وإبراهيم باشا هو الذي كلفني إنشاء النظام الصحي في سوريا، على أن يساعدني فيه قناصل بيروت الذين شاءوا أن يظهروا غيرتهم في عمل يهمنا جميعا. إلا أن هذا العمل لم يكن مجديا بوجه خاص إلا للذين ألفوه، أو الذين حكم عليهم أن لا ينزووا في نقطة معينة. وفيما عدا ذلك فالقيام بمثل هذا التدبير لم يكن عملا يسيرا.
كان علينا أن نذلل جميع العقبات التي خلفتها قضية المحاجر الصحية في بلاد يناهضها فيها الرأي العام. والقائد العام الذي كان يهمه أمر المحافظة على سلامة جيشه منحنا سلطة مطلقة، غير أن أعمال النظارة المصرية كانت صعبة جدا، حتى إنه كان يتوجب علينا - لأجل الحصول على مساعدتها - أن نمر في شبكة من التقاليد أهم نتائجها إضاعة الوقت.
والقناصل - بفضل جهودهم الجبارة التي لم تعرف الملل - توصلوا إلى حماية البلاد من الأوبئة رغم تسرب المصابين إليها بلاد انقطاع.
اضطر القناصل أن يقوموا بدفع تلك النفقات من جيبهم الخاص؛ فسرعة الحوادث والإصابات لم تكن تمكننا من انتظار وصول المال الذي طلبناه من السلطة.
كان علينا أن نشيد أكواخا كبيرة لإيواء القادمين وإيداع البضائع. ولما كانت البضائع ترد في أوقات تكاد تكون متصلة، كنا مجبرين على إيجاد أمكنة لها تتفق وأصنافها. وخلال المدة التي زاولت فيها الجمعية الصحية أعمالها، لم يستطع الطاعون أن يجتاز التخوم التي أقمناها بوجهه؛ فلم يمت غير مائة وستة وعشرين مصابا في الكرنتينا، ولم تضطر السلطة إلى دفع أقل مبلغ للإدارة الصحية؛ لأن الجمعية وفرت للصندوق آلاف القروش ما عدا قيمة البنايات التي تجاوزت الأربعين ألف قرش. أما هذه الجمعية فكانت مؤلفة من قناصل فرنسا والنمسا والدانمارك وإسبانيا واليونان.
إني لاحظت آنذاك - وفي هذه المناسبة على الأخص - أن الإجراءات البسيطة التي تفهم وتدار بحكمة كانت كافية - وحدها - للوقاية من وباء الطاعون رغم طبيعته المعدية.
وفي مكان غير بعيد من الكرنتينا، تقوم هضبة مار متر التي تغنى بها لامرتين ومجدها. إنها جميلة حقا بمناظرها الحلوة، والموقع الفخم الذي يتمتع به الناظر. وهاكم ما يقوله فيها:
كثيرا ما تخيلت في طفولتي هذه الجنة الأرضية، لا بل هذه العدن التي تقوم في مخيلة جميع المخلوقات، إما بصورة حلم جميل، وإما كأنها أسطورة تحكى عن زمن وإقامة أكثر كمالا وجمالا. لقد تتبعت «ملتون» في أوصافه الجميلة التي وصف بها موطن أجدادنا الأولين المسحور. غير أن الطبيعة هنا - كما هي في جميع الأشياء - أسمى من الخيال. إن الله لم يمن على المرء أن يحلم بكل ما خلق من جمال. لقد حلمت بعدن، لا بل أقول إني قد رأيتها.
6
إنه لمن المؤلم أن يشرف مثل هذا المكان على بلاد ينشر فيها الفساد كل يوم فواجعه.
অজানা পৃষ্ঠা