نبهته الفتاة الصغيرة وهي تأخذ بإصبعه بين راحتيها بألا يشير بإصبعه على هذا النحو: هس.
حاول نزع سبابته من بين يديها، موضحا بأنه لا يعني المبنى الرئاسي لذاته بقدر ما هو يعني الجوارح، من حداءات ونسور وخفافيش، وتحليقها على هذا النحو، ولا شيء يطغى على سمع المكان بأكمله سوى أصواتها الجارحة المعدنية الصدى، تقطع أحبال صمت المبنى بأكمله. - لا بد أن في الأمر وليمة.
أردف: بشرية.
انفصل كلية فجأة عن الفتاة، وعاودته زمة شفتيه وهو يتطلع بعينيه في توجس مستطلعا المكان، الذي اختلط من فوره - داخل مخيلته - بأماكن لها ذات الصمت الموحش أو المتوحش ذاك، رغم إحاطتها بالكثير من المناظر البهيجة المنفتحة الخلابة، حيث لم يكن الأمر يخلو من شلالات مياه أهرامات مدرجة، بقايا أصنام هائلة الضخامة تنتصب في الأفق الأحمر القاني مع الغروب، قرى جبلية مطلة على هذا النحو، نيل وبحار وأشلاء غابات ونخيل مفرط الطول.
أما الفتاة، فغرقت بدورها في أفكارها طويلا، تذكرت بلدة أمها عبلة التي كانت - القنيطرة - حيث تربت في حضن الجبل وجدتها. - أين؟
البلدة ضاعت والجدة ماتت.
مضت تحكي له حكايات لا رابط بينها، عادة ما كانت تختتمها بأنها لا تعرف ولا تدري، وهي تشرح له بساعديها الدقيقتين راسمة شبه دوائر غير مكتملة في فراغ.
وتذكر هو من فوره بناءات وعوالم ومعمارية وفراغات ذلك المصور الميتافيزيقي السريالي، دي شيروكو، غمغم ملتاعا: يا له من يوم!
من جديد عاود احتضانه للفتاة، مومئا برأسه عاليا إلى حيث الطيور المحلقة الضواري، بجلجلات أصواتها: إحنا هنا ليه؟
مرقت من حول مبنى الإدارة الشاهق البعيد، سيارتان سوداوان فاخرتان، تتصدرها الأعلام الرئاسية، نزل منها ركابها يضحكون متطلعين هنا وهناك باتجاه العنابر، والأسوار الشائكة المسورة للمعزل بكامله، وتناثر منهم بضع كلمات سمعتها الفتاة بدقة، حين أسرت في أذنه اليسرى مشرئبة: بيتكلموا عن وباء.
অজানা পৃষ্ঠা