256

বায়রুট ও লেবানন

بيروت ولبنان منذ قرن ونصف القرن

জনগুলি

قدم الجبل خلال عدة سنوات رجالا سخروا في تشييد أبنية دكتها حرب عكا، وأوفد بنائين وعمالا إلى كولك بوغاز، فانهارت قوى قسم كبير منهم من جراء التعب ورداءة الغذاء والهواء.

ومع ذلك فالمظالم التي أناخت بكلكلها على أبناء الجبل قد أناخت على سكان المدن سواء بسواء. نزعت الأسلحة في كل مكان، ولم يذكر شيء من تضحيات الجبل وإقدامه وإخلاصه. والذين لم يستطيعوا أن يقدموا بنادق أجبروا على دفع أثمانها كما لو كانت في حوزتهم، ناهيك بأن التجنيد الذي دعي إليه قد فرض بصرامة وطبق بتدقيق على الدروز والمتاولة - رعايا الأمير - أكثر مما فرض وطبق على رجال المدن!

ففي العام الأول للاحتلال علل الجبليون الذين خدموا القضية المصرية أنفسهم بإعفائهم من ثلاثة أشياء: التجنيد الإجباري، ونزع السلاح، ودفع الضرائب الجديدة. أما الأمل الأخير فما كاد يظهر حتى اضمحل لأن السلطة الجديدة - مع إلغائها الفرائض القديمة التي كانت تثقل كاهل المدن - قررت أن تجبي من الجبل الضريبة القديمة نفسها، ولكن ليس بالمقدار الذي فرضه الجزار أو سليمان باشا، بل كما كان يستوفيها عبد الله باشا؛ أي بمضاعفتها ثلاث مرات عما كانت عليه بادئ ذي بدء. وعبثا كان يسدي الأمير بشير إلى المحتل نصائحه التي أوحتها إليه حالة رعيته. فكم أوفد من رسول إثر رسول لمفاوضة الحاكم العام، وإبراهيم باشا، ونائب الملك نفسه. ولكن لم تحقق له رغبة، وطلبته لم تستجب، ولو أنها تحققت لكانت دلت على أنبل عمل هو غاية العدل والإنصاف.

هال هذا الرفض أبناء لبنان فأعلنوا سخطهم وهددوا بالعصيان قبل أن يرتضوا بتجنيد ثان. وبهذه المناسبة قدم بحري باشا - مفتش خزينة نائب الملك في سوريا - ليفاوض الأمير بالأمر. وبعد أن ضايقه بجميع ما يملك من أساليب ليحمله على الإذعان لأمر إبراهيم باشا، قر رأي الأمير أخيرا على مقابلة الزعماء الدروز ليطلع على أسباب رفضهم في تقديم عدد الرجال المطلوب منهم.

أجاب الأمير - بادئ ذي بدء - أن سلطته تمكنه في الحالة الحاضرة من جباية الضرائب ودفعها، ولكن دون ذلك أهوال ومشقات، وهو مع ذلك لا يريد - بل يأبى - أن يتعرض لسخط الشعب بدون أمر خاص من القائد العام.

وفي الصباح اجتمع الأمراء والمشايخ الدروز عند الأمير، فحاول بحري بك - بما أوتي من مقدرة - أن يقنعهم بإجابة ما يطلب منهم، مبينا ومعددا الحسنات التي أتتها الحكومة المصرية فأحيت هذا البلد وأنعشته. ثم توسع بوجه خاص فأفاض في تعداد المنافع المنتظرة التي يجرها عليهم رضوخهم إلى ما يطلب منهم، فقال لهم: «أنا مسيحي من العوام، ومع ذلك رقيت إلى رتبة قائد مكافأة على شجاعتي وأعمالي المشرفة التي قمت بها.»

ولكنه، حين لم يلق جوابا على كلامه إلا سكوتا كئيبا، شرع يصور لهم ما يجره عليهم عنادهم من أخطار: «إنكم تعرفون إبراهيم باشا وما يستطيع أن يعمله. لقد استذل السلطان نفسه؛ فحذار من غضبه ومن البلايا والويلات التي ستجرونها على أنفسكم.»

وظل الزعماء صامتين حتى أتى على نهاية حديثه، وعند ذلك أجابوه أنهم قدموا - بلا انقطاع - جميع ما فرض عليهم، وأنهم لا يزالون على استعداد لتأييد إبراهيم باشا أينما كان. إلا أنهم يرفضون تقديم الرجال، وأن نائب الملك احتل البلاد لا أهليها لتعبأ في جيوش منظمة.

لقد حزم الشعب أمره ونوى على تقرير هذا المصير. بيد أن الزعماء لم يؤيدوا جميعا هذا الرفض، وشاء الأمير الكبير التوفيق بين الشعب وإبراهيم باشا، فبعث بمائة كيس زيادة عن الضريبة، فتلقى من إبراهيم باشا جوابا يدحض به حجج الجبل المخالفة لإرادته.

وجه هذا الجواب إلى بحري بك، وهذا هو: «قولوا للأمير إذا كان بحاجة إلى جنودي، ليستطيع القيام بالتعبئة التي طلبتها منه، فإني على استعداد إلى توجيهها إليه، وإذا كان حضورها يحدث أثرا سيئا فليدع الأمير بنفسه إلى التجنيد دون أن يجبر عليه أحدا.»

অজানা পৃষ্ঠা