وبعد هذا العرض الذي لا مشاحة في صحته نرى بدون أي مشقة أن دمشق يجب أن تعتبر كأنها مخزن عام للتجارة (عنبر)، لا بل أكثر مخازن العالم غنى. فإذا كانت لنا مؤسسات مبنية على أساس متين تستطيع أن تجني أرباحا ضخمة.
وإحدى المنافع التي لا ننتبه إليها عادة هي أن التاجر المقيم في هذا البلد لا تسري إليه عدوى الترف والقيام بنفقات باهظة كانت سبب انهيار عدة محلات في إستانبول وأزمير وحلب وعدة أماكن أخرى. فكل شيء في دمشق بسيط غير مركب، والفخفخة لم تدخل إليها بعد. إن أهليها غرباء عن البذل الطائش، ولا يعرفون لذة غير لذة العمل والتنزه والاجتماعات الشريفة؛ فالقمار والملاهي والرقص والمآدب الفخمة والسهرات متهمة جميعها عندهم بأنها منافية للحشمة؛ هذا إن لم ينظروا إليها كأعمال أثيمة.
إن أهم المصاعب التي تلاقيها بعض المؤسسات الفرنسية تنتج عن منافسة خمسة أو ستة بيوت تجارية لها. ولما كانت جميع الوسائل متوافرة لديها بمقدار كبير فلم تكن تتأخر عن استعمالها. ومن المحتمل أنها كانت تجد لمناهضتنا مبررا دينيا، وأي إنسان لا تسيره عصبيته وأنانيته نحو الغاية التي يرمي إليها؟! فهنالك طريقتان للحد من هذه المنافسة المؤذية: خط شريف (فرمان) يرد هذا الكيد، أو حاكم حازم ينتصر لمؤسساتنا ويحميها.
إننا لا نضام إلا في هذه المضاربة التجارية، أما فيما عدا ذلك فقلما نجد بلدا من بلدان تركيا يستطيع الفرنسي أن يتمتع فيه بحرية حقيقية كما في دمشق. إنني أعني الحرية في مختلف وجوهها؛ فبقطع النظر عن ممارسة الديانة بصورة علنية، والتي يقام برتبتها في كنائسنا كما يحتفل بها جهارا في القسطنطينية، نرى آباء الأرض المقدسة والكبوشيين الذين يحافظون - كما حافظوا أينما كانوا - على لباس جمعياتهم، يتنقلون كل يوم في مختلف الأحياء دون أن يزعجهم شخص ما.
إنهم يتنزهون ويذهبون إلى الحدائق آخذين معهم زادهم، حتى إن كل عائلة، لا بل كل شخص يمكنه أن يعمل مثلهم دون أن يرى عيبا في ذلك. ولست أذكر أن إفرنسيا ما، سواء أكان عابر سبيل أو مقيما، وجهت إليه إهانة مهما تكن ضئيلة. إن الشبيبة في تركيا هي - كما نعلم - على جانب كبير من القحة. أما في دمشق فأؤكد أنها ذات أخلاق دمثة، توحي ارتياحا تاما. إننا نجد هنا أصولا للياقة، ويعتبر مغفلا أو عديم الفطنة كل من لا يتقيد بها.
إننا مدينون - ولا شك - بقسم كبير من هذه الراحة إلى اهتمام قوى الأمن الواعية؛ فالحالة ليست كذلك في جميع أنحاء الشرق. إن الجزار هو نسيج وحده في هذا المضمار، ولو لم يكن حكمه أكثر الأحكام ظلما وقساوة وبربرية، لكان بوسعنا أن يهنئ بعضنا البعض الآخر لإقامتنا في أسعد نقطة من أراضي المملكة العثمانية الواسعة.»
لن أدل القارئ على ما في هذه الرسالة من مبالغة، ولكنني ألفت نظره إلى أن موقع دمشق التجاري فقد كثيرا من أهميته حينما ترددت التجارة بين اتباع طريق رأس الرجاء الصالح وطريق تريبزوند.
هوامش
الفصل الثاني والعشرون
آثار بيروت وضواحيها - منبع نهر بيروت - أطلال بعل مرقد (دير القلعة). ***
অজানা পৃষ্ঠা