كذلك، آخذات زينتهن، وهو ما لم يسمح به لبنت قبل خطبتها. وكن يذهبن مرة في الأسبوع - مع الزوج أو دونه - إلى سينما كوزموجراف، وقد يسهرن في مسرح من المسارح، فلا يرجعن قبل الواحدة صباحا. أي امرأة وأي رجل وأي بنات! والأدهى من ذلك كله أنه كان للأسرة يوم زيارة تستقبل فيه بعض الأسر بكامل هيئتها، فيختلط الجنسان بلا حرج. وكان شبان الحي يسيرون جماعات تحت حجرة الاستقبال المتلألئة بالأنوار، يصغون إلى الضحكات المتصاعدة، وعزف البيان والغناء، وكلما ظهر في النافذة طربوش تبادلوا الغمزات والنكات، وذهبوا في التأويل كل مذهب، وتخيلوا أعجب المواقف. لذلك كله لم يكن غريبا أن يذكر بيت حلاوة مقرونا بلفظة «دعارة» دون مناقشة. وكانت الأسرة على علم بآراء الجيران ومشاعرهم، ولكنها لم تكترث لذلك أدنى اكتراث، وترفعت الهانم عن الجميع، وسارت في طريقها شامخة الأنف، كأنها من سلالة غير سلالة الحي جميعه.
وكانت ميمي ترى كثيرا في الطريق أو في دكان الحلوى. ترى وحيدة وكانت صغرى البنات وفي الخامسة عشرة، وكانت جميلة كأخواتها وأمها، وإن لم يعد يذكر من آي ملاحتها إلا شعرها الأسود المتجمع في ضفيرتين ريانتين، وعينين خضراوين، وغمازة في الذقن. وكان يسترق إليها نظرات دهشة متسائلة مليئة بحب الاستطلاع، ولم تخل أول الأمر من ازدراء وسخرية، ثم حل محلها إعجاب وافتتان، فكان يقول لنفسه محزونا: يا للخسارة! وشغف بها وكان يكبرها بعام أو اثنين، واحتفظ بسره لنفسه قطعا للألسنة، وكان البعض يغازلها طمعا فيها باعتبارها صيدا سهلا، ولكنه لم يكن عرف الاستغلال قلبه. وذات مساء وهبته نظرة على غير انتظار. كانا واقفين بدكان الحلوى فوهبته نظرة غير قصيرة أثملته؛ فترنح بعيدا عن تيار الزمان وأفعمت قلبه بهجة ظافرة. فاض قلبه بسعادة مشرقة اقتلعت منه الوساوس، فلم يعد يشترك في الأحاديث البهيمية عن البيت السيئ السمعة. وآمن بأن شعور قلبه الأصيل أخطر من جميع ما يقال. وفي ليالي رمضان راح يلاعبها من بعيد بكبريت الهوا، فيشعله في الطريق فتشعله بدورها في النافذة. وتواعدا على اللقاء عند صحراء البنديرة. ووجد نفسه عند اللقاء مرتبكا حقا، ولكنها بادلته التحية دون تلعثم وبشجاعة ردت إليه روحه الضائعة. وقالت: أنت في البدلة أرشق مما تظهر في الجلباب، وأنا أحب الرشاقة.
وكل كلمة جادت بها كانت كشفا جديدا وجرأة مذهلة. وكانا صغيرين جدا بالقياس إلى خلفية الصحراء المترامية وراءهما، ورغم ذلك قال في حذر: قد يرانا أحد!
فتساءلت: مثل من؟ - من الأهل أو الجيران.
فهزت منكبيها استهانة، وهواء الصيف المنعش يهفو بضفيرتيها، ثم سألته: ما رأيك في حديقة الحيوان؟
وامتنع عن تقبيلها تأدبا رغم سنوح الفرص. وأعطته رقم التليفون ليتفقا في الوقت المناسب، ولعله ما يزال مسجلا في دفتر المذكرات القديم. وسألته: هل نذهب إلى الحديقة معا؟
فقال برجاء: نلتقي هناك ونفترق هناك!
وتلاقيا عند باب الحديقة، وكان يوم سعيدا. سارا من ممشى إلى ممشى بيدين مشتبكتين. واستمد من مسها تيارا من الحرارة والبهجة والرضا، وسألها كأنما ليطمئن عليها: ماذا قلت لماما؟
فأجابت ببساطة: قلت إني ذاهبة إلى حديقة الحيوان.
অজানা পৃষ্ঠা