فحتى أجهزة البث التي ترسل بأخبارها ومارشاتها الدافعة للحماس يبدو وكأنها لا تلامس آذانهم، تساءل: تراهم مستسلمين أم شامتين؟! سمع أحدهم يطرق كفا بكف وهو يقعي إلى بعيد على صندوق ورنيشه بدلا من كرسي المقهى: قلناها كثير.
كمل له آخر ضاحكا، وقد بدا نصف أسنانه الفضية: ما بتفرق معاهم.
تساءل: من؟ - تجار هذا البلد ... أصحاب البنوك والودائع.
وسرعان ما حل الصمت الذي لم يكن يقطعه سوى دوي القذائف، وأخبار الراديو المزدحم وأصوات أحجار النرد داخل المقهى.
حلقت طائرتان معاديتان من فوق المكان من حول محيطه؛ حتى تيقن من أنهما لا محالة ستفرغان حمولتهما من نابالم وقنابل عنقودية فوق رأسه بالتحديد، ودون تفكير ثبت بصره عليهما طويلا، تاركا العنان لجذعه الأعلى بكامله راجعا إلى الوراء إلى حد ملامسة الجدار والانبطاح أرضا دفعة واحدة، حتى إنه سقط على آخرين من خلفه موقعا بعض الكراسي والمشروبات، وظل هكذا مضطجعا فترة إلى أن جاء الدوي والانفجار إلى بعيد.
عندئذ تسند جالسا من جديد ثم هب بقامته المديدة، ملقيا نظرة خجلى على الموجودين، معتذرا مطبطبا على كتف من أوقع بهما: اعذرونى يا إخوتى، آسف جدا.
ولدهشته الكبرى أن الأمر بدا عاديا، فلم يلق له أحد بالا، وكما لو أن عينا لم تلحظه. - ما الخبر؟
انحط جالسا على كرسيه منزويا، رأسه بين ساعديه ضاغطا، إلى أن قاربه أحدهم بأسبرين وكوب ماء، فشكره المهاجر ممتنا، مستعيدا من جديد ثباته، ماسحا زجاج منظاره حين عاجله الرجل: انس. - كيف؟ - مثلما نفعل جميعا.
أشار بأصابعه الخمس المرصعة بالخواتم: الجميع.
وحين تفهم الموقف ابتسم في ود إلى محدثه مقاربا، حتى إذا ما جاءت القهوة كان قد اتصل بينهما الود، مما حدا بالرجل - وكان قصيرا ممتلئ الحركة - لأن يضع يده في جيبه مخرجا، في قليل من الحذر، علبة نشوقه، مقدما له جرعة تشممها بمنخاريه عاطسا في البداية.
অজানা পৃষ্ঠা