ممشوقة في الخامسة والثلاثين.
بناتها أيضا طويلات، فائرات، لا يخلعن الثوب الكاسي الأسود بحداد أو بغير حداد، صغراهن في السادسة عشرة، وكبراهن في العشرين، قبيحات، ورثن جسد الأب الأسمر المليء بالكتل غير المتناسقة والفجوات، وبالكاد أخذن من الأم العود.
الحجرة - رغم ضيقها - تسعهن في النهار - رغم فقرها الشديد - مرتبة أنيقة، يشيع فيها جو البيت، وتحفل بلمسات الإناث الأربع، في الليل تتناثر أجسادهن كأكوام كبيرة من لحم دافئ حي، بعضها فوق الفراش، وبعضها حوله، تتصاعد منها الأنفاس حارة، مؤرقة، أحيانا عميقة الشهيق.
الصمت خيم مذ مات الرجل، والرجل مات من عامين بعد مرض طويل، انتهى الحزن وبقيت عادات الحزانى، وأبرزها الصمت ... صمت طويل لا يفرغ، إذ كان، في الحقيقة صمت انتظار، فالبنات كبرن، والترقب طال، والعرسان لا يجيئون؛ ومن المجنون الذي يدق باب الفقيرات القبيحات، وبالذات إذا كن يتامى؟ ولكن الأمل بالطبع موجود؛ فلكل فولة كيال، ولكل بنت عدلها، فإذا كان الفقر هناك، فهناك دائما من هو أفقر، وإذا كان القبح هناك، فهناك دائما الأقبح، والأماني تنال، أحيانا تنال، بطول البال.
صمت لم يكن يقطعه إلا صوت التلاوة، يتصاعد في روتين لا جدة فيه ولا انفعال، والتلاوة لمقرئ، والمقرئ كفيف، والقراءة على روح المرحوم، وميعادها لا يتغير، عصر الجمعة يجيء، بعصاه ينقر الباب، ولليد الممدودة يستسلم، وعلى الحصير يتربع، وحين ينتهي، يتحسس الصندل، ويلقي بتحية لا يحفل أحد بردها، ويمضي. بالتعود يجيء، بالتعود يقرأ، بالعادة يمضي، حتى لم يعد يشعر به أو ينتبه إليه أحد.
دائم هو الصمت، حتى وتلاوة عصر الجمعة تقطعه، أصبحت وكأنها قطع الصمت بصمت، دائم هو كالانتظار، كالأمل، أمل قليل ولكنه دائم، فهو أمل في الأقل، دائما هناك لكل قليل أقل، وهن لا يتطلعن لأي أكثر، أبدا لا يتطلعن.
يدوم الصمت حتى يحدث شيء، يجيء عصر الجمعة، ولا يجيء المقرئ، فلأي اتفاق مهما طال نهاية، وقد انتهى الاتفاق.
وتدرك الأرملة وبناتها الآن فقط كنه ما تقدم، ليس فقط الصوت الوحيد الذي كان يقطع الصمت، ولكن أيضا الرجل الوحيد الذي كان، ولو في الأسبوع مرة، يدق الباب، بل أشياء أخرى يدركن، فقير مثلهن هذا صحيح، ولكن ملابسه أبدا كانت نظيفة، وصندله دائما مطلي، وعمامته ملفوفة بدقة يعجز عنها المبصرون، وصوته قوي عميق رنان.
والاقتراح يبدأ: لماذا لا يجدد الاتفاق، ومنذ الآن، ولماذا لا يرسل في طلبه هذه اللحظة؟ مشغول، فليكن، الانتظار ليس بالجديد، وقرب المغرب يأتي، ويقرأ، وكأنه أول مرة يقرأ، والاقتراح ينشأ، لماذا لا تتزوج إحدانا رجلا يملأ علينا بصوته الدار؟ هو أعزب، لم يدخل دنيا، وله شارب أخضر، ولكنه شاب، وبالكلام يجر الكلام، ها هو الآخر يبحث عن بنت الحلال.
البنات يقترحن، والأم تنظر في وجوههن، لتحدد من تكون صاحبة النصيب والاقتراح، ولكن الوجوه تزور مقترحة، فقط مقترحة، قائلة بغير كلام: أنصوم ونفطر على أعمى؟ هن ما زلن يحلمن بالعرسان، والعرسان عادة مبصرون. مسكينات، لم يعرفن بعد عالم الرجال، ومحال أن يفهمن أن الرجل ليس بعينيه. - تزوجيه أنت يا أماه، تزوجيه. - أنا؟ يا عيب الشوم! والناس؟! - يقولون ما يقولون. قولهم أهون من بيت خال من رنين صوت الرجال. - أتزوج قبلكن؟ مستحيل. - أليس الأفضل أن تتزوجي قبلنا، ليعرف بيتنا قدم الرجال فنتزوج بعدك، تزوجيه، تزوجيه يا أماه.
অজানা পৃষ্ঠা