تمهيد
القسم الأول
1 - الأندلس حتى عصر ابن رشد
2 - ابن رشد
3 - التوفيق عند سابقي ابن رشد
القسم الثاني
1 - العلاقة بين الوحي والعقل في رأي ابن رشد
2 - التأويل عند مفكري رجال الأديان العالمية
3 - استدلال ابن رشد للعقائد الدينية
4 - بين ابن رشد والغزالي
النتيجة
تمهيد
القسم الأول
1 - الأندلس حتى عصر ابن رشد
2 - ابن رشد
3 - التوفيق عند سابقي ابن رشد
القسم الثاني
1 - العلاقة بين الوحي والعقل في رأي ابن رشد
2 - التأويل عند مفكري رجال الأديان العالمية
3 - استدلال ابن رشد للعقائد الدينية
4 - بين ابن رشد والغزالي
النتيجة
بين الدين والفلسفة
بين الدين والفلسفة
في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط
تأليف
محمد يوسف موسى
تمهيد
موضوع البحث - عناصره - خطته
ليس من الضروري أن نتناول هنا بالبحث أول مسألة تخطر ببال من يكتب في الفلسفة الإسلامية، وهي: هل يوجد في الإسلام فلسفة تعالج المشاكل الفلسفية بطريقة أصيلة، حتى يكون لنا أن نسميها فلسفة إسلامية؟
وإذن، لا نرى ما يدعونا لمناقشة الرأي القائل بأن العرب لم يكونوا في هذه الناحية إلا مجرد نقلة للفلسفة الإغريقية، وأنه كما يذهب «إرنست رينان»: من الإفراط إعطاء اسم «فلسفة إسلامية» لعمل لم يكن إلا عارية من اليونان، وليس له أي عرق في شبه الجزيرة العربية، فإن ما يدعونه فلسفة عربية أو إسلامية، ليس إلا فلسفة يونانية كتبت بحروف عربية، وهذا كل شيء!
وكذلك لا يتعرض للتدليل على ما ذهب إليه الأستاذ «ريتير
Rittir » ومن معه في رأيه، من أن للإسلام فلسفة من الممكن بالتأكيد أن تسمى فلسفة إسلامية، وأن «رينان» تناقض مع نفسه، حين زعم في كتابه «التاريخ العام للغات السامية» من أنه ليس هناك فلسفة عربية مطلقا؛ وذلك إذ يقول في كتاب آخر له: «إن العرب مثلهم في هذا مثل فلاسفة العصر الوسيط، متعللين بشرح أرسطوطاليس، أمكنهم أن يخلقوا لهم فلسفة مليئة بالعناصر الخاصة بهم، ومختلفة تماما بلا ريب عن الفلسفة التي كانت تدرس بالليسيه لدى اليونان.»
وكذلك لا نجد حاجة لإثبات أن الرأي الحق هو أن العرب وقد وقفوا على ما أوحاه الله إلى رسوله، عليه الصلاة والسلام، بدأت عقولهم في التفكير مدفوعة بعوامل عديدة، وأحسوا الحاجة إلى فهمه والتعمق فيه، إلى بيان ما اشتمل عليه من حقائق دينية تكونت منها العقيدة الإسلامية، والقرآن مع هذا كان يأمر بهذا الاتجاه، ولكنهم من أجل الوصول إلى هذه الغاية قد استعملوا طرق الفلسفة الإغريقية التي عرفوها من زمن بعيد، والتي ازدادوا معرفة بها بعد عصر الترجمة المعروف.
نحن إذن لا نناقش هذا الرأي أو ذاك، ونكتفي بالقول بأن موضوع هذا البحث هو بيان «موقف ابن رشد بين الدين والفلسفة». أهذا الموقف هو الميل إلى الفلسفة على حساب الدين؛ أي: هل كان يرى أن الحق هو ما أدى إليه النظر الفلسفي، فيجب إذن تفسير العقائد الدينية والحقائق التي جاء بها الوحي الإلهي على هذا الأساس؟
أم كان موقفه بين هذين الطرفين هو العكس، أي إنه حاول جر الفلسفة إلى الدين الذي يجب الإيمان به أولا؟ أم كان موقفه لا هذا ولا ذاك بل كان العمل على التوفيق بين الدين والفلسفة، اللذين لا يمكن أن يتعارضا؛ وذلك لأنهما أخوان، كل منهما يكمل الآخر وفي حاجة إليه؟
إن موقف فيلسوف الأندلس على ما نرى هو العمل بكل سبيل للتوفيق بين هذين الطرفين اللذين يعبران عن الحقيقة الواحدة، كل على نحو خاص، ومن ثم لا ينبغي أن يكون بينهما تعارض أو خلاف، كما أنه من أجل ذلك لا يمكن أن يقع بسببهما تعارض أو خلاف بين رجال كل منهما، رغم ما قد يوجد من تعارض ظاهري في بعض المسائل، ورغم ما كان من اعتقاد كثير من رجال الدين - وعلى رأسهم الإمام الغزالي - أن بين هذين الطرفين أو بين هذين التعبيرين من الحقيقة الواحدة، خلافا شديدا وتعارضا واضحا لا يمكن إنكاره أو تجاهله.
وقد كان من الطبيعي أن يحاول كل فيلسوف مسلم التوفيق بين هذين الطرفين، ولكن لا نعرف أحدا من الفلاسفة المسلمين الذين سبقوا ابن رشد بذل في هذا السبيل ما بذله هو من جهد، ولا خصص لها من كتاباته قدر ما خصص هو لها. إن ابن رشد لم يمس هذه المشكلة عرضا كما فعل بعض أسلافه، بل خصص لها رسالتين من مؤلفاته، وتجلت في كثير من بحوثه في كتابه المهم الكبير «تهافت التهافت».
بل إن نزعته إلى هذا التوفيق بين الدين الذي يؤمن به حق الإيمان، وبين الفلسفة التي كان من أكبر نصرائها، تعتبر معقد الأصالة والطرافة في تفكيره الفلسفي، وذلك كما يقول بحق الأستاذ «ليون جوتييه».
1
إنه كما يقول الأستاذ «كارادي فو» في كل مناقشاته للغزالي لم يترك أبدا فكرة أن الدين والفلسفة يجب أن يكونا على وفاق وأن يعيشا في وئام، وكل ما علينا هو أن نبين أن هذا الوفاق يجب أن يتحقق رغم ما يظهر لنا بينهما بادئ الرأي من تعارض في كثير من الحالات.
إن ابن رشد «موفق» مثل كل أسلافه السابقين، فهو يعمل في إخلاص تام على الربط والتوفيق بين كثير من الآراء ووجهات النظر التي تبدو في الظاهر مختلفة أشد اختلاف.
2
ومن الخير أن نشير هنا إلى أن فيلسوف قرطبة قد اتخذ هذا الموقف الدقيق الذي اقتضاه مجهودا كبيرا مسوقا بعوامل مختلفة يجيء بيانها والحديث عنها، ولكن نشير الآن إلى أن منها رغبته القوية في الانتصاف للفلسفة ورد اعتبارها إليها، وذلك لتعود لها مكانتها بعد أن كادت تموت بسبب حملة الإمام الغزالي عليها، هذه الحملة الشديدة التي نالت منها ومن الفلاسفة نيلا كبيرا.
إنه رأى الأثر المشئوم لضربة الغزالي للفلسفة، وتعصب الفقهاء والعامة ضد التفكير العقلي الفلسفي، واضطاد الأمراء للفلاسفة، كما رأى أنه - لحسن جد الفلسفة - يعيش في عصر أمير يشجع الفلسفة ويقرب الفلاسفة، فكان من الطبيعي أن ينتهز هذه الفرصة الطيبة التي واتته للعمل على الانتصاف للفلسفة وإحيائها، هذه الفرصة التي قدر أنها لن تدوم طويلا، وكان أن صح ما قدره كما حصل فعلا مما كان سبب نكبته. •••
قلنا: إن موضوع هذا البحث هو بيان محاولة فيلسوف الأندلس التوفيق بين الدين والفلسفة، وإذن يكون من الطبيعي قبل الدخول في الموضوع أن نبدأ بإعطاء فكرة عامة عن الأندلس وعن ابن رشد، ومهد نشاطه العلمي والفلسفي؛ وذلك لتعرف الحظ الذي كان للتفكير العقلي والدراسات الفلسفية في هذا البلد الإسلامي، وهذا هو موضوع الفصل الأول من القسم الأول من البحث.
ونرى من الضروري بعد هذا أن نخصص الفصل الثاني لحياة ابن رشد، فنحلل فيه الظروف التي أحاطت به، والعوامل التي وجهته وجهته الفلسفية، ونتعرف المناصب التي تقلب فيها وكان لها أثر في حياته العقلية، ونتبين الأسباب الجلية والخفية التي أدت إلى نكبته هو وأصحابه من محبي الفلسفة.
وذلك لنعرف إن كان مرد هذه الأسباب جهل الفقهاء والخليفة الذي نكبه، وتعصبهم ضد الدراسات الفلسفية، أو حسد أولئك الفقهاء وإثارتهم العامة، واضطرار الخليفة لمجاراتهم حفظا لسلطانه كما يحصل غالبا، أو أن السبب مزيج من ذلك كله ومن عوامل أخرى، وهكذا يمتد البحث إلى آخر الأحداث التي أحاطت بابن رشد حتى انتهت بحياته.
وإذا كان موضوع هذا البحث هو التوفيق بين الدين والفلسفة، فقد كان في هذه الناحية جهود لمن سبق ابن رشد من الفلاسفة المسلمين في الشرق والغرب، فيجب إذن أن نتعرف هذه الجهود لنعرف الأساس الفلسفي الذي أفاد منه فيلسوفنا وشاد عليه عمله، وهذا هو موضوع الفصل الثالث، وبه يتم القسم الأول من البحث.
سنرى في هذا الفصل كيف أحس أسلاف ابن رشد في المشرق والمغرب الحاجة إلى التوفيق بين العقل والوحي، أو بين الفلسفة والدين، وكيف اشتدت هذه الحاجة حتى صارت مسألة حياة أو موت للفلاسفة بعد حملة الغزالي، التي كان لها أثرها الكبير المشئوم، وكيف سلك كل من هؤلاء وأولئك المفكرين الطريق إلى تلك الغاية التي هي غاية الجميع؛ وذلك ليتقرر السلم، ويتم التآخي بين الفلسفة والدين، فيستطيع الفلاسفة أن يعملوا في هدوء وأمن، ويعم الانتفاع بجهودهم الفلسفية في سبيل كشف الحقيقة التي يعبر عنها كل من الدين والفلسفة بطريقة خاصة.
ونصل بعد نهاية هذا الفصل الثالث للقسم الثاني والأخير من هذا البحث، وهو القسم الأساسي الجوهري منه، فنبين مبلغ احتفال فيلسوفنا بناحية التوفيق التي عالجها أسلافه دون أن يقارب واحد منهم مبلغ اهتمامه بها، حتى لقد خصص لها من تآليفه ثلاثة كتب مهمة: فصل المقال، والكشف عن مناهج الأدلة، وتهافت التهافت.
ونبين أولا بعد ذلك، كيف تصور العلاقة بين الدين والفلسفة، وعلى أي أسس تقوم هذه الصلة، وهذا هو موضوع الفصل الأول.
وبعد هذا الفصل الأول الذي يرى ابن رشد وجوب تأويل بعض النصوص المقدسة من القرآن والسنة، تأويلا مجازيا لطبقة خاصة هي أهل الاستدلال والفلسفة، نلاحظ أن هذا الضرب من التأويل كان معروفا عند فلاسفة اليونان وغير اليونان، وإذن يكون من الضروري الكلام عن التأويل المجازي لبعض النصوص الدينية عند سابقي فيلسوف الأندلس، وهو التأويل الذي اعتمده عن علم به، أو مصادفة واتفاق معه، وذلك ما يكون الفصل الثاني.
ثم يكون الكلام بعد هذا عن تطبيق ما وضع من مبادئ وأصول، لنعرف كيف استدل للعقائد الدينية التي جاء بها الوحي، استدلالا يوافق كل طوائف الناس جميعا على اختلاف مداركهم وعقولهم ومواهبهم، وذلك في غير ضرر، ولا تحيف للدين أو الفلسفة، وهذا هو موضوع الفصل الثالث.
ومع ذلك كله؛ فإن ابن رشد كان يرى أنه لا يمكن أن يصل إلى التوفيق بين الوحي والعقل دون أن يرد على «تهافت الفلاسفة» للغزالي ويهدمه هدما، فإن حجة الإسلام الغزالي عمل حقا على هدم الفلسفة، وعلى بيان تهافت الفلاسفة فيما ذهبوا إليه من ناحية الدين وناحية الفلسفة معا.
رأينا إذن أن نخصص فصلا خاصا نبين فيه الظروف والعوامل التي دفعت الغزالي إلى اتخاذ هذا الموقف الشديد ضد الفلسفة والفلاسفة، ونحلل فيه كتابه الهام جدا في هذه الناحية، ثم نصل بعد هذا وذاك إلى موقف ابن رشد من هذا الكتاب كما نراه في كتابه «تهافت التهافت»، هذا الكتاب الذي بذل فيه كل ما أوتي من جهد لهدم كتاب خصمه العنيف أولا، ثم للدفاع عن الفلسفة والانتصاف لها ثانيا.
وإذن في هذا الفصل الرابع والأخير من هذا القسم، سنتناول بالتفصيل ردود الغزالي على الفلاسفة ، ثم ردود ابن رشد عليه، فنحلل أولا ردود الغزالي إلى العناصر التي تتكون منها، ونبين المبادئ والقواعد التي قامت عليها.
نبين أنه قصد مرة إلى ذم الفلسفة وتحقيرها، وبيان أنها لا تؤدي إلا إلى أخطاء وتناقضات، وبذلك يصل إلى صرف الناس عنها، كما قصد مرة أخرى إلى تكفير الفلاسفة لينزع الثقة منهم، وليحول بين الناس والإقبال عليهم، وأحيانا نراه يؤكد عجز العقل عن الوصول للحقيقة، وأن الإلهام التصوفي هو الطريق الأخير المأمون للوصول إليها، وأحيانا أخرى يجنح إلى المغالطة؛ إذ يرد على الفارابي وابن سينا موهما أنه بذلك رد على الفلاسفة جميعا، كما قد يكتفي بالجدل دون بيان الحق في مسائل النزاع، مصرحا بأن غرضه هو بيان تهافت الفلاسفة لا بيان الحق في المشاكل المختلف فيها.
وفيما يختص برد ابن رشد على الغزالي، نراه يتعقبه فيما قصده خطوة بعد خطوة؛ إذ يبين أن الفلسفة متفقة مع الدين، بل إنه يأمر بها، وإذن فهي غير حرية بالذم والتحقير، كما يبطل تهمة كفر الفلاسفة ببعض الآراء التي ذهبوا إليها، وذلك بتأويلها تأويلات تبعدهم عن الكفر، وفي النزاع على مدى قدرة العقل على الوصول للحقيقة، نرى رأيه المبثوث في مختلف كتاباته ومؤلفاته.
وكذلك نرى في تلك الكتابات مقدار عنايته بإظهار مغالطات خصمه وسفسطته، ونعيه عليه الإقذاع في سب الفلاسفة، مع استفادته منهم حصافة الرأي وإصابة التدليل ونباهة الذكر.
وأخيرا؛ نرى ابن رشد يؤكد تحريم الخوض في أمثال هذه المسائل التي أثارها الغزالي بالنسبة للجمهور، ويلوم الغزالي أشد اللوم على تصريحه بالحكمة لمن ليس من أهلها، فجعلها مشاعة لجميع الناس ومنهم من يضر بها.
وبالانتهاء من هذا الفصل يكون قد انتهى القسم الأخير من البحث كله، فلا يكون باقيا علينا إلا بيان النتائج التي وصل إليها ابن رشد في سبيل التوفيق بين الدين والفلسفة، وفي سبيل إقالة الفلسفة مما أصيبت به ورد اعتبارها إليها.
وهنا علينا أن نتبين هل نجح فيلسوفنا فيما أراد؟ وما مدى هذا النجاح وأثره؟ وما هي العوامل التي حالت دون نجاحه النجاح الذي كان يرجوه، وذلك بعد أن أنفق ما أنفق من جهد؟ وبهذا يكون البحث قد انتهى إلى غايته. •••
وخطة البحث هي - كما يستنتج مما تقدم - هي الخطة التاريخية التحليلية المقارنة؛ فإن أهم ما ينبغي أن يعنى به مؤرخ الفلسفة هو استعراض التطور التاريخي للفكر الإنساني في كل نظرية فلسفية لها أهميتها، وليس له أن يطلب من التاريخ الذي يستعرضه ويسجل تطوراته دروسا تقودنا في التفكير في العصر الذي نعيش فيه، أو حلولا للمشاكل الفلسفية التي تتطلب منا اليوم حلولا لها.
فإنه كما يقول «رينان» بحق: «ما ينبغي أن نطلب من الماضي إلا الماضي نفسه، وإن التاريخ السياسي قد صارت له مكانته الشريفة المرموقة منذ انتهينا عن أن نبتغي فيه دروسا في المهارة والأخلاق السياسية، ومن ثم يتركز تاريخ الفلسفة في عمل لوحة تبين لنا التطور المتتابع للفكر الإنساني، لا أخذ ما يمكن أخذه من التعاليم الواقعية.»
3
ومن أجل ذلك، رأينا من الواجب علينا أن نجتهد عند بحث كل نظرية من نظريات ابن رشد الهامة، التي يقوم عليها البحث أو تتصل به، نجتهد في إرجاعها إلى أصلها إن كان أفادها من غيره، ومقارنة رأيه بآراء سابقيه، وتحليل العوامل والأسباب التي أدت به إلى تكوين آراء خاصة به في بعض المشاكل، أو اتخاذ طريق خاص في معالجتها.
وسنفعل ذلك فيما ذهب إليه فيلسوف قرطبة من التأويل، تأويل نصوص القرآن والحديث التي تتصل بالفلسفة، وتقسيم الناس إلى طبقات لكل منها طريقة خاصة في فهم الدين وفي المعرفة، تناسب عقلها ومداركها، والأمر كذلك حين نقارن مذهبه وطريقته في هذه الناحية بما كان من أفلاطون وفيلون، وحين نقارن مواقفه في مسائل الدين والفلسفة بآراء سابقيه من المتكلمين والمفسرين والفلاسفة، وفي غير هذا وذاك كله حين تدعو حاجة البحث إلى التحليل والمقارنة.
كما سنحلل الدوافع التي دفعت الغزالي إلى الرد على الفلاسفة والتنكيل بهم، والتي جعلت ابن رشد ينصب نفسه للدفاع عن الفلسفة وبيان اتفاقها مع الدين، بل أخوتها له، وسنقارن بين جهوده في هذه الناحية وبين موقف الفارابي وابن سينا أولا، ثم بين موقف ابن باجة وابن طفيل ثانيا، فقد أحس هذان ثقل وطأة الغزالي على الفلسفة والفلاسفة، ومع هذا لم يعملا تقريبا شيئا ذا بال في الرد عليه.
وفي كل ذلك رأينا بصفة عامة ألا يكون حكمنا فيما يكون مستوجبا للحكم من مشاكل البحث ومسائله، صادرا عن العاطفة أو الرأي الشخصي؛ لأن المذهب الشخصي لمؤرخ الفلسفة الذي يروي قصة صراع المذاهب الفلسفية ومدارسها - كما لاحظ الشهير «رينان» - يزيف في الأكثر من الحالات حكمه ويبطله، ويفسد اللوحة التي يرسمها لهذا الصراع؛ لأن الحكم النقدي يتنافى مع الحكم القطعي.
4
القسم الأول
الفصل الأول
الأندلس حتى عصر ابن رشد
فتح المسلمون شبه جزيرة الأندلس سنة 92ه في عهد الدولة الأموية على يد طارق بن زياد، فتوالى عليها الولاة من قبل الخليفة القائم بدمشق، حتى جاءها الأمير عبد الرحمن بن معاوية، الملقب بعبد الرحمن الداخل، فارا من الشام بعد ذهاب ملك أسرته على يد الدولة العباسية، واستولى على حاضرتها قرطبة سنة 138ه، وقد أسس هذا البطل في هاتيك البلاد دولة لأسرته الأموية بالمغرب بعد أفول نجمها بالمشرق، وصار منها خلفاء ينافسون العباسيين ببغداد، وظل الأمر كذلك حتى زالت دولتهم بموت هشام المعتد بالله سنة 427ه من غير أن يترك وارثا لملكه.
تقاسم الأمراء الأقاليم بعد ذلك، فكان ما عرف في التاريخ بملوك الطوائف، وكان أشهرهم أمرا وأنبههم ذكرا أبو القاسم محمد بن عباد، الذي تلقب بالمعتمد على الله، ملك أشبيلية، فقد «انتظم له - كما يقول المراكشي - في ملكه من بلاد الأندلس ما لم ينتظم لملك قبله، أعني من المتغلبين.»
1
ولكن سوء حظه جعله يستنصر بملك البربر بمراكش يوسف بن تاشفين على الفرنجة، فكان ذلك سبب ضياع دولته؛ ذلك أنه بعد أن جاء ابن تاشفين للأندلس ورأى البلاد وعظمتها وخيراتها، طمع فيها فظل يحتال لغرضه ويبث الدعاة والأنصار في داخل الجزيرة بعد أن عاد لمراكش، حتى تم له الاستيلاء عليها وأسر المعتمد على الله سنة 484ه، ومن ذلك الحين «عد في جملة الملوك واستحق اسم السلطنة، وتسمى هو وأصحابه بالمرابطين.»
2
وفي سنة 515ه قام بمدينة سوس محمد بن عبد الله بن تومرت، الذي لقب نفسه فيما بعد بالمهدي، وجعل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، مسرا في نفسه ثل عرش المرابطين وتأسيس دولة له ولأصحابه على أنقاضهم، وبعد خطوب استطاع هو وخليفته عبد المؤمن بن علي (487-558ه) أن يؤسسا دولة الموحدين بالأندلس، «وكان آخر ما استولى عليه من البلاد التي يملكها المرابطون مدينة مراكش بعد وفاة علي بن يوسف بن تاشفين سنة 357ه.»
3
في عام 558ه توفي عبد المؤمن، فولي الأمر من بعده ابنه أبو يعقوب يوسف الملقب بالمنصور، وهو الذي شجع ابن رشد على التفلسف وشرح أرسطو، وبعد وفاته ولي الأمر ابنه يوسف يعقوب الذي حكم من سنة 580-595ه، وفي عهد هذا الأمير كانت نكبة ابن رشد والمشتغلين بالفلسفة، بعد محاكمة لا ظل للعدل فيها.
هذه لمحة خاطفة عن الأندلس حتى نهاية عصر فيلسوف قرطبة من الناحية السياسية، وأما من الناحية العلمية فسنرى أن هذه البلاد وقد تعاقبت عليها دول مختلفة كانت مصداقا لبعض قوانين ابن خلدون الاجتماعية، ذلك أن هذا الفيلسوف الاجتماعي جعل الطور الثاني من الأطوار التي تمر بها الدولة من أول قيامها إلى انقراضها، «طور الاستبداد - أي: استبداد الأمير على قومه، والانفراد دونهم بالملك، وكبحهم عن التطاول للمساهمة والمشاركة - ويكون صاحب الدولة في هذا الطور معنيا باصطناع الرجال واتخاذ الموالي والأنصار ...»
4
كما يقرر في موضع آخر: أن «العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة، وأن السبب في ذلك أنه متى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان، وهي العلوم والصنائع.»
5
كل هذا الذي يقرره ابن خلدون حق لا شبهة فيه، فإن البحث التاريخي يؤكد لنا أنه تمر بالأمم فترات يطول عهدها أو يقصر تبعا لما يحيط بها من ظروف، يكون همها الأول وغرضها الأساسي المحافظة على كيانها وتوطيد سلطانها، ثم محاولة توسيع هذا السلطان ؛ فإذا استتب لها الأمر ورسخت أقدامها وأمنت على نفوذها وسلطانها، شرعت تستكمل وسائل الأبهة والعظمة، ومن ذلك الضرب بنصيب وافر في المعارف والعلوم القديم منها والحديث.
لهذا ليس بدعا أن ترى الدولة الأموية التي أسسها صقر قريش بالأندلس تعنى قبل كل شيء بتوطيد سلطانها في البلاد التي اقتطعتها من المملكة الإسلامية، وتحاول التوسع في هذا السلطان بافتتاح ما يمكن فتحه مما جاورها من النواحي، ولا عجب إذن حين نرى أمراء هذه الدولة وخلفاءها - إلا في فترات قصيرة - ويتبعهم الأهلون، منصرفين عن الفلسفة والعلوم إلا ما تعلق منها بكتاب الله وسنة رسوله، والفقه واللغة، وما إلى ذلك من العلوم الإسلامية.
ولذلك يقول القاضي صاعد الأندلسي المتوفى سنة 462ه: «إن هذه البلاد استمرت بعد الفتح لا يعنى أهلها بشيء من العلوم إلا بعلوم الشريعة وعلم اللغة، إلى أن توطد الملك لبني أمية بعد عهد أهلها بالفتنة، فتحرك ذوو الهمم لطلب العلوم.»
6
وغني عن البيان أن المشار إليه بكلمة «العلوم» هي العلوم التي من جنس العلوم القديمة الفلسفية التي لم يكن للعرب إلف بها.
وفي هذا يقول ناشرو الجزء الأول والثاني من كتاب نفح الطيب للمقري في مقدمتهم بالفرنسية لهذه الطبعة: «منذ أن استقر العرب في إسبانيا، أسس الأمراء الأمويون أيضا في قرطبة مجمعا للعلوم، حيث كانوا يعلمون على الطريقة الشرقية علم الكلام، والفقه، والفلسفة، والبلاغة، والنحو واللغة.»
7
على أن هذه المؤسسة العلمية لم تسد حاجات الناس بعد أن تنبهوا لطلب العلم، فكان أن رحل كثير من العلماء إلى الشرق (مصر، الحجاز، الشام، العراق)، حيث منبع العلم ورجاله الأعلام. ويعطينا المقري أربعا وثلثمائة ترجمة من تراجم العلماء الرحالة، ولكنه لم يرتب هذه التراجم أي ترتيب أبجدي أو زمني أو منطقي،
8
ومن بين هذه التراجم لا يوجد إلا عدد قليل جدا من العلماء الذين كانوا يعنون بالدراسات الفلسفية؛ وذلك لأننا لا نرى من بين تلك التراجم الكثيرة العدد التي ذكرها المقري إلا «ثلاثين رحالة من الفلاسفة والمتصوفة والزهاد.»
9
وفي عهد الحكم المستنصر بالله (350-366ه /961-976م)، ابتدأت العلوم الفلسفية تأخذ مكانة ملحوظة، فإن قلب هذا الخليفة قد أخذ بشغافه المجد الأدبي أعظم مما أخذ به المجد الحربي الذي شغل أباه عبد الرحمن الناصر، فكان له فخر افتتاح هذه الدراسات العالية، وتمهيد سبلها للراغبين فيها والمتطلعين إليها؛ حتى لقد جمع ما قد ألف فيها من كل نواحي الأرض وأقطارها.
فقد كان كما يقول المقري: «يستجلب المصنفات من الأقاليم والنواحي، باذلا فيها ما أمكن من الأموال حتى ضاقت بها خزائنه، وكان ذا غرام بها، قد آثر ذلك على لذات الملوك.»
10
وقد ظهر ميل الحكم لهذه العلوم أيام أبيه قبل أن يلي الملك، فبدأ يعنى وهو أمير بإيثار أهلها واستجلاب عيون التآليف في القديم منها والحديث، من بغداد ودمشق ومصر وغيرها من بلاد الشرق، وذلك لفرط محبته للعلم، وسمو نفسه إلى التشبه بأهل الحكمة، فكان هذا سببا قويا لكثرة تحرك الناس في أيامه إلى قراءة كتب الأوائل وتعلم مذاهبهم.
11
ولكي نحكم على ما وصلت إليه الأندلس في ذلك العصر من العناية بالعلوم والآداب، نذكر أن بعض المؤرخين ذكروا أن فهرست كتب خزائن الحكم بلغت أربعة وأربعين مجلدا لا تشتمل إلا على أسماء الكتب وحدها، وأن عدد الكتب نفسها بلغ أربعمائة ألف مجلد، استغرق نقلها ستة أشهر.
كما نذكر أيضا أنه قد بلغت العناية بإيثار الأندلس بعيون المؤلفات، أن الحكم كان يعمل على إحضار الثمين من المؤلفات الحديثة العهد قبل أن تظهر في بلاد مؤلفيها، ومن ذلك أنه كما يقول المقري نقلا عن ابن خلدون: «بعث في كتاب الأغاني إلى مؤلفه أبي الفرج الأصبهاني، وأرسل إليه بألف دينار من الذهب العين، فبعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرجه بالعراق.»
وقد كان الحكم نفسه مشاركا إلى حد كبير في النظر في هذه العلوم، كما كان ثقة فيما ينقله، بهذا وصفه ابن الأبار وقال: «عجبا لابن الفرضي وابن بشكوال! كيف لم يذكراه، وقلما كان يوجد كتاب في خزائنه إلا وله فيه قراءة أو نظر في أي فن كان، ويكتب فيه نسب المؤلف ومولده ووفاته وما يتناقل عنه من غرائب الحكايات الخاصة به.»
12
وكان يذكي هذه الجهود ويدفع إلى الأمام تلك الحركة العلمية التي تعد من أزهى الحركات العلمية، ما ران أيام الحكم من التسامح «الذي لا تكاد الأزمنة الحديثة تعرف له نظيرا أو مثالا واحدا، فأولئك العلماء المسيحيون واليهود والمسلمون كانوا يتكلمون لغة واحدة هي العربية، ويتناشدون الأشعار العربية، ويشاركون في الدراسات الأدبية والعلمية نفسها.
وهكذا، سقطت جميع الحواجز التي تفصل بين الناس، وصار الجميع في اتفاق وتعاون في إقامة صرح المدنية المشتركة، وصارت مساجد قرطبة بتلاميذها الذين يعدون بالآلاف مراكز عاملة للدراسات الفلسفية والعلمية.»
13
ولكن هذا العمل المجيد الذي شاده الحكم قضي عليه في شبابه، وهذا العهد الذهبي للدراسات العلمية والفلسفية لم يستمر طويلا، فقد تحالفت عوامل مختلفة على هدم ذلك الصرح العالي الذي أقامه نصير العلم والفلسفة بقرطبة، وعلى إطفاء ذلك المصباح الوهاج الذي كان ينير السبيل أمام طلاب هذه الدراسات.
وذلك أنه بعد وفاة الحكم الثاني المستنصر بالله (366ه/976م)، خلفه ابنه هشام المؤيد، وكان غلاما حدثا لم يجاوز العاشرة من عمره، فاستبد به الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر، وساعدته على هذا والدة الخليفة، ولم يجد الحاجب المنصور بدا من استمالة العامة إليه ولم جميع عناصر الشعب حوله.
وكان من هذا أن استجاب لجهل الجمهور وتعصب الفقهاء، وعمد أول تغلبه على السلطة إلى خزائن الكتب التي بذل الحكم عمره وكل ما يملك في جمعها، وأفرز ما فيها - بمحضر من أهل العلم والدين - من كتب علوم الأوائل القديمة، ما عدا كتب الطب والحساب، وبعد ذلك أمر بإعدامها.
فأحرق بعضها وطرح بعضها في آبار القصر وهيل عليها التراب والحجارة، وغيرت بضروب من التغايير، وفعل ذلك تحببا إلى عوام الأندلس، وتقبيحا لمذهب الحكم عندهم، إذ كانت تلك العلوم مهجورة عند أسلافهم، مذمومة بألسنة رؤسائهم، وكان كل من قرأها متهما عندهم بالخروج من الملة ومظنونا به الإلحاد في الشريعة.
14
وتوج المنصور فعلته بأن أصدر مرسوما حرم به الاشتغال بهذه العلوم!
وهنا يحق للباحث أن يتساءل: هل ارتكب الحاجب المنصور هذا الجرم استمالة للعامة وفقهاء الأندلس ، وتشويها لذكرى الحكم، واستبقاء لسلطته، مع مشاركته سرا في هذه العلوم، كما يشير إلى ذلك المقري نقلا عن ابن سعيد؟
15
أو كان - وهو رجل قد اغتصب السلطة من صاحبها الشرعي الضعيف هشام المؤيد، وكان همه الأول الحرب يضيف فيها نصرا إلى نصر - يكره العلوم التي قد تعارض الدين، ومع هذا ففي العلوم الإسلامية غنى عنها، ففعل ما فعل بقلب راض، وإن كان متأثرا ببعض العوامل التي تقدمت الإشارة إليها؟
على أنه ليس مما يهم كثيرا في هذا البحث أن نحقق الدوافع التي دفعت المنصور إلى إعدام كتب العلوم القديمة، وإن كنا نكاد نجزم بأنه ليس منها الحدب على الدين ودفع ما قد يتعارض مع بعض العقائد التي جاء بها، بل لعل اجتماع تلك العوامل يرجع إلى عمله على ستر فعلته في اغتصابه السلطة، واسترضاء العامة ورجال الدين؛ ليتأتى له المحافظة على الجاه والسلطان.
نقول: إن تحقيق ذلك ليس مما يهمنا كثيرا هنا، وإنما المهم أن نسجل أمورا لها خطرها بالنسبة للفلسفة ومن كانوا يعنون بها: (1)
إن أهل الأندلس لم يكونوا في هذا العصر من محبي الدراسات الفلسفية، ويدلنا على هذا ما سبق أن نقلناه عن صاعد الأندلسي، وما ذكره المقري نقلا عن ابن سعيد في بيان حال أهل الأندلس في فنون العلم من أن «كل العلوم لها حظ واعتناء إلا الفلسفة والتنجيم؛ فإن لهما حظهما عند خواصهم، ولا يتظاهر بهما خوف العامة، فإنه كلما قيل: فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم، أطلقت عليه العامة اسم زنديق وقيدت عليه أنفاسه، فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يرفع أمره للسلطان، أو يقتله السلطان تقربا لقلوب العامة، وكثيرا ما كان يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت، وبذلك تقرب المنصور بن أبي عامر لقلوبهم أول نهوضه.»
16 (2)
إنه لهذا؛ وبعد مرسوم الحاجب المنصور بتحريم الاشتغال بالفلسفة، صار الذين يشتغلون بها يستخفون حتى عن أصدقائهم الحميمين ، وذلك خشية أن يحكم عليهم بالزندقة والإلحاد إذا افتضح أمرهم.
17
كما كان هؤلاء الذين استمروا يحملون شعلة التفلسف عرضة كذلك لكثير من المحن والأرزاء، بل لفقدان الحياة.
فقد جاء في ترجمة ابن باجة المتوفى سنة 533ه أنه كان «علامة وقته وأوحد زمانه، وبلي بمحن كثيرة وشناعات من العوام، وقصدوا إهلاكه مرات وسلمه الله منهم.»
18
وكذلك يذكر لنا ابن أبي أصيبعة في ترجمة الحفيد أبي بكر بن زهر، أن المنصور أبا يوسف يعقوب من خلفاء الموحدين، وقد ولي سنة 580ه، قصد ألا يترك شيئا من كتب المنطق والحكمة باقيا في بلاده، وأباد كثيرا منها بإحراقها بالنار، وتوعد بكبير الضرر من يضبط مشتغلا بهذه العلوم أو عنده شيء من كتبها.
19
وقد استمر الحال كذلك - إلا في فترات قصيرة - إلى أيام ابن رشد، فقد روى لنا المراكشي خبر أول اتصال بينه وبين أمير المؤمنين أبي يعقوب من الموحدين، وفيه أنه عندما دخل عليه وجده وابن طفيل وحدهما، وبعد أن سأله عن اسمه واسم أبيه ونسبه قال له: ما رأيهم (يعني الفلاسفة) في السماء أقديمة هي أم حادثة؟ فأدرك ابن رشد الحياء والخوف، وأخذ يتعلل وينكر اشتغاله بالفلسفة.
20
وسنورد في الفصل التالي الخاص بحياة ابن رشد كثيرا من هذه الشواهد التي تبين بجلاء كيف كانت الفلسفة علما ممقوتا بالأندلس، وكيف كان رجالها وطلابها مضطهدين في هذه البلاد وغيرها من البلاد الإسلامية. (3)
برغم هذا وذاك كله لم تمت الفلسفة باضطهاد أهلها وإبادة أكثر مؤلفاتها، وظل هناك جماعة تحمل شعلة التفلسف وتعنى بالدراسات العقلية النظرية وبكتب الأوائل.
وذلك أنه قد أفلت من محنة الحاجب المنصور بعض الكتب العلمية والفلسفية، فانتشرت في البلاد كما انتشر أمثالها من الكتب التي بيعت مع ما كان من الذخائر بقصر قرطبة أيام فتنة البربر، أو التي نهبت عند دخول البربر قرطبة واقتحامهم لها عنوة.
21
وقد ظلت هذه الكتب تنتقل من يد ليد، سرا مرة وجهرا أخرى، وأحب شيء إلى الإنسان ما منع، وساعد على هذا اشتغال قرطبة والقابضين على السلطان بالحرب الأهلية والاضطرابات والثورات من الخارجين عليهم، من أواخر القرن الرابع إلى أوائل الخامس الهجري، عن تعقب من يشتغل بالدراسات الفلسفية.
22
ويضاف إلى هذه العوامل أن بعض الأمراء الذين ولوا الحكم بالأندلس كانوا يضمرون حب الفلسفة ويشجعون التفلسف سرا أحيانا، وأحيانا كان هؤلاء العلماء يلقون لديهم قدرا كبيرا من الحماية والتشجيع جهرا، فقد كان مالك بن وهيب الإشبيلي من الفلاسفة الظاهرين، ومع هذا فقد استدعاه يوسف بن تاشفين في حضرته وجعله عالمه وجليسه.
23
وكذلك يذكر لنا القاضي مروان الباجي أن المنصور أبا يوسف يعقوب من الخلفاء الموحدين، وقد مر اسمه آنفا، لما قصد إعدام كتب المنطق والحكمة عهد بالأمر إلى الحفيد أبي بكر بن زهر، وأراد بذلك «أنه إن كان عند ابن زهر شيء من كتب المنطق والحكمة لم يظهر، ولا يقال عنه إنه يشتغل بها، ولا يناله مكروه بسببها.»
24
وشاء الحسد أن يحمل بعض أعداء ابن زهر على السعاية به إلى المنصور بأنه يعنى بهذه العلوم وعنده الكثير من كتبها، وعمل بذلك محضر شهد عليه كثيرون، ولكن النتيجة لم تكن فحص هذا الاتهام، بل كانت عقاب الشاكي والحكم بسجنه، ثم قال المنصور: «إنني لم أول ابن زهر في هذا حتى لا ينسبه أحد إلى شيء منه، ولا يقال عنه ...»
25
وهذا يدل في رأينا على أن اضطهاد المشتغلين بالفلسفة كان مرده في كثير من الحالات إلى الرغبة في استمالة العامة والفقهاء، فإن على هاتين الطائفتين تقوم الدولة غالبا ويستمر السلطان للقائمين به. (4)
بل إن الخليفة أبا يعقوب يوسف بن عبد المؤمن كان شديد الميل للفلسفة، فأمر بجمع كتبها، فاجتمع له منها قريب مما اجتمع للحكم المستنصر بالله الأموي،
26
وإنه لم يزل يجمع الكتب من أقطار الأندلس والمغرب، ويبحث عن العلماء وخاصة أهل علم النظر إلى أن اجتمع له ما لم يجتمع لملك قبله ممن ملك المغرب.
27
ثم كان منه أن اصطفى الفيلسوف ابن طفيل الذي لم يزل يجمع إليه العلماء من جميع الأقطار، وينبه عليهم ويحضه على إكرامهم.
وفي حب أبي يعقوب هذا الفلسفة ورجالها نشير إلى ما كان من تشجيعه لابن رشد وطلبه منه أن يشرح أرسطو، وسيجيء الحديث عن هذا بالتفصيل.
هذا، وكل تلك الأمور التي نسجلها هنا تدلنا بوضوح على تأصل الفلسفة في تلك البلاد، على كره من أهلها للفلسفة وما إليها بسبيل، حتى إنه لما عبر عبد المؤمن بن علي البحر إلى الأندلس وبايعه وجوهها، جلس للناس وللشعراء مجلسا حافلا، فكان أول من أنشده مادحا له أبو عبد الله محمد بن حيوس قصيدة له جاء فيها:
بلغ الزمان بهديكم ما أملا
وتعلمت أيامه أن تعدلا
وبحسبه أن كان شيئا قابلا
وجد الهداية صورة فتشكلا
28
وهذا دليل على أن بعض الأفكار الفلسفية وهي هنا المادة والصورة، قد تأصلت في الأعماق حتى جرت شعرا على ألسنة الشعراء، كما تدل هذه الأمور أيضا على أنه كما يقول «رينان» بحق: كل الجهود التي بذلت لهدم الفلسفة لم يكن منها إلا أنها أذكتها؛ فهذا سعيد الطليطلي يؤكد أن دراسات العلوم القديمة في زمنه (1068م) كانت أكثر ازدهارا من أي زمن مضى.
29
كما تدل كذلك على أن ابن رشد قد جاء بعد عصر عقلي كبير زاهر، وإن كانت هذه الدراسات وقفت في الأندلس فجأة لعوامل مختلفة، ومن هذه العوامل التعصب الديني والانقلابات السياسية، والحروب التي قام بها الفرنجة، حتى إنه بموت ابن رشد سنة 495ه/1198م، فقدت الفلسفة الإسلامية آخر ممثل ونصير لها.
الفصل الثاني
ابن رشد
حياته - نكبته - مؤلفاته (1) حياته
هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد، من أكبر فلاسفة الإسلام، الشهير بالشارح (أي: شارح أرسطو) وبالحفيد، ولد بقرطبة سنة (520ه/1126م) من أسرة لها منذ زمن طويل المركز العالي المرموق في العلم والقضاء، فجده - ويعرف مثله بابن رشد - كان قاضي القضاة بالأندلس كلها، وأمير الصلاة بالمسجد الجامع بقرطبة، ولم يصل بالصدفة لهذا المركز الخطير؛ فقد كان - كما يقول ابن بشكوال - فقيها عالما حافظا للفقه، مقدما فيه على جميع أهل عصره، وكان الناس يلجئون إليه ويعولون في مهماتهم عليه،
1
إذ كان مع رياسته في العلم من أشهر أصحاب النفوذ والجاه في عهد المرابطين.
وبعد أن تقلد القضاء مدة غير قصيرة استعفى منه، فأجيب إلى طلبه، فتوفر على نشر كتبه وتواليفه ومسائله وتصانيفه، ومن أهم كتبه مجموع فتاويه المحفوظ بالمكتبة الأهلية بباريس.
هذا جده؛ أما والده فكان له على ما يقال ما يشبه هذا المركز في العلم والقضاء، وقد ولد على ما يرويه ابن بشكوال سنة 487ه وتوفي سنة 563ه، ومن الأقوال المأثورة في شرفه ومنزلته أنه يكفيه أن يكون ابن ابن رشد الجد وأبا ابن رشد الحفيد! •••
وقد ولد فيلسوفنا سنة 520ه/1126م بمدينة قرطبة، وهي سوق العلم ومركز العلماء في ذلك الحين، فقد روى المقري أنه «جرت مناظرة في مجلس ملك المغرب المنصور يعقوب، بين الفقيه أبي الوليد ابن رشد وبين الرئيس أبي بكر ابن زهر، فقال ابن رشد لابن زهر في تفضيل قرطبة: ما أدري ما تقول! غير أنه إذا مات عالم بإشبيلية؛ فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع آلاته حملت إلى إشبيلية.» ثم يختم راوي هذه المناظرة الطريفة الكلام بقوله: «وقرطبة أكثر بلاد الله كتبا.»
2
نشأ ابن رشد في هذا الوسط العلمي، فدرس ما يدرس أمثاله من الفقه والتوحيد ونحوهما من العلوم الإسلامية، واستظهر على أبيه أبي القاسم «الموطأ» وهو الكتاب الأول والأساسي لمذهب الإمام مالك، فصار في ذلك كله وحيد عصره، ونال مع ذلك حظا وافرا من اللغة والأدب، فكان كما يقول ابن الأبار يحفظ أشعار حبيب والمتنبي، ويكثر غالبا التمثل بها في دروسه ومجالسه.
3
ثم درس الطب أيضا وكان يرجع إلى رأيه فيه كما يرجع إلى رأيه في الفقه، وله فيه كتابه المشهور «الكليات»، ألفه لما كان بينه وبين أبي مروان بن زهر من مودة وألفة وثيقة، والذي ألف في الطب كتابا في الجزئيات، وذلك لتكون جملة كتابيهما عملا كاملا في صناعة الطب.
4
ثم سمت همة ابن رشد إلى تعلم الفلسفة وعلوم الأوائل ، ووصل منها إلى ما لم يدركه سواه، «فكانت له فيها الإمامة دون أهل عصره.»
5
وقصارى القول: صار - كما يقول ابن الأبار - عديم النظير في الأندلس كمالا وعلما وفضلا، كما عرف بالعناية الشديدة بالعلم من صغره إلى كبره، حتى حكي عنه أنه لم يترك الدراسة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه، وليلة زواجه.
ويقول عنه «مونك» بحق: «إنه كان واحدا من أشهر العلماء في العالم الإسلامي، ومن أكثر شراح مؤلفات أرسطو عمقا، كما كان أحد مشاهير الكتاب وأكثرهم خصبا وإنتاجا، ولا عجب، فقد عاش كما يقول «رينان» في بيئة علمية عالية جمعت مشاهير عصره.» وكان يعينه في ذلك استعداد طيب كبير وطبع موات أصيل.
ولا نود أن نقف طويلا فيما يختص بسير ابن رشد في دراساته وتدرجه فيها عند العلماء والشيوخ الذين أخذ عنهم بالتفصيل؛ وذلك لأننا نعتقد أن الأمر جرى على سنة أمثاله، أي إنه أخذ العلم عن والده وشيوخ عصره المتميزين، فقد درس الفقه على والده، كما قلنا آنفا، وعن أبي القاسم بن بشكوال، وأبي مروان بن مسرة، وأبي بكر بن سحنون، وغيرهم من شيوخ الفقهاء.
6
كما درس التعاليم (الرياضيات) والطب على أبي جعفر بن هارون الترجالي الذي لازمه مدة، وأخذ عنه كثيرا من العلوم الحكمية.
7
على أننا نوافق على ما ذهب إليه كل من «رينان» و«مونك» من نفيهما أن يكون ابن باجة من أساتذة ابن رشد في الفلسفة، وأن ابن أبي أصيبعة قد أخطأ حين ذكر ذلك في حياة ابن باجة،
8
فإن هذا قد توفي حين كان ابن رشد طفلا لما يجاوز الثانية عشرة من عمره.
ومن المؤسف ألا يكون ابن أبي أصيبعة قد أمدنا بتاريخ مفصل عن حياة فيلسوف الأندلس ودراساته، وقد كان هذا في مقدوره إذ كتب تاريخه «طبقات الأطباء» بعد وفاته بنحو أربعين عاما! ولعل السبب هو ما نعتقده من أنه قد جرى على سنة كثير من مؤرخي العرب من عدم العناية بالمرحلة الأولى من حياة المترجم؛ إذ لم يكن قد تبين بعد نبوغه .
ومهما يكن من شيء، فإنه من المعروف أن ابن رشد ولي قضاء قرطبة زمنا طويلا، ويدل لذلك وصفه نفسه في ابتداء بعض مؤلفاته أو نهايتها بأنه قاض، وكذلك يؤخذ من هذه المؤلفات أن مهام منصبه واتصاله بالخلفاء الموحدين أوجب أن ينتقل كثيرا ما بين مراكش وإشبيلية وقرطبة.
أما كيف اتصل بخليفة الموحدين الأمير يوسف بن عبد المؤمن، الذي ولي سنة 558ه، بفضل ابن طفيل الذي كان جليس هذا الأمير ومعنيا باجتذاب العلماء والفلاسفة إليه على ما تقدم ذكره، فهذا ما يقصه لنا فيلسوفنا نفسه كما يرويه عبد الواحد المراكشي؛ إذ يذكر أن تلميذ ابن رشد الفقيه الأستاذ أبا بكر بندود بن يحيى القرطبي أخبره أنه سمع الحكيم أبا الوليد يقول غير مرة: «لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب وجدته هو وأبو بكر بن طفيل ليس معهما غيرهما، فأخذ أبو بكر يثني علي ويذكر بيتي وسلفي ويضم إلى ذلك أشياء لا يبلغها قدري، فكان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين بعد أن سألني عن اسمي واسم أبي ونسبي أن قال: ما رأيهم في السماء - يعني: الفلاسفة - أقديمة هي أم حادثة؟ فأدركني الحياء والخوف، فأخذت أتعلل وأنكر اشتغالي بعلم الفلسفة، ولم أكن أدري ما قرر معه ابن طفيل، ففهم أمير المؤمنين مني الروع والحياء، فالتفت إلى ابن طفيل وجعل يتكلم على المسألة التي سألني عنها، ويذكر ما قاله أرسطوطاليس وأفلاطون وجميع الفلاسفة، ويورد مع ذلك احتجاج أهل الإسلام عليهم، فرأيت منه غزارة حفظ لم أظنها في أحد المشتغلين بهذا الشأن المتفرغين له، ولم يزل يبسطني حتى تكلمت فعرف ما عندي من ذلك، فلما انصرفت أمر لي بمال وخلعة سنية ومركب.»
9
ثم كان ابن طفيل نفسه هو الذي طلب من ابن رشد أن يتوفر على تلخيص أرسطو وشرحه، وذلك في حديث جرى بينهما ذكره المؤرخ نفسه، وكذلك صادفت رغبة الخليفة شرح أرسطو ميلا شديدا لدى فيلسوفنا إلى هذا العمل الكبير، فشرع بكل عقله وقلبه في القيام بتحقيق هذه الرغبة بتوضيح أغراض أرسطو الغامضة، وتلخيص ما كتب، وشرحه ليقرب مأخذه ويسهل تناوله، وساعده على هذا العمل الشاق كما جاء في حديث ابن طفيل عنه، جودة في الذهن، وصفاء في القريحة، وميل شديد للفلسفة.
10
كان فيلسوفنا يشعر إذن بعظم المهمة التي ألقاها القدر على عاتقه، وبأن أعماله باعتباره رجلا من رجال الدولة تكاد لا تدع له الوقت الكافي للقيام بما شرع فيه؛ ولذلك نراه في آخر الجزء الأول من تلخيصه «للمجسطي» يقول إنه وجب عليه أن يقتصر في شرحه على إيراد النظريات التي لا يمكن الاستغناء عنها، ويشبه نفسه برجل رأى فجأة النار تلتهم منزله، وليس لديه من الوقت إلا ما يلزم لاستنقاذ أثمن ما عنده من متاع وما لا غنى عنه للحياة.
كما نراه يخصص كل وقته ليؤدي كما ينبغي رسالته التي أخذها على نفسه، فيعتزل منصبه عند تقدم السن به، وذلك ليتوفر على أعماله الفلسفية خشية أن يحين أجله قبل أن ينتهي منها.
ولما توفي الخليفة يوسف بن عبد المؤمن، وولي الحكم بعده ابنه يعقوب الملقب بالمنصور سنة 580ه، نال ابن رشد لديه الحظوة والمنزلة التي كانت له لدى أبيه، إلا أن القدر كان له بالمرصاد، فابتدأ سوء الظن به وبعقيدته، وكان هذا مقدمة لنكبته والحكم بنفيه. •••
وقبل البحث في هذا، نرى أن في حياة ابن رشد حتى الآن ما يستدعي أن نقف وقفات قصيرة:
أولا:
لقد كان إمام عصره في الفقه وعلوم الفلسفة على اختلاف موضوعاتها، وكان إلى ذلك من أشد الناس تواضعا، فهل هذا كان علة لذاك؟ يعتقد أن ذلك هو الحق، وأنه الذي يتفق مع طبائع الأمور.
إن الجاهل إذا عرف مسألة من مسائل العلم، ولو كان أمرها هينا، تاه بها وظن أنه قد أوتي من العلم ما لم يؤت غيره، وليس كذلك العالم الذي يتنقل من ضرب من ضروب المعرفة إلى ضرب آخر، وكلما فرغ من حل مشكلة علمية تبدت له أخرى، فهو دائما في كد عقلي وتعب فكري.
وخاتمة المطاف هي شعوره بقلة علمه، وإحساسه بعجز عقله عن أن يحيط بالكون كله: أراضيه وسماواته وما فيها من الملأ الأعلى، وما فوق ذلك من مقام الألوهية الذي جل عن أن يحيط به عقل أو إدراك ، والنتيجة الطبيعية والنفسية كذلك أن يغدو كلما عمق علمه لان جانبه واشتد تواضعه.
وثانيا:
إن الذين ترجموا له وصفوه بأن الدراية كانت أغلب عليه من الرواية، أي إن النظر العقلي والقياسي في الأحكام الفقهية كان أغلب عليه من الاعتماد على كل ما يقع له من الأحاديث، وأقوال الفقهاء السابقين، وهذا ما يتيح لنا أن نقرر أن نزعته إلى النظر العقلي والتفلسف بدت أول ما بدت في الفقه.
ذلك بأن الذي لا يكتفي بالرواية والاعتماد على ما يرويه، بل يعمل عقله ويجتهد في البحث عن علل الأحكام الشرعية، لا يكون بعيدا عن الفلسفة، بل يكون قد دخل فيها من أحد أبوابها، وإذن فمن الممكن أن نرى في ابن رشد الفقيه في هذه المرحلة، ابن رشد الفيلسوف فيما يأتي من الزمان.
وثالثا:
إن الدين في رأيه يرمي بشعائره وأوامره إلى غايات خلقية واجتماعية بها صلاح المجتمع وسعادته، وهذه النظرة نراها واضحة تمام الوضوح في خاتمة كتابه القيم «بداية المجتهد ونهاية المقتصد». فقد بين في هذا الموضع أن من أوامر الدين وأحكامه ما يرجع إلى تربية الفضائل النفسية، ومنها ما الغرض منه تثبيت العدالة الخاصة والعدالة العامة في الأقوال وغير الأقوال، ومنها ما هو سنن واردة في الاجتماع الذي هو شرط في حياة الإنسان وحفظ فضائله العملية والعلمية، إلى آخر ما قال.
وهكذا نلمح هذه النظرية الفلسفية الاجتماعية في كثير من آرائه الفقهية، وذلك في كثير من المواضع من هذا الكتاب.
ورابعا وأخيرا:
إن فيلسوفنا كان ذا حظوة وجاه عظيمين عند الأمراء والخلفاء، فلم يفد من ذلك كثيرا لنفسه، بل قصر هذا على خير أهل بلده خاصة والأندلس عامة، والأمر في ذلك جد طبيعي.
إنه قد وهب نفسه للعلم، وجعل غايته معرفة الحقيقة، ولذته في أن يدرك من هذه الحقيقة طرفا بعد طرف، وقد صارت هذه اللذات هي التي تستهويه حتى لا يوازن بينها وبين لذات جمع المال ورفاهة العيش وطيب الحياة.
ومن ثم، هو لا يبالي هذه اللذات المادية وأمثالها، ما دام قد جعل همه المعرفة الحقة وما يكون في إدراكها من لذة عقلية روحية هي أسمى ضروب اللذات، ومن أجل هذا كانت نزعته الإنسانية الاجتماعية، فهو يجد لذة أخرى في أن ينفق من جاهه وماله على المحرومين من اللذات العقلية التي ينالها بعقله وتفكيره.
والآن بعد أن عرفنا حياة ابن رشد والبيئة التي كان يعيش فيها وحظه الوافر من العقل والتفكير، وبعد ما عرفنا أيضا ما كان من حظ الدراسات الفلسفية من رعاية وتقدير، أو زراية وإنكار، ومع ما كان يلمسه هو نفسه من سوء الظن بالفلسفة ورجالها وطلابها، الآن بعد ذلك كله ماذا كان يحسه رجل مثله: عقلا وتفكيرا، ومنصبا وجاها، وحبا للفلسفة وتقديرا لها وحرصا على تأمين سبيلها ببيان أنها أخت الدين؟
إنه كان يحس بلا ريب أن عليه أن يتجه للانتصاف لها بعد أن نال منها الغزالي نيلا كبيرا، وأن يعمل كل ما يستطيع للتوفيق بينها وبين الدين حتى يعيش الفلاسفة بسلام، إلا أن أحداث الزمن لم تجعله يصل من ذلك إلى ما كان يرجوه. (2) نكبته ونفيه
بلغ ابن رشد من الحظوة لدى الخليفة يعقوب المنصور أن ارتفعت الكلفة بينهما أو كادت، فلم يكن يلزم نفسه رعاية ما يراعيه حاشية الملوك من الملق والأدب الزائد المصطنع، فكان كما يرويه لنا القاضي أبو مروان الباجي «متى حضر مجلس المنصور وتكلم معه أو بحث عنده في شيء من العلم، يخاطب المنصور بأن يقول: تسمع يا أخي!»
11
وربما قربه هذا الخليفة في مجلسه على كل أصحابه، ففي سنة 591ه حينما جاء المنصور إلى قرطبة في طريقه لغزو «ألفونس» ملك قشتالة وليون، استدعى ابن رشد وأجلسه إلى جانبه، وقربه أكثر من المعتاد وجاوز به أقرب الناس إليه، وغمره بعطفه الكبير حتى قال لمهنئيه من أصحابه وتلامذته بعد أن خرج من عنده: «والله إن هذا ليس مما يستوجب الهناء به، فإن أمير المؤمنين قد قربني دفعة إلى أكثر مما كنت أؤمله أو يصل رجائي إليه.»
12
على أن الأيام السيئة في حياة ابن رشد قد جاءت، فإن المراكشي يذكر أن المنصور أخذ عليه في شرحه لكتاب الحيوان لأرسطو أنه قال عند ذكره للزرافة: «وقد رأيتها عند ملك البربر.»
13
يريد بهذا بلاط مراكش، وقد رأى المنصور في ذلك إهانة له ولأسرته المالكة، ولكنه أسرها في نفسه، ولم يشفع لابن رشد ما اعتذر به - كما يذكر ابن أبي أصيبعة
14 - من أنه كتب «ملك البرين»، يريد إفريقية والأندلس، ولكن القارئ غلط لتقاربهما في الكتابة.
وكذلك يروي المراكشي أيضا أن جماعة من أهل قرطبة الذين كانوا ينازعون ابن رشد المجد والشرف، أخذوا يتلمسون الوسائل لإيغار صدر الخليفة عليه، كما يحدث كثيرا بين النظراء في كل بلد، وأسعدهم الحظ بأن رأوه كتب بخطه في بعض تلاخيصه حاكيا عن بعض قدماء الفلاسفة: «فقد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة.» فطاروا بهذه الجملة للمنصور وأوهموه أنها من كلام ابن رشد نفسه، وليست حكاية منه لقول غيره من قدماء الفلاسفة.
وكان أن استدعاه الخليفة في محفل ضم رجال الدين والرؤساء والأعيان، وبعد محاكمة صورية لا ظل فيها للعدل أمر بطرده ونفيه ونفي من كان معروفا على مذهبه، وبإحراق كتب الفلسفة كلها ما عدا الطب والحساب وما يتوصل به من علم النجوم إلى معرفة مواقيت الصلاة واتجاه القبلة.
15
ثم أمر الخليفة بكتابة منشور للبلاد كلها فيه فضيحة هؤلاء وتقرير مروقهم من الدين، ووجوب الاعتبار بهم وبمصيرهم، وقد روى الأنصاري هذا المنشور بعد أن تكلم عن حياة ابن رشد، وعن السعايات التي كانت ضده من أعدائه الذين كانوا لا يسأمون من الانتظار، ويترقبون أوقات الفرار، فقال:
16 «... فلما كان التلوم من المنصور بمدينة قرطبة، وامتد بها أمد الإقامة، وانبسط الناس لمجالس المذاكرة، تجددت للطالبين آمالهم وقوي تألبهم واسترسالهم؛ فأدلوا بتلك الألقيات، وأوضحوا ما ارتقبوا فيه من شنيع السوءات الماحية لأبي الوليد كثيرا من الحسنات، فقرئت بالمجلس، وتدوولت أغراضها ومعانيها وقواعدها ومبانيها، فخرجت بما دلت عليه أسوأ مخرج، وربما ذيلها مكر الطالبين.»
فلم يمكن عند اجتماع الملأ إلا المدافعة عن شريعة الإسلام، ثم آثر الخليفة فضيلة الإبقاء، وأغمد السيف التماس جميل الجزاء، وأمر طلبة مجلسه وفقهاء دولته بالحضور بجامع المسلمين، وتعريف الملأ بأنه مرق من الدين، وأنه استوجب لعنة الضالين، وأضيف إليه القاضي أبو عبد الله بن إبراهيم الأصولي في هذا الازدحام، ولف معه في حريق هذا الملام، لأشياء أيضا نقمت عليه في مجالس المذاكرة وفي أثناء كلامه مع توالي الأيام.
فأحضرا بالمجلس الجامع الأعظم بقرطبة، وتكلم القاضي أبو عبد الله بن مروان فأحسن، وذكر ما معناه أن الأشياء لا بد في كثير منها أن تكون لها جهة نافعة وجهة ضارة كالنار وغيرها، فمتى غلب النافع على الضار عمل بحسبه، ومتى كان الأمر بالضد فبالضد.
فابتدر الكلام الخطيب أبو علي بن حجاج، وعرف الناس بما أمر به من أنهم مرقوا من الدين وخالفوا عقائد الموحدين، فنالهم ما شاء الله من الجفاء، وتفرقوا على حكم من يعلم السر وأخفى.
ثم أمر أبو الوليد بسكنى «أليسانه»، لقول من قال: إنه ينسب في بني إسرائيل وإنه لا يعرف له نسبة في قبائل الأندلس. وعلى ما جرى عليهم من الخطب، فما للملوك أن يأخذوا إلا بما ظهر، فإليهما تنتهي البراعة في جميع المعارف، وكثير من انتفع بتدريسهم وتعليمهم، وليس في زمانهما من هو بكمالهما ولا من نسج على منوالهما، وتفرق تلاميذ أبي الوليد أيدي سبا، ويذكر أن من أسباب نكبته هذه اختصاصه بأبي يحيى أخي المنصور والي قرطبة.
وأخبر عنه أبو الحسن بن قطرال أنه قال: أعظم ما طرأ علي في النكبة أني دخلت أنا وولدي عبد الله مسجدا بقرطبة، وقد حانت صلاة العصر، فثار لنا بعض سفلة العامة فأخرجونا منه.
وكتب عن المنصور في هذه القضية كاتبه أبو عبد الله بن عياش كتابا إلى مراكش وغيرها يقول فيه فيما يخص حالهما (هذا هو المنشور): وقد كان في سالف الدهر قوم خاضوا في بحور الأوهام، وأقر لهم عوامهم بشغوف عليهم في الأفهام، حيث لا داعي يدعو إلى الحي القيوم ولا حاكم يفصل بين المشكوك فيه والمعلوم، فخلدوا في العالم صحفا ما لها من خلاق، مسودة المعاني والأوراق، بعدها عن الشريعة بعد المشرقين وتباينها تباين الثقلين، يوهمون أن العقل ميزانها والحق برهانها، وهم يتشعبون في القضية الواحدة فرقا، ويسيرون فيها شواكل وطرقا، ذلكم بأن الله خلقهم للنار وبعمل أهل النار يعملون، ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون.
ونشأ منهم في هذه السمحة البيضاء شياطين إنس
يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ،
يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ،
ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ، فكانوا عليها أضر من أهل الكتاب وأبعد عن الرجعة إلى الله والمآب؛ لأن الكتابي يجتهد في ضلال ويجد في كلال، وهؤلاء جهدهم التعطيل وقصاراهم التمويه والتخييل.
دبت عقاربهم في الآفاق برهة من الزمان، إلى أن أطلعنا الله سبحانه منهم على رجال كان الدهر قد أملى لهم على شدة حروبهم، وعفا عنهم سنين كثيرة على كثرة ذنوبهم، وما أملى لهم إلا ليزدادوا إثما، وما أمهلوا إلا ليأخذهم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما.
وما زلنا وصل الله كرامتكم نذكرهم على مقدار ظننا فيهم، وندعوهم على بصيرة إلى ما يقودهم إلى الله سبحانه ويدنيهم، فلما أراد الله فضيحة عمايتهم وكشف غوايتهم، وقف لبعضهم على كتب مسطورة في الضلال، موجبة أخذ صاحبها بالشمال، ظاهرها موشح بكتاب الله، وباطنها مصرح بالإعراض عن الله، لبس منها الإيمان بالظلم، وجيء منها بالحرب الزبون في صورة السلم، مزلة للأقدام، وهم يدب في باطن الإسلام، أسياف أهل الصليب دونها مفلولة، وأيديهم عما يناله هؤلاء مغلولة، فإنهم يوافقون الأمة في ظاهرهم وزيهم ولسانهم، ويخالفونهم بباطنهم وغيهم وبهتانهم.
فلما وقفنا منهم على ما هو قذى في جفن الدين، ونكتة سوداء في صفحة النور المبين، نبذناهم في الله نبذ النواة، وأقصيناهم حيث يقضي السفهاء من الغواة، وأبغضناهم في الله كما أننا نحب المؤمنين في الله، وقلنا: اللهم إن دينك هو الحق المبين، وعبادك هم الموصوفون بالمتقين، وهؤلاء قد صدفوا عن آياتك وعميت أبصارهم وبصايرهم عن بيناتك، فباعد أسفارهم وألحق بهم أشياعهم حيث كانوا وأنصارهم.
ولم يكن بينهم إلا قليل وبين الإلجام بالسيف في مجال ألسنتهم، والإيقاظ بحده من غفلتهم وسنتهم، ولكنهم وقفوا بموقف الخزي والهوان، ثم طردوا من رحمة الله،
ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون .
فاحذروا وفقكم الله هذه الشرذمة على الإيمان، حذركم من السموم السارية في الأبدان، ومن عثر له على كتاب من كتبهم فجزاؤه النار التي بها يعذب أربابه، وإليها يكون مآل مؤلفه وقارئه ومآبه، ومتى عثر منهم على مجد في غلوائه، عم عن سبيل استقامته واهتدائه، فليعاجل فيه بالتثقيف والتعريف،
ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ،
أولئك الذين حبطت أعمالهم ، و
أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون .
والله تعالى يطهر من دنس الملحدين أصقاعكم، ويكتب في صحائف الأبرار تضافركم على الحق واجتماعكم، إنه منعم كريم.
وبعد أن روى الأنصاري اتهام ابن رشد بالمروق من الدين والحكم بنفيه، والمنشور الذي صدر على أثر هذا على ذلك النحو، نقل عن أحد رجال القضاء الذين اتصلوا بابن رشد بقرطبة أنه رغم رعاية فيلسوفنا لشعائر الدين كما ينبغي قد زل زلة هي أعظم الزلات.
وذلك أنه شاع أن ريحا عاتية تهب في يوم كذا تهلك الناس، واستفاض ذلك حتى اشتد جزع الناس واتخذوا الغيران والأنفاق تحت الأرض توقيا منها، فاستدعى والي قرطبة طلبتها وقاضيها - وهو ابن رشد - وفاوضهم فيها، وكان معهم ابن بندود.
فلما انفض الجمع تكلم هذان في شأن هذه الريح، فقال أبو محمد عبد الكبير، وكان حاضرا في أثناء المفاوضة: إن صح أمر هذه الريح فهي ثانية الريح التي أهلك الله تعالى بها قوم عاد؛ إذ لم تعلم ريح بعدها يعم إهلاكها، فانبرى له ابن رشد ولم يتمالك أن قال: والله وجود قوم عاد ما كان حقا، فكيف سبب هلاكهم! فسقط في أيدي الحاضرين، وأكبروا هذه الزلة التي لا تصدر إلا عن صريح الكفر والتكذيب لما جاءت به آيات القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. •••
تلك هي الأسباب التي ذكرها المؤرخون المسلمون لنكبة ابن رشد، فهل كانت وحدها الأسباب الحقيقة؟ أو هناك سبب آخر أهم منها جميعا؟ ذلك ما بحثه المستشرقون الذين عنوا بتأريخ التفكير الإسلامي ورجاله في المشرق والمغرب.
ها هو ذا «مونك» يرى مع ذلك أن تعصب الموحدين يكفي وحده لتفسير تصرف المنصور ضد ابن رشد، ويستشهد لهذا أن ابن أبي أصيبعة ذكر في حياة ابن زهر أن المنصور أمره بعقاب الذين يدرسون الفلسفة الإغريقية، وبمصادرة كتب الفلسفة والمنطق وإحراقها، سواء ما يوجد منها في المكتبات العامة أو الخاصة المملوكة للأفراد.
17
وكذلك يذهب «رينان» إلى هذا الرأي؛ إذ يرى أن التعصب ضد الفلسفة ورجالها وطلابها كان السبب الحقيقي للمحنة التي عاناها ابن رشد، وذلك إذ يقول: «ومهما يكن ما يقصه علينا هؤلاء المؤرخون، فإنه مما لا يشك فيه أن الفلسفة كانت السبب الحقيقي لنكبة ابن رشد، فقد خلقت له أعداء أقوياء أمكنهم أن يجعلوه مشتبها في دينه لدى المنصور، وكذلك كان الأمر بالنسبة لأمثاله الذين يثير ما لهم من جاه ونفوذ أعداءهم وخصومهم، فيكونون غرضا للاتهام.»
18
ثم يؤكد بعد بضع صفحات من كتابه، فيذكر أن كل الفلاسفة الإسبانيين في عصر ابن رشد كانوا مثله غرضا للاضطهاد، ويعلل هذا الرأي الذي انتهى إليه بأن الموحدين يرجعون مباشرة إلى مدرسة الغزالي، فإن مؤسس هذه الأسرة في إفريقية كان أحد تلامذة هذا العدو الشديد للفلسفة، ويسوق قبل هذا وبعده مثلا متعددة لاضطهاد الفلاسفة أيضا في غير الأندلس من نواحي العالم الإسلامي.
على أنه ينبغي للباحث أن يتساءل بعد هذا وذاك عما إذا كان تعصب الموحدين ضد الفلسفة، كما يرى مونك ورينان، هو السبب الحقيقي الذي يكفي لتعليل نكبة ابن رشد وأصحابه.
لقد ساق «مونك» وهو بسبيل التدليل لرأيه ما سبق أن ذكرناه من تكليف المنصور لأبي بكر بن زهر إعدام كتب الفلسفة والمنطق، وأخذ المشتغلين بها بالعقاب، ولكن فاته أن المؤرخ الذي أورد هذا الخبر - وهو ابن أبي أصيبعة - ذكر أن المنصور خص ابن زهر بذلك لكي «إن كان عنده شيء من كتب المنطق والحكمة لم يظهر، ولا يقال إنه يشتغل بها ولا يناله مكروه بسببها.»
19
ولهذا لما اتهمه بعض أعدائه بأنه معني بالحكمة وعنده الكثير من كتبها، وشهد معه كثيرون بذلك، كان جزاؤه السجن ورد قوله لما يعرفه المنصور كما قال في ابن زهر «من متانة دينه وعقله.»
20
وكذلك ساق نفس المؤرخ على أثر ما تقدم أن ابن زهر هذا كان له تلميذان يدرسان عليه الطب، فأتياه يوما ومعهما كتاب في المنطق، فلما عرفه رمى به وقام ليضربهم فجروا أمامه وهو يعدو وراءهم حتى فاتوه.
وبعد بضعة أيام حضرا معتذرين بأنهم لم يكونا يعرفان ما في هذا الكتاب الذي أخذاه من غلام وهما في طريقهما إليه، فتظاهر بقبول ما اعتذرا به، ثم أمرهم بحفظ القرآن، والاشتغال بالتفسير والحديث والفقه، والمواظبة على رعاية الأمور الدينية؛ فلما امتثلا لأمره وصارت تلك الأمور عادة لهما، أخرج لهما كتاب المنطق وقال: «الآن صلحتم لأن تقرءوا هذا الكتاب وأمثاله علي، وأشغلهم فيه.»
21 •••
من هذا يظهر لنا أن بعض المشتغلين بالفلسفة كانوا غير أهل لها؛ إذ كانوا لا يقدرون على فهم ما تثير من مسائل ومشاكل، وربما كان الواحد منهم يخرج بسببها عن بعض ما جاء به القرآن، ويكونون بذلك سببا لإثارة رجال الدين ومن يليهم، واضطهاد الفلسفة ورجالها، وهذا فرض قريب من الحقيقة على ما يلوح لنا إذا لاحظنا أن القرآن حض في كثير من آياته على النظر العقلي فيما خلق الله من السماوات والأرض وما بينهما من عوالم مختلفة.
ولسنا نقصد بهذا إنكار أن الفلسفة كانت علما ممقوتا في الأندلس في بعض الأزمان، فلا يكاد يسلم المشتغل بها من اضطهاد، ولا أن ننكر أن بعض الذين عنوا بها قتلوا في سبيلها، وبعضهم كانت حياتهم عرضة للخطر بسببها، هذا وذاك حق لا سبيل لإنكاره، وقد زخرت كتب التاريخ بكثير من الأدلة عليه.
22
ولكننا نرى مع ذلك أن اضطهاد الفلاسفة بعامة وابن رشد بخاصة، كان من أسبابه الهامة التي ليس من الحق إغفالها ما كان يرى من خروج بعضهم فيما ذهب إليه من آراء عن بعض ما جاء به الدين بلا ريب، إما في الواقع وإما لأن الجهل يخيل ذلك للعامة ورجال الدين، فيندفعون للتعصب ضدهم ويجاريهم الولاة والأمراء والخلفاء أحيانا كسبا لقلوبهم، واستدامة لسلطانهم، أو لأنهم يرون أنهم على حق.
وهل من الدلائل على صحة ما نراه أن الخليفة المنصور نفسه لم ير بأسا في اشتغال أبي بكر بن زهر بالفلسفة التي حرم الاشتغال بها؛ وذلك لما يعلمه فيه من متانة دينه وعقله، وأن ابن زهر هذا أبى على اثنين من تلاميذه أن يشتغلا بشيء منها قبل إتقان علوم الدين واعتياد القيام بالشعائر الدينية، ثم أباح لهما ذلك عندما وصلا إلى ما أراد منهما.
وكذلك من الأدلة على صحة ما نذهب إليه: ما رواه الأنصاري من حادث الريح وتكذيب ابن رشد بقوم عاد والريح التي أهلكتهم، فإذا صح هذا كانت نكبة ابن رشد بسبب تكذيبه بما جاء به القرآن، لا بسبب أنه كان مشتغلا بالفلسفة فحسب.
ولنا أن نستدل أيضا بأن هذا الخليفة الذي نكب ابن رشد وأصحابه، قد ساءه كثرة الآراء في الفقه؛ حتى لتكون في المسألة الواحدة خمسة أقوال، فعمل على محو مذهب الإمام مالك الذي كان معمولا به أيامه، وأمر بإحراق كتبه وحمل الناس على العمل بالقرآن والحديث فقط، وتوعد من يخالف ذلك بالعقاب الشديد، وهذا المقصد كما يقول المراكشي، كان مقصد أبيه وجده إلا أنهما لم يظهراه وأظهره هو في عهده.
23
وإذن، فما كان من نكبة ابن رشد واضهاده مع غيره من الفلاسفة يرجع، فيما يرجع إليه من أسباب، إلى الرغبة في وضع حد للتفكير يحول بينه وبين التطرف، سواء أكان ذلك في الفلسفة أم في الأحكام الشرعية، وذلك حتى لا يشتد خلاف الفقهاء وتتعدد الآراء وتتشعب في الدين، وحتى لا يؤدي التفلسف إلى معارضة شيء مما جاء به القرآن أو الدين بصفة عامة.
24
وبخاصة وقد كان هذا الخليفة المنصور رجلا مجيدا لحفظ القرآن ومتون الأحاديث، متمسكا بالدين معليا لسلطانه، مشددا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما كان محبوبا من الشعب حبا شديدا، حتى بلغ الحال أنه لما مات سنة 595ه كذب العامة خبر موته، فكان منهم من يرى أنه ترك الملك وساح في الأرض، وهو مستخف لا يعرف مكانه.
25 •••
ومهما كانت الأسباب التي أدت إلى نكبة ابن رشد وصحبه، فقد نفي هو إلى «أليسانة» كما قلنا من قبل، ونفي أربعة آخرون أمروا أن يكونوا في أماكن أخرى، وبهذا طرد الحزب الديني الحزب الفلسفي كما يقول رينان.
26
وانتهز أعداء ابن رشد وخصومه هذه الفرصة، فأخذوا في هجوه بأشعارهم وامتداح الخليفة المنصور على ما صنع به وبأصحابه، ونكتفي من ذلك ببعض ما قال الحاج أبو الحسين بن جبير:
27
الآن قد أيقن ابن رشد
أن تواليفه توالف
يا ظالما نفسه تأمل
هل تجد اليوم من توالف! •••
لم تلزم الرشد يابن رشد
لما علا في الزمان جدك
وكنت في الدين ذا رياء
ما هكذا كان فيه جدك •••
الحمد لله على نصره
لفرقة الحق وأشياعه
كان ابن رشد في مدى غيه
قد وضع الدين بأوضاعه
حتى إذا أوضع في طرقه
توى لفيه عند إيضاعه
فالحمد لله على أخذه
وأخذ من كان من اتباعه •••
نفذ القضاء بأخذ كل مموه
متفلسف في دينه متزندق
بالمنطق اشتغلوا فقيل حقيقة
إن البلاء موكل بالمنطق
خليفة الله أنت حقا
فارق من السعد خير مرقى
حميتم الدين من عداه
وكل من رام فيه فتقا
أطلعك الله بسر قوم
شقوا العصا بالنفاق شقا
تفلسفوا وادعوا علوما
صاحبها في المعاد يشقى
واحتقروا الشرع وازدروه
سفاهة منهم وحمقا
أوسعتهم لعنة وخزيا
وقلت: بعدا لهم وسحقا
فابق لدين الإله كهفا
فإنك ما بقيت يبقى •••
خليفة الله دم للدين تحرسه
من العدى وتقيه شر كل فئه
فالله يجعل عدلا من خلائقه
مطهرا دينه في رأس كل مائه
ولكن شاءت عدالة الله ألا تطول مدة محنة ابن رشد، فإن المنصور تغير حاله بعد أن عاد إلى مراكش، ومال من جديد للفلسفة وأهلها، وألغى مرسومه بتحريمها، وشهد لديه جماعة بحسن دين ابن رشد وعقيدته، وأنه على غير ما نسب إليه، فعفا عنه وعن أصحابه سنة 595ه واستدعاه إلى مراكش ليكون بحضرته.
إلا أنه لم يلبث طويلا، فقد توفي بمراكش في العام نفسه قبل وفاة الخليفة بيسير، وحملت رفاته إلى قرطبة بعد ثلاثة أشهر حيث دفنت بمقبرة أسرته، وبموته فقدت الفلسفة أكبر نصرائها بالأندلس والعالم الإسلامي عامة. (3) مؤلفاته
ألف ابن رشد كتبا ورسائل كثيرة في الفقه، والطب، والفلك، والإلهيات، والفلسفة بصفة عامة، وغير ذلك كله من العلوم التي كانت معروفة في عصره، وليس من الضروري في هذا البحث سرد هذه المؤلفات والشروح وترتيب كتابتها زمنيا، وبخاصة أننا لن نأتي في هذا بجديد كثير.
ويكفي لمعرفتها الرجوع إلى ابن أبي أصيبعة، وابن الأبار، والذهبي، وإن كان هذا الأخير لم يعمل أكثر من نسخ ما ذكره الأولان.
28
وكذلك يجب الرجوع إلى القائمة الهامة التي تحوي مؤلفاته في المخطوطة رقم 88 بمكتبة الإسكوريال بإسبانيا، وإلى ما كتبه «رينان» في كتابه «ابن رشد ومذهبه» بالفرنسية.
29
فهو أكثر ضبطا وتفصيلا، فقد عرض أولا للرسائل الفلسفية، ثم إلى مؤلفاته في علم الكلام، وعلم الفقه، والفلك والنجوم، والنحو، والطب، وأخيرا إلى نشرة الأب بويج عن مخطوطات ابن رشد الموجودة في أنحاء العالم.
وينبغي أن نلاحظ أن ما نشر بالعربية من مؤلفات فيلسوف الأندلس وشروحه لأرسطو، أقل جدا مما لم ينشر حتى اليوم بهذه اللغة، وأن كثيرا مما كتبه يوجد حتى اليوم باللغة العبرية أو اللاتينية؛ ولذلك نرى واجبا أن تهتم مصر وغيرها من البلاد العربية بنشر كل تراث هذا الفيلسوف العظيم، ومن الخير أن تهتم بذلك الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية، فتؤلف لهذا لجنة من العلماء المختصين الكفاة كما صنعت فيما يختص بابن سينا ومؤلفاته.
الفصل الثالث
التوفيق عند سابقي ابن رشد
الإحساس بالحاجة للتوفيق بين الدين والفلسفة أمر طبيعي يحسه المؤمن المفكر أو الفيلسوف، ومحاولة هذا التوفيق تعتبر إلى حد كبير واجبا لازم الأداء، وذلك ليحقق الانسجام بين معتقده الديني العامر به قلبه، والذي يعتبره فوق كل شك، وإن عسر عليه أحيانا أن يدرك بعض ما جاء به مما لا يتفق تماما والنظر العقلي الصحيح كما سيجيء.
لهذا نجد أمر بحث أو تقرير العلاقة بين الدين والفلسفة له أصله الإغريقي الذي لا ينكر، ونجد تقريبا كل المدارس الفلسفية في العصر القديم تحتفظ بمكان صغير تارة وكبير تارة أخرى للمسائل الدينية، كما نجد مثل هذا لدى «فيلون» اليهودي وأمثاله بالإسكندرية، وعند بعض آباء الكنيسة في العصر الوسيط، بل إن بحث العلاقة بين الدين والفلسفة أو الوحي والعقل، على أي أساس تقوم، كانت طابع التفكير في العصر الوسيط.
وهذا الاتجاه أو وجوب تقرير العلاقة بين الوحي والعقل، لا ينكره ابن رشد ولا غيره من الفلاسفة المسلمين بوجه عام؛ ولذلك نراه يصرح في أكثر من موضع من كتاباته بأن الحكماء من الفلاسفة لا يجيزون الجدل في مبادئ الشرائع، ويرون أنه لا ينبغي أن يتعرض بقول مثبت أو مبطل في مبادئها العامة، وأنه يجب أن نقلد الأنبياء والواضعين لتلك الشرائع فيما جاءوا به من مبادئ العمل وصنوف العبادات التي تؤدي للمصلحة الخلقية والاجتماعية.
1
وقد يكون من المفيد هنا أن نشير إلى أن الأوضاع الممكنة التي يصح أن تكون بين الشريعة والفلسفة لا تزيد على ثلاث: (1)
الاعتداد بالأولى ورفض الثانية، وهذا موقف رجل الدين غير المتفلسف. (2)
أن يكون الأمر بالعكس، وهذا يكون موقف المتفلسف الذي لا يبالي العقيدة. (3)
لم يبق إلا هذا الوضع الأخير، وهو محاولة التوفيق بين هذين الطرفين على أي نحو من الأنحاء، وهذا هو الوضع الذي يجب أن يتخذه الفيلسوف المؤمن، أو الذي يجب أن يبالي العقيدة على ما سنرى .
وسنعرف في الفصل الآتي أن كلا من هذه الأوضاع الثلاثة كان له ممثلون بين الذين عنوا بهذه الناحية من التفكير من الفلاسفة أو رجال الدين فيما مضى من التاريخ حتى الآن.
وفضلا عن هذا كله، فإن الذي يفهم الإسلام وروحه وتعاليمه التي تدعو للأخذ بالوسط في كل الأمور، وتوجب الإصلاح بين المتخاصمين، والتوفيق بين الأطراف المتنافرة، وإن الذي درس تاريخ الإسلام وخاصة الناحية العلمية منه، نقول: إن الذي يفهم روح الإسلام ودرس تاريخ العلوم الإسلامية، يرى بصفة عامة أن روح التوفيق كانت طابعا للمسلمين في كثير من نواحي التفكير.
حقا؛ إنه كان كلما وجدت مدارس مختلفة أو متعارضة، وجد بجانبها مدارس متوسطة تحاول التوفيق بينها، وتصل ما تباعد منها، والتاريخ قديمه وحديثه شاهد صدق على ما نقول.
في علم الكلام نجد مذهب الأشعري،
2
الذي يسود العالم الإسلامي حتى هذه الأيام، ليس إلا مذهبا وسطا بين مذهب السلف القائم على التسليم بالنص من غير تعرض لتأويله عقليا، وبين مذهب المعتزلة الذي قرر للعقل كل الحرية في فهم النصوص وتأويلها.
وفي التشريع نجد مذهب مالك يعتمد على الحديث بعد القرآن، والمذهب الحنفي يعتمد على الرأي ونظر العقل واجتهاده، فجاء الشافعي بمذهبه بين هذين الطرفين المتعارضين.
وفي الفلسفة نجد محاولة الفارابي الشهيرة التوفيق بين أفلاطون وأرسطو، كما نجد أن من مميزات المشائين العرب بصفة عامة نزعة التوفيق بين كثير من المذاهب الفلسفية.
فإذا كانت هذه النزعة من النزعات الغالبة على مفكري المسلمين بصفة عامة في جميع فروع التفكير، فبالأولى يعمل الفلاسفة الإسلاميون على التوفيق بين الدين الذي يعتقدون صحته، وبين الفلسفة القائمة على العقل وأدلته!
على أنه كانت هناك عوامل أخرى توجب عليهم أن يحاولوا ما استطاعوا أن يصلوا للتوفيق بين هذين الطرفين؛ هذه العوامل ترجع في رأينا لثلاث: (أ)
بعد شقة الخلاف بين الإسلام وفلسفة أرسطو في كثير من المسائل.
3 (ب)
مهاجمة كثير من رجال الدين لكل بحث عقلي لا يتقيد في نتائجه بالعقيدة المقررة سابقا، ويتبع هذا في أغلب الحالات اضطهاد الشعب والأمراء للمفكرين الأحرار - ولو نوعا ما - مدفوعين بدوافع لا تتصل بسبب متين بالدين في الحقيقة في كثير من الأحيان.
4 (ج)
وأخيرا، رغبة الفلاسفة أنفسهم في أن يكونوا بمنجاة من هذا كله؛ ليستطيعوا العمل في هدوء، ولئلا يتحاماهم الناس حين يرون أو يظنون أنهم على غير وفاق مع الدين.
من أجل ذلك كله نجد كل فلاسفة الإسلام، كغيرهم من المتكلمين والمفكرين حاولوا هذا التوفيق، سواء من تقدم به الزمن على ابن رشد ومن تأخر، مع اختلاف في الطرق التي اصطنعوها والجهود التي خصصوها لبلوغ الهدف المطلوب، ومع تفاوت في مبلغ ما صادفوه من نجاح.
ويطول بنا الحديث، بل نخرج عن الحدود المرسومة لعملنا إذا تكلمنا عن كل الجهود التي بذلت في هذه الناحية من مفكري الإسلام وفلاسفته؛ لذلك نكتفي بأن نشير إلى ما كان من هذه الجهود قبل ابن رشد في المشرق من الكندي والفارابي والسجستاني ومسكويه وابن سينا، وما كان منها في المغرب من البطليوسي وابن باجة وابن طفيل.
وبهذا نستطيع معرفة مقدار كفاية هذه الجهود أو عدم كفايتها في هذا السبيل، ونتبين مقدار الحاجة لرجل قوي الشكيمة ثاقب الفكر كابن رشد، فيخصص جانبا كبيرا من نشاطه الفلسفي للتوفيق بين الإسلام، الذي كان من أكبر رجاله وممثليه، والفلسفة التي كان من أعلامها، ولنبدأ في هذا العرض الموجز بالكندي أول الفلاسفة. (1) في المشرق (الكندي، الفارابي، السجستاني، مسكويه، ابن سينا) (1-1) الكندي
عاش أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي فترة من حياته في بيئة التفكير الحر والتسامح التي خلقها المأمون الخليفة العباسي المتوفى في سنة 218ه،
5
وشجعها إلى درجة أن كان هو نفسه ذا ميول شيعية، ووزيره يحيى بن أكثم سنيا، ووزيره الآخر أحمد بن أبي داود معتزليا، ومن ثم، كان الإنسان لا يرى حرجا في أن يعتقد ما يرى من مذهب، وكان ربما اجتمع في البيت الواحد عدة إخوة لكل منهم رأيه ومذهبه.
6
ولكن الكندي عاش أيضا بعد وفاة المأمون في العصر الذي بدأه الخليفة المتوكل على الله (توفي عام 247ه )، والذي عاد فيه سلطان أهل السنة، لا جرم إذن أن رأيناه يحس - ككل مفكر حر - القلق والخوف من رجال الدين وسلطانهم، وكان ما رواه ابن أبي أصيبعة من أنه أوذي بسبب اشتغاله بالفلسفة.
7
ولهذا كان لا بد له من محاولة التوفيق بين الشرع والعقل، وذلك ما قد يجعله بمأمن من الأذى؛ ولذلك نجد ابن النديم يذكر له ضمن مؤلفاته رسالة في إثبات الرسل، وأخرى في نقض مسائل الملحدين، كما نجد ظهير الدين البيهقي يذكر أنه «قد جمع في بعض تصانيفه بين أصول الشرع وأصول المعقولات.»
8
وقد كان مؤرخ الفكر والفلسفة الإسلامية إلى الأمس القريب يقنع بهذه الأحكام ونحوها من ابن النديم وابن أبي أصيبعة والبيهقي، ونحوهم ممن ترجموا لحكماء الإسلام ومفكريه، إذا لم يجد لهم من المؤلفات ما يعينه على تعرف نزعاتهم واتجاهاتهم في تفكيرهم.
وكان الباحث عن طابع تفكير الكندي ونزعته واتجاهه، لا يلجأ فيما يلجأ إليه إلا إلى أسماء كتبه ومؤلفاته، فيحاول أن يجد منها سندا للرأي الذي ينتهي إليه.
ولكننا لحسن الحظ نجد اليوم بين أيدينا طائفة من رسائل الكندي، هذه الرسائل التي كشفها المستشرق الألماني «ريتير
H. Ritter » بمكتبة أيا صوفيا رقم 4832، ونشرها الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة في مجلدين، كما نشر بعض المستشرقين أخيرا رسائل أخرى له.
إن نشر هذه الرسائل ومعرفة موضوعاتها كما يتبين من عناوينها، يدعو بلا ريب إلى تعديل كثير في بعض آراء الباحثين في الكندي وفلسفته قبل أن يطلعوا عليها، بل قد يدعو إلى تعديل حكم الغزالي على الفلسفة والفلاسفة المسلمين.
مثلا، نجد الدكتور إبراهيم مدكور يرى أن الكندي طبيب ورياضي فلكي أكثر منه فيلسوفا، وأن فضله بصفة خاصة هو في أنه أعد للأعمال العظيمة التي ظهرت بعده في الفلسفة الإسلامية في القرن العاشر الميلادي.
9
مع أنه من الحق حسب هذه الرسائل، يجب أن يعتبر الكندي من الفلاسفة المسلمين بكل معنى الكلمة، لا ممهدا فقط للفلسفة الإسلامية.
ومع أن الشيخ مصطفى عبد الرازق كتب عن الكندي قبل اكتشاف رسائله، إلا أنه اعتمد على ما أورده المتأخرون عن الكندي، وانتهى في بحثه إلى أن الكندي هو الذي وجه الفلسفة الإسلامية وجهة الجمع بين أفلاطون وأرسطو، وهو الذي وجهها في سبيل التوفيق بين الفلسفة والدين.
10
وبعد نشر رسائله اتضح موقفه من الدين والفلسفة وضوحا يقوم على نصوص كلامه، وقام بعض الباحثين بدراستها.
11
وفي رسالته إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى، يذهب الكندي إلى أن الدين لا يختلف عن الفلسفة، «لأن في علم الأشياء بحقائقها علم الربوبية، وعلم الوحدانية، وعلم الفضيلة، وجملة علم كل نافع والسبيل إليه، والبعد عن كل ضار والاحتراس منه، واقتناء هذه جميعا هو الذي أتت به الرسل الصادقة عن الله جل ثناؤه، فإن الرسل الصادقة إنما أتت بالإقرار بربوبية الله وحده، وبلزوم الفضائل المرتضاة ...»
غير أنه في رسالة «كمية كتب أرسطوطاليس» يذهب إلى خلاف هذا الرأي، ويفرق بين الفلسفة التي هي من العلوم الإنسانية التي يبلغها الفيلسوف «بطلب وتكلف البشر وحيلهم»، وبين العلم الإلهي، وهو أعلى رتبة؛ إذ يتم «بلا طلب، ولا تكلف، ولا بحيلة بشرية ولا زمان، كعلم الرسل صلوات الله عليهم الذي خصه الله - جل وتعالى علوا كبيرا - أنه بلا طلب ولا تكلف ولا بحث، ولا بحيلة بالرياضيات والمنطق؛ فإن هذا العلم خاصة للرسل دون البشر، وأحد خواصهم العجيبة، أعني آياتهم الفاصلة لهم من غيرهم من البشر، إذ لا سبيل لغير الرسل من البشر إلى العلم الخفي، إلا بالطلب؛ فأما الرسل فلا بشيء من ذلك، بل بإرادة مرسلها ...»
12
وأيضا فإن كلام الله في القرآن جوابا عما سئل به الرسول هو غاية في الوجازة والبيان وقرب السبيل والإحاطة بالمطلوب، على حين أن الفيلسوف إذا قصد الجواب عنها فيكون ذلك «بعد طول الدأب في البحث والتروض.»
13
وتفسير هذا التناقض في رأي الكندي يرجع عندنا إلى أنه كتب رسالته إلى المعتصم في وقت كان يذهب فيه ذلك المذهب، وكتب رسالة «كمية كتب أرسطوطاليس» في وقت آخر، وعدل فيه عن رأيه الأول.
أما رأيه الأول فهو: أن الدين والفلسفة شيء واحد؛ لأنهما يبحثان معا عن الحقيقة، والحقيقة واحدة، وطريقهما البرهان.
وأما رأيه الثاني فهو: أن الفلسفة غير الدين؛ لأن طريق الفلسفة البحث والنظر بالعقل، وطريق الدين الإلهام والوحي عن طريق الشرع.
وكذلك سنعرف عما قليل أن الكندي قال بحدوث العالم، وكأنه قد أحس أن القول بقدمه لا يتفق وإثبات خالق له، كما هو العقيدة الإسلامية، وهذا معناه في نظرنا أن الغزالي حين قرر أن الفلاسفة المسلمين جميعا ذهبوا إلى القول بقدم العالم، لم يكن اطلع على رأي الكندي في هذه المشكلة، وأن عماده في تعرف رأي الفلاسفة هو على آراء الفارابي وابن سينا كما صرح بنفسه في كتابه «تهافت الفلاسفة». •••
وبعد، ما هو رأي «فيلسوف العرب» في العالم وقدمه أو حدوثه، وهي من المسائل الهامة التي كفر الغزالي الفلاسفة من أجلها، وهي من المسائل التي يمكن بحثها مما نشر حتى اليوم من رسائله؟ نستطيع أن نقرر أن الكندي يذهب إلى أن العالم محدث لا قديم، وأن الله هو الذي خلقه بعد عدم.
إنه حقا في رسالته «في حدود الأشياء ورسومها»، يعرف العلة الأولى بأنها «مبدعة، فاعلة، متممة الكل، وغير متحركة»، وحد الإبداع هو الخلق عن عدم، أو هو كما يقول الجورجاني: «إيجاد الشيء من لا شيء»، «إيجاد شيء غير مسبوق بمادة ولا زمان»، وهو كما يذكر الكندي نفسه: «إظهار الشيء عن ليس»، أي عن عدم الوجود.
وإذن، ما دام الله هو الذي أبدع العالم، فيجب أن يكون العالم غير موجود، ولو بمادته قبل وجوده، والنتيجة تكون أن العالم غير قديم.
وليس هذا فقط، فإن أول فلاسفة الإسلام قد أوضح في رسالته «في وحدانية الله وتناهي جرم العالم»
14
أن جرم العالم محدود، وذلك من مقدمات واضحة معقولة ترتكز على الأصول الرياضية، إنه يرى أن جرم العالم متناه، وإلا لو فرضنا الضد وفصلنا منه جزءا محدودا كان الباقي إما محدودا كذلك، فيكون الجميع - أي: بإضافة ما فصلناه - متناهيا؛ لأن الجرمين المتناهيين يكون مجموعهما متناهيا حتما، وإذن يكون العالم غير متناه ومتناهيا، وهذا خلف لا يمكن .
وإن كان الباقي غير متناه ثم أضيف إليه ما فصل منه، كان المجموع أكبر طبعا مما كان قبل، ولكنه قبل وبعد هو هو؛ لأنه غير متناه، وإذن فاللامتناهي يوصف بأنه أكبر وأصغر وهو تناقض.
وإذا ثبت هكذا أن جرم العالم متناه، كان كل ما يرتبط به وما لا ينفصل عنه من مكان وحركة وزمان، متناهيا ضرورة؛ لأن الزمان هو مقياس الحركة الحاصلة عن الجرم، والجرم المتناهي حركته متناهية ضرورة، فيكون زمانها الناشئ عنها متناهيا كذلك، ذلك بأن الجرم والحركة والزمان لا يكون بعضها دون بعض ولا يسبق بعضها بعضا.
وبعد ذلك؛ إذا ثبت هكذا أن جرم العالم متناه، كان غير قديم بلا شك، وإلا إذا كان لا أول لوجوده كان غير متناه، وقد ثبت قبل أنه متناه. «فيمتنع إذن أن يكون جرم لم يزل، فالجرم إذن محدث اضطرارا، والمحدث محدث المحدث، إذن المحدث والمحدث من المضاف، فالكل محدث اضطرارا عن ليس»، أي: عن عدم، وهذا الإحداث هو الإبداع، أي: الإيجاد عن عدم، كما سبق أن ذكر في رسالة الحدود. •••
وهكذا نرى أن الكندي يذهب في هذه المشكلة الهامة، مشكلة العالم وصلته بالله، مذهب رجال علم الكلام في زمنه بصفة عامة، مخالفا بهذا مذهب أرسطو حين ذهب إلى قدم العالم، وذلك ما ينبغي أن يعتبر بلا ريب خطوة كبيرة في سبيل التوفيق بين العقيدة الإسلامية وفلسفة اليونان، كما عرفها المسلمون.
وبهذا يمكن إلى حد كبير تعليل ما ذكرناه عنه سابقا عن مترجميه من أنه «قد جمع في بعض تصانيفه بين أصول الشرع وأصول المعقولات»، وهذا ما جعل «دي بور» يرى أنه مع دفاعه عن النبوة كان يحاول التوفيق بينها وبين العقل.
15
على أننا فضلا عما تقدم نأتي بدليل آخر لما نراه من أن الفارابي مسبوق في هذا السبيل، وذلك أن البيهقي ذكر في ترجمة أبي القاسم الحسين بن الفضل الراغب أنه كان من حكماء الإسلام، وأنه هو الذي جمع بين الشريعة والحكمة في تصانيفه، وأن من كلامه: «بين العقل والشرع تظاهر ، ويفتقر أحدهما إلى الآخر.» (1-2) الفارابي
وإذا تركنا الكندي إلى من جاء بعده من فلاسفة المشرق، نجد أننا نسير بخطا أكثر ثباتا واستقرارا، وذلك أن التاريخ حفظ لنا من مؤلفاتهم ما فيه كفاية لتعرف جهودهم في هذه السبيل، نعني سبيل التوفيق بين الدين والفلسفة، مندفعين إلى ذلك ببواعث ليس فيها - على ما نرى - الكثير من خشية تعصب العامة ورجال الدين، ومحاولة اتقاء ما ينجم عادة من مثل هذا التعصب.
لقد عاش أبو نصر الفارابي حياة هادئة وادعة، أولا ببغداد موطن تعلمه ودراسته، ثم انتقل منها إلى حلب، وأميرها سيف الدولة الحمداني المعروف بميله للعلم وتشجيعه للعلماء، والذي عاش فيلسوفنا في كنفه عيشة الزاهد المتصوف الذي لا تغيره رياسة ولا تهمه الدنيا ولا تفتنه أغراضها، وأخيرا مات بدمشق، وقد رحل إليها صحبة أميره عام 339ه/950م.
وإن الذي يرجع إلى ترجمته كما ذكرها ابن خلكان،
16
وابن أبي أصيبعة،
17
وصاعد الأندلسي،
18
والقفطي،
19
يجد صدق هذا، وأن الفارابي لم يضطهد بسبب الفلسفة.
إذن كانت محاولته هذه التوفيق بين الوحي والعقل على ما نرى، لما رسخ في ذهنه من أن الحقيقة واحدة وإن كان قد يعبر عنها بطرق مختلفة؛ ولذلك - صادرا عن هذا المبدأ - حاول التوفيق بين «المعلم الأول» وبين «أفلاطون» في كتابه المعروف: «الجمع بين رأيي الحكيمين». فلا عجب إذن حين نراه يحاول التوفيق تطبيقا لهذا المبدأ، بين الحقيقة التي جاءت عن التفلسف والحقيقة التي جاء بها الوحي النبوي.
ومهما يكن من أمر العوامل التي جعلت المعلم الثاني يحاول هذا التوفيق، فإننا نرى أن الخطة التي اختطها لبلوغ غرضه من الجمع بين الدين والفلسفة تتلخص في ثلاثة أمور، تأثره فيها غير واحد ممن أتوا بعده: (1)
مذهبه في «الخلق» أريد به التوفيق بين الإله كما تصوره أرسطو وبين الإله كما جاء به الإسلام. (2)
جعله لكل من الوحي والعقل مكانا بجانب الآخر، وذلك بالتسليم بالنبوة والمعجزات والعقائد الدينية الكلامية السمعية، مع تفسير كل ذلك عقليا. (3)
التفرقة بين الخاصة والعامة من الناس، وجعل تعليم خاص لكل منهما ، وبذلك يتوطد السلام بين التفكير الفلسفي والتفكير الديني.
فكرة الإله والخلق
الله في الإسلام هو الخالق لكل شيء، الذي لا يوجد شيء إلا بأمره، ولا يدوم إلا بحفظه، والذي يعلم كل شيء كبيرا كان أو صغيرا في أدق تفاصيله، والذي لا واسطة بينه وبين أحد من خلقه.
هذا الإله كما يؤخذ من القرآن
20
لا يمكن أن يتفق مع إله أرسطو، وهو «المحرك الأول» الذي لا يتحرك، ولا مع فكرة «الواحد» كما نعرف من الأفلاطونية الحديثة.
ومن أجل هذا كان هم الفارابي وغيره من فلاسفة الإسلام محاولة التوفيق بين الإله كما جاءت به الفلسفة، وبين الإله كما جاء به القرآن، وإن كان لم يصحبه التوفيق في محاولته كما سنرى فيما بعد.
وليس من عملنا ولا من الممكن هنا أن نأتي بما ذهب إليه أبو نصر في هذه المشكلة؛ ولذلك نكتفي بأن نقول بإيجاز بأنه - مستلهما أرسطو وأفلاطون والأفلاطونية الحديثة - قد انتهى إلى الذهاب إلى أن الله هو الواحد والموجود الضروري من نفسه، والبريء من كل أنحاء النقص، والذي ليس بمادة، وهو مباين بجوهره لكل ما سواه، وليس مركبا بوجه من الوجوه، فهو واحد من كل وجه.
وهو، لأنه ليس بمادة، عقل بالفعل، يعقل ذاته، فالعقل والعاقل والمعقول شيء واحد هو الذات، وكذلك فيما يتصل بالعلم، ذاته علم وعالم ومعلوم، والله هذا؛ لأنه سبب وجود كل موجود، يلزم متى كان له هذا الوجود أن يصدر عنه ضرورة سائر الموجودات بطريق غير مباشر، وذلك على ما هو معروف في نظرية «العقول العشرة».
21
وهكذا رأى الفارابي أنه وفق بين الإله كما جاء في الفلسفة وبين الإله كما جاء في القرآن! كما لم ينس أن ينسب لله كل صفات العظمة والجلال والكمال.
النبوة وما إليها
والنبوة في رأي الفارابي ليست أمرا فوق الطبيعة، ولا شيئا خارقا للعادة، إن النبي ليس إلا إنسانا بلغت قوته المتخيلة غاية الكمال، وذلك بأن يحصل له أولا العقل المنفعل، ثم بعده العقل المستفاد الذي يكون به الاتصال بالعقل الفعال، وحينئذ يأخذ عنه بطريق الفيض الجزئيات الحاضرة والمستقبلة، أو محاكياتها من المحسوسات، ويقبل محاكيات المعقولات المفارقة وسائر الموجودات الشريفة ويراها، فيكون له بذلك نبوة بالأشياء الإلهية.
22
وفيما يختص بالمعجزات التي يتقدم بها النبي دليلا على صحة رسالته، نرى أيضا أن لها عند الفارابي تفسيرها العقلي، وذلك متى عرفنا - كما يقول - أن النبوة مختصة بقوى قدسية يذعن لها عالم الخلق الأكبر، كما يذعن لروح الواحد منا عالم الخلق الأصغر، فتأتي بمعجزات خارجة عن الجبلة والعادات، ولا يمنعها شيء من معرفة ما في اللوح المحفوظ.
23
وإذن، على رأي الفارابي، النبي والفيلسوف يتصل كل منهما بالعقل الفعال، والفرق بينهما أن الأول ينال هذه الرتبة بكمال قوته المتخيلة بعد كمال القوة العاقلة طبعا، على حين يصل إليها الفيلسوف بالنظر والتفكير، وليس هذا في رأينا بالفرق الكبير.
وينبغي هنا أن نلاحظ أن الفارابي في تصويره للنبوة على هذا النحو، وتفسيرها تفسيرا نفسيا وعقليا كما رأينا آنفا، يجعلها أعلى من الفلسفة، كما يجعل النبي هو الإنسان الذي بلغ أكمل مراتب الإنسانية والسعادة.
24
وهذا في رأي «دي بور» لا يتفق مع ما يؤخذ من فلسفة الفارابي النظرية، هذه الفلسفة التي ترى أن كل أمور النبوة - من الرؤى والكشوف والوحي ونحو ذلك - هو مما يختص بالقوة المتخيلة، فتكون المعرفة الحاصلة عن ذلك أدنى مرتبة من المعرفة الفلسفية.
25
هكذا يرى «دي بور»، ونعتقد أنه نسي أن المعلم الثاني يشترط في النبي فضلا عن كمال القوة المتخيلة، كمال القوة العاقلة، وذلك بأن يحصل له العقل بالفعل ثم العقل المستفاد الذي به - كما تقدم ذكره - يتصل بالعقل الفعال. •••
هذا، والفارابي عرف بتركيز الفكرة والإيجاز في التعبير عنها، فلعل مما يعين على فهم نظرية النبوة أن نقتبس القليل من عرض الغزالي لهذه النظرية في كتابه المشهور «تهافت الفلاسفة»، ثم من عرض ابن ميمون، وهو جد ثقة في الفلسفة الإسلامية وفيما كان لرجالها من آراء،
26
لها في كتابه «دلالة الحائرين»، فذلك كله تعبير صادق عن نظرية النبوة لدى الفارابي وابن سينا وابن رشد أيضا ، ومن ذلك نعرف تماما الفرق عند فلاسفة الإسلام بين النبي والفيلسوف؛ ولهذا خطره في مسألة التوفيق بين الوحي والعقل.
يذكر الغزالي عن الفلاسفة المسلمين أن النبي إنسان بلغت قوته المتخيلة الغاية من القوة، ولم تستغرقها الحواس، فاستطاعت أن تطلع في اليقظة والنوم على اللوح المحفوظ، وانطبعت فيها صور الجزئيات الكائنة في المستقبل، ويكون ذلك معجزة للنبي، كما بلغت قوته العاقلة النظرية الكمال أيضا، فصار قوي الحدس، بمعنى سرعة الانتقال من معلوم إلى آخر من غير حاجة إلى تعلم، بل يكون كأنه متعلم من نفسه، ويعتبر هذا معجزة أيضا ولكن من نوع آخر.
وكذلك أخيرا بلغت قوته النفسية والعملية حدا تتأثر بها الأمور الطبيعية وتتسخر له، فكما أن نفس الإنسان تؤثر في جسمه وتؤثر في نفوس غيره إذا كانت هذه القوة النفسية العملية قوية فيه، كذلك إذا بلغت هذه القوة درجة الكمال صار من الممكن أن تخضع لها أمور الطبيعة، ويكون ذلك من النبي معجزة له من ضرب ثالث.
حتى إنه إذا تطلعت نفسه إلى هبوب ريح أو حدوث زلزلة أو نزول مطر، وذلك موقوف حصوله عادة على حدوث برودة أو سخونة أو حركة في الهواء، يحدث ذلك من نفسه وتتولد منه تلك الأمور من غير سبب طبيعي ظاهر، على أنه يشترط أن يكون هذا الذي يحدث ممكنا في نفسه، لا مستحيلا كقلب العصا ثعبانا أو انشقاق القمر الذي لا يقبل الانخراق والانشقاق.
27
هكذا يذكر الغزالي ويذكر ابن ميمون من بعده
28
أن النبوة هي في الحقيقة فيض من الله بواسطة العقل الفعال على القوة العاقلة أولا، ثم على القوة المتخيلة ثانيا، وهي أعلى درجة وأكمل رتبة من الكمال يستطيع أن يصل إليها إنسان.
ويجب أن يكون هذا الإنسان قد ملك العلم والحكمة بدرجة ينتقل منها من القوة إلى الفعل، وأن يكون له العقل الكامل، وأن يكون تفكيره ورغباته قد تخلصت من الأماني والأطماع التافهة الباطلة.
ويجب أن نعلم أيضا أن فيض العقل الفعال هذا لو كان على قوة الإنسان العاقلة وحدها ، لا على القوة المتخيلة أيضا، كان هذا الإنسان من طبقة العلماء الذين يعملون النظر والفكر، ولكن هذا الفيض إن تناول القوتين معا، كان هذا الإنسان من طبقة الأنبياء.
وكذلك يجب أن نعلم أن الأنبياء الحقيقيين لهم بلا ريب الإدراكات والمعرفة العقلية النظرية، التي لا يمكن أن يصل إلى مثلها ولا إلى أسبابها المفكرون غير الأنبياء، أي: الذين يعتمدون على القوة النظرية وحدها، وحقا إن الوحي الذي يفيض على القوة المتخيلة للنبي متى وصلت إلى الكمال، يجعله قادرا على التنبؤ بالمستقبل ومعرفة الأمور الغيبية كما لو كان يدركها بحواسه.
أقول: هكذا يستمر ابن ميمون في عرضه لنظرية النبوة لدى فلاسفة الإسلام، إن هذا الوحي يكمل أيضا القوة العقلية المفكرة، وذلك أنه بهذا الأثر يدرك النبي الوجود الحقيقي للأشياء، كأنه يصل إلى هذا بواسطة قضايا نظرية تقوم على العقل وتفكيره، فإنه حينئذ يكون العقل الفعال قد فاض على القوة العاقلة وجعلها تنتقل من القوة إلى الفعل، وبهذه القوة يصل الفيض أو الوحي من هذه القوة إلى القوة المتخيلة.
ومن أجل ذلك ما ينبغي أن نلتفت مطلقا إلى هؤلاء الذين لم تبلغ القوة العاقلة النظرية عندهم حد الكمال، والذين لم يصلوا إلى أعلى درجة من التفكير النظري؛ فإن الذي يصل إلى الكمال في هذه الناحية وتلك، هو وحده الذي يصل إلى المعارف والحقائق العليا، وذلك حينما يفيض العقل عليه وصار يوحى إليه، وهو وحده النبي حقا.
وهكذا ينتهي ابن ميمون، وكذلك الغزالي من قبل من بيان نظرية النبوة بصفة عامة لدى فلاسفة الإسلام، وإلى أن هؤلاء وبالأخص الفارابي وابن سينا،
29
فسروا النبوة تفسيرا نفسيا عقليا رغبة منهم في التوفيق بين الوحي والعقل، وحرصوا لهذا على جعل النبي أعلى منزلة من الفيلسوف، ما دام هو نبيا وفيلسوفا معا بكمال قوته المتخيلة وقوته النظرية، وهذا الحرص في هذه الناحية منهم، له ما يبرره من وجهة نظر المسلمين وإجماعهم على أن أعلى ما يمكن أن يصل إليه بشر هو درجة النبوة. •••
هذا، والقرآن ذكر الملائكة في آيات كثيرة منه، فلم يسع الفارابي إنكار وجودهم، لكنه لم يقل كما يقول المتكلمون عنها إنها أجسام قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، بل ذهب إلى أنها كائنات معقولة لا رابطة لها بالمادة، وبعبارة أخرى نراه يفسرها بأنها صور مجردة عن المادة، وهي صلة ما بين مصدر الوحي والموحى إليه.
30
وكذلك القلم واللوح، وقد جاء ذكرهما في القرآن، ليسا كما يقول المتكلمون أيضا شيئين ماديين، بل «القلم ملك روحاني، واللوح ملك روحاني، والكتابة تصوير الحقائق.»
31
واليوم الآخر وما فيه من جزاء: ثواب وعقاب، لا ينكر الفارابي شيئا منه، فإن للنفس بعد الموت سعادات وشقاوات كما يقول،
32
لكن هذا الجزاء لن يكون إلا روحيا محضا، فليس هناك لذائذ ولا عقوبات جسمية كما يرى المتكلمون، بل السعادة ليست عنده إلا أن تتحرر النفس من قيود المادة فتصير عقلا كاملا.
33
ولذلك كان يدعو الله بأن يجعل الحكمة سببا لاتحاد نفسه بالعوالم الإلهية والأرواح السماوية، فتكون بعد فناء البدن من جملة هذه الجواهر الشريفة الغالية.
34
الخاصة والعامة
وأخيرا لم يخف على المعلم الثاني ما في تفسيره للنبوة وبعض العقائد السمعية من عسر في الفهم يجعل أكثر الناس عاجزين عن إدراكها؛ ولذلك لم ير بدا من تقسيم الناس - حسب مراتبهم في الفهم والتصديق - إلى طبقات ثلاث: عامة، ورجال دين، وفلاسفة.
ورأى تبعا لهذا التقسيم أنه يجب عرض هذه الأمور وأمثالها على أفراد كل من هذه الطبقات، بطريقة تتناسب ومقدرتها على تصورها وفهمها، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها، أي إما بتقريبها للفهم بذكر محاكياتها وأمثالها، وإما بذكر الحقائق مجردة سافرة.
وفيما يختص بإثباتها على كل حال، ينبغي أن نلجأ بالنسبة للعامة وأمثالهم إلى البراهين الإقناعية التي تنفعهم، وأن نلجأ إلى البراهين الحقيقية بالنسبة للقادرين عليها، أي: لأهل الاستدلال.
35 •••
وبعد، هل نجح الفارابي فيما أراده من التوفيق بين العقل والوحي، أو بين الفلسفة والدين؟ إننا نرى أنه مع ما بذله من جهد في هذه السبيل من السهل أن نقول: لا.
وذلك أنه على الرغم من محاولة الفارابي حل مسألة «الواحد» وصدور العالم عنه وكيفية هذا الصدور، قد بقي إله «أرسطو» غير مقبول في الإسلام، مع ما نال نظرية أرسطو من تعديل يرجع إلى أفلاطون ومدرسة الإسكندرية.
وفي الحق أن إلها يصدر العالم عنه بلا إرادة وخلق منه ولا نشاط له، وبينه وبين هذا العالم وسطاء عديدون، ولا يعلم إلا ذاته. إله كذلك لا يمكن أن يتفق والعقائد الصحيحة التي جاء بها الإسلام، وإن عني الفارابي - في نظرية الفيض، التي أراد بها على ما هو معروف التوفيق بين أرسطو والإسلام - بجعله سببا فاعلا.
وكذلك تسمية الفارابي للعقول التي ذهب إليها ليفسر صدور الكثير - وهو العالم - عن الواحد، ملائكة ليوافق القرآن في التسمية لا يجعلها حقا ملائكة كما جاء في الإسلام.
فإن هذه العقول عنها صدر العالم في رأيه، فهي خالقة على هذا النحو، وملائكة القرآن لا شيء لها مطلقا من الخلق أو الأمر، بل هم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فكيف وتلك العقول! (1-3) السجستاني
وهذا مفكر آخر حري أن يأخذ مكانه بين مفكري الإسلام بعد أن طال إهماله، وهو أبو سليمان محمد بن طاهر بن بهرام المنطقي السجستاني الذي عاش إلى أواخر القرن الرابع الهجري، وإنه لأهل لأن يتحدث عنه مؤرخ التفكير الإسلامي.
وهو تلميذ يحيى بن عدي تلميذ الفارابي، ولكنه كان أنبه ذكرا من شيخه، كما كان شيخا في الفلسفة لأبي حيان التوحيدي، الذي ترك لنا في كتابيه: «المقابسات»، و«الإمتاع والمؤانسة» الكثير مما كان يجري في مجالس أبي سليمان، هذه المجالس التي كانت تحفل بالعلماء والحكماء يبحثون في نواح مختلفة من العلم والفلسفة، وكان المتجادلون يلجئون غالبا إليه؛ فيكون رأيه هو الرأي الفصل فيما كانوا يتحدثون فيه، ولا عجب، فقد كان السجستاني، كما يذكر ابن أبي أصيبعة في ترجمته، «فاضلا في العلوم الحكمية، متقنا لها مطلعا على دقائقها.»
36
وبالرجوع إلى أبي حيان في كتابيه المذكورين آنفا، نجده يصف شيخه السجستاني بأن كان من بين المعنيين بالفلسفة في عصره، كان «أدقهم نظرا، وأصفاهم فكرا ، وأظفرهم بالدرر.»
37
وكذلك نجد أن أحد تلاميذه وهو الطبيب المعروف بفيروز يقول له: «أيها السيد، والله ما نجد شفاء لداء الجهل إلا عندك، ولا نظفر بقوت النفس إلا على لسانك، ولا نعلم يقينا إلا بحسن تعريفك.»
38
وأنه أخيرا كان يعيش إلى سنة 391ه.
39
كما نعرف من المقابسة رقم 64 أن الروح التي كانت تسود أبا سليمان ومن يلتفون حوله من علماء العصر ومفكريه، لا يسأل أحد عن بلده ولا عن ملته، كانت مستمدة من حكمة يرجعها أبو سليمان نفسه إلى أفلاطون، وهذه الحكمة تتلخص في أن الحق لم يصبه واحد وحده، بل في كل رأي نصيب منه قل أو كثر؛ ولهذا لا معنى للتعصب لمذهب على مذهب، ومن ثم أيضا ليس من المعقول أن يقوم خلاف بين الدين والفلسفة.
40
على أن الخوف من رجال الدين ومن يتأثرون بهم من العامة وأمثالهم، كان له أثره في أبي سليمان وأصحابه، وذلك أنه بينما كانوا أحرارا في تفكيرهم وجدلهم في مجالسهم الخاصة بهم، كانوا حذرين من أن يعرف ما لا يتفق والروح الدينية السائدة في العصر.
41
ونقول بعد هذه الأمور العامة عن السجستاني ومركزه في زمنه، وعن الروح الحرة التي كانت تسود مجالسه: إنه - مثل شيخه الفارابي - كان له رأيه في تقسيم الناس إلى عامة وخاصة، وفي العالم ووجوده، وفي العلاقة التي يجب أن تقوم بين الدين والفلسفة، وسنتناول كلا من هذه المسائل بإيجاز.
العامة والخاصة
ينقسم الناس في رأيه حسب عقولهم واستعدادهم للنظر والفكر، إلى عامة وخاصة، الأولى: ليس لها أن تتصل بالحكمة أو تتطاول إلى غرائب الفلسفة، وذلك لرداءة عقولها وضآلة معارفها وخبث نفوسها، والأخرى: لها أن تبحث من ذلك ما تريد؛ لأنها تعيش بها ولها، ولها من فضائل النفس ما يعصمها عن الضلال.
42
ولهذا يفسر السجستاني عدم صفاء التوحيد في الشريعة من شوائب الظنون واستعمال الأمثال، كما صفا ذلك في الفلسفة، بأن الكلام (يريد الشريعة) الذي يراد به صلاح الناس جميعا لا بد أن يكون مرة مبسوطا وأخرى موجزا، ومرة صريحا ومرة فيه رمز وتعريض؛ ولذلك «كان جميع ما جاء به الشرع من هذا الضرب ليجد الخاصي فيه إشارة تشفيه، والعامي عبارة تكفيه.»
43
ونعتقد أن هذا التعليل يدلنا على أن السجستاني كان يرى ضرورة تأويل ما اشتملت عليه الشريعة من رموز وأمثال للخاصة القادرة على التأويل.
وكان الطبيعي مع هذا أن يفرق أبو سليمان بين طريقة المتكلمين وبين طريقة الفلاسفة في بحث المسائل الإلهية أو العقيدية، وذلك ما بينه لنا تلميذه التوحيدي،
44
ومن ثم نراه ينقد بشدة هؤلاء المتكلمين الذين لم يفرقوا في تعاليمهم بين العامة والخاصة.
الله والعالم
ونستطيع أن نستشف مما رواه لنا أبو حيان عن شيخه في هذه المشكلة، وهو قليل جدا، أن السجستاني يرى أنه يصح أن يقال إن العالم قديم ومحدث، قديم إذا نظرنا إلى الأجرام العلوية التي لا تتكون ولا تفسد، ومحدث إذا نظرنا إلى العالم الأرضي، فنجد الكون والفساد يتعاقبان على الأشياء، أو هو قديم من ناحية المادة، ومحدث من ناحية الصور التي تتعاقب عليها، وهذا ما يفهم من قوله عن العالم في بعض المقابسات: «قديم بالسوس (أي: الأصل أو المادة)، حديث بالتخطيط.»
45
وفي مسألة الخلق نستطيع أن نقرر أنه يرى أن العالم فعل الله، بمعنى أنه معلول عنه كما يقول الفلاسفة، ولكنه مع هذا لا يرى أن يقال إن الله فاعل بالاضطرار؛ لأن ذلك صفة العاجز، ولا بالاختيار لأن في الاختيار معنى قويا من الانفعال، وإنما الله يفعل ويصدر عنه العالم بنحو أشرف من هذا وذاك يضيق عنه الاسم، بل إن قولنا بالنسبة إلى الله: يفعل وفاعل، هو كلام يطلق على حد المجاز والمعتاد من الكلام.
46
وإذا كان العالم قد صدر عن الله باعتباره علة له، فإنه يتحرك نحوه بالشوق باعتبار الله الغاية الأولى والغاية القصوى، وباعتباره المحرك للأشياء التي إليه تتحرك جميعا.
47
الدين والفلسفة
وللسجستاني في العلاقة التي ينبغي أن تكون بين الدين والفلسفة رأي واضح قاطع، وهو وليد التفكير والإدراك العميق للغاية من كل منهما، كما هو وليد الاعتبار بجهود من حاولوا تحديد هذه العلاقة من معاصريه، وهذا الرأي هو وجوب الفصل التام بين الشريعة والفلسفة؛ وذلك لما بينهما من اختلاف في الطبيعة والغاية والوسيلة إلى هذه الغاية، وفي منطقة النفوذ إن صح هذا التعبير.
لقد عرض عليه تلميذه التوحيدي بعض رسائل إخوان الصفاء، الذين يزعمون أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال، فقال بعد أن اختبرها: «ظنوا ما لا يكون ولا يمكن ولا يستطاع، ظنوا أنه يمكنهم أن يدسوا الفلسفة في الشريعة، وأن يضموا الشريعة في الفلسفة، وهذا مرام دونه حدد؛ أي دفع ومنع.
قيل له: ولم؟ قال: إن الشريعة مأخوذة عن الله عز وجل بواسطة السفير بينه وبين الخلق من طريق الوحي، وفي أثنائها ما لا سبيل إلى البحث عنه والغوص فيه، ولا بد من التسليم للداعي إليه والمنبه عليه، وهنا يسقط «لم» ويبطل «كيف» ويزول «هلا»، ويذهب «لو وليت» في الريح.»
48
ثم يذكر بعد ذلك أنه لو كان الجمع بين هذين الطرفين جائزا وممكنا، لكان الله قد نبه عليه، وكان صاحب الشريعة يكمل شريعته بالفلسفة، لكنه لم يفعل ذلك ولا وكله إلى غيره من خلفائه والقائمين بدينه، بل إنه على العكس نهى عن الخوض في هذه الأشياء.
49
ولهذا يرى أبو سليمان أنه «لمصلحة عامة نهي عن المراء والجدل في الدين على عادة المتكلمين الذين يزعمون أنهم ينصرون الدين، وهم في غاية العداوة للإسلام والمسلمين، وأبعد الناس عن الطمأنينة واليقين.»
50
على أنه لا ينبغي أن يفهم مما تقدم آنفا أن الشريعة في رأيه ناقصة، وأنها في حاجة لأن تكمل بالفلسفة، إنه إن أخذنا كلامه حرفيا لا خبئ له، يريد أن يقول إن كلا من الشريعة والفلسفة تخالف الأخرى في طبيعتها وغايتها، في طبيعتها كما وضح مما سبق، وفي غايتها لأن غاية الديانة إكمال النفس بالفضيلة، وغاية الحكمة أو الفلسفة تكوين العقل بالحقائق والمعرفة، أو أن الفلسفة، كما يقول، صورة النفس، والديانة سيرة النفس، فكل منها يكمل الأخرى، وإذن فلا تناقض بينهما.
51
فكل ما يجب إذن هو عدم خلطهما، وحينئذ تتم السعادة لأصحاب هذه وأصحاب تلك.
والسجستاني يذكرنا برأيه هذا رأي «سبينوزا» الذي سنتناوله بشيء من البسط عند الكلام عن العلاقة بين الوحي والعقل عند ابن رشد، وذلك حين يذهب صاحب «الأخلاق » إلى أن الغاية من الفلسفة هي الحقيقة، والغاية من العقيدة هي الطاعة والتقوى؛ ولهذا ينبغي فصل كل منهما عن الأخرى.
52
ولكن السجستاني يرى على الضد من «سبينوزا» أن الدين حق مثل الفلسفة؛ ولهذا نجده يقول في موضع آخر: «إن الفلسفة حق، ولكنها ليست من الشريعة في شيء، والشريعة حق، ولكنها ليست من الفلسفة في شيء.» وذلك بأن الفلسفة مصدرها العقل، والدين مصدره الوحي، وليس فيه «لم» ولا «كيف» إلا بمقدار ما يشد أزره؛ ولهذا الاختلاف في المعين والطبيعة، يجب عدم خلط أحدهما بالآخر، وكل من حاول رفع هذا فقد حاول نفي الطباع وقلب الأصل وعكس الأمر، وهذا غير مستطاع.
53 •••
وبعد، هكذا رأينا السجستاني يوجب الفصل بين الشريعة والفلسفة، وأنه لم يكن يعنيه أو يرضيه أن يخلط بينهما أو أن يعمل على التوفيق بينهما بإتباع إحداهما للأخرى، كما لم يحاول - كالفارابي مثلا - تفسير العقائد الدينية تفسيرا نفسيا وعقليا؛ ليكون ذلك وسيلة للتوفيق، بل إنه جعل لكل من هذين الطرفين المختلفين طبيعة ووسيلة وغاية، طائفة خاصة من الناس بها تصل إلى السعادة. (1-4) مسكويه
ننتقل الآن إلى الحديث عن فيلسوف آخر جاء به الزمن بعد الفارابي، وإن كانت شهرته بالفلسفة العملية (الأخلاق) أكبر من شهرته بالفلسفة النظرية الإلهية، ومع هذا فإن له من الجهد في محاولة التوفيق بين الحكمة والشريعة ما يجعلنا نذكر كلمة عنه قبل أن نصل إلى تلميذ الفارابي الأشهر، نعني به ابن سينا أو الشيخ الرئيس.
وهذا الفيلسوف هو «مسكويه» أبو علي أحمد بن يعقوب، الذي جمع بين علوم اللغة والتاريخ والطب، والذي كان ذا حظوة لدى السلطان عضد الدولة بن بويه حتى جعله صاحب خزائنه، وقد توفي عام 421ه كما يقول حاجي خليفة وياقوت، أو عام 420ه كما يذكر القفطي.
54
وقد وافق مسكويه الفارابي في بعض النقط الجوهرية في تفكيره؛ لأنه نهل معه من معين واحد وهو الفلسفة اليونانية، وإن كان ميله إلى الكندي أكثر كما يقول دي بور.
55
ونجد مسألة التوفيق من تلك النقط التي وافق المعلم الثاني فيها، وذلك بتفسيره النبوة مثله تفسيرا عقليا يضعف الفرق بين النبي والفيلسوف ويزيد الصلة بينهما، وبتأكيده الحاجة إلى النبوة؛ لأن الفلسفة لا تغني عنها لجميع الناس، وبغير هذا وذاك مما وافق فيه على نحو ما رجال الدين وعلم الكلام، مثل وجود العالم عن عدم، وخلود النفس، والجزاء الأخروي.
حقا النبي عند مسكويه هو إنسان يصل بتأثير العقل الفعال في قوته الحاسة وقوته المتخيلة إلى الحقائق التي يصل إليها الفيلسوف، لا فرق بينهما إلا أن هذا قد وصل إليها مرتقيا من أسفل إلى أعلى: من قوة الحس إلى قوة التخيل إلى قوة الفكر التي يدرك بها ما في العقل الفعال من حقائق، على حين يتلقى النبي نفس الحقائق منحطة إليه من أعلى، أي: من العقل الفعال أيضا.
ولأن الحقائق التي يدركها كل من النبي والفيلسوف واحدة، كان الفيلسوف أسرع من غيره لتصديق ما يأتي به النبي وقبوله؛ وذلك لأنه جاء بما لا ينكره عقله.
56
والناس في حاجة إلى الأنبياء لمعرفة الأعمال النافعة التي بها تكون سعادة الإنسان، وإن كان معرفة صحة ما دعوا إليه بالنظر الصحيح تكون من جهة الحكماء.
57
ولم يختلف أحد، كما يقول، ممن يستحق أن يسمى فيلسوفا في إثبات الصانع عز وجل، ولا حكي عن واحد منهم أنه جحده،
58
وهو قد أبدع الأشياء كلها لا من شيء؛ لأنه لا يصح الإبداع إلا إذا كان لا من موجود، أعني من العدم.
59
والنفس جوهر باق لا يقبل الموت ولا الفناء،
60
وستجزى على ما عملت في الدار الأخرى، إلا أن سعادتها وشقاءها اللذين سيحصلان لها بعد مفارقة البدن أمور روحية تناسب معدنها وجوهرها؛ لأن اللذات الجسمانية ليست من اللذات الحقيقية في شيء.
61 (1-5) ابن سينا
وأخيرا فيما يختص بفلاسفة المشرق ومفكريه، نجد الشيخ الرئيس يعنى بمسألة التوفيق بين الدين والفلسفة في كثير من رسائله وكتاباته، وبخاصة في كتابيه «النجاة» و«الإشارات»،
62
فقد خصص بضع صفحات من كل من هذين الكتابين للغرض الذي عمل شيخه الفارابي.
ولم يتأثر به فقط في العمل لهذا الغرض، بل كذلك في الطريق الذي رسمه، وفي الخطة التي اتبعها في محاولته، نعني تقريب كل من الفلسفة والدين للآخر، وتفسير عقائد الدين وشعائره تفسيرا يرضاه العقل ولا ينأى به عن الشريعة، وبتقسيم الناس إلى طبقات، لكل منها طريقها في الفهم والتصديق والاستدلال.
ولا نرى هنا ضرورة لتفصيل القول في ذلك عن ابن سينا في هذه النواحي، حتى لا يكون إعادة وتكريرا لما ذكرناه عن الفارابي، ومع هذا نقول بأنه يكفي الرجوع لما جاء في كتاباته لنتبين أنه يرى أن النبوة هي الفيض والإلهام عن العقل الفعال، وأن النبي هو من يقبل هذا الفيض بلا واسطة.
63
وكذلك يرى أنه لصلاح الناس والعالم لابد من وجود نبي، وأن يكون إنسانا يتميز بالمعجزات ليصدقه الناس ويتبعوه، والمعاد في الدار الأخرى مقبول من الشرع والعقل معا، وسعادة النفس بعد فناء البدن تكون بشيء عقلي روحي يناسبها، وكذلك شقاؤها.
64
والناس طبقات: عامة وخاصة، ولكل طبقة حظها من العقل والاستعداد والإدراك، وطريقها في الفهم والتصديق؛ ولهذا كان الأنبياء وأجلة فلاسفة اليونان يستعملون في كلامهم المراميز والإشارات؛ ولذلك أيضا ما كان لمحمد
صلى الله عليه وسلم
أن يقف على العلم أعرابيا جافا أو مثله ممن أرسل إليهم من البشر كافة.
65
ونشير بعد هذا إلى تأويل الشيخ الرئيس لما جاء في الشريعة عن الملائكة والعرش، والصراط والجنة والنار، والعقاب والثواب،
66
ولهذا كان من الحق ما لاحظه الدكتور مدكور من تأثره بشيخه الفارابي في هذه الناحية إلى حد كبير.
67
ولكن من الحق مع ذلك أن نشير إلى أن ابن سينا حاول أن يخفف من غلو أرسطو بإبعاد إلهه أو محركه الأول عن العالم، فخالف الفارابي فيما ذهب إليه من أن الله لا يعلم إلا ذاته، وجعله يعلم ما يجري في العالم علما كليا عاما لا جزئيا خاصا، أي: يعلم العالم وما يكون فيه باعتباره سلسلة من أسباب ومسببات عنها، أو باعتباره السبب الأول الذي صدر عنه.
68 •••
هذا، ونرى من المفيد أن نشير هنا بعد ما تقدم إلى أن ابن سينا اندفع في محاولته التوفيق بين الشريعة والفلسفة بعوامل ليس منها على ما نرى خشية اضطهاده بسبب الفلسفة.
لقد عاش أبو علي في بيئة تشجع العلم والعلماء، والتفكير والمفكرين، واتصل شطرا من حياته بسلطان بخارى نوح بن نصر الساماني المعروف بحبه للعلم، وأفاد كثيرا من كتبه.
وأما ما أصابه بعد وفاة أبيه من الاضطراب الكبير في حياته، فإن سببه اشتغاله بالسياسة واتصاله بالأمراء في ذلك العصر الذي كان مليئا بالفوضى والدسائس، حتى إنه كما يروي صاحبه أبو عبيد الجورجاني ولي الوزارة لشمس الدولة أمير همدان، ثم اضطرب عليه الجند وأغاروا على داره ونهبوا جميع ما كان يملكه، وسألوا الأمير قتله فامتنع واكتفى بنفيه، ثم عاد ثانيا للوزارة، وهكذا ظل يحيا حياة مضطربة حتى مات عام 428ه بهمذان.
69
ونريد بذلك أن ندلل على أن ابن سينا انبعث إلى التوفيق بين الشريعة والفلسفة بالباعث الذي أشرنا إليه أكثر من مرة، وهو أن هذا التوفيق يعنى به الفيلسوف الذي له دين يحرص عليه، وذلك ليوائم بين ما يراه حقا وإن كان في صورتين مختلفتين، أي: الوحي والعقل معا. (2) في المغرب (البطليوسي وابن طفيل) (2-1) البطليوسي
تلك كانت عناية فلاسفة المشرق الإسلامي ومفكريه بتحديد العلاقة بين الدين والفلسفة، فمنهم، كما عرفنا، من رأى وجوب الفصل بينهما، مثل السجستاني، ومنهم من رأى التوفيق بينهما، مثل الكندي والفارابي وابن سينا، وكذلك شغلت هذه المسألة فلاسفة المغرب ومفكريه أيضا، ونبدأ منهم بالبطليوسي.
وهو عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي، الذي ولد في بطليوس سنة 444ه وتوفي في بلنسية سنة 521ه، وكلتاهما من بلاد الأندلس كما هو معروف.
70
ويظهر أن شهرته باللغة والأدب وغيرهما من العلوم الإسلامية قد غطت على شهرته بالتفكير الفلسفي؛ ولذلك لا نعلم أحدا درسه قبلنا من هذه الناحية .
على أنه قد عالج مشكلة التوفيق بين الدين والفلسفة، ويظهر أن طريقته في ذلك جعلته مرضيا عنه، ها هو ذا معاصره الفتح بن خاقان يقول عنه في كتابه «قلائد العقيان»: «له تحقق في العلوم الحديثة والقديمة، وتصرف في طرقها القويمة ، ما خرج بمعرفتها عن مضمار شرع، ولا نكب عن أصل للسنة ولا فرع.»
والآن كيف عالج هذه المشكلة؟ نستطيع أن نقرر بعد معرفة ما ترك البطليوسي من مؤلفات بأنه خصص واحدا منها لهذه المسألة، وهو «كتاب الحدائق في المطالب العالية الفلسفية العويصة.»
71
وأنه عالجها أثناء بحث هذه المسائل: (1)
الله ووجود العالم عنه. (2)
علم الله وشموله. (3)
تحبيب الفلاسفة القدامى إلى المسلمين. (4)
علو ما يأتي به الوحي على ما يصل إليه العقل. (5)
خلود الروح أو النفس والبعث.
وسنتناول كلا من هذه المسائل بإيجاز؛ لنعرف الخطة التي اصطنعها ليصل إلى ما أراد من التوفيق بين الشريعة والفلسفة، ومرجعنا في هذا كله هو كتاب الحدائق السابق ذكره.
الله ووجود العالم عنه
في هذه المسألة نجد عند البطليوسي نظرية فيض الموجودات عن الله، باعتباره العلة الأولى أو السبب الأول لها، على أنه علة مباشرة لأول موجود وغير مباشرة لما بعده، كما نجد عنده نظرية العقول العشرة، وهذا وذاك على النحو الذي نعرفه عن الفارابي وابن سينا.
ويمثل ذلك لنا بوجود الأعداد جميعها عن الواحد، فكل عدد معلول لسابقه لا يوجد إلا بتوسطه، وإن كان الواحد علة لها جميعا؛ إذ كان لا يصح وجود الأبعد إلا بوجود الأقرب، وهذا معنى ما يقال «إن الواحد علة العلل وسبب الأسباب.»
72
والبطليوسي يمضي في هذا التمثيل، تمثيل وجود العالم عن الله بوجود الأعداد إلى ما لا نهاية عن الواحد، لينتهي من هذا إلى حل هذه المشكلات: قدم العالم أو حدوثه، وجوده عن مادة أولى قديمة أو من العدم كما يقول الدين، وكيف تصدر الكثرة عن الواحد بغير تكثر في ذاته.
ولذلك يقول: «وكما أن الأعداد كلها اقتبست الوجود من الواحد من غير حركة ولا زمان ولا مكان، ولم يحتج الواحد في إيجادها إلى شيء آخر غير ذاته، فكذلك حدوث الموجودات عن الباري تعالى بغير حركة، وبغير زمان، وبغير مكان، ومن غير أن يحتاج في إيجادها إلى شيء غيره.
وكما أن الواحد لا يوصف بأنه تقدم الأعداد بالزمان، ولا يبطل ذلك أن تكون الأعداد محدثة عنه، فكذلك الباري لا يوصف بأنه تقدم العالم بالزمان، ولا يبطل أن يكون العالم محدثا عنه.
وكما أن الواحد لا يتغير عن الوحدانية بكثرة ما حدث من الأعداد عنه، ولم يوجب ذلك تكثرا في ذاته ولا استحالة في جوهره، فكذلك حدوث العالم وكثرته لا يوجب تغير الباري في وحدانيته، ولا تكثرا في ذاته.» إلى آخر ما قال.
73
وكذلك يمضي في هذا التمثيل؛ ليصل إلى أن العالم محتاج في وجوده ودوامه لوجود الله؛ فلو ارتفع لارتفع، وأن الأمر ليس بالعكس، فلو ارتفع العالم لم يرتفع الله، كما هو الحال بالنسبة للواحد والأعداد الموجودة به.
ومعنى هذا «أن وجود الله وجود مطلق؛ لأنه لا يحتاج في وجوده إلى غيره، ووجود الموجودات كلها وجود مضاف؛ لأن وجودها مقتبس من وجوده وفائض عنه.»
74
أو بعبارة أخرى، إن سريان الوحدة من الباري تعالى - التي بها قوامه وتميزه عن سواه - للأشياء هو الذي كونها، وأفاض الوجود على مراتبها وصير بعضها عللا لبعض، وهو تعالى علة وجود الجميع؛ ولذلك سموه علة العلل، والفاعل المطلق والفاعل بالحقيقة؛ لأن فعل غيره إنما هو فعل بالمجاز.
75
هكذا في هذه الناحية يرى البطليوسي أنه قد وفق بين الشريعة والفلسفة، وذلك بالقول بالله الخالق للعالم من لا شيء، وإن كان ذلك بطريق العلية المباشرة لأول موجود وغير المباشرة للموجودات الأخرى، وكذلك بذهابه إلى أن القول بحدوث العالم عنه لا يقتضي تقدم الله عنه بالزمان، كما هو الأمر بالنسبة للواحد ما وجد عنه من الأعداد الأخرى، وذلك ما لا يستطيع أحد أن يقول بخلافه، ما دام أن الله هو العلة الأولى لوجود العالم، والعلة لا تتقدم على معلولها بالزمان.
علم الله وشموله
وهنا نرى البطليوسي ينقد من ذهب - كالفارابي - إلى أن الله لا يعلم غيره، أو أنه يعلم غيره من الموجودات على نحو كلي لا جزئي، كما ذهب إليه ابن سينا مثلا، وهؤلاء وأولئك يستندون إلى قول الفلاسفة القدامى: «إن الله لا يعلم إلا نفسه.» وهذا الفهم لهذه القولة يصفه البطليوسي بأنه جهل وسوء تأويل لكلام القدامى، وأنهم براء مما توهم هؤلاء عليهم.
وبعد أن اجتهد في شرح هذه العبارة المأثورة على أربعة أوجه، وكل منها ينتهي إلى هذا المبدأ: إذا علم الله نفسه فقد علم كل وجود تابع لوجوده، أخذ في التدليل على أن الفلاسفة قد أرادوا بذلك أن الله عالم بكل شيء؛ لأنه عقل مجرد عن المادة التي تمنعنا من إدراك الأشياء، وينتهي من ذلك إلى إبطال ما ذهب إليه كل من الفارابي ومتبعيه وابن سينا ومتبعيه.
وأخيرا يستند في مناقشته لهذه المذاهب إلى ما جاء في القرآن من آيات تثبت علم الله الشامل لكل شيء، كبيرا كان أو صغيرا، وكليا كان أو جزئيا، مؤكدا أن ما جاء في هذه المسألة من الأقوال المأثورة عن الفلاسفة القدامى يطابق ما ورد في الشريعة.
76
تحبيب الفلاسفة القدامى للمسلمين
نكتفي هنا بالإشارة إلى ما حاوله في المسألة السابعة، نعني علم الله الشامل لكل شيء، من أن الفلاسفة اليونان القدامى يرون - كما جاء به الإسلام - أن الله يعلم كل شيء، ومن أن ما قيل عنهم مما يخالف هذا ليس مأتاه إلا من الجهل وعدم فهم كلامهم.
ثم نشير إلى ما ذكره في أثناء عرض رأيه، أو بالأحرى الرأي الذي ارتضاه عن الفارابي وابن سينا في مسألة وجود العالم عن الله، من قوله: «فهذا مذهب أرسطوطاليس وأفلاطون وسقراط، وغيرهم من مشاهير الفلاسفة وزعمائهم القائلين بالتوحيد.»
77
كما يذكر عند الكلام على عدم فناء النفس وخلودها، أن هذا هو مذهب سقراط وأرسطوطاليس وأفلاطون وسائر زعماء الفلاسفة.
78
ولسنا الآن في مقام تخطئته في نسبته القول بالتوحيد وعلم الله الشامل إلى سقراط وأفلاطون وأرسطو معا، فلعل له عذره في أنه حكم بهذا بحسب ما وصل إليه عنهم، ولكنا نشير مرة أخرى إلى أنه قد يكون قصد من ذلك أن يجعل هؤلاء الفلاسفة القدماء وآراءهم في هذه المشاكل الفلسفية الأساسية، محببة إلى رجال الدين؛ لأنها في رأيه لا تختلف عما جاء به الإسلام.
علو الوحي على ما يصل إليه العقل
بتحديد البطليوسي لخواص النفس ومهمتها، ومن تحديده لخواص النفس النبوية والدور الذي لها،
79
نستطيع أن نفهم أن لكل منهما حدودا خاصة، وأن العقل محدود القدرة؛ إذ يقف عاجزا أمام بعض الأمور التي تعلم بطريق الوحي وحده.
دور العقل أو النفس الفلسفية كما يقول، هو معرفة الحقيقة التي تنشدها الفلسفة، ومعرفة أسباب الأشياء وعللها، ومهمة الوحي أو النفس النبوية هي الاتصال بالعقل الفعال وتلقي الوحي، وإكمال الفطر الناقصة بوضع السنن والتشريعات، وتعليمنا ما يعجز العقل عن علمه ومعرفته، وهنا يسوق قولا لأفلاطون عن عجز العقل عن فهم ما جاءت به الشرائع، وآخر لأرسطو عن وجوب التسليم لما جاءت به.
80
ومن ثم نفهم أنه يذهب إلى علو مرتبة النبي عن مرتبة الفيلسوف، بل إنه ليؤكد بصراحة أن النفس النبوية أشرف النفوس، وأنه لا يتفق أن توجد إلا في ذوي الفطر الكاملة، كما يؤكد بعد هذا أن النبوة إلهام لا اكتساب.
81
وفي هذا وذاك - أي إن النبوة ليست اكتسابا بالنظر والفكر، وأن النبي أعلى درجة من الفيلسوف - ذهاب صريح من البطليوسي إلى ما يقوله الدين في هذه الناحية، وبذلك يصح ما قاله ابن خاقان فيه، وسبق أن نقلناه عنه من أنه مع بصره بالعلوم القديمة ما خرج بمعرفتها عن الشريعة والسنة.
خلود النفس والبعث
وأخيرا نجد البطليوسي يعنى بذكر جملة من البراهين الفلسفية على بقاء النفس بعد مفارقة الجسد بالموت، وهذا ما لا ينازع فيه أحد من رجال الدين، وهو كما يزعم مذهب سقراط وأفلاطون وأرسطو وسائر زعماء الفلاسفة الإغريق.
82
ولا نرى من الضروري هنا إيراد كل هذه البراهين التي دلل بها على خلود النفس بعد فناء الجسم، ولكنا مع هذا نشير إلى ما يراه في البرهان الثاني من أن الجسم ليس حيا إلا بالقوة، ولا يصير حيا بالفعل إلا بجوهر آخر غيره هو حي بالفعل، وذلك الجوهر هو النفس، إذن النفس حية بالفعل، وما هو كذلك لا يعدم الحياة.
83
وكذلك نشير إلى البرهان الخامس الذي يتلخص في أن الإنسان مركب من جوهرين: جوهر حي بالطبع وهو النفس؛ لأن في طبعها قبول العلوم والمعارف، وجوهر موات بالطبع وهو الجسم؛ إذ ليس في طبعه قبول شيء من ذلك؛ فإذا افترقا بالموت، خلص للجسم الموت المحض الذي هو طبعه، وفارقته الحياة العرضية التي كان استفادها من النفس، وخلصت للنفس الحياة المحضة التي هي طبعها، وفارقها الموت العرضي الذي كان عرض لها من قبل استغراقها في الجسم.
84
هذا، ونرى من المهم هنا أن نشير إلى أن البطليوسي قد اهتم في رسالته هذه بإثبات خلود الروح بعد فناء الجسد بأدلة فلسفية؛ لأن البراهين الشرعية لا تليق بهذا الموضع كما يقول، وذلك فيما نرى لأمرين: (1)
أهمية القول بخلود الروح الذي يترتب عليه الجزاء الأخروي كما جاء في الدين. (2)
ما هو معروف عن الفارابي من تردده في القول بالخلود أو فناء الروح بفناء الجسد، وهذا ما هو حري أن يثير رجال الدين.
حقيقة؛ إن الفارابي ظل طول حياته مترددا بين القول بخلود الروح أو بفنائها بفناء الجسم، لأنها صورة له، فإنه ليرى أن من الخطأ القول بأن أفلاطون يرى خلود الروح استنادا إلى ما جاء في «فيدون»؛ لأنه - في رأي الفارابي - حكى هذا عن سقراط لمناقشته، ومثل هذا الصنيع لا يصلح دليلا قاطعا على أن أفلاطون يذهب إلى خلود الروح.
85
ولكننا نقول بأن أفلاطون، وإن شك في خلود الروح في بعض محاوراته الأولى، قد عاد فأكده.
86
بل إنه في محاورة «فيدون» نفسها يجعل الخلود شرطا لا بد منه للمعرفة، كما يجعله في «الجمهورية» أساسا للحياة السياسية والأخلاقية.
87
أما المعلم الثاني؛ فقد ظل حياته حقا مترددا في المسألة، فكان ذلك سببا لنقد شديد من بعض فلاسفة المتكلمين، هذا «ابن طفيل» يذكر أنه قد تناقض في المسألة ؛ إذ تردد بين القول بخلود الأرواح الفاضلة وحدها، أو القول بفنائها بعد فناء البدن فاضلة كانت أو شريرة، وهذه زلة لا تقال كما يذكر ابن طفيل،
88
وكذلك تناوله بالنقد اللاذع ابن سبعين.
89
هذا، ولكن ابن سينا لم يقع فيما وقع فيه شيخه من تردد بل تناقض، فإنه بعد أن ذهب إلى جوهرية الروح وروحانيتها، لم يجد أي عناء في التدليل على خلودها بعد فناء الجسم الذي هو آلة لها؛ إذ لا يلزم من فناء الآلة فناء الروح التي تستخدمه.
90
ومن ناحية أخرى إن النفس لا تقبل الفساد بطبيعتها؛ لأن كل ما هو كائن قابل للفساد نجد فيه مبدأين: الحياة بالفعل، والفساد بالقوة، ومن ثم يعتريه الفساد بعد الكون، أما الروح وهي بطبيعتها جوهر بسيط، فلا يمكن أن تقبل الفساد؛ إذ ليس فيها بالقوة أي عنصر من عناصر الفناء.
91 •••
وهكذا نرى في الأندلس البطليوسي يندب نفسه قبل ابن طفيل للتوفيق بين الحكمة والشريعة، وهكذا نراه مثل الغزالي بالمشرق يخالف الفارابي وابن سينا فيما ذهب كل منهما إليه خاصا بعلم الله تعالى، ولكنه يخالفهما ليوفق بين الدين والفلسفة، لا لمجرد التشهير بهما ورميهما بالكفر، وهكذا نرى البطليوسي يعمل للتوفيق بين الشريعة والفلسفة بالطريقة والوسائل التي ذكرناها.
ولكن ليس لنا أن نزعم أنه نجح كل النجاح، ولا أنه كان طريفا فيما ذهب إليه من وجوه التوفيق، وغرضنا هنا كما كان بالنسبة إلى السجستاني من قبل بالمشرق، أن نشير إلى أنه من الواجب على مؤرخ الفلسفة الإسلامية أن يدخل في دائرة بحثه مفكرين من هذا الطراز، وإن كانوا حتى اليوم غير معروفين في دائرة التفكير الفلسفي، وألا يقتصر - كما جرى الأمر حتى اليوم - على بحث الفلاسفة المشهورين أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد.
إن ذلك يعيننا على تتبع تاريخ الفكر الإسلامي في هذه الناحية، ناحية التوفيق بين الدين والفلسفة، كما يعيننا في سائر النواحي الأخرى التي عالجها فلاسفة الإسلام. (2-2) ابن طفيل
عاصر أبو بكر بن طفيل فيلسوفنا ابن رشد ردحا من عمره، وعاش عيشة هانئة في رعاية أسرة الموحدين حتى توفي سنة 581ه/1185م في عهد السلطان أبي يوسف يعقوب، وقد عني عناية حقة بالتوفيق بين الدين والفلسفة، حتى إنه يمكن أن يقال بأن الغرض من قصته الفلسفية «حي بن يقظان» كان إظهار هذا الاتفاق والتدليل عليه.
ولذلك لما التقى بطله «حي» وقد وصل إلى الحقيقة بالنظر العقلي، ب «آسال» وقد عرفها من الدين، وقص كل منهما على الآخر أمره، ثبت لهما أن الحقائق التي وصل إليها العقل وعرفت بالوحي متطابقة تطابقا تاما.
92
وهذا ما يقوله لنا ابن طفيل نفسه حين يقص علينا تفصيل ما كان بين بطله «حي» وصاحبه «آسال» الذي «وصف له جميع ما ورد في الشريعة؛ من وصف العالم الإلهي، والجنة والنار، والبعث والنشور، والحشر والحساب، والميزان والصراط، ففهم «حي بن يقظان» ذلك كله ولم ير فيه شيئا على خلاف ما شاهده في مقامه الكريم.»
93
ولهذا نرى المراكشي والمقري يصفان ابن طفيل بالاجتهاد في التوفيق بين الحكمة والشريعة.
94
وأخيرا في هذه الناحية نذكر أن ابن طفيل انتهى إلى ما انتهى إليه أسلافه من أن الناس طبقات، منهم من لا يطيق معرفة الحقائق بذاتها عارية، فالخير له الانتفاع بالشريعة وما ضربته لهذه الحقائق من رموز وأمثال، وإلا ساء أمره ووقع في الضلال إن حاول المعرفة الحقة السافرة، ومنهم الذين وهبوا استعدادا وعقلا ارتفعوا به عن العامة وأمثالهم، وهؤلاء تفيدهم المكاشفة بالحقائق ذاتها.
وقد تبع ذلك طبعا أن قرر كأسلافه أيضا أن هناك تعاليم ظاهرة وأخرى خفية يجب التمييز بينها، وأن يجعل كل نوع منها لطائفة خاصة لا يصلح أمرها إلا بها، وبهذا لا يصطدم الدين بالفلسفة بل يتقرر بينهما الوئام والسلام. •••
وأخيرا بعد عرض ما كان قبل ابن رشد من جهود سابقيه من فلاسفة الإسلام ومفكريه، في المشرق والمغرب، في محاولة التوفيق بين الحكمة والشريعة، نرى أنه لا بد من الإشارة إلى ظاهرة يلمسها الباحث، ثم إلى تعليلها.
وذلك أنه لم نعرف أن أحدا من أولئك في المشرق قد عني بتخصيص رسالة من مؤلفاته لهذه الغاية، على حين نجد هذا في المغرب، مثل «حي بن يقظان» لابن طفيل، وبعض المؤلفات التي خصصها ابن رشد لهذه الغاية.
ولتعليل هذا ينبغي أن نلاحظ أنه مهما يكن صادقا القول بأنه قبل التفلسف يجب أن يعمل الفيلسوف على أن يكون له الحق في أن يعيش آمنا، فإن الفلاسفة في المشرق لم يحسوا إحساسا قويا هذه الحاجة لتأمين حياتهم كما أحسها إخوانهم في المغرب.
إن أولئك الفلاسفة المشارقة كالكندي مثلا، كانوا يعيشون في عهد الخلفاء العباسيين الذين عرفوا بحرية الفكر وحماية المفكرين، ولما جاء المتوكل العباسي عام 232ه/847م، وأخذ في اضطهاد أصحاب الفكر الحر، صادف أن وافق هذا الانقلاب في السياسة العلمية - إن صح هذا التعبير - ضعف سلطان العباسيين وظهور دويلات في قلب الدولة الإسلامية، وتبع ذلك تفرق العلم وطلابه والفكر ورجاله في مراكز متعددة تابعة لأمراء يجد الباحثون لديهم كثيرا من التشجيع.
95
ومن هذه الدويلات الدولة السامانية ببخارى ومؤسسها نصر بن أحمد الساماني، والحمدانية بحلب ومؤسسها سيف الدولة الحمداني.
وهكذا كان تجزئة الدولة الإسلامية من صالح المفكرين والفلاسفة الذين كانوا يجدون رعاية من أمراء تلك الدويلات، ومن مثل ذلك الفارابي وسيف الدولة الحمداني
96
كما كان الواحد منهم إن خشي على نفسه أميرا من الأمراء انتقل عنه إلى غيره، ومن مثل هذا ابن سينا.
97
ويضاف إلى هذا وذاك أن الدولة العباسية كانت مختلفة العناصر: دينا وجنسا وثقافة، وذلك ما يجعل الفلاسفة فيها أكثر جرأة وأمنا؛ إذ تجد آراؤهم بيئة مناسبة هنا أو هناك.
98
كل هذه العوامل لا تجعل - على ما نرى - الفيلسوف في المشرق في حاجة ماسة للتوفيق قبل كل شيء بين الشريعة والحكمة، ولا لأن يخصص لذلك مؤلفا من مؤلفاته، بعكس ما كان عليه الحال في المغرب الإسلامي، تحت حكم المرابطين أولا والموحدين ثانيا، في بيئة مليئة بالتعصب ضد كل من أجاز لنفسه شيئا من حرية التفكير، وإن كان من رجال علم الكلام كالإمام الأشعري! وضد كل عالم له آراء تخالف ما ألفوه وإن كان الغزالي الخصم اللدود للفلاسفة!
في بيئة يبلغ فيها التعصب ضد التفكير الحر درجة تجعل بعض الأمراء يوقعون - طلبا لمرضاة رجال الدين والشعب - بمن كانوا يحمونهم ويشاركونهم في دراسة الفلسفة أحيانا، كما حصل لابن باجة وابن رشد.
لا عجب إذن إن رأينا الفلاسفة في المغرب يعنون قبل كل شيء بالعمل على التوفيق بين الإسلام والفلسفة، ويخصص الواحد منهم بعض مؤلفاته لهذا الغرض؛ وذلك ليأمنوا على أنفسهم وليحببوا الفلسفة للناس جميعا ببيان أنها والدين من منبع واحد، ويعملان لغرض واحد، هو خير الإنسانية العام.
والآن ننتقل للقسم الثاني من البحث، ونبدأ بالحديث عن فيلسوف قرطبة لنعرف أولا كيف تصور العلاقة بين الوحي والعقل، وعلى أي أساس تقوم، فذلك في رأينا حجر الزاوية في محاولته التوفيق بين هذين الطرفين المتباعدين في بادئ الرأي، والقريبين جدا بعضهما من بعض حسب الواقع على ما يرى.
القسم الثاني
الفصل الأول
العلاقة بين الوحي والعقل في رأي ابن رشد
إن العناية بإنشاء علاقة طيبة بين الوحي والعقل، وتثبيت هذه العلاقة على أسس متينة، مما يجب أن يعمل له الفيلسوف المتدين كما قلنا من قبل، على أنه فضلا عن هذا، قد جد سبب آخر بالنسبة لابن رشد يجعله بعد فلاسفة المشرق والآخرين الذين سبقوه يبذل غاية الجهد في هذه السبيل.
ونعني بهذا شعوره القوي بشدة حملة الغزالي العنيفة وقوة أثرها وشدة خطورتها، وبخاصة أنه صاحب أكبر مركز إسلامي في عصره وبلده، وله بتمكنه من الدين وأسراره ومن فهمه الصحيح لفلسفة أرسطو التي يراها الحقيقة، وصل إليها المعلم الأول من غير طريق الوحي، ومن حظوته في الدولة بالمركز المرموق في الفقه والقضاء، له من كل هذا ما ييسر له أن يتقدم بشجاعة برأيه في هذه العلاقة، وبمجهوده في التقريب بين هذين الطريقين اللذين جعل الغزالي منهما طرفين لا يلتقيان.
حقا إذا رجعنا للعصر الذي عاش فيه فيلسوف قرطبة، وإذا تمثلنا الأثر الذي أحدثه الغزالي بكتابه «تهافت الفلاسفة»، رأينا فيلسوفنا مضطرا لبذل غاية جهده؛ لإماتة هذا الأثر أو إضعافه على الأقل، وذلك بعمل له أسسه ودعائمه، يبين به العلاقة التي ينبغي أن تكون بين الدين والفلسفة، حتى لا يقوم بينهما عداء أو نزاع، كان لا يسعه باعتباره فيلسوفا ومن كبار رجال الدين والشريعة إلا أن يفكر في الأمر طويلا، وإلا أن يعمل بكل قوة ليصل إلى ما يريد من مؤاخاة الشريعة للفلسفة.
وقد أقبل ابن رشد على العمل الذي أحس ضرورته، وخصص للغاية التي أراد الوصول إليها كتابيه: «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» و«الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة».
1
ذلك فضلا عما خصصه لها أيضا من كتابه: «تهافت التهافت»
2
في مناسبات مختلفة ومواضع عدة، وإذن علينا أن نرجع إلى هذه المؤلفات لنعرف ما هي العلاقة التي يراها بين الوحي والعقل، وعلى أي أسس ينبغي أن تقوم.
ونستطيع أن نقول من الآن بأن فيلسوف الأندلس لم يعتد بالدين وحده دون العقل، ولا بهذا وحده دون ذاك، بل حاول - مثله في هذا مثل كثير من سابقيه وممن أتوا بعده في العصر الوسيط والعصر الحديث - أن يسلك طريقا وسطا، وذلك ببيان أن كلا من الحكمة والشريعة في حاجة إلى الأخرى، وأن لكل منهما ناسها وأهلها، إلى آخر ما سنراه له من ضروب التوفيق بينهما، وهذا معناه أنه اختار في هذه العلاقة الوضع الذي يختاره كل مؤمن بالدين وقيمة العقل والفكر معا.
والآن بعد هذا العموم ندخل في التفصيل، وذلك بذكر أن فيلسوف الأندلس قد صدر في بيان تلك العلاقة عن هذه المبادئ: (1)
الشريعة، أو الدين، توجب التفلسف. (2)
الشريعة لها معان ظاهرة للعامة، وأخرى باطنة للخاصة، ومعنى هذا وذاك وجوب التأويل أحيانا ولبعض الطبقات من الناس. (3)
وضع قواعد خاصة بتأويل النصوص. (4)
تحديد مدى قدرة العقل، والصلة بينه وبين الوحي.
وقد انتهى ابن رشد من ذلك كله إلى أن الحكمة والشريعة أو الفلسفة والدين، أختان ارتضعتا لبانا واحدا، وأنهما يتعاونان في إسعاد البشر، ونحن نتناول كلا من تلك المبادئ بالبحث كما رآه فيلسوف قرطبة.
ومن الخير أن نذكر هنا أننا سنعرض آراء ابن رشد في هذه النقط واحدة بعد واحدة، أما الصلة بين ما ذهب إليه فيها وبين ما ذهب إليه الذين تناولوها بالبحث قبله أو بعده، فستكون موضع دراسة خاصة في فصل خاص يجيء في الترتيب بعد هذا الفصل، على أننا قد نشير في هذا الفصل إلى بعض هذه المقارنات في أثناء البحث. (1) الشريعة توجب التفلسف
بدأ فيلسوفنا بالتدليل على أن الشريعة (القرآن والحديث) توجب النظر الفلسفي، كما توجب استعمال البرهان المنطقي، لمعرفة الله تعالى وموجوداته، وساق لهذا وذاك دليلا من القرآن، وهو قوله تعالى (سورة الحشر 59 / 2):
3
فاعتبروا يا أولي الأبصار ، مبينا أن «الاعتبار» هنا ليس إلا استنباط المجهول من المعلوم، وهو القياس الفلسفي أو المنطق المعروف.
4
وهذا المعنى الذي ذكره ابن رشد لكلمة «اعتبروا»، وإن كان أحد معنييها، إلا أننا نرى أنه غير مراد في الموضع الذي جاءت الآية فيه إذا راعينا السياق، والمعنى الآخر الذي هو المراد في رأينا، هو «اتعظوا» أي: اتعظوا أيها العقلاء ذوو البصيرة مما حصل لليهود الذين ناصبوا الرسول والمسلمين العداء، وظنوا أن حصونهم مانعتهم مما يريد الله بهم، ولكن الله أوقع الرعب في قلوبهم، وجعل بينهم الفشل حتى استسلموا للنبي وانتهى أمرهم بإجلائهم إلى الشام.
على أن هذه الآية وإن لم تصلح دليلا في رأينا على ما أراد ابن رشد من أن القرآن يوجب القياس البرهاني والنظر العقلي الفلسفي، فهناك في القرآن نفسه - كما قال - آيات أخرى كثيرة تحث على استعمال العقل والنظر في الموجودات، ومن ذلك قوله تعالى:
قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ،
5
وقوله:
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ،
6
وقوله:
يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا .
7
وهذا فضلا عن قول الرسول
صلى الله عليه وسلم : «لا حسد إلا في اثنتين؛ رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها.»
8
وإذا كان الشرع يوجب النظر الفلسفي، فمن الواجب أن نلتمس تأويل ما لا يتفق معه من النصوص، على أن يتفق هذا التأويل وقواعد اللغة العربية؛ وذلك لأن من المقطوع به - كما يقول فيلسوفنا - أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع، أن هذا الظاهر يقبل التأويل حتى لا يصطدم الشرع والعقل،
9
كما أنه من الجائز أن يؤدي البرهان إلى نتائج تتفق وظواهر النصوص التي أجمع المسلمون على تأويلها، أو تتفق والمعاني الخفية الباطنة التي أجمعوا على أخذها حسب ظواهرها، وبعبارة أخرى يجوز أن يؤدي البرهان إلى مخالفة الإجماع في الأمور النظرية، ما دام الإجماع لا يمكن أن يتحقق بيقين من العلماء جميعا في عصر من العصور.
10
وينبغي في رأينا ألا نجد غريبا عن الدين وروحه ما يذهب إليه ابن رشد من وجوب تأويل النصوص التي لا تتفق ونظر العقل السليم.
ها هو ذا الغزالي حجة الإسلام وعدو الفلاسفة، يستنكر في رسالته الخاصة بالتأويل وقانونه أن يكذب العقل بالشرع مع أن هذا ما ثبت إلا بذاك.
11
كما يوصي من يحاول الجمع بين الدين والفلسفة، أو بين المنقول والمعقول حسب تعبيره، ألا يكذب برهان العقل أصلا، وذلك كما يقول لأن العقل لا يكذب، ولو ذهبنا إلى تكذيبه فلعله كذب في إثبات الشرع الذي ما عرفناه وما ثبت إلا به.
12 (2) الشريعة لها ظاهر وباطن
والسبب كما يذكر ابن رشد في وجود نصوص من القرآن والحديث تتطلب التأويل لمعرفة المعاني الخفية المرادة منها، ووجود نصوص أخرى يراد منها ما تدل عليه من المعاني الظاهرة، أو بعبارة أخرى، السبب في انقسام الشريعة إلى ظاهر له أهله وهم العامة وأشباههم، وباطن له أهله وهم ذوو البرهان، هو أن الناس مختلفون في الفطر والعقول؛ ولهذا تختلف استعداداتهم وقدرهم ووسائلهم إلى فهم وإدراك ما جاءت به الشريعة من المعتقدات.
13
وهم بسبب هذا الاختلاف والتفاوت ثلاث طوائف: (أ)
الخطابيون: وهم الجمهور الغالب الذي يصدق بالأدلة الخطابية. (ب)
أهل الجدل: ومنهم رجال علم الكلام، وهم الذين ارتفعوا عن العامة، ولكنهم لم يصلوا لأهل البرهان اليقيني. (ج)
وأخيرا، البرهانيون: بطبعهم وبالحكمة التي أخذوا أنفسهم بها .
14
وهذا التفاوت في الفطر والعقول الذي جعل الناس طوائف ثلاثا، يجر حتما إلى اختلاف التعاليم التي يجب أن يؤخذ بها كل فريق: فللجمهور وأشباههم، من الجدليين الذين لا يطيقون الوصول إلى التآويل الصحيحة، الإيمان بظواهر النصوص الشرعية، وما ضرب لهم من رموز وأمثال.
وللعلماء أهل البرهان؛ الإيمان بالمعاني الخفية التي ضربت الأمثال والرموز لتقريبها للعقول، وذلك بتأويل هذه النصوص.
ويجب مع هذا كله أن نحافظ على أن يكون كل نوع من هذين التعليمين لطائفته الخاصة، وعلى ألا يختلط أحدهما بالآخر؛ لأن جعل الناس شرعا واحدا في التعليم خلاف المحسوس والمعقول.
15
ولهذا نرى فيلسوفنا في كلامه على إثبات العلم للمبدأ الأول، يحرم أن يتكلم مع الجمهور في علم الله على النحو الفلسفي، وإلا كان ذلك بمنزلة إعطائهم ما هو سم لهم، وإن كان غذاء للآخرين.
16 •••
ووجوب رعاية انقسام الناس حسب استعداداتهم وعقولهم إلى طوائف، خاصة وعامة، لكل منها تعليم خاص سبق أن عرفناه عند غير ابن رشد من الفلاسفة مثل الفارابي وابن سينا، وسنعرفه أيضا بعده لدى ابن ميمون الذي يرى أن مسائل الطبيعة يجب ألا تعلم علنا ولكل الناس، بل ولا أن تثبت في كتاب يقرؤه الناس جميعا؛ وذلك لأنها متصلة اتصالا وثيقا بمسائل ما بعد الطبيعة وأسرارها؛ ولهذا فإن فلاسفة ما بعد الطبيعة وكذلك علماء الكلام، وأصدقاء الحقيقة لم يتكلموا في شيء من ذلك إلا رمزا بطريق المجاز ونحوه.
17
والسبب في هذا اختلاف الناس وانقسامهم إلى طوائف حسب ما منحوا من الاستعداد والعقل وضوء المعرفة، هذا الضوء الذي يضيء دائما للعدد الأكبر من الأنبياء، ويضيء لآخرين فترات متقاربة أو متباعدة، وينعدم بالنسبة للذين يعيشون في الظلام، والحقيقة محجوبة تماما عنهم، وهم العامة من الناس.
18
وإذن من الخطر في رأي ابن ميمون، كما هو في رأي ابن رشد، إظهار حقائق الطبيعة وما بعد الطبيعة لغير أهلها، سواء كان هذا بتأويل النصوص التي اشتملت عليها، أو بأي نوع آخر من أنواع التعاليم، وفي ذلك يستعمل ابن ميمون مقارنة من جنس التي التجأ إليها ابن رشد، ليبين ضرر التكلم مع الجمهور على النحو الفلسفي، وهذا إذ يقول:
19 «إني لا أقارن هذا إلا بمن يجعل طفلا رضيعا يأخذ من خبز الحنطة ويشرب من الخمر، فإنه يكون سببا في ضرره بلا ريب، وليس هذا لأن ما تناوله هو من الأطعمة والأشربة الضارة الرديئة والمضادة لطبيعة الإنسان، ولكن لأن الذي تناول منها هو أضعف من أن يهضمها ويفيد منها.»
وبعد ابن ميمون الأندلسي نجد لابن رشد شبيها آخر في هذا إلى حد ما من الفلاسفة الغربيين المحدثين، وهو سبينوزا، فإنه كتب رسالته اللاهوتية السياسية؛ ليبحث فيها العلاقة بين العقيدة أو علم اللاهوت وبين العقل أو الفلسفة، وانتهى من بحثه إلى وجوب فصل كل منهما عن الآخر، حتى إنه ليؤكد أن هذا الفصل والتدليل عليه هو الغرض الأساسي الذي تهدف إليه الرسالة.
20
ويرى تبريرا لهذا الذي يذهب إليه، أنه ليس من علاقة أو صلة قرابة بين العقيدة أو الدين وبين الفلسفة،
21
ولكنه مع هذا يرى أن كلا منهما طريق إلى السعادة لأهل كل منهما.
على أن «سبينوزا» وإن شدد هكذا في وجوب عدم خلط الدين بالفلسفة، وضرورة أن يكون لكل منهما أناس وطبقة خاصة، وأن تكون السيادة لكل منهما في مملكته لا يعارضه الآخر في شيء،
22
فإنه لا يصدر في ذلك تماما عن الأسباب التي صدر عنها ابن رشد حين قسم الناس إلى طبقات، وجعل لكل طبقة تعليما خاصا يجب ألا تتعداه، فللفلسفة أهلها، وللأخذ بظاهر الوحي أهله.
إن الفيلسوف اليهودي الغربي يرى أنه ليس في الكتاب المقدس فلسفة، بل ليس فيه إلا حقائق بسيطة جدا،
23
وإن الغرض والأساس لكل من الفلسفة واللاهوت يختلف تماما في كل منها،
24
ولهذا يرفض بقوة صنيع ابن ميمون في تأويل التوراة؛ ليستنبط منها ما زعمه من الأفكار الفلسفية، ويصفه بأنه ضار وعبث وحمق.
25
وأما الفيلسوف المسلم الغربي، فإنه يرى كما سبق أن عرفنا أن لبعض نصوص الشريعة معنى ظاهرا للعامة، وآخر باطنا فلسفيا للخاصة، وأن هذا المعنى الثاني يظهر بالتأويل لمن هو أهله، وهذا معناه أن القرآن والحديث قد حويا جانبا من الأفكار الفلسفية، وأنه يجب استخراج هذه الأفكار للقادر والذي هو أهل لها. •••
هذا، وقبل أن نترك هذه المسألة لما بعدها، يحسن أن نشير إلى أن وجود نصوص في الشريعة يجب تأويلها يعتبر إشارة أو دعوة من الدين إلى التفلسف، فإنه لا يمكن إدراك المعاني الخفية من هذه النصوص إلا بالنظر الفلسفي، وإلا كانت النتيجة الحتمية ترك جانب من النصوص بلا فهم صحيح، وترك كثير من معانيها المهمة بلا إدراك، وهذا ما لا يرضاه محب للشريعة ومقدر لها.
وهذا القول بوجوب التأويل لبعض نصوص القرآن والحديث نجده أيضا، على ما سيجيء بيانه بعد، لدى اليهود فيما يختص بالتوراة؛ نجده لدى فيلون الإسكندري وسعاديا الفيومي وابن جبريول الذي عاش في القرن الحادي عشر، ثم لدى ابن ميمون بعد هؤلاء.
كما سنجده لدى مفكري رجال الكنيسة المسيحية قبل ابن رشد وبعده أيضا، مثل أوريجين وكليمان الإسكندري وأبيلارد، وأخيرا سنجد الوضع نفسه لدى كثيرين آخرين من مفكري الإسلام وفلاسفته، ولدى المتصوفة بصفة خاصة، هؤلاء الذين يرون أنهم أهل الحقيقة، في مقابل أهل الشريعة. (3) قانون التأويل وقواعده
إذا كان لا بد من التأويل للأسباب التي ذكرها ابن رشد كما رأينا؛ فإنه رأى ألا يترك الأمر فوضى، فيؤول من يشاء ما يريد من النصوص، ويذيع من التآويل ما يريد ولمن يريد، بل جعل لذلك قانونا وقواعد يسترشد بها الباحث، وتحفظ الإخاء بين الحكمة والشريعة.
وهذا أمر طبيعي في رأينا لمن يرى اصطناع هذه الطريقة، طريقة تأويل بعض النصوص لتتفق مع العقل والنظر الفلسفي الصحيح؛ ولذلك نرى شيئا من هذه القواعد وضعها فيلون اليهودي الإسكندري، كما نرى الغزالي يترك لنا رسالة صغيرة في هذا الشأن تسمى «قانون التأويل».
نقول: بأن ذلك ضروري لمن يرى وجوب التأويل لبعض نصوص الشريعة؛ لأن الذين لا يرون هذا، حتى عندما يحسون التعارض بين العقل وبين النص إن أخذ حسب ظاهره، لا يجدون حاجة لوضع قواعد للتأويل، بل إن هناك من يستنكرون البحث في هذه الناحية، ومنهم «ابن تيمية» المتوفى سنة 728ه كما سنرى بعد في فصل آخر.
إذن، نرى ابن رشد وهو يجد التأويل ضروريا لخير الشريعة والحكمة معا، في ختام كتابه «الكشف عن مناهج الأدلة» يعنى بوضع قانون يبين به حسب تعبيره «ما يجوز من التأويل في الشريعة وما لا يجوز، وما جاز منه فلمن يجوز.» وهذا البيان أو القانون يتلخص في أن المعاني الموجودة في الشرع خمسة أصناف:
26 (1)
أن يكون المعنى الظاهر من النص هو المراد حقيقة في نفس الأمر، وهذا الصنف لا يجوز تأويله مطلقا، بل يجب أخذه حسب ظاهره للناس جميعا. (2)
أن يكون المعنى الظاهر للنص ليس مرادا، بل هو مثال ورمز للمعنى المقصود حقيقة، ولكنه لا يعلم أنه مثال، ولا لماذا اختير بذاته ليكون مثالا ورمزا لذاك المعنى الخفي، إلا بقياسات بعيدة مركبة لا يوصل إليها إلا بتعلم طويل وعلوم جمة، لا يقدر عليها إلا الخاصة من الناس، وهذا الصنف لا يجوز أن يؤوله إلا الراسخون في العلم، وليس لأحدهم التصريح به لسواهم. (3)
أن يكون المعنى الظاهر مثالا ورمزا أيضا لمعنى آخر خفي، ولكن من اليسير أن يفهم أنه مثال ولماذا هو بذاته مثال، وهذا الصنف ليس لأحد الأخذ بظاهره، بل لا بد من تأويله، والتصريح بهذا التأويل للجميع. (4)
أن يكون المعنى الظاهر مثالا: ولكن يعرف بنفسه أو بعلم قريب أنه مثال، وبعلم بعيد لا تقدر عليه العامة ومن في حكمهم لماذا هو بنفسه مثال، وذلك مثل قوله
صلى الله عليه وسلم : «الحجر الأسود يمين الله في الأرض.» وهذا الصنف تأويله خاص بالعلماء، ويؤولونه لأنفسهم خاصة، ويقال للآخرين الذين شعروا أنه مثال، ولكن ليسوا من أهل العلم الذين يعرفون لماذا هو مثال: بأنه من المتشابه الذي يجب عدم البحث عنه، إلا للعلماء الراسخين، أو ينقل لهم التمثيل لما هو أقرب إلى معارفهم ومداركهم، كما يرى الغزالي في كتابه «التفرقة بين الإسلام والزندقة». (5)
وأخيرا، أن يكون المعنى الظاهر مثالا ورمزا لآخر خفي، ولكن لا يتبين أنه مثال إلا بعلم بعيد، ومتى عرف أنه مثال يتبين بعلم قريب لماذا اختير بذاته ليكون مثالا، وهذا القسم من الممكن أن نقول بأن الأحفظ للشرع ألا يتعرض لتأويله، بل الأولى بالنسبة لغير العلماء أن نبطل الأمور التي من أجلها ظنوا أن المعنى الظاهر من النص هو مثال لآخر خفي هو المراد منه، ولنا كذلك أن نقول بجواز التأويل لهؤلاء أيضا، وذلك لقوة الشبه بين المعنى الخفي المراد وبين ما ضرب رمزا ومثالا له.
وبعد هذا التفصيل؛ يذكر فيلسوف قرطبة «أن هذين الصنفين (الرابع والخامس) متى أبيح التأويل فيهما تولدت منه اعتقادات غريبة وبعيدة عن ظاهر الشريعة، وربما فشت فأنكرها الجمهور.»
27
يريد أن يقول بأن الخير في هذا هو البعد عن التأويل؛ ولهذا لما أخذ في تأويل نصوص الشريعة من لم تتميز له هذه المواضع كالمتصوفة، «ولا تميز له الصنف من الناس الذين يجوز التأويل في حقهم.» اضطرب الأمر في الدين، ووجد بين المسلمين فرق يكفر بعضها بعضا، وهذا كله جهل بما قصد الشارع، وتعد على الشريعة نفسها.
28
هذا، ولكي نتقي أمثال هذه النتائج السيئة، وزرع العداوة بين الشريعة والفلسفة يجب بصفة عامة كما يقول ابن رشد ألا يصرح بالتآويل وبخاصة البرهانية لغير أهلها، وهم أهل البرهان، كما يجب ألا تثبت هذه التآويل في الكتب الخطابية والجدلية الموضوعة للعامة وأمثالهم من أهل الجدل، وإلا أدى ذلك إلى إبطال ظواهر النصوص التي يفهمها الواحد من هاتين الفئتين، مع العجز عن إدراك التأويل البرهاني، فيضل ويقع في الكفر إن كان ذلك في أصول الشريعة.
29
وفي أخذ العامة وتكليفهم بالإيمان بظواهر النصوص وحدها، دون ما فيها من معان خفية، سعادتهم، وذلك بأن المقصود الأول بالعلم في حق الجمهور هو العمل، فما كان أجدى في الدفع إليه كان أفضل من غيره، أما الخاصة فإن مقصودهم الأول هو الأمران معا: العلم والعمل؛ ولهذا كانت سعادتهم في تأويل ما يجب تأويله لمعرفة المعاني الخفية المرادة من النصوص.
30
وربما دل لصدق هذا الذي يراه ابن رشد، أن تمثيل نعيم الجنة للجمهور بأنه نعيم محسوس مادي: من أنهار مملوءة لبنا وعسلا، وفاكهة مختلفة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وحور وولدان ... أدفع لهم إلى طريق الفضيلة من تشكيكهم في هذا النعيم على هذه الكيفية الحسية، ومحاولة تفهيمهم أن ما جاء في النصوص دال على مادية الثواب إنما هو رموز وأمثال، وأن المعاد الأخروي لن يكون إلا معنويا، فإن النفوس لا يمكن أن تنعم باللذات المادية.
من السهل بعد هذا أن تفهم إذن أن فيلسوفنا لا يرى أن في النصوص الدينية من القرآن والحديث نصوصا متشابهات، لا بالنسبة للعلماء الراسخين الذين عليهم تأويل هذه النصوص التي يظن أنها متشابهة، ولا بالنسبة للعامة وأمثالهم الذين فرضهم الإيمان بظواهرها دون البحث أو التفكير في تأويلها.
لكن أهل الجدل والمتكلمين هم الذين يوجد في حقهم التشابه في بعض النصوص؛ لأنهم وقد ارتفعوا عن العامة ولم يصلوا إلى مرتبة الخاصة، عرضت لهم شكوك وشبهات لم يقدروا على حلها، فحاولوا التأويل فضلوا وأضلوا؛ ولهذا ذمهم الله الحكيم بأن في قلوبهم زيغا ومرضا، فيتبعون ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله الذي لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم.
31
وقد بلغ من اعتقاد فيلسوف قرطبة بقوة تأثير ما يذهب إليه، من جعل تعليم للعامة وآخر للخاصة، في التوفيق بين الوحي والعقل، أنه يتشدد في ذلك إلى درجة أن يرى أن هناك نصوصا يجب على أهل البرهان تأويلها، وحملهم لها على ظواهرها كفر، كما يجب على العامة وأمثالها حملها على ظواهرها، وتأويلهم لها كفر.
ومن هذه النصوص، قوله تعالى (سورة طه 20 / 4):
الرحمن على العرش استوى ، ونحو هذا من الآيات والأحاديث التي توهم الجسمية والنقلة لله تعالى، بل إنه كما سبقت الإشارة إليه، يصوغ من هذا مبدأ عاما فيقول بعد ما تقدم: «إن من كان من الناس فرضه الإيمان بالظاهر، فالتأويل في حقه كفر.»
32
لأنه يؤدي إليه.
33
وغني عن البيان أنه يريد كذلك أن من كان فرضه التأويل، يكون الأمر بالنسبة إليه على العكس وبصفة عامة أيضا.
كما أنه لذلك أيضا يتشدد في وجوب تطبيق ما وضع من قواعد تتعلق بالتأويل، وجواز أو عدم جواز إذاعته، ولمن تجوز إذاعته؛ ولهذا يلوم اللوم كله الغزالي والمتكلمين: أشاعرة ومعتزلة؛ لأنهم أثبتوا التآويل في مؤلفاتهم فذاعت بين العامة.
إن الغزالي في رأي ابن رشد، «أخطأ على الشريعة والحكمة»، بإثباته التآويل في غير كتب البرهان، فذاعت بين الجمهور، وكان من ذلك أن عاب قوم الأولى وآخرون الأخرى.
34
وكذلك المتكلمون، وبخاصة المعتزلة، إنهم بتآويلهم التي صرحوا بها للجمهور، «أوقعوا الناس في شنآن وتباغض وحروب ومزقوا الشرع.»
35
وفيلسوفنا لا ينسى حين يلوم بعنف هؤلاء على ما صرحوا به من تآويل لغير أهلها، أنه وقع في مثل هذا الصنيع؛ ولذلك نراه يعتذر عما فعل بأن الجمهور قد عرف من أولئك الذين يلومهم هذه التآويل، فكان لا بد له من أن يتكلم فيها، وذلك لبيان الحق من جهة،
36
ولدفع الأذى عن الجمهور من جهة أخرى، كما يفعل الطبيب الحاذق لشفاء المريض إذا تعدى الشرير الجاهل (يريد الغزالي وأمثاله) وسقاه السم على أنه غذاء.
37
وهذا الاعتذار يذكرنا باعتذار سلفه وبلديه ابن طفيل في مثل هذه الحالة، عن مخالفته طريق السلف الصالح في الضن بالحكمة على غير أهلها، بأنه يحاول إصلاح ما أفسده سابقوه بالتصريح بآراء مفسدة وتآويل ضالة تلقفها غير أهلها فعم بذلك ضررها.
38 (4) تحديد مدى قدرة العقل، والصلة بينه وبين الوحي
نجيء بعد ما تقدم لأهم مسألة فيما نرى يتعرض لها من يحاول التوفيق بين الدين والفلسفة، نعني مسألة الوحي وتحديد سلطانه وميدانه بالنسبة للعقل؛ لا بد إذن من أن يقول ابن رشد هنا كلمته، فيبين صراحة رأيه في الوحي وتحديد الصلة بينه وبين العقل، وفي المعجزات والنبوة، وفيما يكون أو لا يكون من الحاجة للشريعة بجانب العقل.
الأمر خطير واللحظة حاسمة بالنسبة لفيلسوف قرطبة، وهو الحريص على الإيمان بالدين، والذي رأينا مبلغ اعتداده بالعقل ونظره، وذلك إلى درجة تجعله يجيز أن يخالف العقل بما يصل إليه من نتائج صحيحة الإجماع في الأمور النظرية، ويوجب تأويل ما يخالف النظر العقلي من ظواهر النصوص كما رأينا فيما سبق. •••
وهذه المشكلة قد تعرض لها كل من وقف موقف ابن رشد بين الدين والفلسفة، سواء تقدم به الزمن عنه أو تأخر، ونذكر في هذا من باب التمثيل: سعاديا الفيومي المتوفى سنة 942م، وابن ميمون، من اليهود، كما تعرض لها من رجال الكنيسة المسيحية كثيرون نكتفي منهم بذكر القديس «أنسلم» المتوفى سنة 1109، و«أبيلارد» المتوفى سنة 1142م، ومن بعدهما «ألبير الكبير»، وتلميذه «توماس الأكويني» المتوفى سنة 1274م، وهو أكبر لاهوتي في العصر الوسيط.
حقا، لقد اضطر هؤلاء جميعا لمعالجة هذه المشكلة بوجهيها: ما منزلة الوحي من العقل؟ وما صلة الفلسفة بالدين؟ فكل قد قال في ذلك كلمته.
يرى سعاديا الفيومي أن العقيدة في حاجة إلى العقل لفهمها وشرحها والدفاع عنها، أي إن للعقل بجانب الوحي هذا الدور الثانوي جدا كما يقول «مونك»، فليس للوحي أن يخشاه، بل بالعكس يجد منه سندا وظهيرا.
وهذا الرأي - أي كون الفلسفة في خدمة الدين على ذلك النحو - هو رأي اليهود الربانيين أو أنصار التلمود، وهذا الرأي الثانوي الذي للعقل، له في رأي سعاديا ما يبرره؛ لأنه وإن كان العقل يعرف نفس الحقائق الوحيية، لكنه يحتاج لمعرفتها إلى نظر طويل، على حين أن الوحي يعطينا إياها بسرعة ويسر.
39
وابن ميمون - مع اعتداده بالعقل واعتباره رباطا بيننا وبين الله، فليس لنا أن ننبذه - يؤكد أن مهمة الفلسفة هي شرح الحقائق الدينية والتدليل عليها
40
وأن العقل له حد يقف عنده في قدرته على المعرفة، وحينئذ يجب اللجوء فيما لا يمكن أن يصل إليه العقل إلى الوحي، ومن هذا النوع العالم السماوي.
41
ونجد الأمر على هذا النحو إذا جئنا إلى مفكري رجال الكنيسة المسيحية، فإن ما يظهر من التعارض بين الوحي هو تعارض غير مقصود، وإن كان حقيقيا مع هذا، ما دام الكل يتفق على أن دور الفلسفة هو فهم العقيدة.
42
والقديس «أنسلم» مع وصف موقفه بين العقل والوحي بأنه عقلي، نراه هو الذي أعطى الصورة النهائية لعلو هذا على ذاك.
43
ثم نصل إلى «ألبير الكبير» وتلميذه الأشهر القديس توماس الأكويني، فنجد عندهما كذلك التأكيد بأن كلا من العقل والدين له اختصاصه، وأن الفلسفة - كما يرى الأكويني - ليس لها إلا أن تظل خادمة اللاهوت، وأن الدين يعصم العقل من الضلال لو ترك العقل لنفسه.
وبعد أن أوضح أو حدد هذان الفيلسوفان منزلة العقل من الوحي، هكذا وبينا مدى سلطان كل منهما، نجدهما يقفان موقف المعارضة من اللاهوتيين الذين يرفضون فلسفة أرسطو إيثارا للاهوت، ومن الرشديين الذين يرفضون اللاهوت لصالح الفلسفة.
44 •••
وبعد هذه اللمحات التي نكتفي بها في بيان أن مشكلة الصلة بين الوحي والعقل، في ناحيتيها اللتين أشرنا إليهما، قد عرضت للفلاسفة والمفكرين من رجال الدين في مختلف العصور من غير المسلمين ومن المسلمين، ورأى كل فريق منهم حلها وتحديدها على ما عرفنا بعد ذلك، نعود إلى هدفنا الأصلى هنا وهو بيان موقف ابن رشد من هذه المشكلة، وذلك لنضعه حيث يجب بين هؤلاء المفكرين. •••
إن فيلسوف الأندلس مهما أشاد بالعقل ونظره وقدرته على المعرفة، يصرح بأن هناك أمورا يعجز العقل عن معرفتها، وإذن فلنرجع إلى الوحي الذي جاء متمما لعلم العقل، فإن «كل ما عجز عنه العقل أفاده الله تعالى الإنسان من قبل الوحي.»
45
وهذه الأمور التي يعز إدراكها على العقل سيجيء بعد قليل جدا بيانها، وذكر مثل لها، ولكنا نقول الآن إنها كما يذكر فيلسوفنا نفسه، أمور من الضروري علمها لحياة الإنسان ووجوده وسعادته
46
ونرى ابن رشد يكرر هذا الذي يراه ويؤكده في موضع آخر، حين يذكر أن الفلسفة تعنى بتعرف ما يجيء به الشرع، فإن أدركته كان ذلك أتم في المعرفة، وإلا أعلنت بقصور العقل الإنساني عنه، وأن هذا مما يدركه الشرع وحده.
47
ومن الواضح شبه هذا الرأي بما نقلناه آنفا عن المفكرين من رجال اليهودية والمسيحية في هذه المشكلة، من أن على العقل أن يفهم ما جاء به الشرع، ومن بطئه عن الوحي في المعرفة، ومن عجزه أحيانا عن الوصول لما جاء به، والنتيجة الحتمية لذلك هي ضرورة اللجوء أحيانا للوحي الذي هو أعلى من العقل ونظره وتفكيره.
ومهما يكن من شيء؛ فالأمور التي لا يكتفي العقل بنفسه في معرفتها تتلخص كما يرى فيلسوف الأندلس في معرفة الله، والسعادة والشقاء الإنساني في هذه الحياة الدنيا وفي الحياة الأخرى أيضا، ووسائل هذه السعادة وأسباب هذا الشقاء.
وذلك بأن الفلاسفة (ولعله يريد الفلاسفة اليونان) يرون أن الإنسان لا تقوم حياته وسعادته في هذا العالم وفي العالم الآخر، إلا بالفضائل النظرية التي لا يوصل إليها إلا بالفضائل الخلقية، وهذه الفضائل لا تتمكن في النفس إلا بمعرفة الله وتعظيمه بالعبادات المشروعة حسب الملل المختلفة، مثل القرابين والأدعية والصلوات، ونحو هذا وذاك مما لا يعرف إلا من الشرع الموحى به.
48
أو بعبارة أخرى: إن هذه الأمور لا تتبين كلها أو معظمها إلا بوحي، أو يكون تبيينها بالوحي أفضل.
49
ولا عجب في هذا، فإن الفلسفة تنحو نحو تعريف بعض الناس سعادتهم، وهم من عندهم استعداد لتعلمها، وأما الشرائع فتقصد تعليم الجمهور عامة؛ ولذلك كان العلم الذي يأتي به الوحي رحمة لجميع الناس.
50
ولكن؛ إذا كان ابن رشد يرى ضرورة الوحي «رحمة لجميع الناس»، وإذا كان في تحديد الصلة بينه وبين العقل يجعل هذا أقل مقدرة في إدراك الحقائق على ما يؤخذ من النصوص التي استشهدنا بها لبيان هذا الرأي من «مناهج الأدلة» و«تهافت التهافت»، إذا كان الأمر هكذا؛ فماذا نفهم من مقارنة هذه النصوص بما جاء عن هذه المشكلة ذاتها في كتابه «فصل المقال» خاصا بعلو النظر العقلي وقدرته على الوصول لكل ما جاءت به الشريعة من حقائق وتعاليم، وبأن الوحي يبين للجمهور - في رموز وأمثال - الحقائق التي قد يدركها عقل الفيلسوف خالصة مما تكتسبه في الوحي من تلك الرموز والأمثال، وأنه لهذا قد انقسم الشرع إلى ظاهر هو هذه الأمثال المضروبة لتلك المعاني والحقائق الخفية، وإلى باطن وهو هذه المعاني والحقائق التي لا يصل إليها إلا أهل البرهان.
51
هل وقع فيلسوف الأندلس هكذا في التناقض مع نفسه؟ أو هل رجع عن كونه عقليا، كما عرفنا من قبل، يوجب تأويل النص الذي يخالف ظاهره العقل؟ أو هل نقول مع الأستاذ «مهرن
Mehren » الذي اعتمد على نصوص التهافت في فهم موقف ابن رشد من الدين: إن له بجانب نزعته العقلية نزعة أخرى غير عقلية تتبع في بعض مسائل أساسية العقل للعقيدة والفلسفة للدين؟
52
أو هل نقول أخيرا مع الأستاذ «ميجل آسين
Miguel Asin » بأن موقف فيلسوف قرطبة يتلخص في أن الوحي والفلسفة مصدرهما الله؛ فلا يمكن أن يتناقضا، بل لا بد أن يكون بينهما وئام وتعاون متبادل، ولكن الوحي يفوق الفلسفة في مسائل أساسية، فإن اختلفا ظاهريا يجب خضوع الفلسفة للوحي؟
53
إنه من الممكن لنا بعد هذه الفروض والآراء في فهم موقف ابن رشد الحقيقي في العلاقة بين الدين والفلسفة، أن نقرر أنه يجب لمعرفة حقيقة موقفه أن نحاول أولا إزالة ما يوجد من تعارض ظاهري بين النصوص التي ذكرناها، نعني نصوص «فصل المقال» من جهة، ونصوص «مناهج الأدلة» و«تهافت التهافت» من جهة أخرى، فإذا تم لنا هذا فسنرى نزعة واحدة تسود جميع كتاباته وتكون هي المعبر عن موقفه الحق.
ولكن أي النصوص هي التي يجب تأويلها لتتمشى مع الطائفة الأخرى من النصوص؟ هنا المشكلة التي قد يتيسر لنا حلها إذا تبينا العوامل التي دفعته لكتابة ما كتب من هذه النصوص وتلك في كتبه المختلفة.
إن فيلسوف الأندلس كتب «فصل المقال» لغرض واحد هو - كما يدل عليه اسمه - تبيين العلاقة أو الاتصال بين الحكمة والشريعة، ومحاولة التوفيق بينهما على أساس هذه العلاقة، على حين أنه كتب «مناهج الأدلة»؛ ليفحص فيه «عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها، ونتحرى في ذلك كله مقصد الشارع
صلى الله عليه وسلم
بحسب الجهد والاستطاعة.»
54
وأخيرا كتب «تهافت التهافت» ليرد به على تهافت الفلاسفة للغزالي.
وفي هذين الكتابين الأخيرين لم يتعرض بأصالة لمسألة التوفيق بين الدين والفلسفة وبيان العلاقة بينهما، هذا الغرض الذي هو الغرض الوحيد من رسالة «فصل المقال».
وإذن، كما يقول الأستاذ «جوتييه» بحق ينبغي إذا أردنا التوفيق بين تلك النصوص جميعها، أن نؤول نصوص المناهج والتهافت لتتفق مع ما تدل عليه رسالة «فصل المقال» التي فصل فيها الغرض والمنهج الذي سيسير عليه.
وإذا كان الأمر ينبغي أن يكون هكذا، كان من الحق أن نقرر أن ابن رشد بقي أمينا دائما وصادقا في نزعته العقلية، ومن الدلائل على هذا أن رأيه في النبوة والمعجزات يتفق - كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق - مع رأي ابن سينا الذي عرضناه من قبل.
إنه يذكر أن النبوة حادث طبيعي تماما، وأن الوحي يكون عن الله بتوسط ما يسمى عند الفلاسفة «العقل الفعال وعند رجال الشريعة ملكا.»
55
كما يذكر في أثناء رده على الغزالي فيما حكاه عن الفلاسفة، أو بعبارة أدق عن ابن سينا في هذه المسألة، أن المعجزة أمر ممكن في نفسه يتفق والعقل وقوانين الطبيعة، وأن ما ذكره ابن سينا من الأسباب التي تنشأ عنها ممكن وجائز، وأن ليس كل ما يكون ممكنا في طبعه يقدر أن يفعله الإنسان، بدليل الحس والمشاهدة والواقع، فيكون إتيان النبي بأمر خارق أي معجزة ممكنا في نفسه، وإن كان ممتنعا على الإنسان، وليس يحتاج في ذلك أن نقرر أن الأمور الممتنعة في العقل ممكنة في حق الأنبياء.
56
وهكذا لم يحد ابن رشد عن نزعته العقلية في هذه المشكلة الخطيرة، ولا يلوم ابن سينا على ما ذهب إليه فيها؛ لأن له رأيا يخالفه، بل لأنه صرح بهذا الرأي للعامة الذين لا تصلح لهم التعاليم التي تصلح للخاصة وحدهم، وبذلك خالف الفلاسفة القدماء (أي اليونان) الذين لم يتكلم أحد منهم في المعجزات مع انتشارها؛ لأنها من المبادئ العامة للشريعة التي يجب أن يعاقب الفاحص عنها والمشكك فيها.
57
وبعد أن فهمنا نظرية فيلسوف الأندلس في النبوة والمعجزات، نرى أن النصوص التي جاءت في المناهج والتهافت موهمة أنه صار غير عقلي، فهو يجعل الوحي فوق العقل، ويتبع هذا لذاك، أراد بها - كما يقول بحق الأستاذ جوتييه
58 - أن يطمئن رجال الدين بأنه معهم، وبخاصة أنه مع هذا لم يخرج بها عن كونه عقليا، فهو يؤكد هذا أبلغ توكيد وأوكده إذ يقرر «أن كل نبي فيلسوف.»
59
كما نرى كذلك أن ابن رشد ظل أمينا على ما سبق أن ذكرناه عنه بخصوص وجوب تقسيم الناس إلى طبقات حسب استعداداتهم وعقولهم، فإن منهم العامة والخاصة ، ويجب أن يكون لكل طائفة منهم تعليم خاص، وبهذا يبقى الوئام بين العقل والوحي أو بين الفلسفة والدين اللذين لكل منهما غرض خاص، ولا يصطدم أحدهما بالآخر.
وقد يدل أيضا لما نذهب إليه من بقاء ابن رشد أمينا لمذهبه العقلي، ما أكده مرارا من أنه يجب ألا يصرح للجمهور - حرصا على سعادته - بما يؤدي إليه النظر العقلي من العلوم التي سكت عنها الشرع.
60
فإن هذا معناه أنه فيما يختص بالعلماء، أي: طبقة الخاصة، لا يعتبر شيء من المعاني والحقائق التي لم يصرح بها الشرع خافيا، بل إن عقولهم لتصل إلى إدراكها ومعرفتها.
وأما ما سبق أن رأيناه له من أنه توجد أمور يجب فيها الرجوع للوحي؛ لأن العقل يعجز عن معرفتها، فإنه يقصد بالعقل الذي يعجز عن إدراك هذه الأمور العقل الذي يستدل، لا عقل النبي الذي يجب في رأيه أن يكون أيضا فيلسوفا، والذي يدرك هذه الأمور بفيض العقل الفعال.
61
وأخيرا لعل الحق هو أن نقرر أن فيلسوف الأندلس لا يصح أن يوصف بأنه عقلي إزاء جميع الناس وفي كل حال،
62
ولا بأنه غير عقلي كذلك، بل إنه فيما نرى غير عقلي حين يتعلق الأمر بالعامة الذين لا يطيقون النظر والأدلة البرهانية، وعقلي حين يتعلق الأمر بأهل النظر العقلي والفلسفة،
63
وإن رعاية هاتين الناحيتين هو ما جعل في كلامه ما يوهم أحيانا بأنه رجع عن نزعته العقلية إلى ما يناقضها. •••
والآن بعد أن انتهينا من بحث العلاقة بين العقل والوحي في رأي ابن رشد، وهو أمر اضطره لاصطناع طريقة تأويل الكثير من النصوص الدينية، ننتقل للفصل الثاني لنعرف أن هذا التأويل أو التفسير المجازي للنصوص الدينية كان ضروريا في رأي الفلاسفة والمفكرين من قبل فيلسوفنا وبعده: في اليهودية والمسيحية والإسلام، وبخاصة عند فيلون الإسكندري، لنرى صلة مذهب ابن رشد في هذه المسألة بما ذهب إليه أمثاله فيها.
الفصل الثاني
التأويل عند مفكري رجال الأديان العالمية
تمهيد
إن الذي عني بدرس التفكير الديني لدى أصحاب الديانات العالمية: اليهودية، والمسيحية، والإسلام . وتتبع الموقف الذي كان لأكثر هؤلاء المفكرين إزاء نتائج التفكير الفلسفي العالمي، ينتهي فيما نعتقد إلى الرأي الذي انتهينا إليه في هذه الناحية، وهو أن تأويل النصوص الدينية لتتفق وبعض الأفكار الفلسفية الصحيحة ظاهرة تاريخية في التفكير الديني.
1
ومن الشواهد أو الأدلة على ما نقول ما نجد من هذا التأويل في كل العصور، وهذا ما سنعمل على تبينه في هذا الفصل، وذلك لنعرف أن فكرة التأويل لدى ابن رشد لم تكن بدعا ولا تقليدا منه، ولنعرف كذلك ما قد يكون له من أصالة في تطبيقها على النصوص الدينية في الإسلام.
ولعل من البواعث الهامة فيما نرى التي بعثت أولئك المفكرين من رجال الديانات العالمية الثلاث إلى التأويل، هو ما يراه الواحد منهم من أن دينه عالمي للخاصة والعامة من كل الأمم وفي كل العصور، فيجب أن يكون متفقا في أفكاره مع الحقائق الفلسفية التي قامت الأدلة على صحتها، والتي فرضت سلطانها العام أو العالمي، وذلك ما لا يكون إلا بالتأويل.
وكذلك من أسباب الاضطرار إلى التأويل ما نشير إليه هنا بإيجاز لنتناوله بشيء من البسط فيما بعد، من أنه في مسائل الطبيعة وما بعد الطبيعة قد تكلم الأنبياء وأحبار الدين ورؤساؤه بالمجاز والإلغاز عمدا لخطورة الموضوع،
2
وذلك لتكون العامة ومن إليهم بمنجاة من محاولة فهم هذه المسائل التي فوق طاقتهم، ومن ثم وجب التأويل لبعض النصوص بالنسبة للحكماء الذين تؤهلهم عقولهم واستعداداتهم لتأويلها وإدارك ما فيها من حقائق جاءت بطريق الرمز والمجاز، كما يذكر «كليمانت» الإسكندري.
3
وفضلا عن هذا وذاك؛ فإنه - وقد وجدت فكرة العالمية لكل من الدين والفلسفة، وأخذ الباحثون يعملون عقولهم فيها - كان لا بد أن يظهر التعارض بينهما لاختلاف طريقة العرض والأسلوب وخطة البحث في هذين الطرفين، فكان لا بد إذن من التأويل بينهما، وهذا ما حصل فعلا في كل من الأديان الثلاثة. (1) لدى اليهود قبل فيلون
وإذا كان التأويل، كما قلنا، ظاهرة تاريخية دينية، فإننا نرى أن نبدأ الحديث عنه في غير الإسلام بالإسكندرية قبل العصر المسيحي؛ إذ كانت هذه المدينة بعد قليل من عهدها بالوجود، المدينة التي التقت فيها الحضارة في ذلك الزمن البعيد، وفي هذا يقول الأستاذ كروازيه
Croiset : «وكانت الإسكندرية نقطة الاتصال لمختلف حضارات العصر القديم: حضارة مصر، وحضارة الشرق بعامة، وحضارة اليونان؛ فقد تواعدت هذه الحضارات على اللقاء على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، والبطالمة كانوا أذكياء وطموحين، فحين رأوا عاصمتهم غدت أغنى المدائن في العالم، عملوا على أن تكون أيضا أكثرها وأغناها من العلماء والمثقفين.»
4
وقد كان لليهود مثلهم مثل غيرهم من أبناء الأجناس الأخرى، جالية كبيرة تعتز بدينها الذي يقوم على التوراة وتقاليدهم الدينية المأثورة، إلا أنهم مع هذا اضطروا للأخذ بنصيب من الفلسفة والآداب اليونانية، وهذا مما جعلهم يترجمون فيما بعد كتبهم المقدسة لليونانية التي كانت لغتهم العادية.
ولا عجب بعد هذا وقد رأوا لليونان فلسفة تناولت المسائل الإلهية، ومسألة خلق العالم، وغيرها من المسائل التي يعرفونها على نحو ما من دينهم، أن ينساقوا إلى البحث والتفكير والمقارنة بين ما لديهم، وبين ما علموه في هذه الفلسفة، وكان لذلك نتيجة طبيعية هي أن يكون لهم في هذه الناحية كتابات طريفة باللغة اليونانية.
5
وقد انتهى اليهود من تلك المقارنات إلى أن فلسفة اليونان أو الآراء التي رأوها حقائق وأعجبوا بها منها بعبارة أدق، تحتويها التوراة، وإلى أن هذه الفلسفة تعتبر شروحا للحكمة التي تزخر بها التوراة نفسها، ومن ثم أخذوا يعملون على استخلاص هذه الفلسفة من التوراة بطريق التأويل، والشاهد القوي لهذا ما سنعرفه قريبا من عمل «فيلون» الذي يقوم على هذا التصور والفهم،
6
وهكذا حصل في الإسكندرية المزج بين الوحي والفلسفة.
ولكن ينبغي أن نقف لحظة نحاول فيها أن نتعرف بعمق العوامل التي دفعت يهود الإسكندرية لذلك التصور الذي يجمع بين الديانة الموسوية والفلسفة الإغريقية.
إن جماع هذه العوامل، في رأينا، هو أنهم أصحاب أول دين سماوي له كتاب بين أيدينا، وهذا الكتاب تناول كثيرا من المشاكل التي شغلت الفلاسفة القدامى، وهم إلى ذلك أو من أجل ذلك شعب الله المختار أو أبناؤه، جل وعلا عن هذا الزعم، ويضاف إلى هذا وذاك أنهم فقدوا وطنهم فأصبح الدين هو الرباط الوحيد الذي يجمع بينهم.
وكان لذلك كله أن رأوا أن يعملوا على إظهار أن دينهم يحتوي ما يعتز به اليونان من فلسفة تقبلتها عقول الأمم الأخرى، فكان من هذا تأويلهم التوراة تأويلا مجازيا يظهر ما فيها من حكمة وفلسفة كما يرون، وبخاصة أن طريق التأويل المجازي كان معروفا من قبل لدى اليونان.
حقا إنه كما يكون النص الديني موضوع التأويل ليتفق والحقيقة التي يثبتها العقل، وهذا الضرب هو بيت القصيد من هذا الفصل، كذلك قد يكون موضوع التأويل نصا من الأساطير أو الآداب التي لها حظها من القداسة لدى أمة من الأمم ليتفق والفكرة التي يراها المؤول بعقله.
ومن هنا نعرف أن هذا الضرب من التأويل الديني الفلسفي كان معروفا لدى اليونان، وقد اصطنعه كل مذهب من المذاهب الفلسفية فيها،
7
ولكن الفيثاغوريين منذ أول عهدهم كانوا أول من اصطنع هذه الطريقة وتوسعوا فيها، وهكذا كان الأمر كما يقول الأستاذ «برهيه»: سعار التأويل المجازي هذا، كان معروفا له قدره في كل مركز فلسفي عالمي. إلا أن الإسكندرية كانت هي المركز الأهم لهذه الطريقة في نحو عصر فيلون، وكانت كتاباته هي المعين الأهم لها.
8
هذا عند اليونان قبل فيلون، ونجد الأمر كذلك أو قريبا منه عند بني جلدته اليهود وإخوانه في الدين، لقد كان هؤلاء قبل فيلون يرون في التوراة معنى حرفيا، ومعنى آخر مجازيا يجب معرفته لأهله بالتأويل؛ ولهذا كما يذكر الأب مارتان
L’Abbè Martin ، كان فيلون في تأويله لقصة الخلق مطمئنا إلى أن اليهود سبق أن عرفوا لها تآويل كتأويله، إذ كانوا لا يرون أخذ بدء قصة التكوين حرفيا.
9
وفيلون نفسه يشير أحيانا إلى بعض تآويل سابقيه، وله من هذه التآويل موقفه الخاص الذي ليس هنا الآن بيانه. (2) لدى فيلون
الكلام على التأويل عند فيلون الإسكندري معناه الكلام على العمدة في هذه الناحية في رأينا ورأي كثير من الباحثين؛ فقد كان لموقفه حيال التوراة وفلسفة اليونان الأوائل، وتأويل كثير من نصوص تلك أثر مباشر أو غير مباشر في مفكري المسيحية والإسلام في العصر الوسيط، عندما وجدوا أنفسهم في مثل موقفه، وقرءوا ما وصل إليهم من كتاباته فيما ورثوه من فلسفة الأفلاطونية الحديثة بالإسكندرية. •••
إن القارئ لما كتب فيلون يحس إحساسا قويا بأن الشريعة والفلسفة هما المصدران لتفكيره، ولا عجب في هذا، فإن الحقيقة واحدة؛ فلا تناقض نفسها وإن اختلفت صور التعبير عنها، يريد أن يقول بأن ما هو حق من الفلسفة ليس إلا ما نجده في التوراة من حكمة، وإن لبست على أيدي الفلاسفة ثوبا أو ثيابا أخرى.
ولكن كيف هذا والشريعة بظاهر كثير من نصوصها لا تسير والفلسفة! هنا نجد فيلسوف الإسكندرية يصرح بأنه تقريبا كل ما هو خاص بالعقيدة من نصوص له معنى مجازي يهدف إليه.
10
وإذن، فالتأويل ضروري لما يراه فيلون وأمثاله من أن الأنبياء تكلموا كثيرا بالمجاز سترا للحقيقة عن غير أهلها، إذن يكون فهم النص على حقيقته ليس مقدورا للجميع، ما دام طريق هذا هو التأويل الذي ليس مقدورا أو مسموحا به للناس جميعا.
وللتأويل أصول أوضحها فيلون وشدد في اتباعها، ومنها يتبين ما لكل من المعنى الحرفي والمعنى الخفي من قيمة لديه: (أ)
إنه يرى أن المعنى الحرفي يشبه الجسم، والمعنى الخفي يشبه الروح. (ب)
ومع هذا ينبغي ألا نهمل المعنى الحرفي، بل يجب أن نراعي الحرف والروح معا أو الظاهر والخفي؛ ولهذا يلوم الذين لا يلقون بالا لكل منهما، ويرى من الواجب العناية بهذا وبذاك، وذلك بما أنه من الواجب العناية بالجسم والروح معا.
على أن فيلون مهما يشدد في عدم إهمال الحرف، فإن تشبيهه له بالجسم بجانب المعنى الآخر الخفي الذي يشبه الروح، ويضاف إلى هذا بعض ما سنذكره له قريبا من المثل لتآويله التي تنزل بالمعنى الحرفي إلى العدم أحيانا، وكذلك ما يضفيه في بعض الحالات من تآويل تعارض تآويل أخرى مأثورة، إن كل هذا يجعلنا نرى بحق مع الأستاذ «برهييه» أن عبارة «قوانين التأويل المجازي» التي يكررها فيلون نفسه لا تعني أكثر من مبادئ عامة لا تنال من حرية من يأخذ في التأويل.
11
وفي الواقع إن فيلون يجعل من التأويل وسيلة ضرورية يحقق بها أغراضا لها قيمتها لديه، أو بعبارة أخرى لتتفق النصوص المقدسة مع آرائه الفلسفية: في الله، وفي خلق العالم، وفي النفس، وفي الدين بصفة عامة، الدين الذي يحرص الحرص كله على أن يأخذ صفة «العالمية»، لا أن يظل دينا لطائفة خاصة هم بنو إسرائيل، وهكذا بالتأويل المجازي الذي اصطنعه فيلون يستخرج ما في التوراة من فلسفة تظهر أنها عارية منها لو أخذت نصوصها حرفيا.
12
وإذن يرى فيلون أن من الضروري تأويل النصوص التي تثبت بظاهرها لله ما لا يليق به من الصفات والأحوال: كالتجسيم، والكون في مكان، والكلام بصوت وحروف، والندم، وهو في هذا يقول: الله لا يأخذه الغضب ولا يندم ولا يتكلم بحروف وأصوات، وليس له مكان خاص يقر فيه.
ويؤول حفظا لعظمة الله ولتنزيهه عن العناية بما لا يليق بجلاله من أمور تافهة، ومن باب التمثيل نرى التوارة تقول: إن ارتهنت ثوب صاحبك فإلى غروب الشمس ترده له؛ لأنه وحده غطاؤه، هو ثوبه لجلده، في ماذا ينام.
13
وهنا يصيح فيلون: «ولكن كيف! هل يعنى الله بمثل هذه التفاصيل التافهة؟» ثم يقول: «إن أبطأ الأذهان إدراكا وفهما ليرى أن وراء الحرف معنى آخر يبين بالتأويل الحق المجازي.»
14
وهو يؤول كذلك قصة خلق العالم في ستة أيام، وهي بنصها الحرفي أن الله في خلق العالم كان محتاجا إلى مدة، وفي هذا يقول: «إن الأيام الستة التي يتحدث عنها موسى لا تعني أن الخالق كان في حاجة إلى مدة من الزمن.»
15
ولكن موسى أراد أن يعرفنا باللغة التي نفهمها نحن البشر بنظام العالم الذي خلقه الله، ومنزلة بعضه من بعض، وهذا أمر فهمه يسير في رأي فيلون الذي يقول في هذا الصدد: «إني أرى من السذاجة أن نعتقد من هذا أن العالم خلق في ستة أيام، أو بصفة عامة في فترة من الزمن.»
16
كما يؤول أيضا للتخلص من المعنى الحرفي الأسطوري ذي الغرض، وهو يحارب بشدة هذا الضرب من التأويل الذي يهدف إلى نقد التوراة بجعلها بمنزلة كتب الأساطير الإغريقية، إنه يقاتل هذا الفهم الحرفي في ميدانه، وذلك بأن يعارضه بفهم حرفي آخر يتفق وسمو التوراة، ثم يضيف بعد هذا تأويلا آخر مجازيا.
ومن المثل لذلك ما جاء في التوراة عن تضحية إبراهيم لولده إسحاق،
17
فقد رأى بعض الشراح في هذا مماثلة لما جاء في بعض الأساطير الإغريقية من هذا الضرب من التضحيات.
18
ومثال آخر وهو قصة بلبلة الألسن التي وردت في التوراة، والتي قرب إليها بعض معاصري موسى أسطورة إغريقية تقول بأن لغة الناس والحيوان كانت أول الأمر واحدة. إن فيلون يعرض هنا هذه الأسطورة ثم يذكر أن موسى وقد اقترب أكثر ما يكون من الحقيقة فصل الحيوانات عن الكائنات العاقلة، وأظهر وحدة اللغة بالنسبة للناس فقط أول الأمر، على أن فيلون بعد أن رفع من شأن موسى هكذا لم يرض هذا التأويل ووصفه بأنه أسطوري أيضا.
19
وبعد ذلك كله نراه يؤول، صيانة أيضا للتوراة من أن تكون كتاب أساطير كبعض كتب اليونان، يؤول الأشخاص التي جاءت في قصص التوراة، وذلك بأن يجعلها رموزا لبعض حالات النفس، ومن مثل هذا قصة خلق آدم ثم حواء من إحدى أضلاعه، وإغراء الحية لهما، وقتل قابيل لهابيل، كل هذا ونحوه تناوله فيلون بالتأويل المجازي الذي يعتبر الغرض الأخلاقي هو الناحية الأساسية فيه.
20
ويتصل بهذا التأويل النفسي أو الروحي ما ذهب إليه من تأويل أشياء العبادة بجعلها رموزا للحالة الداخلية للنفس، مثلا إن التابوت هو الروح بفضائلها غير القابلة للفساد، وأفكارها التي لا ترى، وأعمالها المرئية المشاهدة ، وآنية صب الشراب موضوعة على المنضدة، هي الروح الكاملة تفتح ذاتها لله، وزنبق الشمعدان هو فصل الأشياء الإنسانية والإلهية، وعلو التابوت هو عظمة الروح التي تضحى وتقدم قربانا، وزيت المصباح هو الحكمة.
21
وأخيرا في تلك الناحية، نكتفي بالقول بأن فيلون يؤول أيضا لغاية أخرى مهمة جدا في رأيه ؛ إذ إنها تعبر عن فكرته الأساسية من استعماله للتأويل المجازي، وهي أن يصير الدين الموسوي دينا عالميا، وهذه الغاية يحول دونها فهم النصوص فهما حرفيا دائما.
ولذلك نراه يتشدد في ضرورة تأويل كثير من نصوص التوراة، يتشدد حتى إنه ليقول: «هؤلاء الذين لا يريدون قبول طريقة التأويل المجازي، ليسوا أغبياء فحسب، بل هم أيضا ملحدون.»
22
ومما تقدم كله نرى أن أنواع التأويل التي عرفناها عن فيلون هي ثلاثة كما يذكر الأستاذ برهييه، وهي: التأويل الحرفي ذي الغرض، والتأويل الحرفي البسيط، والتأويل المجازي.
وقد كان حربا على النوعين الأولين دفاعا عن الدين الموسوي، وقد كان من هؤلاء وثنيون يريدون جعل التوراة بمنزلة كتب الأساطير اليونانية، ومنهم يهود جهلاء هم أولى بالرثاء منهم بالموجدة، ولم يكن التأويل الذي يدعو إليه ويوجبه لكثير من نصوص التوراة إلا التأويل المجازي، وكان مصدره في هذا الضرب من التأويل: الإلهام، والبحث والتفكير الشخصي، والمأثورات.
23 •••
والآن ماذا كانت نتيجة اصطناع فيلون طريقة التأويل المجازي حسب ما رأى لنفسه، التأويل الذي عرفنا مبلغ تشدده في رعايته؟
إن فيلون جعل التوراة بذلك تتسع لما كان يراه حقا من الفلسفة الإغريقية، ولعله بهذا قد رفع من شأن الدين الموسوي وكتابه المقدس في نظر العالم الهلنسي، الذي كان يعيش فيه، فقد كان يفاخر بهذا الكتاب وما حوى من حكمة - يوصل إليها بالتأويل - لم يصل فلاسفة اليونان لأسمى منها.
24
ولكن على فرض أن فيلون نجح فيما أراده وعمل له، فقد أفسد التوراة وأخرجها عن أن تكون كتابا دينيا يتأثر به القلب والعقل معا، فيهدي بذلك قارئه للخير والسعادة،
25
بل إنه كاد بصنيعه أن يمحو ما أنزله الله في التوراة من هدى ونور!
هذا، وسنرى عند الحديث عن التأويل لدى ابن ميمون، كيف أن سبينوزا الفيلسوف اليهودي أيضا يعارض التأويل المجازي معارضة شديدة، ويرى أن التوراة يجب أن تفسر بالتوراة نفسها، لا بالفلسفة اليونانية أو غيرها من الفلسفات المختلفة. (3) التأويل لدى ابن ميمون
إذا تركنا فيلون، وتخطينا العصر الذي كان يعيش فيه ببضعة قرون، نجد حبرا آخر من أحبار اليهود وفلاسفتهم يرى ضرورة التأويل المجازي للتوراة، نعني بذلك «ابن ميمون» الذي كان يعيش في القرن الثاني عشر، بل نجد قبل ظهور ابن ميمون نفس التأويل لدى غيره من مفكري اليهود، مثل سعاديا الفيومي (892-942م)، وابن جبريول من رجال القرن الحادي عشر. •••
ولأجل فهم طريقة ابن ميمون في التأويل، وغرضه منه والبواعث التي بعثته عليه، لا نرى خيرا من الرجوع إلى كتابه «دلالة الحائرين»، فقد أفصح عن ذلك كله بما يكفي الباحث ويرضيه، إنه يقول في مقدمة هذا الكتاب: «هذه الرسالة لها أيضا غرض ثان، وهو شرح النصوص المجازية الشديدة الغموض، هذه النصوص التي نصطدم بالكثير منها في أسفار الأنبياء دون أن يكون واضحا أنها من المجاز، والتي - على الضد من هذا - يأخذها الجاهل والذاهل على معناها الخارجي، دون أن يرى فيها معاني خفية.»
وهو يرى أولا وقبل كل شيء أن الأنبياء - وتبعهم في هذا علماء الشريعة - قد تكلموا بالمجاز عامدين في الدين، وبخاصة إذا كان الأمر أمر المعارف التي لا تطيقها العامة، والتي لا يصل إليها إلا الخاصة، نعني قصة التكوين التي هي علم الطبيعة، وقصة «المركبة السماوية» التي هي علم ما وراء الطبيعة، وهو في هذا يقول: «إنه لأجل هذا نجد هذه الموضوعات أيضا تتركز في كتب النبوات على المجاز، كما نجد علماء الشريعة يتكلمون فيها بالمجاز وبالإلغاز، وهم يتبعون في ذلك خطة الكتب المقدسة.»
26
وإذن يجب التأويل لفهم المجازات وما ترمي إليه من معان، فذلك - فيما يؤكد ابن ميمون - هو المفتاح لفهم كل ما قاله الأنبياء، ولمعرفة حقيقته تماما، وبهذا التأويل نتجاوز المعنى الظاهر للنفس إلى المعنى المراد، وكم بينهما من فرق!
على أن للمعنى الظاهر قيمته بالنسبة لطائفة خاصة، كما للمعنى الخفي قيمته بالنسبة لطائفة أخرى؛ فكلمات الأنبياء تحوي ظاهريا الحكم النافعة في سبيل تحسين حالة الجماعات الإنسانية، وغير هذا من أنواع الخير، ولما ترمي إليه من معان خفية منافع لا بد منها، وبخاصة في العقائد ما دام موضوعها هو الحقيقة لا ما يشبه الحقيقة.
27
وإذا كان ابن ميمون يرى ضرورة التأويل المجازي كما رأينا، فهل يترك نفسه وغيره يؤول كما يريد؟ أو هناك قواعد وأصول ينبغي أن يستهدي بها؟ للإجابة عن هذا نذكر أنه ترك لنا فيما كتب ما يدل على أنه كان هناك أصول يسترشد بها، ويمكن استخلاص هذه الأصول من تآويله نفسه في كتابه «دلالة الحائرين»:
28 (أ)
يجب أن يكون في الظاهر ما يرشد المتأمل بعقله إلى المعنى الخفي. (ب)
أن يكون هذا المعنى الخفي أجمل وأليق من المعنى الذي يدل عليه النص بظاهره. (ج)
أن نصير إلى التأويل إذا كانت النصوص لو أخذت حرفيا تؤدي إلى التجسيم، أو جواز النقلة أو الكون في مكان على الله، ونحو هذا مما يتصل بصفات المخلوقين التي يستحيل عقلا أن تنسب إليه؛ ولهذا يجب إذاعة تأويل هذه النصوص وأمثالها للعامة والخاصة على سواء. (د)
أن يصار إلى التأويل متى قام الدليل العقلي الصحيح على بطلان المعنى الذي يؤخذ من ظاهر النص؛ ولهذا تركت النصوص التي تشهد بظواهرها لحدوث العالم، مع إمكان تأويلها؛ لأنه لم يقم الدليل القاطع على قدمه حتى من أرسطوطاليس. (ه)
ألا نصل بسبب التأويل إلى معنى يهدم أساسا من أسس الشريعة؛ ولهذا كان السبب الثاني في عدم تأويل النصوص التي تشهد بظاهرها لحدوث العالم، أن القول بقدمه كما يرى أرسطوطاليس يستأصل الدين من أساسه، ويدمغ كل المعجزات بأنها أكاذيب.
29 (و)
وأخيرا ألا يذاع من التأويل إلا القليل الذي يكفيي لفهمه، وأن يكون ذلك للمستعد له فحسب.
وهذا الأصل نجد ابن ميمون يرعاه حقا، ويتبين ذلك من كتابه لتلميذه «يوسف بن يهوذا» إذ يقول: «إنك لم تسألني إلا عن المبادئ الأولى (لعله يريد مبادئ الفلسفة الإلهية والطبيعية)، ولكن هذه المبادئ لا توجد في هذه الرسالة مرتبة ومنظمة يتلو بعضها بعضا، بل إنها على الضد من هذا لا توجد إلا في غير وضوح ومختلطة بموضوعات أخرى يراد شرحها، وذلك بأن قصدي في هذه الرسالة الاكتفاء بأن تلوح الحقائق وراء ستار يكاد يخفيها، وبهذا لا أكون معارضا للغرض الإلهي.»
30
هذه هي الأصول الهامة التي أمكن استخلاصها من كتابه القيم الآنف الذكر، والتي على هداها سار ابن ميمون في تأويلاته، ومنها يتبين أنه كان يسير على الجادة التي سار عليها قبله وبعده أمثاله من رجال الدين الفلاسفة والمفكرين.
وهنا، نجد من المهم أن نلاحظ أنه كأمثاله من الذين اصطنعوا التأويل في الكتب الوحيية، قد عمل على أن تتفق التوراة والعقل، أو بالفلسفة السائدة في عصره بتعبير آخر، هذه الفلسفة التي كانت في رأيه مفتاحا لفهم بعض ما جاءت به كتب الأنبياء،
31
ولكن نجد له مع هذا ما يدل بوضوح على تقديره للتوراة أكثر من تقديره للفلسفة.
وذلك بأنه قد يستعين حقا ببعض الآراء الفلسفية الصحيحة على فهم بعض ما جاء في التوراة كما قلنا، وقد يؤول بعض نصوصها تأويلا مجازيا لتتفق وما قام الدليل القاطع على صحته من الآراء الفلسفية كما ذكرنا آنفا أيضا، ولكنه مع هذا وذاك لا يجنح إلى التأويل إذا كان الأمر على غير ما ذكر، بل يقبل الحل الذي جاء في التوراة عن الأنبياء بلا تأويل.
ولذلك نراه يلوم جد اللوم الذين قالوا بقدم العالم تقليدا لأرسطوطاليس وغيره من الذين يعتبرون حجة في الفلسفة، دون دليل صحيح قاطع بالقدم، ثم رفضوا لهذا ما جاء به الأنبياء مما يثبت الحدوث.
الأمر واضح إذن، إن صاحب «دلالة الحائرين» يؤمن إيمانا تاما بأن ما قام عليه الدليل العقلي الصحيح القاطع لا يمكن أن يتناقض أو يتعارض وما جاء به الوحي، فإن أحسسنا تعارضا بينهما كان ظاهريا يجب أن يزول بتأويل النص، أو إذا لم يكن الدليل صحيحا قاطعا، وجب قبول ما جاء به الوحي؛ حتى ولو كان تأويله ممكنا، وحتى لو كان الرأي الفلسفي لأرسطوطاليس أو غيره من مشاهير الفلاسفة.
ومهما يكن فإن ابن ميمون بما ذهب إليه من التأويل حين يراه ضروريا قد وجد ما رآه حقا من فلسفة أرسطو في التوراة والتلمود،
32
وإنه قد أعاد في رأيه بصنيعه الطمأنينة للمحتارين المترددين، وحقق في رأيه أيضا ما عمل له من التوفيق بين الفلسفة اليونانية والوحي الموسوي.
على أن هذا الصنيع من ابن ميمون كان حظه النقد الشديد من «سبينوزا» كما أشرنا إلى ذلك من قبل، إن هذا الفيلسوف اليهودي الهولندي (1632-1677م) يقرر في رسالته «في اللاهوت والسياسة» أن الكتاب المقدس قد شقي بمن سلطوا عليه التأويل في جرأة لا نجدها لهم إزاء كتاب غيره، ثم ينتهي بتأكيد أن طريقة ابن ميمون لا فائدة منها مطلقا، وبأنها لا تدعنا ندرك المعاني الحقة للكتاب المقدس، وإذن يجب رفض صنيع ابن ميمون باعتباره عملا ضارا وعابثا.
33 •••
وموقف سبينوزا هذا واضح، وذلك متى لاحظنا رأيه في العلاقة بين الوحي والعقل أو بين الدين والفلسفة، فهما متمايزان في الطبيعة والغاية كما ذكرنا من قبل؛ ولهذا يجب الفصل بينهما وإبقاء كل منهما مستقلا في دائرته الخاصة به. (4) التأويل لدى رجال الكنيسة المسيحية
نحن الآن في العالم المسيحي حيث يوجد دين جديد له كتاب موحى به، ويحاول أن يكون عالميا، ويجد نفسه إزاء الفلسفة اليونانية التي صارت عالمية بالفعل، ويرى مفكروه في هذه الفلسفة حقائق لا يمكن إنكارها، وبعضها لا يتفق وبعض نصوص الكتاب المقدس لهذا الدين السماوي، فكيف العمل؟
كيف سيعمل رجال هذا الدين إزاء هذه الفلسفة؟ أينكرون ما فيها من حقائق تعارض كتابهم المقدس، وحينئذ لا يتكلفون عناء تفسير ما جاء بكتابهم تفسيرا فلسفيا؟ أم يعترفون بها، وإذن لا بد من تأويل بعض النصوص الدينية لتتفق وتلك الحقائق؟
هكذا وضعت المشكلة أمام مفكري العصر المسيحي وفلاسفته من أول ظهور المسيحية إلى نهاية العصر الوسيط، بل إلى هذه الأيام، كما وضعت من قبل أمام مفكري اليهودية، وكما ستظهر من بعد أمام فلاسفة الإسلام.
وليس علينا هنا تحقيق كيف يعلل رجال الكنيسة معرفة فلاسفة اليونان ما عرفوا من حقيقة: هل ذلك لأنهم أفادوا مباشرة إلى حد قليل أو كثير من الكتب الموحاة، كما يرى البعض ومنهم القديس بولص نفسه متأثرين برأي فيلون الإسكندري؟ أو لأن كل إنسان له حظه من الوحي الطبيعي الذي مصدره «الكلمة
Le Verbe » هذا الوحي الذي سبق في الزمن الوحي الذي مصدره الكلمة بعد أن تجسدت، على ما يفهم من إنجيل القديس يوحنا.
ليس علينا تحقيق هذا التعليل، ولكن نشير إلى أن «لاكتانس
Lactance » المتوفى سنة 325، هذا المسيحي الحقيقي يعترف بأن كلا من هؤلاء الفلاسفة عرف جزءا من الحقيقة، وأن هذه الأجزاء في مجموعها تكون الحقيقة كاملة، وكذلك نشير هنا أيضا إلى أن القديس أوغسطين المتوفى سنة 430، يرى من بعد «لاكتانس» أن ما هو حق من الفلسفة الأفلاطونية الحديثة يوجد في إنجيل يوحنا، بل إنه ليوجد في سفر الحكمة حقائق لم يعرفها أفلوطين نفسه.
34 •••
وإذن إذا كان الأمر هكذا، أي: إذا كان الإنجيل قد حوى ما هو حق من الفلسفة اليونانية، بل حوى حقائق أخرى لم يصل إليها هؤلاء الفلاسفة اليونان، وكان الإنجيل إذا أخذت نصوصه كلها حرفيا لا تظهر منه هذه الحقائق، كان لا بد من تأويل بعضها ليظهر ما فيها من المعاني الخفية الفلسفية، وهذا الموقف، والأمر كما ذكرنا، هو ما وقفته الكنيسة من أول أمرها، حيث قبلت مبدأ احتمال بعض النصوص معاني متعددة، ووجوب التأويل أحيانا حسب ما تعارف اليهود قبلهم عليه من قواعد وأصول.
حقا إنه يعود إلى مدرسة الإسكندرية مبدأ تعدد معاني الكتاب المقدس، ومبدأ التأويل المجازي لبعض نصوصه، هذا التأويل الذي ساد في العصر الوسيط وبخاصة في القرون الأولى منه، والمثل في هذا لا تعوزنا بحال.
هذا هو «كليمان
Clément » الإسكندري، المتوفى نحو سنة 220م، يرى تأويل ما جاء في الكتاب عن قصة خلق العالم في ستة أيام؛ لأن الله - كما يقول - لم يخلق شيئا في الزمان الذي لم يوجد إلا مع العالم نفسه.
35
وطريق التأويل الذي اختطه كليمان نرى «أوريجين
Origène » يسير فيه بأكثر جرأة وثباتا وعزما؛ إنه يعتبر - مثل فيلون - المعنى الحرفي الظاهر كالجسم، والمعنى المجازي الخفي كالروح، كما يؤول كل نص يفهم منه حرفيا التجسيم في الله، وكذلك ما جاء في قصة التكوين عن خلق العالم في أيام ستة، وعن الجنة الأرضية، وخلق حواء من ضلع من أضلاع آدم، وما استتر به آدام وحواء من أوراق الشجر التي اتخذاها بعد أن ذاقا الشجرة المحرمة ثيابا منهما تستر العورة.
36
وهذا التأويل من أوريجين لما ذكرناه ونحوه لم يعد شيئا نكرا في أيامه؛ لأنه كان من المجمع عليه تقريبا من آباء الكنيسة في القرون الخمسة الأولى، تأويل قصة الخلق في ستة أيام تأويلا مجازيا، كما يذكر الأب مارتان.
وإذا تركنا أوريجين والقديس «جيروم
Jérôme » المتوفى سنة 420م والذي تأثر به في وضوح، نجد القديس أوغسطين يسير في التأويل المجازي بفطنة؛ إذ يرى وجوب التمييز بين ما يجب أن يؤخذ من النصوص حرفيا، وبين ما يجب تأويله مجازيا، على أن تكون نتيجة التأويل الاتفاق مع العقيدة، ومبدأ وجوب اتفاق نتيجة التأويل مع العقيدة نراه صار مبدءا متوارثا لدى كثيرين من مفكري رجال الدين المسيحي من بعد.
وكما كان هؤلاء حريصين على هذا، كانوا حريصين كذلك على وجوب تقدير المعنى الحرفي أولا، فهو الذي يقوم عليه المعنى المجازي، كما سنرى ذلك عند القديس توماس الأكويني، حتى إن أحدهم «هيج
Hugues » يحمل بشدة على الذين يهملون المعنى الحرفي إلى الآخر المجازي، متغافلين عن أن ذاك هو الأساس.
37
ومرد حرص هؤلاء على هذين المبدأين، هو أنهم كانوا رجال دين قبل أن يكونوا فلاسفة، فلم يحاولوا قسر الكتاب المقدس على أن يتفق حتما والفلسفة.
على أنه في القرن الثاني عشر ليس لنا أن نمر دون إشارة إلى «أبيلارد
Abélard » المتوفى سنة 1142م، وقد كان معاصرا ل «هيج» الذي عرفنا حملته الشديدة على من يهملون المعنى الحرفي، فقد أمعن في التأويل المجازي.
لقد سار أبيلارد في هذا التأويل شوطا بعيدا متأثرا بفيلون اليهودي، وبهذا أمكنه أن يوحد بين آراء أفلاطون وما جاء به الإنجيل.
38
ولم يكن وحده متفردا بهذه النزعة التوفيقية المغالية، بل كان له نظراء في هذه الناحية عملوا على التوفيق بين أفلاطون والكتاب المقدس.
39
ولكن أبيلارد كما كان يسلط التأويل على التوراة، كان يؤول أيضا في كتابات أفلاطون في شرحه له، لما كان يرى من أن الفلاسفة كالأنبياء، كانوا يتكلمون بالمجاز والألغاز تورية عما يريدون بيانه من حقائق.
40
وهنا ينبغي أن نشير إلى وقوف القديس «برنارد» موقف المعارض الشديد لأبيلارد فيما اصطنعه من طريقة فهم الفلسفة والإنجيل، حتى كان ما هو معروف من الحكم على هذا بالسكوت وحرمان أنصاره سنة 1140م.
وإذا تركنا القرن الثاني عشر إلى ما بعده، نجد التأويل المجازي نزل عن مكانته التي عرفناها، إلى درجة أنه لم يعد يعد من التأويل أو التفسير بمعنى الكلمة.
فإنه من الحق أننا نجد في القرن الثالث عشر «ألبرت الكبير» المتوفى سنة 1280م، وهو يعتبر بحق أكمل ممثل للتفسير الحرفي،
41
ففي رأيه أنه لا يوجد إلا تفسير واحد حري أن يسمى تفسيرا، وهو الذي يشرح المعنى المراد من المؤلف والذي يوحيه النص نفسه، وأن أية فكرة لا يوحي بها النص لا يكون لها أية قيمة، ولا تستحق أن يلقي المرء لها بالا، على أنه قد يقبل أحيانا المعاني المجازية، ولكن لا على أنها معان أخرى تعارض المعنى الحرفي، بل على أنها تطبيقات لنتائج المعنى الأول الحرفي وتؤخذ منه.
42
وفي هذا الاتجاه لإهمال التأويل المجازي، على أنه وسيلة لاستخراج ما في الكتاب المقدس من فلسفة، نجد تلميذ ألبرت الكبير الأشهر نعني به القديس توماس الأكويني أو غزالي المسيحية إن قبل منا هذا التعبير، يصدر هذا اللاهوتي الأشهر في تفسير الكتاب المقدس عن أن كل ما عدا المعنى الحرفي لا يعتمد عليه، وأنه لا شيء من تلك المعاني الأخرى إلا وهو موجود بوضوح في المعنى الحرفي الذي ينبغي الاعتماد دائما عليه.
43
ولنا أن نقرر أن الأكويني في تقديره للمعنى الحرفي وجعل المعاني الأخرى تقوم عليه، يستلهم القديس أوغسطين كما يذكر هو نفسه، كما يستلهم «هيج» وسان فيكتور.
وما ينبغي لنا أن نفهم من هذا أن الأكويني يرفض دائما التفسير المجازي المأثور وبخاصة أنه يعنى كثيرا بما أثر من التفسير عن أسلافه، فإن من الحق أنه إن كان يستبعد التآويل المجازية؛ لأنها لا تتفق وسياق النص ومحتواه ، فإنه يقبلها غالبا وكثيرا، على أنه يميزها دائما بعناية عن التأويل الحرفي.
والآن لننتهي من التأويل لدى رجال الكنيسة المسيحية، نذكر أن الحال في القرن الرابع عشر كان كما هو الحال في الثالث عشر من الاتجاه للتأويل الحرفي وتقديره، كما نلاحظ أخيرا أن تأويل الكتاب المقدس ليتفق والفلسفة الإغريقية كان له رجاله مثل كليمانت الإسكندري وأوريجين وأبيلارد، على اعتبار أنه يحوي كل الحقائق الفلسفية الصحيحة، وأن التأويل أو التفسير أخذ بعد هذا اتجاها آخر هو وجوب اتفاق نتائجه والعقيدة، وهذا الاتجاه كان له ممثلوه كما عرفنا آنفا.
ومعنى هذا الاتجاه أن تفسير الكتاب المقدس صارت الغاية منه فهم الكتاب نفسه، وحسب ما توحي به النصوص من معان، لا ليتفق مع هذه الفكرة أو تلك من الفلسفة اليونانية، كما أصبحت الغاية منه أيضا التدليل على الآراء والعقائد اللاهوتية. •••
وهكذا رأينا كيف كان موقف رجال الدين الموسوي، ثم رجال الدين المسيحي من التأويل ومدى عنايتهم به، وعلينا بعد ذلك أن ننتقل أخيرا لبحث مسألة التأويل لدى مفكري الإسلام أيضا. (5) التأويل لدى المسلمين
وأخيرا قد ثارت المسألة نفسها في الإسلام، واتخذت الوضع نفسه، وربما كان ذلك للعوامل نفسها التي من أجلها ثارت في اليهودية والمسيحية، مع زيادة عامل آخر، ونعني بهذا محاولة كل أصحاب مذهب من المذاهب الإسلامية، وبخاصة في علم الكلام وفي التصوف، إيجاد سند لآرائهم من كتاب الدين الأول نفسه، وطريق ذلك تأويل نصوص القرآن العظيم التي يرون ضرورة تأويلها حسب القواعد التي ذهبوا إليها.
وقبل الكلام عن التأويل لدى مفكري الإسلام، نشير أولا إلى أن تفسير القرآن - وكم بين التفسير الذي يراد منه فهم القرآن ، وبين التأويل الذي يراد منه الاستدلال لرأي أو مذهب معين من فرق! - كان ينظر إليه في فجر الإسلام والصدر الأول منه بعين الحذر الشديد؛ إذ كان رجال السلف الصالح يتهيبون القرآن.
روى ابن سعد في طبقاته أن القاسم بن محمد بن أبي بكر، وسالم بن عبد الله بن عمر كانا يمتنعان من تفسير القرآن؛ إذ يريانه أمرا خطيرا،
44
كما ضرب سيدنا عمر بن الخطاب بدرته ضربا وجيعا رجلا كان يسأل عن متشابه القرآن،
45
وكذلك كان الأمر في أيام بني أمية.
46
على أنهم ما كانوا يرون بأسا في تفسير القرآن بالمأثور الثابت عن الرسول
صلى الله عليه وسلم
والصحابة والتابعين بالنقل الصحيح، بل قد ظهرت الحاجة شديدة إليه، والمثل الأعلى لهذا الضرب من التفسير نجده في تفسير الطبري المعروف.
ومع هذا؛ فلم يلبث القرآن أن ناله ما نال الكتاب المقدس من قبل، الأمر الذي نقده بشدة سبينوزا من قبل، فقد ظهرت التآويل المجازية لكثير من آياته على أيدي المعتزلة والمتصوفة والشيعة، بل قبل هذه الفرق أيضا.
47
لكن رجال هذه الفرق هم الذين توسعوا في هذا الضرب من التأويل، وكان لهم من اصطناع هذه الطريقة أغراض محدودة، ولهم لبلوغ هذه الأغراض وسائلهم الخاصة. (5-1) لدى المعتزلة
أراد المعتزلة وهم الفرقة المعروفة من فرق علم الكلام، أن يبعدوا عن الله تعالى كل ما يوهم التجسيم أو التشبيه، وأن يؤكدوا وحدانيته من كل وجه، وعدله وحرية المرء في أعماله؛ ليكون مسئولا حقا وعدلا عنها، وأن يبعدوا الخرافات والأساطير عن الدين، ومن ثم صرفوا كثيرا من الآيات عن معانيها الحرفية الظاهرية إلى معان أخرى مجازية، واستعانوا في هذه السبيل الوعرة الشاقة بالقرآن نفسه في آيات أخرى
48
وباللغة يجدون بها ما يساعدهم في تقرير المعاني التي يرونها.
49
ومن أجل ذلك نجد بينهم وبين فيلون وابن ميمون تشابها كبيرا من ناحية الغاية من التأويل من بعض النواحي، وإن كان المعتزلة لم يكن من هدفهم أن يعملوا لإظهار اشتمال القرآن على أمهات الأفكار والآراء الفلسفية اليونانية، كما كان صنيع المتقدمين.
ومن الميسور أن نأتي بمثل كثيرة لتآويل المعتزلة في القرآن، ولكن نرى أن هذا ليس ضروريا هنا؛ إذ لا يتصل اتصالا كبيرا بموضوع عملنا الأصلي، ويكفي أن نذكر أنه يمكن الرجوع في ذلك إلى: (أ) «محاضرات» الشريف المرتضى أبي القاسم علي بن الطاهر المتوفى سنة 436ه.
50 (ب) «الكشاف» لمحمود بن عمر الزمخشري الذي جاء بعد سابقه بقرن من الزمان، ويعتبر هذا الكتاب المثل الأعلى للتفسير الاعتزالي.
ومع أن هذا الكتاب كله تآويل اعتزالية؛ فلا ضرورة للإشارة إلى مواضع معينة منه، ولكن مع هذا نشير إلى تأويله لهذه الآيات من باب التمثيل: (أ)
الآية 255 من سورة البقرة:
الله لا إله إلا هو الحي القيوم ...
وسع كرسيه السماوات والأرض . (ب)
الآية 18 من سورة آل عمران:
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم . (ج)
الآية 129 من السورة نفسها:
ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم . (د)
الآية 172 من سورة الأعراف:
وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ... (ه)
الآية 72 من سورة الأحزاب:
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا . (و)
الآية 10 من سورة فصلت:
ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين .
إلى غير ذلك من الآيات التي لا تكاد تحصر، والتي سلط عليها المعتزلة التأويل بكل سبيل، وذلك لتتفق معانيها في مذهبهم المعروف.
على أنه مع هذا ما ينبغي لنا - وقد أشرنا إلى هذا آنفا - أن نقول بأن المعتزلة بما أولوا من آيات القرآن تأويلا مجازيا، كانوا يريدون أن يظهروا ما رأوه حقا من فلسفة اليونان في القرآن، كما كان الأمر بالنسبة إلى صنيع فيلون الإسكندري، وابن ميمون الأندلسي في التوراة.
وكذلك ليس لنا أن نقول بأنهم تأثروا بهذين المفكرين اليهوديين في طريقة التأويل، وإن كان الشبه غير قليل بين طريقة الأولين وطريقة المعتزلة.
كل ما في الأمر على ما نعتقد أن المسألة كما ثارت في اليهودية والمسيحية، وضعت كذلك بالنسبة للإسلام، أي إنه يجب تنزيه الله تعالى عن كل ما يوهم أن له شبها كثيرا أو قليلا بالإنسان، ومعنى هذا تنزيهه عن الصفات الجسمية والعواطف البشرية، كأن يكون له وجه أو يدان أو عينان أو قدمان، أو يكون له حركة وينتقل من مكان إلى آخر، أو أن يحس ما يحسه الإنسان من الغضب والمكر والفرح ونحوها من الإحساسات والعواطف البشرية.
ولكن القرآن وكذلك حديث الرسول
صلى الله عليه وسلم ، اشتملا على نصوص كثيرة تشير إذا أخذت حرفيا إلى التجسيم والتشبيه، وما يكون من ذلك من الصفات والعواطف والإحساسات البشرية؛ فيجب إذن صرفها عن معانيها الظاهرية الحرفية إلى معان أخرى مجازية، وبخاصة أن القرآن نفسه استعمل التمثيل أحيانا في تفهيمنا ما يريد.
ومن ذلك قوله تعالى (سورة البقرة: 26):
إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ، وقوله (سورة الحشر: 21):
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون .
على أن المسألة وإن اتخذت نفس الوضع لدى كثير من رجال الديانات الثلاث؛ فإن الأسباب قد تختلف كثيرا أو قليلا، لم يكن في رأينا من الأسباب لدى المعتزلة الاعتزاز بأن التوراة اشتملت على ما ثبت صحته من الفلسفة اليونانية، أو ما عرفوا منها، كما كان الأمر بالنسبة لفيلون مثلا؛ بل الأمر أن المعتزلة فرقة من رجال علم الكلام لهم مذهب خاص، فأرادوا أن يجدوا له مثل غيرهم من المتكلمين المسلمين أدلة من القرآن على ما ذهبوا إليه.
وقد وجدوا الأمر يسيرا أحيانا فلم يحتاجوا إلى التأويل المجازي، ووجدوه عسيرا أحيانا بالنسبة لكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛ فعملوا على تأويلها، وساعدهم على ذلك ما هو معروف في البيئة الإسلامية من أن كثيرا من آيات القرآن تحتمل الواحدة منها معاني كثيرة مختلفة.
51
على أن هذه الفكرة نفسها، وخشية القطع برأي في تفسير القرآن، جعلا بعض العلماء المسلمين يترددون في تعيين المعنى المراد من بعض الآيات، ومن هنا جاءت تسميتهم «بالوقوف»،
52
ومنهم المتكلم المشهور عبيد الله بن الحسن العنبري.
53
أما موقف أهل السنة في مقابل هؤلاء المعتزلة، فمن الممكن إيجازه في أنهم ينقدون بشدة طريقة المعتزلة في تأويلهم القرآن تأويلات يظهر فيها الميل إلى الرأي والتعسف، وهذا الموقف يظهر لنا واضحا جدا في تفسير الإمام المتكلم المتفلسف فخر الدين الرازي المتوفى سنة 606ه، وتفسيره هذا يعتبر بحق في نظر كثير من الباحثين نهاية ما وصل إليه إنتاج المسلمين الفكري في هذه الناحية، ومنه نعرف أن المؤلف قد عني عناية شديدة بتفنيد آراء المعتزلة التي عملوا بكل جهدهم للاستدلال لها، إن لم نقل لأخذها من القرآن. (5-2) لدى المتصوفة والشيعة
هذا؛ وبجانب التأويل الاعتزالي، نجد ضربا آخر من التأويل سار فيه أصحابه إلى أبعد الشوط، ونعني به التأويل الصوفي.
وفي الحق إن المتصوفة لهم تآويل مجازية للقرآن خاصة بهم، وأغلبها - إن لم نقل كلها - متطرف إلى حد بعيد، وهم مثل الشيعة يرون أن الإمام علي بن أبي طالب، عنده عن الرسول
صلى الله عليه وسلم ، علم هذه التآويل كلها التي ينبغي ألا تلقن إلا للمريدين وحدهم شيئا فشيئا.
54
وفي هذا يقول عمر بن الفارض الشاعر الصوفي المعروف، في قصيدته التائية المشهورة:
وأوضح بالتأويل ما كان خافيا
علي بعلم ناله بالوصية
وإذن، الإمام علي بن أبي طالب هو إمام التصوف الإسلامي في نظر الصوفية، وهذا الرأي الذي أخذه المتصوفة عن الشيعة، ينكره بتاتا أهل السنة بحق، فإن الرسول
صلى الله عليه وسلم
لم يخص أحدا من صحابته أو ذوي قرابته بعلم خاص ظاهري أو باطني.
55
وإن من الحق مع هذا على ما نعتقد، أنه وإن كان غير صحيح ما ذهب إليه الشيعة والمتصوفة من إسنادهم للإمام علي علما باطنيا يشمل المعاني الخفية للقرآن التي خصه بها الرسول، فإنه ليس من السهل أن ننكر تفاوت العقول في فهم الكتاب العظيم، وإدراك ما تضمنه من تعاليم وحقائق، وفي هذا يرى الغزالي أن أكابر الصحابة وفي مقدمتهم عمر وعلي، فهموا من أسرار الدين وحقائقه أكبر نصيب.
56
ونحن، وإن لم يكن من قصدنا بحث مشكلة التأويل بحثا خاصا، نرى من الخير أن نشير إلى أن تآويل الصوفية والشيعة - وبخاصة الباطنية منهم - تختلف عن تآويل المعتزلة بأمرين: (أ)
المبالغة في التأويل المجازي الذي لا قرينة مطلقا عليه من القرآن، وفي طلب ما زعموه من المعاني الخفية فيه، حتى خرجوا به عن معانيه الحقة الواضحة التي لا ريب فيها. (ب)
إسناد هذه التآويل للإمام علي كما رأينا بلا دليل صحيح.
وبعد هذا وذاك، نرى هؤلاء وأولئك يشتركون مع المعتزلة في أنهم عملوا جاهدين على إدخال آرائهم الفلسفية في القرآن والحديث بطريق ذلك التأويل المجازي، فيه - على رأيهم - يستخلص ما في النصوص الدينية الوحيية من حقائق فلسفية عميقة تستتر وراء المعاني الحرفية لهذه النصوص.
والمثل لهذه التآويلات الشيعية والصوفية كثيرة جدا، ومن اليسير أن يجدها من يريدها في التفاسير القرآنية لكل من هاتين الفرقتين، ونشير من بين التفاسير الصوفية إلى: (أ)
كتاب حقائق التفسير لأبي عبد الرحمن السلمي النيسابوري المتوفى سنة 412ه. (ب)
تفسير محيي الدين بن عربي، المتوفى سنة 638ه. (ج)
تأويلات القرآن، لعبد الرازق القاشي أو القاشاني السمرقندي، المتوفى سنة 887ه.
ومع ذلك؛ فإننا نرى أن نأتي بمثال واحد للتأويل الصوفي، ومثال واحد آخر للتأويل الشيعي. يقول الله تعالى في سورة يس: (الآيات 12-17):
واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون * إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون * قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون * قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون * وما علينا إلا البلاغ المبين .
فهذه الآيات وما تلاها لم تجئ حسب معناها الظاهر، وهو الصحيح المراد بلا ريب، إلا لتقص علينا للعبرة والذكرى نبأ أصحاب القرية الخاطئة الضالة مع الرسل الثلاثة الذين أرسلهم الله إليها فكذبوهم، ولكن المتصوفة تركوا هذا المعنى الظاهر وزعموا أن لها معنى خفيا باطنيا، فرأوا أن القرية ليست إلا الجسم، وأن الرسل الثلاثة هم الروح والقلب والعقل، وهكذا أولوها كلها تأويلا مجازيا لا دليل ولا قرينة عليه.
57
والمثال الثاني هو تأويل هذه الآيات الأولى من سورة الشمس:
والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها ، فالله تعالى يقسم في هذه الآيات وما تلاها ببعض الظواهر الطبيعية الفلكية الكبيرة على ما أراد تقريره بعد من الحق، وهذه معان ظاهرة، وهي الصحيحة المرادة بلا ريب، ولكن الشيعة بتفسيرهم الذي بلغ الذروة من التعصب والتعسف، أولوها - لتشهد لهم ببعض ما ذهبوا إليه - تأويلا مجازيا عجبا، فزعموا أن المراد بالشمس محمد
صلى الله عليه وسلم ، وبالقمر علي بن أبي طالب، وبالنهار الحسن والحسين رضي الله عنهما، وبالليل الأمويون!
58
وهكذا نجد الغالين من هاتين الفرقتين قد بالغوا في التأويل، فحملوا القرآن كثيرا من المعاني والآراء التي لا يقرها بحق أهل السنة، وجعلوا للآية الواحدة معاني باطنية متدرجة في صعوبة معرفتها والإحاطة بها، وفي هذا يقول جلال الدين الرومي الشاعر الصوفي المعروف، وهو ما يوافقه عليه الشيعة الباطنية الإسماعيلية: «اعلم أن آيات الكتاب سهلة يسيرة، ولكنها على سهولتها تخفي وراءها معنى خفيا مستترا.
ويتصل بهذا المعنى الخفي معنى ثالث يحير ذوي الأفهام الثاقبة ويعييها، والمعنى الرابع ما من أحد يحيط به سوى الله واسع الكفاية، من لا شبيه له، وهكذا نصل إلى معاني سبعة الواحد تلو الآخر.
ولذلك لا تتقيد يا بني بالمعنى الظاهري، كما لم ير إبليس في آدم إلا أنه مخلوق من الطين.»
59 (5-3) لدى الغزالي وابن تيمية
وإذا تركنا المعتزلة والشيعة والمتصوفة، نرى مشكلة التأويل تعرض لأهل السنة من رجال علم الكلام، فيتعرض لها كل من الغزالي وابن تيمية، ويقف كل منهما منها موقفا خاصا يتعارض وموقف الآخر.
تعرض الغزالي لهذه المشكلة ولا عجب في هذا، فهو متكلم ومتصوف وفيلسوف معا! فهل نراه يسرف في تأويل القرآن والحديث كالمعتزلة والمتصوفة ومن إليهم؟ أو نراه يسير فيه بحذر وعلى بينة كابن رشد مثلا؟
حجة الإسلام يرى أن في القرآن والحديث نصوصا تفيد غير معانيها الظاهرية؛ ولهذا يجيز تأويلها؛ ولهذا أيضا عني بوضع رسالة في ذلك تسمى «قانون التأويل»، كما تناول هذه المشكلة بالبحث في رسالة أخرى هي «إلجام العوام عن علم الكلام». ومن تلك النصوص مثلا ما يشير بظاهره إلى التجسيم أو التشبيه في ذات الله تعالى أو صفاته.
وذلك مثل الآيات التي توهم بظاهرها أن له تعالى بعض ما للإنسان من الأعضاء والحواس، وأنه يتحرك وينتقل ويجلس على العرش، وأنه فوقنا، ومثل ما جاء في بعض الأحاديث من أنه ينزل في كل ليلة إلى السماء الدنيا.
فهذه النصوص القرآنية والحديثية يرى الغزالي أن لها معاني خفية لا يصل إليها أهل المعرفة، وأن موقف العامي منها هو التصديق بها مع الاعتراف بالعجز عن فهمها، والتسليم فيها لأهل المعرفة القادرين على إدراك المراد منها.
60
وينبغي أن نلاحظ أن «العامة» هنا يدخل فيهم الأديب والنحوي والمفسر والمحدث والفقيه والمتكلم، بل كل عالم سوى «المتجردين لعلم السباحة في بحار المعرفة»،
61
أي: المتصوفة. إذن، لم يخرج من العامة إلا المتصوفة، كما لم يخرج ابن رشد من العامة إلا الفلاسفة على ما تقدم ذكره.
وهؤلاء المتصوفة أي: «أهل الغوص في بحر المعرفة» لا يصل إلا واحد من كل عشرة منهم - في رأي الغزالي - إلى معرفة «الدر المكنون والسر المخزون».
62
وبعبارة أخرى: إن أسرار هذه النصوص ومعانيها الخفية ليست خفية بالنسبة للرسول وأكابر الصحابة، كأبي بكر وعمر وعلي، ويلحق بهم الأولياء والعلماء الراسخون.
63
وإذا كانت هذه المعاني الخفية يصل إلى إدراكها «أهل المعرفة»، فهل لهم أن يذيعوها بين الناس، أي: هل لهم أن يظهروا للناس جميعا ما يدركونه من التأويلات؟
يجيب الغزالي عن هذا إجابة تجعلنا نلمح فيه المتصوف الذي لا يرى أن يطلع على الأسرار إلا المريدون، إنه يرى أن لمن عرف التأويل أن يحدث به من هو مثله في الاستبصار، أو من هو مستعد للمعرفة وطالب لها ومقبل عليها بكله، ثم يختم ذلك بقوله في شبه قاعدة عامة: «فإن منع العلم أهله ظلم، كبثه لغير أهله.»
64
وما ينبغي لنا أن نفهم من إجازة الغزالي التأويل لأهله، وإجازته إظهار التأويلات لمن هو أهل لمعرفتها، أنه في هذا أو ذاك كابن رشد الذي رأينا فيما سبق عنه أنه يجيز إذاعته في هاتين الحالتين، كما أجاز ابن ميمون من بعده، ليس لنا أن نفهم هذا، فإن أهل التأويل وأهل المعرفة في رأي «حجة الإسلام» هم المتصوفة كما عرفنا، على حين أنهم الفلاسفة عند فيلسوف الأندلس وبلديه الحبر اليهودي، وشتان بين أولئك وهؤلاء.
ومهما يكن من شيء، فإن الغزالي بما وضع من قانون للتأويل، جعل الذين يبحثون فيما بين المعقول والمنقول من «تصادم في أول النظر وظاهر الفكر»
65
خمس فرق، وجعل الفرقة الخامسة هي المحقة، وهي التي وقفت موقفا وسطا بين المعقول والمنقول؛ إذ جعلت كلا منهما أصلا وسبيلا إلى المعرفة، وأنكرت أن يكون بينهما تعارض حقيقي، وعملت على التوفيق والجمع بينهما، على ما في هذا من مشقة وعسر في أكثر الأحيان.
ولهذه المشقة والعسر يجب أحيانا الكف عن التأويل، وعدم تعيين المعنى الخفي المراد ما دام لا يوجد الدليل القاطع على تعيين هذا المعنى الذي يقصده الله أو الرسول عليه الصلاة والسلام.
مثلا جاء في القرآن والحديث أن أعمال الإنسان توزن يوم القيامة، والعقل يقطع بلا شك أن المعنى الظاهر الحرفي غير مقصود؛ لأنه غير معقول، وإذن لا بد من تأويل لفظ «الوزن» تأويلا مجازيا بإرادة نتيجته وهي تعريف مقدار العمل، أو تأويل لفظ «العمل» بإرادة الصحيفة التي كان مكتوبا فيها، وليس لدينا ما يدل دلالة قاطعة على أن هذا التأويل أو ذاك هو المراد، والنتيجة أنه يجب الكف عن تعيين المعنى المجازي المراد؛ لأنه لا يجوز الحكم على مراد الله أو رسوله بالظن والتخمين.
من هذا كله نرى الإمام الغزالي مع مشاركته للصوفية في أنه يوجد «مريدون» يصح أن تذاع لهم التأويلات الحقيقية والمعاني الخفية لبعض النصوص المقدسة، لم يفرط كما أفرطوا في التأويل، بل إنه رأى التوقف فيه في حالات كثيرة عندما لا يوجد دليل قاطع على تعيين المعنى المجازي المراد.
أما الإمام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم المعروف بابن تيمية والمتوفى عام 728ه، وبه نختم هذا البحث الذي طال إن كنا نرى أن ذلك كان ضروريا في نظرنا، فإنه قد وقف بالنسبة لمشكلة التأويل موقفا معارضا كما رأينا عند من سبق من أولئك الفلاسفة والمفكرين .
إنه يرى أن يفرق بين لفظ «التأويل» في عرف السلف، وبينه عند المتكلمين - وبخاصة المعتزلة - والمتصوفة والفلاسفة من رجال الدين.
التأويل في رأي رجال السلف الإسلامي هو التفسير وبيان المراد من النص القرآني أو الحديثي، وبهذا المعنى ورد كثير في القرآن نفسه، وهو التأويل المقبول، ويقال على هذا المعنى إن الصحابة والتابعين كانوا يعرفون تأويل القرآن الذي فسروه كله، ومن ثم قال الحسن البصري من التابعين: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم ما أراد بها.
66
ولذلك لا يجوز التوقف وترك بيان معنى الآية من آيات القرآن؛ لأن الله أمرنا أن نتدبر القرآن وأن نفهمه، والرسول لم يترك هذا من غير بيان للصحابة، اللهم إلا أن يقال إن الرسول كان لا يعلم معاني القرآن الذي أنزل عليه، أو كان يعلمها ولم يبلغها كلها للناس مع أنه مأمور من الله بالتبليغ، وكل ذلك غير مقبول ولا معقول.
67
ونرى أن ابن تيمية غير مفهوم تماما هنا، فإنه يرى، مع تأكيده أن الصحابة والتابعين كانوا يفهمون القرآن كله، أن ما جاء فيه عن الله وصفاته واليوم الآخر، وما يجري فيه من أمور غيبية كان أولئك الصحابة والتابعون يعلمون تأويله وتفسيره، وإن لم يعرفوا كيفية ما أخبر به الله من ذلك كله!
68
هذا؛ وأما النوع الآخر من التأويل الذي يتكلم عنه كثيرا من الفلاسفة والمتصوفة، وبعض رجال علم الكلام، فهو أمر آخر غير النوع الأول، إنه في اصطلاحهم الخاص «صرف اللفظ عن المعنى المدلول عليه المفهوم منه إلى معنى آخر يخالف ذلك.»
69
أي: صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى آخر خفي.
وهذا ضرب من التأويل لم يغب عن الرسول
صلى الله عليه وسلم
الذي بين بنفسه، في كل موضع يجب فيه ترك المعنى الظاهري، المعنى الآخر المراد بهذا اللفظ؛ وذلك لأنه «لا يجوز عليه أن يتكلم بالكلام الذي مفهومه ومدلوله باطل ويسكت عن بيان المراد الحق، ولا يجوز أن يريد من الخلق أن يفهموا من كلامه ما لم يبينه لهم.»
70
وما دام الأمر كذلك؛ فلا تعارض إذن بين المعقول الصريح والمنقول الصحيح، أي: لا تعارض بين ما يؤدي إليه العقل السليم وبين ما ثبت نقله عن الرسول.
هكذا يرى ابن تيمية، وهو يؤكده بأنه قد تحقق ذلك بنفسه؛ إذ تبين له بعد تفكير طويل اتفاق ما وصل إليه العقل الصحيح النظر في المسائل الكلامية الكبرى، كمسائل التوحيد والصفات والقدر والنبوات والمعاد، مع ما جاء عن ذلك في الشريعة تماما.
71
ولنا أن نأخذ بحق مما تقدم أن مشكلة التأويل لم توضع أمام ابن تيمية، بمعنى أنه لم يرها مشكلة تتطلب حلا لها، وذلك بأن هذه المشكلة لم تعرض للمفكرين من رجال الدين إلا لما رأوه من وجود تعارض بين ما ثبت بالعقل وما ورد به الشرع، فاضطروا لتأويل ما لا يتفق والعقل من النصوص الدينية الوحيية.
ولكن ابن تيمية لا يرى وجود تعارض مطلقا، والمنقول الذي يقال إنه يخالف العقل لا يكون إلا حديثا موضوعا، أو نصا آخر لا يدل دلالة قاطعة على ما يراد الاستدلال به عليه، وعلى فرض وجود تعارض بين العقل والنص يجب ترجيح الأخذ بالنص الثابت عن الأنبياء على ما يؤدي إليه العقل واستدلاله.
ومن الحق أنه ذكر في بعض ما كتبه في هذا الشأن أنه عند تعارض العقل والسمع يجب تقديم ما تكون دلالته قطعية منهما، سواء أكان هو الدليل العقلي أم الدليل السمعي، ولكنه قال بعد هذا بقليل: «ولكن كون السمعي لا يكون قطعيا دونه خرط القتاد.»
72
أي إن الدليل السمعي متى ثبت صحة النقل يقدم دائما على العقل وما يؤدي إليه، وكل ذلك يؤدي بنا إلى النتيجة التي استخلصناها، وهي أن مسألة التأويل لم توضع أمام ابن تيمية؛ إذ لم يكن لديه أسبابها.
ومن أجل هذا نرى الإمام تقي الدين ينقد بشدة ابن سينا والغزالي وابن رشد وابن ميمون، وغيرهم من المتصوفة والملاحدة الذين اصطنعوا طريقة التأويل لبث آرائهم في القرآن والحديث، وبذلك مزجوا هذين المصدرين المقدسين بالآراء الفلسفية التي جعلوها أصلا يؤولون النصوص الدينية بحسبها لتتفق معها؛ ولذلك أيضا قد يضطرون عندما يجدون النص لا يوافق ما زعموه حقا بعقولهم، إلى أن يقولوا إن الرسل تكلموا على سبيل التمثيل والتخييل للحاجة إلى إفهام العامة وأمثالهم.
73 •••
والآن وقد رأينا مشكلة التأويل في النصوص المقدسة توضع قبل ابن رشد في اليهودية والمسيحية والإسلام، أمام الفلاسفة والمفكرين من رجال هذه الديانات، علينا أن نقارن موقف ابن رشد فيها بموقف غيره ممن تناولناهم بالدراسة.
لم يحاول ابن رشد أن يجعل من القرآن أو الحديث كتابا فلسفيا، أو لم يحاول - بتعبير آخر - أن يجد فلسفة أرسطو الذي عرف بأنه شارحه الأول في القرآن والحديث، ليكون هذا توفيقا بين الوحي والفلسفة، كما حاوله تقريبا، وعمل له كل من فيلون وموسى بن ميمون في اليهودية، وكلمانت الإسكندري وأوريجين وأبيلارد في المسيحية، وكذلك لم يسر مع خياله في تآويله كما فعل فيلون، وذلك حين جعل الأشخاص التي جاءت في تاريخ الخليقة وتاريخ اليهود في التوراة رموزا لحالات النفس.
ولم يغل غلو المعتزلة أحيانا في إكراههم النص القرآني على أن يتفق ومذهبهم في علم الكلام بتأويله كما يرون، ولم يسرف أخيرا إسراف المتصوفة والشيعة الذين تعسفوا إلى أقصى الحدود أحيانا في تأويل القرآن والحديث.
إن فيلسوف الأندلس حين نريد أن نقارنه بهؤلاء وأولئك، نراه كما تقدم قد وجد في القرآن والحديث ما لا يقدر العامة على فهمه، وما له تأويلات عقلية لا يصل إليها إلا أهل المعرفة وهم الفلاسفة في رأيه؛ فأوجب على الأولين أخذ هذه النصوص حسب معانيها الظاهرة، وأوجب على الآخرين تأويلها ومعرفة المعاني الخفية التي لها.
كما حاول أن يجد لآرائه الكلامية سندا من القرآن لإقناع العامة ومن إليهم، وهذا ما فعل غيره من رجال المسيحية كما رأينا، وإن كان لم يجعل مثلهم الغرض من تفسير القرآن هو الاستدلال على اللاهوت الذي أخذ حظا غير قليل من الفلسفة، بل جعل عمدته في الاستدلال لآرائه الفلسفية - حتى ما يتصل منها بالدين - هو الدليل المنطقي، وشاهد هذا ما سنراه فيما يأتي عند الكلام عن المعركة بينه وبين الغزالي.
وفيما يختص بالمقارنة بينه وبين الغزالي أشد المفكرين معارضة لمذهب أسلافه فلاسفة الإسلام، نجد أن كلا منهما يرى وجود عامة وخاصة بين الناس، وإن كانا كما عرفنا يختلفان في تحديد الطبقة الخاصة.
كما يتفقان على أنه ليس للعامي أن يؤول ما يحتاج لتأويل من النصوص، ولا لمن هو من الخاصة أن يكشف له التأويل الذي يصل إليه، وإن كان ابن رشد يوجب في بعض الحالات التي يكون التأويل فيها واضحا أن يصرح بالتأويل ويذاع للجميع لا فرق بين الخاصة والعامة.
وبعد هذا وذاك نجد إيمان ابن رشد بقدرة العقل أقوى من إيمان الغزالي، وهذا ما يجعله لا يوجب التوقف أحيانا عن التأويل مع القطع بنفي المعنى الظاهر من النص، كما رأينا من الغزالي. •••
وأخيرا ننتقل إلى الفصل التالي؛ لنعرف كيف يمكن لفيلسوف الأندلس - مع المحافظة على المبادئ والأصول التي وضعها للعلاقة التي ينبغي أن تكون بين الشريعة والحكمة - كيف يمكنه الاستدلال للعقائد التي جاء بها الوحي بالنسبة لطوائف الناس جميعا، نعني استدلالا يقنع به القلب والعقل معا.
الفصل الثالث
استدلال ابن رشد للعقائد الدينية
سنرى في هذا الفصل كيف رأى فيلسوفنا أن يدلل لما جاء به الوحي من عقائد لا يقوم الدين بدونها، بطريقة تلائم عقول طوائف الناس جميعا، وذلك من غير ضرر بالدين أو الفلسفة، وقد خصص لهذه الغاية من مؤلفاته رسالته المسماة: «الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة.»
وقد كان من الضروري حقا أن يخصص بعض مؤلفاته لهذه الغاية؛ لأنه متى سلمت هذه العقائد وقامت عليها الأدلة، دون أن يكون في ذلك ما يتعارض مع النظر الفلسفي الصحيح، لم يكن لأحد أن يذم الفلسفة أو يشكو منها، وكان هذا خطوة طيبة حاسمة في سبيل التوفيق بين الوحي والعقل.
وسنعرض لأمهات هذه العقائد واحدة بعد أخرى على اختلاف ضروبها، أي: سواء منها ما يختص بحدوث العالم عن عدم، ووجود الله ومعرفته ووحدانيته، وما يختص بصفات الكمال التي يجب أن يتصف بها، والأخرى التي يجب أن يتنزه عنها، وما يختص بالحاجة إلى الرسالات الإلهية للناس، والعدل والجور، والمعاد في الدار الأخرى وما يكون فيه. (1) حدوث العالم
هذه العقيدة أولى العقائد الدينية بالبحث والاستدلال عليها في رأينا؛ فقد كانت هذه المسألة إحدى المسائل الثلاث التي كفر الغزالي الفلاسفة من أجل مذهبهم فيها، وربما ما تزال موضع نزاع بين رجال الدين وبعض المتفلسفين.
ونحب أن نقول من أول الأمر إننا لن نتعرض هنا فيما يختص بهذه المسألة وغيرها من مسائل هذا الفصل، لتقرير رأي ابن رشد والحكم بينه وبين رجال الدين، فلهذا موضع خاص يجيء بعد هذا الفصل، كما نلاحظ أن ابن رشد في هذه المسائل يجعل القرآن عماده في الاستدلال لجميع العقائد الدينية، فهو لا يعتمد على الاستدلال الذي يقوم على المقدمات المنطقية التي لا تطيقها العامة وأحيانا لا تكون يقينية؛ ولهذا يرفض غالبا أدلة رجال علم الكلام، على ما سنرى أثناء البحث.
هذا، ويبدأ فيلسوف قرطبة ببيان أن الشرع أو القرآن بصفة خاصة دعانا في آيات كثيرة إلى معرفة العالم وفهمه، وذلك لنصل من هذه المعرفة إلى أنه صنع صانع حكيم هو الله جلت حكمته.
ثم أخذ بعد ذلك في نقد طريقة المتكلمين الأشاعرة لإثبات هذه العقيدة، مبينا أنها ليست الطريقة الشرعية التي أشار القرآن إليها، وأنها مع هذا لا تصلح للعلماء؛ لأنها ليست يقينية، ولا للجمهور لأنها ليست بسيطة قليلة المقدمات التي تكون نتائجها قريبة من المقدمات المعروفة بنفسها.
وذلك بأن طريقة هؤلاء القوم لإثبات حدوث العالم تنبني على القول «بتركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ، وأن الجزء الذي لا يتجزأ محدث، والأجسام محدثة بحدوثه، وطريقتهم التي سلكوا في بيان حدوث الجزء الذي لا يتجزأ، وهو الذي يسمونه الجوهر الفرد، طريقة معتاصة تذهب على كثير من أهل الرياضة في صناعة الجدل فضلا عن الجمهور، ومع ذلك فهي طريقة غير برهانية ولا مفضية بيقين إلى وجود الباري.»
1
وإذا كانت هذه الطريقة لا تصلح في رأي ابن رشد ومن ثم لم يرضها، فما هي الطريقة التي يرضاها ويراها مثبتة ومؤدية إلى إثبات وجود العالم عن الله تعالى؟ إن هذه الطريقة هي «التي نبه الكتاب العزيز عليها، ودعا الكل من بابها، وإذا استقرئ الكتاب العزيز وجدت تنحصر في جنسين: أحدهما: طريق الوقوف على العناية بالإنسان، وخلق جميع الموجودات من أجلها، ولنسم هذه دليل العناية.»
والطريقة الثانية: ما يظهر من اختراع جواهر الأشياء الموجودات مثل اختراع الحياة في الجماد، والإدراكات الحسية والعقل، ولنسم هذه «دليل الاختراع».
2
وسنرجئ الحديث عن دليل الاختراع عند الكلام عن وجود الله.
ونتكلم الآن عن أول الدليلين فنجد ابن رشد يقول بأن هذا الدليل قطعي وبسيط «وذلك أن مبناه على أصلين معترف بهما عند الجميع؛ أحدهما: أن العالم بجميع أجزائه يوجد موافقا في جميع أجزائه لوجود الإنسان، ولوجود جميع الموجودات التي ها هنا، والأصل الثاني: أن كل ما يوجد موافقا في جميع أجزائه لفعل واحد، ومسددا نحو غاية واحدة، فهو مصنوع ضرورة، فينتج من هذين الأصلين بالطبع أن العالم مصنوع وأن له صانعا.»
3
أي إنه محدث لا قديم.
وهذا النوع من الاستدلال هو النوع الموجود في القرآن، وهذا حق كما يقول ابن رشد، كما يظهر من آيات كثيرة جدا، يلفتنا القرآن بها إلى ضرورة النظر في العالم وفي سائر الموجودات؛ ليتبين لنا أنها من خلق إله حكيم في صنعه، ولا نرى ضرورة لذكر بعض هذه الآيات كما فعل ابن رشد نفسه.
ولكن من الخير أن نشير منها إلى قوله تعالى (سورة النبأ: 6-16):
ألم نجعل الأرض مهادا * والجبال أوتادا * وخلقناكم أزواجا * وجعلنا نومكم سباتا * وجعلنا الليل لباسا * وجعلنا النهار معاشا * وبنينا فوقكم سبعا شدادا * وجعلنا سراجا وهاجا * وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا * لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا .
وفي الاستدلال بهذه الآيات على العقيدة التي نحن بصددها، يفكر صاحب كتاب «الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة» أن هذه الآيات إذا تأملها الإنسان وجد فيها التنبيه على موافقة أجزاء العالم لوجود الإنسان؛ وذلك أنه تعالى ابتدأ فنبه على أمر معروف بنفسه لنا معشر الناس الأبيض والأسود، وهو أن الأرض خلقت بصفة يتأتى لنا المقام عليها، وأنها لو كانت بشكل آخر غير شكلها، أو في موضع آخر غير الموضع الذي هي فيه، أو بقدر آخر غير هذا القدر، لما أمكن أن نخلق عليها ولا أن نوجد فيها، وهذا كله محصور في قوله تعالى:
ألم نجعل الأرض مهادا ، وذلك أن المهاد يجمع الموافقة في الشكل والسكون والوضع، وزائدا إلى هذا معنى الوثارة واللين، فما أعجب هذا الإعجاز!
ثم نبه الله بقوله:
والجبال أوتادا
على المنفعة الموجودة في سكون الأرض بسبب الجبال، فإنها لو كانت أصغر مما هي لتزعزعت من حركات الماء والهواء وتزلزلت وخرجت من موضعها، ولهلك ما عليها من الحيوان ضرورة، وإذن موافقة سكونها لما عليها من الموجودات لم يكن بالاتفاق، ولكن عن قصد قاصد وإرادة مريد، فهي ضرورة مصنوعة لذلك القاصد سبحانه وموجودة على الصفة التي قدرها.
وجاء بعد ذلك قوله تعالى:
وجعلنا الليل لباسا * وجعلنا النهار معاشا
تنبيها على موافقة الليل والنهار للحيوان والنبات؛ إذ الليل يسترها من حرارة الشمس، كما يستر اللباس الجسد ويقيه شدة الحرارة، ومع هذا فالليل يجعل كل ما فيه حياة يستغرق في النوم؛ ولذلك قال:
وجعلنا نومكم سباتا ، أي: مستغرقا بسبب الظلام.
ثم قال:
وبنينا فوقكم سبعا شدادا
وهي السماوات، فعبر بلفظ البنيان عن معنى الاختراع لها، وكذلك عن معنى ما فيها من نظام واتفاق أو موافقة لما خلقت من أجله، عبر بلفظ الشدة عما جعل فيها من القوة على الحركة الدائبة الدائمة، فليس هناك خوف من أن تخر كما تخر السقوف والمباني العالية، وهذا كله تنبيه من الخالق على موافقة السماوات والأفلاك وسائر ما فيها، في إعدادها وأشكالها وأوضاعها وحركاتها، لوجود ما على الأرض وما حولها؛ حتى إنه لو وقف جرم من الأجرام السماوية لحظة واحدة، فضلا عن أن تقف كلها لفسد ما على وجه الأرض.
ثم نبه بقوله:
وجعلنا سراجا وهاجا
على منفعة الشمس بخاصة وموافقتها لوجود ما على الأرض، إذ لولا الضوء لما انتفع الإنسان والحيوان بحاسة البصر،
4
ونبه على هذه المنفعة لأنها أشرف منافع الشمس وأظهرها.
وأخيرا نبه الخالق جلت حكمته بقوله:
وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا * لنخرج به حبا ونباتا * وجنات ألفافا
على العناية في نزول المطر، وأنه ينزل لمكان الحيوان والنبات، وأن نزوله لهذا بقدر محدود وفي أوقات محدودة لا يمكن أن يكون عن مصادفة، بل سبب ذلك العناية الإلهية بالأرض وما عليها.
وبعد أن انتهى ابن رشد من الاستدلال بتلك الآيات على أن العالم صنع من صنع الله وخلق من خلقه، وذلك بدليل يفهمه الناس جميعا وتؤمن له عقولهم وقلوبهم، نراه يقرر أن العالم محدث عن إرادة قديمة، وأنه خلق من لا شيء وفي غير زمان، أمر لا يمكن أن يتصوره العلماء فضلا عن الجمهور، ويوقع في شبه عظيمة تفسد عقائد الجمهور وبخاصة أهل الجدل منهم.
5
ولذلك؛ كان أهل علم الكلام بصنيعهم في هذه المسألة، وبقولهم إن العالم محدث عن إرادة الله القديمة، ليسوا من العلماء الناجين بما وصلوا إليه من العلم البرهاني اليقيني الذي هم أهل له، ولا من الجمهور الذين سعادتهم في اتباع الظاهر وما أذن به الشارع، بل هم من الذين في قلوبهم زيع ومرض.
6
وهكذا يخلص لفيلسوف الأندلس على ما نرى الاستدلال على حدوث العالم عن الله تعالى بأدلة ترتكز على النظر السليم والملاحظة الصادقة، وتؤخذ مقدماتها وأصولها من القرآن نفسه، فهي لذلك بسيطة وتؤدي بالناس جميعا إلى اليقين.
ولكن، لنا أن نقول مع ذلك بأن ما رآه من الدليل على حدوث العالم عن الله تعالى هو بالأولى على أن هذا العالم «الحادث» له صانع حكيم. أما الحدوث نفسه الذي هو ضد القدم فدليله كما يرى المتكلمون هو ما ينتابه من التغير واختلاف الصفات والأحوال؛ فإن هذا هو شأن الحادث لا القديم.
ويكفي في بيان هذا الذي يراه المتكلمون أن نشير إلى أي كتاب من كتب علم الكلام مثل «التبصر في الدين» لأبي المظفر الإسفراييني من رجال القرن السادس الهجري؛ إذ فيه أن الدليل على حدوث الموجودات التي يتكون منها العالم «أنها تتغير عليها الصفات وتخرج من حال إلى حال.» وإذن، تكون الموجودات التي تتغير أحوالها محدثة؛ لأن ما لا يخلو من الحوادث يكون محدثا.
7
على أن ابن رشد تناول هذا الدليل ونحوه من أدلة المتكلمين على حدوث العالم، ونقده بأن مقدماته تحتاج في إثباتها إلى أدلة، فالأدلة لهذا عسرة الفهم ولا يطيقها الجمهور، كما أنها بعد ذلك ليست يقينية؛ فلا تصلح للعلماء أيضا. (2) وجود الله ومعرفته
في هذه العقيدة أيضا نجد ابن رشد قبل أن يأتي بالدليل الشرعي الذي يراه صالحا لأن يؤدي بالعامة والخاصة إلى وجود الله ومعرفته، يعرض دليل رجال علم الكلام الأشاعرة عليها، ثم يتبعه بطريقة المتصوفة في الاستدلال وينقد كلا من الطريقتين.
ودليل الأشاعرة في إحدى صوره نراه هكذا: العالم حادث، وكل حادث لا بد له من محدث، وهذا المحدث هو الله.
8
وهذه الطريقة في الاستدلال كما يرى ابن رشد، ليست هي الطريقة الشرعية التي نبه الله عليها ودعا الناس للإيمان من قبلها، وهذا لما في إثبات كل هذه المقدمات من شكوك ليس في قوة صناعة الكلام الخروج منها، كما بين ذلك بشيء من التطويل.
9
وكذلك الأمر في الصورة التي ارتضاها لهذا الدليل إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن يوسف الجويني شيخ الغزالي، فضلا عن أنه يبطل حكمة الصانع، فإن الجويني في رسالته المعروفة بالنظامية - كما يذكر ابن رشد
10 - يبني هذا الدليل على مقدمتين: العالم كان جائزا أن يكون على غير ما هو عليه حجما أو شكلا أو حركة، والجائز محدث لا بد له من محدث صيره بأحد الجائزين أولى منه بالآخر، وهذا المحدث هو الله.
وفي رأينا أن فيلسوف قرطبة محق فيما يذكر هنا من أن المقدمة الأولى غير صحيحة، وأنها مع هذا مبطلة لحكمة الصانع؛ لأن العالم لو كان جائزا أن يكون على صفة غير الصفة التي هو عليها فعلا، لكان وجوده على هذه الصفة بلا سبب ولا حكمة، وهذا ما لا يليق بالله العليم الحكيم الذي خلق كل شيء وقدره تقديرا.
وإذا كان ابن رشد لم يتعرض لطريقة المعتزلة في الاستدلال على هذه العقيدة، فإنه يعتذر عن ذلك بقوله: «وأما المعتزلة فإنه لم يصل إلينا في هذه الجزيرة من كتبهم شيء نقف منه على طرقهم التي سلكوها في هذا المعنى، ويشبه أن تكون طرقهم من جنس طرق الأشعرية.»
11
وأما الصوفية فلم ترض طريقتهم أيضا في التوصل إلى معرفة الله ابن رشد، فإن طريقتهم لا تقوم على النظر بالعقل في العالم الموجود للاستدلال منه على الله موجده، ولكنها تقوم على «الذوق» وحده، وإذن فهي في رأي ابن رشد طريقة ليست للناس بما هم ناس، ولو كانت هي المقصودة لبطل النظر العقلي الذي دعا القرآن إليه ونبه على طريقه.
12
وهكذا لم يرض ابن رشد دليل المتكلمين ودليل المتصوفة لإثبات وجود الله ومعرفته، فما هو إذن طريقه إلى هذا؟ الطريق إلى هذا هو الطريق الذي نبه القرآن نفسه إليه، وهو ينحصر في دليلين: دليل العناية الذي يقوم - كما ذكرنا ذلك عند الكلام على حدوث العالم - على أن جميع الموجودات موافقة لوجود الإنسان وسائر ما على الأرض من حيوان، فهي إذن من قبل فاعل قاصد مريد لذلك.
ثم دليل الاختراع الذي يقوم على أن كل شيء من السماوات والحيوان والنبات مخترع، وذلك بدليل المشاهدة في هذين، وبدليل حركات السماوات التي تؤذن بأنها مسخرة لنا، وكل ما كان كذلك فهو مخترع حتما، وكل مخترع له مخترع ضرورة، فيصح من هذين الأصلين أن للعالم مخترعا له.
13
وقد ساق ابن رشد بعد هذا وذاك، في إحكام، آيات كثيرة من القرآن يؤيد بها هذين الدليلين وما اشتملا عليه من مقدمات، ثم قال: «فقد بان من هذه الأدلة أن الدلالة على وجود الصانع منحصرة في هذين الجنسين، دلالة العناية ودلالة الاختراع، وتبين أن هاتين الطريقتين هما بأعينهما طريقة الخواص، وأعني بالخواص العلماء، وطريقة الجمهور، وإنما الاختلاف بين المعرفتين في التفصيل، أعني أن الجمهور يقتصر من معرفة العناية والاختراع على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس، وأما العلماء فيزيدون على ما يدرك من هذه الأشياء بالحس ما يدرك بالبرهان.»
14
ومن أجل ذلك كانت هذه الطريقة - كما يقول فيلسوفنا - هي الطريقة الشرعية والطبيعية، وهي التي جاءت بها الرسل، ونزلت بها الكتب المقدسة، والعلماء يفضلون الجمهور في هذين الاستدلالين من ناحية الإحاطة في المعرفة والتعمق فيها. (3) وحدانيته تعالى
وإذا كان العالم محدثا وموجده هو الله، فهذا الإله واحد لا شريك له، ولكن كيف السبيل إلى إثبات هذه الوحدانية؟ إن المتكلمين وابن رشد يلجئون في هذا إلى قوله تعالى في سورة الأنبياء: (آية 22):
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا .
إلا أن الأولين يأخذون من هذه الآية دليلا يسمى دليل التمانع أو الممانعة، وهو دليل لا يرضاه ابن رشد ويرى أنه دليل متكلف، و«ليس يجري مجرى الأدلة الطبيعية والشرعية»؛ لأنه ليس برهانا، ولأن الجمهور لا يقدرون على فهمه ولا يحصل لهم به إقناع.
وذلك بأن هذا الدليل يجري هكذا: لو كان الخالق للعالم اثنين لجاز أن يختلفا، وإذن فإما أن يتم مرادهما جميعا، فيكون العالم موجودا ومعدوما معا وهذا مستحيل، أو لا يتم مراد واحد منهما، فلا يكون العالم موجودا ولا معدوما، أو يتم مراد أحدهما دون الآخر، فيكون هذا الآخر عاجزا والعاجز ليس بإله، ويكون الذي تم مراده هو الإله وحده، وهذا هو المطلوب.
وفضلا عن أن هذا الدليل ليس برهانا قاطعا، وليس في طاقة الجمهور فهمه، ولا يحصل لهم به اقتناع إذا بسط مفصلا، فإن ابن رشد يرى ضعفا واضحا؛ إذ يمكن أن يقال بأن هذين الإلهين قد يتفقان بدل أن يختلفا، وهذا هو الأليق بالآلهة، وحينئذ يحتاج الأمر إلى تفصيل الدليل بما لا يطيقه الجمهور والعامة من الناس.
15
لم يرض فيلسوف الأندلس هذا الاستدلال إذن، ويفهم الآية على نحو آخر فيه يسر وبلوغ إلى إثبات الوحدانية لله بقياس الغائب على الشاهد؛ وذلك إذ يرى أن من المعلوم بالطبع أن اجتماع ملكين في مدينة واحدة وعمل كل منهما هو عمل صاحبه، يؤدي إلى فساد المدينة، فكذلك لو كان هناك خالقان لفسد العالم، ولكن العالم موجود وعلى غاية الصلاح، فيكون الخالق واحدا ضرورة.
ويضيف إلى الآية آية أخرى (سورة المؤمنون: 91) تقول:
ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون ، إنه يضيفها في استدلاله لينفي ما قد يقال إن لنا أن نفرض آلهة متعددة يتفقون فيما بينهم على أن يكون لكل منهم عمل خاص، وذلك بأنه في هذه الحالة يكون لنا أكثر من عالم واحد، ولكن العالم بأجزائه المتماسكة المترابطة هو واحد لا أكثر، وإذن فالخالق واحد لا غير.
16
وهذا الدليل كما يقول فيلسوفنا بعد ما تقدم، صالح للعلماء والجمهور معا، والفرق بينهما فيه هو «أن العلماء يعلمون من اتحاد العالم، وكون أجزائه بعضها من أجل بعض بمنزلة الجسد الواحد، أكثر مما يعلمه الجمهور.» ونحن نرى أن هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد من البيان. (4) إثبات صفات الكمال لله
الله متصف بكل صفات الكمال، هذا حق لا ريب فيه، والقرآن يردد الكثير منها في كثير من آياته، وسنتكلم عن سبع منها أجمع عليها رجال علم الكلام وسائر رجال الدين والمفكرون والفلاسفة المسلمون، وهي: الحياة، والعلم، والإرادة، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام. وهذه هي الصفات التي جاء في القرآن وصف الله الخالق بها، وقد تناولها ابن رشد بالتدليل عليها على هذا النحو:
17 (أ)
نبه الكتاب على وجه الدلالة على العلم بقوله تعالى (سورة الملك: 13، 14):
وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور * ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ، والدلالة نجدها هنا في الآية الثانية، وذلك بأن المصنوع بترتيب أجزائه وموافقة جميعها للمنفعة المقصودة منه، يدل على أنه حدث عن صانع يجعل ما يصنع على ترتيب ونظام يؤدي إلى الغاية المقصودة منه؛ فوجب أن يكون عالما ضرورة به.
يجب لهذا؛ أن يكون خالق هذا العالم المحكم في ترتيبه ونظامه متصفا بصفة العلم اتصافا دائما لا في حال دون حال.
هكذا ينبغي في رأي ابن رشد أن يكون الاستدلال على إثبات صفة العلم لله تعالى، استدلالا ينفع للناس جميعا عامتهم وخاصتهم، وإن كان هؤلاء الخاصة يمتازون بمعرفة أتم بما في العالم من ترتيب ونظام، وبأن كل شيء خلق موافقا للغاية المقصودة منه.
وأما ما يقوله المتكلمون من أن الله يعلم حدوث الأشياء بعلم قديم؛ فإنه:
أولا:
لم يصرح به الشرع، بل صرح بخلافه وهو أن الله يعلم المحدثات حين حدوثها، وفي هذا جاء في القرآن (سورة الأنعام: 59):
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين .
وثانيا:
إن قول المتكلمين هذا يلزمه «أن يكون العلم بالمحدث في وقت عدمه ووقت وجوده علما واحدا، وهذا أمر غير معقول؛ إذ كان العلم واجبا أن يكون تابعا للموجود، ولما كان الموجود تارة يوجد فعلا وتارة يوجد قوة، وجب أن يكون العلم بالموجودين مختلفا؛ إذ كان وقت وجوده بالقوة غير وقت وجوده بالفعل.» إلى آخر ما قال.
18
والنتيجة لهذا وذاك كله أن نكتفي بهذا في إثبات العلم لله في رأي ابن رشد، ولا نقول إنه يعلم ما يكون وما يفسد من الموجودات لا بعلم قديم ولا بعلم محدث، فإن هذا ما تقتضيه أصول الشرع، والقول بخلافه بدعة في الإسلام، والجمهور لا يفهمون من العالم في الواقع المشاهد إلا هذا المعنى. (ب)
وإذا كان من المشاهد أن من شرط العلم في العالم أن يكون حيا، وإذا كان من شرط من يصدر عنه شيء من الأشياء أن يكون مريدا له وقادرا عليه، كان من الطبيعي أن تثبت لله تعالى صفات الحياة والإرادة والقدرة.
وكذلك لما كان من شرط الصانع الحري بهذا الوصف أن يكون مدركا لما يصنعه بكل نوع من الإدراك، وجب أن يكون الخالق، جل وعلا، سميعا بصيرا، وإلا لما كان أكمل الخالقين، ولما استحق أن يكون معبودا، ومن ثم جاء في القرآن حكاية لقول سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه (سورة مريم: 42):
يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا .
وينبغي أن نلاحظ أن كل ذلك يتفق فيه فيلسوف قرطبة وعلماء الكلام، إلا أنه فيما يختص بصفة الإرادة يجب الاكتفاء بأن نقول فضلا عما تقدم، بأنها صفة قديمة ككل الصفات التي يتصف بها الله؛ إذ لا يجوز أن يتصف بها وقتا دون وقت، وحالا دون حال، وليس لنا بعد هذا وذاك أن نبحث كما فعل رجال علم الكلام، هل يريد الله وجود الأشياء المحدثة بإرادة قديمة أو بإرادة محدثة؟
إن هذا، كما يقول ابن رشد، بدعة في الدين، وشيء لا يعقله العلماء أنفسهم، ثم هو لا يقنع الجمهور حتى من بلغ منهم رتبة الجدل، بل ينبغي أن يقال بأن الله مريد لكون الشيء في وقت كونه وغير مريد لكونه في غير وقت كونه، كما قال تعالى (سورة النحل: 40):
إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون .
وفي الحق كما يقول ابن رشد أنه ليس في الشرع وصف لإرادة الله بالقدم أو الحدوث، فالمتكلمون حين أثاروا هذا البحث قد انحرفوا عما أراد الشارع نفسه، وأتوا في الشرع بما لم يأذن به الله، وذلك فضلا عن أن دليلهم على ما زعموه من أن الله أوجد ما أوجد من الأشياء بإرادة قديمة لم يسلم لهم، بل ثارت من أجله اعتراضات لم يمكنهم دفعها، وليس أهونها شأنا ما يقال لهم: إذا كان الله يريد إيجاد شيء في وقت ما بإرادة قديمة، فإذا جاء هذا الوقت فوجد، هل وجد بفعل قديم أو بفعل محدث؟ إنه إن قالوا إنه وجد بفعل قديم فقد جوزوا إذن وجود المحدث بفعل قديم، وهو أمر غير معقول، وإن قالوا إنه وجد بفعل محدث لزمهم أن يكون هناك إرادة محدثة وهو غير مذهبهم.
هذا، وسيجيء لذلك تحقيق وبحث في الفصل الآتي الخاص بالمعركة بين ابن رشد والغزالي، ولكن لنا أن نقول الآن إنه قد يجيب المتكلمون عن هذا الاعتراض بأن الإرادة صفة لله، عملها أن تخصص في الأزل الشيء الذي يوجد في الزمان بأن يوجد في وقت معين لا غيره، وعلى شكل خاص لا غيره، ويكون الله دائما هو الفاعل والموجد للشيء، وتكون النتيجة أن يوجد الشيء دائما عن فاعل هو الله الذي أراد في القدم أن يوجد في زمن معين وعلى شكل خاص معين. (ج)
وأخيرا فيما يختص بالاستدلال على ثبوت هذا النوع من الصفات لله تعالى، نعني صفات الكمال التي يجب أن يتصف بها، يجيء الحديث عن صفة الكلام، ويبدأ فيلسوفنا فيعرف الكلام بأنه فعل يدل المتكلم به المخاطب على ما في نفسه، وهذا الفعل في الإنسان يكون بواسطة اللفظ، ثم يقول: «وإذا كان المخلوق الذي ليس بفاعل حقيقي يقدر على هذا الفعل من جهة ما هو عالم قادر، فكم بالحري أن يكون ذلك واجبا في الفاعل الحقيقي.»
19
يريد الله تعالى.
ولكن كما يذكر ابن رشد أيضا بعد ذلك، فرق بين الإنسان والله، إن كلام الإنسان يكون باللفظ يتلفظ به كما هو المعروف المشاهد، ولكن كلام الله قد يكون بواسطة ملك، أو قد يكون وحيا وإلهاما، كما قد يكون بواسطة لفظ يخلقه الله في سمع من يصطفيه بالتكليم، وإلى هذا كله أشار الله بقوله (سورة الشورى: 51):
ليس كمثله شيء ، وقوله (سورة النحل: 17):
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ، ويريد بقوله:
أو من وراء حجاب ، الكلام الذي يكون بواسطة الألفاظ يخلقها في نفس كليمه، وتلك هي الحالة التي خص بها موسى عليه السلام.
هكذا يرى فيلسوف الأندلس أن الله متكلم بهذا المعنى، وبإحدى هذه الطرق الثلاث، ولكن لنا أن نقول: هل يعتبر الله متكلما حقا برسول يرسله إلى من يصطفيه من خلقه، أو بإلهام يلقيه في ذهنه فينكشف له به المعاني التي يريدها الله تعالى، أو بألفاظ يخلقها في سمعه؟ أو أن الأولى أن نقول بأن هذا الرسول عندما ينطق بألفاظ تعبر عن مراد الله - الذي عرفه بحالة من تلك الحالات - يكون هو المتكلم؛ لأنه فعل فعلا قام بذاته ونفسه، لا الله الذي لم يقم بذاته شيء من الألفاظ التي نطق بها الرسول.
وفي الإجابة عن هذا التساؤل نجد فيلسوفنا يلمس لمسا رفيقا، إلا أنه واضح سديد، مشكلة خطيرة كانت فترة من الزمن من سياسة الدولة العليا، نعني بها مشكلة القرآن أهو مخلوق أم غير مخلوق، هذه المشكلة التي أثارها المعتزلة والمأمون في عنفوان الدولة العباسية في أوائل القرن الثالث الهجري، كما نجده يقف من هذه المشكلة موقفا وسطا بين المعتزلة والأشاعرة.
وذلك بأن ابن رشد يرى أن الله يعتبر متكلما على وجهين: الكلام الأزلي الذي في نفسه،
20
والألفاظ التي تدل على هذا الكلام النفسي كالقرآن والتي هي مخلوقة لله نفسه لا لبشر من خلقه؛ ولذلك يكون القرآن إذا أريد به الكلام النفسي قديما غير مخلوق كما يقول الأشاعرة، وإذا أريد به الألفاظ التي نقرؤها ونسمعها كان حادثا مخلوقا كما يقول المعتزلة.
هذا؛ والذي دعا الأشاعرة إلى موقفهم هذا هو اعتقادهم أن المتكلم هو من يقوم الكلام بذاته، فإذا كان الله متكلما بالقرآن الذي نقرؤه ونسمعه، والذي ألفاظه مخلوقة حادثة منا بإذنه تعالى، كانت ذاته محلا للحوادث؛ ولهذا لم يثبتوا لله إلا الكلام النفسي القديم فقط، والمعتزلة يرون أن الكلام ليس إلا ما فعله المتكلم، أو بعبارة أخرى يشترطون في المتكلم أن يكون فاعلا للكلام؛ ولهذا أنكروا الكلام النفسي، وقالوا بأن الكلام هو اللفظ فقط، فكان القرآن عندهم مخلوقا، ولكن لا يلزمهم مع هذا أن تكون ذات الله محلا للحوادث ؛ لأن اللفظ من حيث هو فعل ليس من شرطه أن يقوم بفاعله.
وهكذا، كما يقول ابن رشد نجد في قول كل من هاتين الفرقتين جزءا من الحق وآخر من الباطل، وأن الحق هو الجمع بينهما كما رأينا. (د)
وأخيرا فيما يتعلق ببحث صفات الكمال الواجبة لله والاستدلال عليها، يرى ابن رشد أنه لا يجوز البحث في أنها زائدة أو غير زائدة على ذاته تعالى كما فعل المتكلمون من الأشاعرة والمعتزلة، فإن الكلام في ذلك بدعة وبعيد عن مدارك الجمهور وأفهامهم، وقد يضلهم بدل أن يرشدهم.
وذلك بأن الأشاعرة يرون أن هذه الصفات صفات زائدة على الذات، فالله عالم بعلم زائد على ذاته، ومريد بإرادة زائدة على ذاته، وهكذا، ويلزمهم على هذا أن الخالق جسم؛ لأنه يكون هناك صفة وموصوف وحامل ومحمول، وهذه هي حال الجسم، أو يلزمهم إن قالوا بأن الصفات قائمة بنفسها لا بالذات، القول بآلهة متعددة، كالنصارى الذين زعموا أن الأقانيم ثلاثة. أما ما يقوله المعتزلة من أن الذات والصفات شيء واحد، فهو قول بعيد عن المعارف الأولى، فإنه يظن أن العلم مثلا غير العالم، وهكذا باقي الصفات.
وإذا كان الكلام في الصفات على نحو ما فعل الأشاعرة والمعتزلة بدعة وبعيدا عن مقصد الشرع، وقد يؤدي إلى إضلال الجمهور، فينبغي إذن أن يعلم الجمهور من أمر هذه الصفات ما صرح به الشرع فقط، وهو الاعتراف بوجودها وثبوتها لله دون تفصيل الأمر فيها ذلك التفصيل، فإنه ليس يمكن أن يحصل عند الجمهور في هذا يقين أصلا.
هكذا يقول فيلسوف الأندلس في آخر بحث الصفات الواجبة لله تعالى، والجمهور في رأيه - كما عرفنا من قبل - هم من لم يكونوا من أهل البرهان وإن كانوا من رجال علم الكلام. (5) نفي الصفات التي يجب تنزيه الله عنها
عني فيلسوف الأندلس بالكلام عن ثلاث صفات يتنزه الله عنها، وهي: المماثلة أو المشابهة لشيء من المخلوقات، الجسمية، الكون في جهة:
21 (أ)
ليس لنا أن نتوهم من كون الله حيا، عالما، مريدا، قادرا، سميعا، بصيرا ، متكلما، ومن أن الإنسان نفسه له حظ من كل من هذه الصفات، أن بين الخالق والمخلوق مماثلة أو مشابهة ما، فإنه لا مماثلة أو مشابهة بين الخالق وأحد من خلقه، وإنه منزه عن جميع صفات النقص.
والقرآن نفسه اشتمل على آيات كثيرة جدا فيها دلالات على ذلك بصفة عامة، ولكن أبينها في نفي المماثلة قوله تعالى (سورة الشورى: 11):
ليس كمثله شيء
وقوله (سورة النحل: 17):
أفمن يخلق كمن لا يخلق
وهذه الآية هي برهان ما جاء في الأولى من نفي المماثلة، وإلا كان الخالق لكل شيء كمن لا يخلق شيئا ما.
وإذن، فالله تعالى منزه عن كل صفة من صفات النقص التي نراها تعتري الإنسان، وذلك كالموت، والنوم، والنسيان والغفلة، والخطأ. فكل هذا وما إليه بسبيل منفي عن الخالق جلا وعلا، وقد صرح القرآن بذلك في أكثر من آية:
وتوكل على الحي الذي لا يموت ،
لا تأخذه سنة ولا نوم ،
لا يضل ربي ولا ينسى ، إلى غير ذلك كله مما هو معروف.
22
وإن العقل نفسه كما يذكر فيلسوفنا يقضي بنفي صفات النقص هذه وأمثالها عن الخالق، وإلا لما بقي العالم حتى الآن موجودا لا يعتريه فساد أو اختلال،
23
على أن الله قد أشار إلى هذا أيضا في القرآن إذ يقول (سورة فاطر: 41):
إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده . (ب)
وإذا كان الأمر صار سهلا بالنسبة إلى نفس المسائلة، أي: بلا خلاف من أحد من رجال علم الكلام، فإنه ليس كذلك في صفة الجسمية بالنسبة لله تعالى، وهنا يبدأ ابن رشد الحديث عن هذه المشكلة بقوله: «إنه من البين من أمر الشرع أنها (أي: صفة الجسمية) من الصفات المسكوت عنها، وهي إلى التصريح بإثباتها في الشرع أقرب منها إلى نفيها، وذلك أن الشرع قد صرح بالوجه واليدين في غير ما آية من الكتاب العزيز، وهذه الآيات قد توهم أن الجسمية هي له من الصفات التي فضل فيها الخالق المخلوق، كما فضله في صفة القدرة والإرادة وغير ذلك من الصفات التي هي مشتركة بين الخالق والمخلوق، إلا أنها في الخالق أتم وجودا؛ ولهذا صار كثير من أهل الإسلام إلى أن يعتقدوا في الخالق أنه جسم لا يشبه سائر الأجسام، وعلى هذا الحنابلة وكثير ممن تبعهم.»
24
ولكن فيلسوف الأندلس أبعد بفلسفته من أن يذهب إلى أن الله تعالى جسم على أي وجه كان، غير أنه يرى - كما ذكر بعد ما تقدم نقله عنه آنفا - أن الواجب في هذه الصفة أن يجرى فيها على منهاج الشرع؛ فلا يصرح فيها بنفي أو إثبات، ويجاب من سأل في ذلك من الجمهور بقوله تعالى:
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وينهى عن هذا السؤال.
وفيلسوفنا حين يوجب السكوت عن نفي صفة الجسمية وإثباتها، يصدر في رأيه هذا عن أسباب لها تقديرها، إنه يرى أن إدراك هذا المعنى ليس في طاقة الجمهور، بدليل الطريق التي سلكها المتكلمون في نفيها، وهي مع هذا ليست برهانية، ولأن الجمهور يرون أن الموجود هو المتخيل والمحسوس وأن ما ليس كذلك فهو عدم، فإذا قيل لهم بأن الله ليس جسما لم يستطيعوا تصوره وصار عندهم من قبيل المعدوم، ولأنه لما صرح بنفي الجسمية عرضت في الشرع شبهات وشكوك كثيرة فيما جاء في القرآن والحديث خاصا برؤية الله، ونزوله إلى السماء الدنيا كل ليلة جمعة، ومجيئه يوم الحشر بين الملائكة، ونزول الوحي عنه من السماء، وصعود الملائكة والروح إليه، إلى كثير من نحو هذا.
25
وفي رأيه أنه حينئذ، أي إذا صرح بنفي الجسمية عن الله تعالى، كان لا بد من أحد أمرين: إما تأويل هذه النصوص كلها، فتتمزق الشريعة وتبطل الحكمة المقصودة منها، وإما أن يقال إن هذه النصوص من المتشابهات التي استأثر الله بعلمها، وهذا إبطال للشريعة ومحو لها من النفوس، هذا إلى أن الدلائل التي احتج بها المؤولون لهذه الأشياء كلها ليست برهانية، وإلى أن الناس أميل إلى التصديق بظواهر النصوص.
26
هذا هو رأي ابن رشد في المشكلة، وفي أنه لا يجوز أن نؤول كل تلك النصوص للأسباب التي أشرنا إليها، وهنا نرى من اللازم أن نشير إلى رأي إمام كبير من الأشاعرة يشير إلى ابن رشد نفسه كثيرا، نعني إمام الحرمين الجويني من أعيان المتكلمين في القرن الخامس الهجري.
يقول إمام الحرمين ما نصه: ذهب بعض أئمتنا إلى أن اليدين والعينين والوجه صفات زائدة للرب تعالى، والسبيل إلى إثباتها السمع دون قضية العقل، والذي يصح عندنا حمل اليدين على القدرة، وحمل العينين على البصر، وحمل الوجه على الوجود، ومن أثبت هذه الصفات السمعية وصار إلى أنها زائدة على ما دلت عليه دلالات العقول، استدل بقوله تعالى (سورة ص: 75) في توبيخ إبليس إذ امتنع عن السجود:
ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي
وقوله (سورة القمر: 14) متحدثا عن سفينة نوح عليه السلام:
تجري بأعيننا ، وقوله (سورة الرحمن: 27) متحدثا عن بقائه وحده بعد عدم العالم يوم القيامة:
ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام .
27
وفي كل هذه الآيات يؤول إمام الحرمين هذه الألفاظ بما لا يجعلها تدل على إثبات صفة جسمية لله تعالى، كما يؤول ما يؤدي بظاهره إلى ذلك من الآيات والأحاديث الأخرى، ومن هذا الآية رقم 22 من سورة الفجر التي تقول:
وجاء ربك والملك صفا صفا ، ويرى أن المجيء هنا معناه مجيء أمر الله وحكمه.
ومن هذا أيضا حديث النزول المشهور الذي جاء فيه: «ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة جمعة ويقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأستجيب له؟»
28
فإنه يؤول في هذا الحديث «نزول الله» بجعل المراد منه نزول ملائكته المقربين.
29
إننا نرى بعد ذلك أن من السهل تأويل تلك النصوص ونحوها بما يبعدها عن إيهام الجسمية لله سبحانه وتعالى دون أي عناء، وأنه في طاقة من ليس من أهل البرهان إدراك هذه التآويل والاقتناع بها؛ ولهذا لا ندري كيف لم يرض ابن رشد هذه التآويل التي يعرفها والتي تنفي عن الله تعالى توهم اتصافه بالجسمية، وبخاصة أنه باعتباره فيلسوفا يبعد الله تماما عن كل ما يوهم الجسمية.
ومهما يكن فإن فيلسوف الأندلس يعرف أن الجمهور لن ينتهي عن التساؤل عما هو الله، ولن يقنعهم أن يقال إنه موجود وليس كمثله شيء؛ ولهذا يرى «أن يجابوا بجواب الشرع فيقال: إنه نور، فإنه الوصف الذي وصف به الله نفسه في كتابه العزيز، فقال تعالى (سورة النور: 35):
الله نور السماوات والأرض ، وبهذا وصفه النبي
صلى الله عليه وسلم
في الحديث الثابت، فإنه جاء أنه قيل له عليه السلام: هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه!»
30
وبخاصة كما يذكر أيضا ابن رشد بعد ما تقدم، والنور يجتمع فيه أنه محسوس تعجز الأبصار والأفهام عن إدراكه مع أنه ليس جسما، والجمهور يفهم من الموجود أنه المحسوس، وأيضا فالنور أشرف المحسوسات؛ فوجب أن يمثل به أشرف الموجودات وهو الله تعالى.
هكذا يرى ابن رشد أنه بما ذهب إليه في صفة الجسمية صان الشرع عن الشكوك، وجمع بين الآيات والأحاديث، وجعل إيمان الجمهور في أمن من الشبهات. على أن إمام الحرمين يؤول آية النور بأن المراد منها هو أن الله هادي أهل السماوات والأرض، ثم يقول: ولا يستجيز منتم إلى الإسلام القول بأن نور السماوات والأرض هو الإله.
31
وأخيرا من الإنصاف لابن رشد أن نؤكد هنا أنه لا ينبغي أن نفهم مما تقدم أنه يعتقد أن الله تعالى نور، ولكنه فقط يرى أن ذلك أنسب وأصلح ما يجاب به الجمهور حين يسألون عن الله ما هو؟ وأنه من الخير عدم البحث في صفة الجسمية إثباتا أو نفيا، فإن هذا يؤدي إلى البحث فيما تعجز العقول عن فهمه، أي: عن طبيعة الله مثلا. (ج)
وإذا كانت صفة الجسمية من الصفات التي سكت عنها الشرع؛ فلم يثبتها أو ينفها كما رأينا، وإن كان - كما يقول ابن رشد - أقرب إلى إثباتها من نفيها، فهل الأمر كذلك عند فيلسوف الأندلس في هذه الصفة الأخرى، أي: كون الله تعالى في جهة، أم ماذا يرى؟
هنا نجد ابن رشد يؤكد لنا «أن هذه الصفة لم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي «الجويني» ومن اقتدى بقوله.» ولا عجب في هذا كما يقول، فإن ظواهر الشرع كلها من القرآن والحديث تقتضي إثبات الجهة، مثل قوله تعالى (سورة السجدة: 5):
يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ، وقوله (سورة المعارج: 4):
تعرج الملائكة والروح إليه ، وقوله (سورة الملك: 16):
أأمنتم من في السماء ، ومثل حديث نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا ليلة كل جمعة.
إلى غير ذلك كله من الآيات والأحاديث «التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولا، وإن قيل إنها من المتشابهات عاد الشرع كله متشابها؛ وذلك لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء، وأن منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأن من السماء نزلت الكتب، وإليها كان الإسراء بالنبي
صلى الله عليه وسلم
حتى قرب من سدرة المنتهى، وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع.»
32
وإذا كان الأمر كذلك، فلم إذن نفى المعتزلة ومتأخرو الأشاعرة الكون في جهة عن الله سبحانه؟ إنهم صاروا إلى هذا لأن الكل متفق على أن الله ليس بجسم، وإن كان ابن رشد لا يرى التصريح بذلك للجمهور كما عرفنا، واعتقد نفاة الجهة أن إثباتها يوجب إثبات المكان، وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية، فلذلك اشتدوا في التدليل على نفي الجهة عن الله سبحانه وتعالى.
33
ولكن فيلسوف قرطبة لا يرى في إثبات الجهة هذا الخطر؛ لأن الجهة كما يقول غير المكان،
34
إنه يرى أن الجهة لا تكون غير واحد من أمرين: سطوح الجسم الست المحيطة به، وهي ليست مكانا للجسم أصلا، أو سطوح الأجسام المحيطة به التي تعتبر مكانا له، مثل سطوح الهواء المحيطة بالإنسان، وسطوح الفلك المحيطة بالهواء والتي هي مكان له، وهكذا كل الأفلاك بعضها محيط ببعض ومكان له.
وقد قام البرهان أنه لا يوجد خارج سطح الفلك الخارج جسم آخر، وإلا لكان خارج هذا الجسم جسم آخر، ويمر الأمر هكذا إلى غير نهاية؛ فإذا قام البرهان بعد ذلك على وجود موجود في هذه الجهة التي لا يمكن أن يكون فيها الجسم، فواجب أن يكون غير جسم، وليس للخصوم أن يقولوا إن خارج العالم خلاء، فإنه قد تبين في العلوم النظرية امتناع الخلاء.
35
وهذا الموضع ليس بمكان ولا يحويه زمان ، وقد قيل في الآراء القديمة والشرائع الغابرة إنه مسكن الروحانيين، يريدون الله تعالى والملائكة، فإن كان ها هنا - كما يقول ابن رشد - موجود هو أشرف الموجودات، فواجب أن ينسب من الموجود المحسوس إلى الجزء الأشرف وهو السماوات، وهذا كله يظهر على التمام للعلماء الراسخين في العلم.
36
ويختم ابن رشد كلامه في هذا بقوله بعد ما تقدم: «فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل، وأنه الذي جاء به الشرع وانبنى عليه، وأن إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع، وأن وجه العسر في تفهيم هذا المعنى مع نفي الجسمية هو أنه ليس في الشاهد مثال له.»
هذا، وقد رأى فيلسوفنا هنا أن يصرح بإثبات الجهة، على حين أنه أوجب في صفة الجسمية عدم التصريح بإثباتها أو نفيها؛ لأن الشبهة التي أوجبت على نفاة الجهة لا يتفطن الجمهور لها، فلا ضرر إذن في إثباتها بل الضرر في نفيها وتأويل كل النصوص الدالة عليها. (6) رؤية الله
وهذه المسألة مما اشتد فيه الخلاف بين المتكلمين، وهي تتصل اتصالا وثيقا بمسألتي الجسمية والكون في جهة، وسنكتفي فيها - كما فعل ابن رشد - بالإشارة إلى رأي المعتزلة ورأي الأشاعرة، ثم ننتهي إلى بيان رأي فيلسوفنا فيها.
إن كلا من هاتين الفرقتين ترى أن الله ليس بجسم، ونتيجة لهذا لا يكون في جهة ما، وإلا كان في مكان فكان جسما، وكل ذلك تقدم بيانه؛ فالمعتزلة بحكم المنطق رأوا لذلك كله أن الله تعالى لا تجوز رؤيته، واستشهدوا بقوله تعالى (سورة الأنعام: 103):
لا تدركه الأبصار ، وجهدوا في تأويل الآيات الأخرى التي قد تدل على جواز الرؤية ، وعملوا على رد الاستدلال بما يدل من الأحاديث على جوازها بأنها أخبار آحاد فلا تفيد العلم.
37
وإذا رجعنا إلى ما حكاه عنهم إمام الحرمين في هذه المسألة، وجداله معهم ورده عليهم فيها، نرى أنهم يذهبون إلى أن الله لا يرى بالحواس ولا بغيرها، وأنهم يحتجون لمذهبهم بأن رؤية الله لو كانت جائزة لرأيناه الآن مع انتفاء الموانع من الرؤية الممكنة، وأن المرئي يجب أن يكون في جهة مقابلة للرائي، ومن المستحيل في حق الله تعالى أن يكون في جهة، ثم هم يحتجون فضلا عن ذلك كله بقوله تعالى:
لا تدركه الأبصار ، وبقوله (سورة الأعراف: 143) حكاية لطلب موسى عليه السلام من الله أن يسمح له بأن يراه:
رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين .
38
ذلك هو موقف المعتزلة: نفي مطلق لجواز الرؤية، تطبيقا لمذهبهم في نفي الجسمية والجهة عن الله سبحانه وتعالى.
أما الأشاعرة: فقد راموا أمرا عسيرا، وهو الجمع بين نفي الجسمية والجهة عن الله وبين جواز أن يرى، فلجئوا - كما يرى ابن رشد - إلى حجج سوفسطائية توهم أنها صحيحة وهي كاذبة، ويكفينا هنا أن نشير إلى رأي إمام الحرمين الجويني الذي ناقشه فيلسوفنا نفسه.
إن إمام الحرمين يؤكد لنا أنه قد «اتفق أهل الحق على أن كل موجود يجوز أن يرى، والمصحح لكون الشيء بحيث أن يدرك هو الوجود.»
39
ولم يبق عليه بعد هذا المبدأ ليثبت جواز رؤية الله، إلا أن يقول بأن الله موجود فيجوز لذلك أن يرى، ثم أخذ بعد ذلك يناقش حجج المعتزلة، ويأتي في مقابلها بالأدلة من القرآن والحديث التي يراها تدل على جواز رؤية الله وأنها ستكون في الجنة.
ونرى من الضروري بعد هذا أن نأتي بنص الحجة التي يرى إمام الحرمين وجوب الارتكاز عليها لإثبات جواز رؤية الله، وهي حجة لخصها ابن رشد قال: «إذا تقرر بضرورة العقل أن الإدراك (لعله يريد الإدراك بالرؤية) لا يتعلق إلا بالوجود، فإذا رئي موجود لزم تجويز رؤية كل موجود، كما إذا رئي جوهر لزم تجويز رؤية كل جوهر، وهذا قاطع في إثبات ما نبغيه.»
40
وابن رشد بعد أن لخص هذه الحجة في إثبات جواز رؤية الله تعالى، قال: «وهذا كله في غاية الفساد.»
41
ثم أخذ يعلل بحق بأنه لو كان البصر مثلا إنما يدرك ذوات الأشياء، لا أحوالها التي تدرك به؛ لما أمكنه أن يفرق بين الأبيض والأسود؛ لأن الأشياء لا تفترق بالشيء الذي تشترك فيه، ولما كان لحاسة البصر أيضا إدراك فصول الألوان، ولا لحاسة السمع إدراك فصول الأصوات، وهكذا سائر الحواس، ولكانت مدركات الحواس واحدة بالجنس، لا فرق بين ما تدركه حاسة وما تدركه حاسة أخرى؛ ثم يختم هذا النقد بقوله: «وهذا كله في غاية الخروج عما يعقله الإنسان.»
هذا، والذي أدى الأشاعرة إلى هذه الحيرة واللجوء إلى مثل هذه الأقاويل هو - كما يذكر فيلسوف الأندلس - التصريح في الشرع بما لم يأذن به الله ورسوله من نفي الجسمية بالنسبة للجمهور، وذلك أنه من العسير أن يجمع في اعتقاد واحد أن ها هنا موجودا ليس بجسم وأنه مرئي بالأبصار؛ لأن مدارك الحواس هي في الأجسام أو أجسام؛ ولذلك رأى قوم أن هذه الرؤية هي مزيد علم في ذلك الوقت (أي: في الجنة)، وهذا أيضا لا يليق الإفصاح به للجمهور.
42
والنتيجة لهذا كله: أن فيلسوفنا يرى هنا كما في مسائل أخرى كثيرة، أنه متى أخذ الشرع على ظاهره في صفات الله لم تعرض هذه الشبهة ولا غيرها، فقد وصف الله نفسه بأنه نور، وجاء في الحديث أن له حجابا من النور، وأن المؤمنين يرونه في الآخرة كما نرى الشمس، وهذا كله متى أخذ بظاهره لا يكون مثارا لأي شبهة، لا عند العلماء الذين عرفوا بالبرهان أن هذه الحال مزيد علم، ولا عند الجمهور الذي يقنع بالفهم اليسير.
وإذا صرح للجمهور أن تلك الحالة مزيد علم، شكوا في الشريعة ونصوصها وكفروا المصرح لهم بها، فمن خرج عن منهاج الشرع في هذه الأشياء فقد ضل سواء السبيل؛ ولهذا يجب أن نجعل لكل طبقة من الناس تعليما خاصا كما قال الرسول
صلى الله عليه وسلم : «إنا معشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، وأن نخاطبهم على قدر عقولهم.» وإذن رؤية الله معنى ظاهر، ولا يعرض فيه شبهة إذا أخذ الشرع على ظاهره في حق الله تعالى، يعني إذا لم يصرح بنفي الجسمية ولا بإثباتها.
43 (7) بعثة الرسل
إن إثبات النبوات والرسالات الإلهية للبشر من أعظم أركان الدين؛ ولهذا نرى علماء الكلام يخصصون مكانا لذلك في مؤلفاتهم؛ وذلك ليردوا على البراهمة الذين ينكرون بعثة الرسل عقلا؛ إذ يجدون في العقل الإنساني غنية عن الوحي الإلهي إلى رسل من البشر، ويرون هذا مستحيلا لحجج يحتجون بها.
44
ورجال علم الكلام يدللون على جواز أن يرسل الله رسلا من خلقه إلى خلقه «بأن ذلك ليس من المستحيلات التي يمتنع وقوعها لأعيانها، كاجتماع الضدين وانقلاب الأجناس (مثل انقلاب العصا حية) ونحوها؛ إذ ليس في أن يأمر الله عبدا بأن يشرع الأحكام ما يمتنع من جهة التحسين والتقبيح.»
45
وإذن، فالعقل لا يجعل محالا بعثة الرسل من هذه الجهة لو سلمنا جدلا بمبدأ التحسين والتقبيح العقليين؛ إذ بعثة الله رسلا من البشر إلى الناس يعتبر لطفا منه، جل وعلا، بهم؛ ليكون هذا سببا لإيمانهم بما وصلوا إليه بعقولهم، وأيدته الرسالة الإلهية، وليعرفوا الحقائق الأخرى التي يعجز العقل الإنساني عن معرفتها وحده.
وكذلك الله متكلم وقادر، فلا يوجد ما يمنع من أن يبلغ إرادته لمن يريد بإحدى الوسائل التي عرفناها: وحي، ملك، خلق أصوات في سمعه، إلخ.
وأيضا كما يجوز في المشاهد أن يرسل المالك رسولا إلى عبيده المملوكين له، يجب أن يكون هذا ممكنا وجائزا في الغائب، ما دام الله يملك الخلق، وله إرادته وقدرته على تبليغها لهم.
46
وابن رشد بعد إشارته هذه إلى طريقة المتكلمين في إثبات جواز البعثة، يقول: «وهذه الطريقة هي مقنعة، وهي لائقة بالجمهور بوجه ما ، لكن إذا تتبعت ظهر فيها بعض اختلال من قبل ما يضعون من هذه الأصول ...» إنه يريد أن ينقدها من ناحية كيف نعرف - على رأي المتكلمين، حين تظهر معجزة من شخص يدعي أنه نبي - أن هذه المعجزة هي العلامة التي يدل بها الله تعالى على أن من تظهر منه هو رسوله! «إنه محال أن يدرك هذا بالشرع؛ لأنه الشرع لم يثبت بعد ، والعقل أيضا ليس يمكنه أن يحكم أن هذه العلامة هي خاصة بالرسل، إلا أن يكون قد أدرك وجودها مرات كثيرة للقوم الذين يعترف برسالتهم ولم تظهر على أيدي سواهم.»
47
مع أن المسألة هي إثبات أول رسالة إلهية للناس.
فيلسوف الأندلس لم يرض إذن طريقة المتكلمين في إثبات النبوة عامة، وإثبات بعثة خاتم الأنبياء خاصة، وذلك لمكان هذه الشبهة أو هذا الضعف فيها، فما هي الطريقة التي يرضاها وتصلح على السواء للخاصة والعامة من الناس؟ هنا تظهر حقا طرافة رأي ابن رشد إذا قورن برأي المتكلمين.
إنه يرى أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
لم يدع النبوة متحديا المعارضين المكذبين لرسالته بأمور خارقة للطبيعة، مثل قلب العصا ثعبانا ونحو هذا مما ذهب إليه المتكلمون، ودليل هذا أن قريشا ومعارضيه جميعا حين طلبوا منه - فيما طلبوا - دليلا على صدقه ليؤمنوا به، أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا، أو يسقط السماء عليهم، أو يرقى إليها ليأتي منها بكتاب يقرءونه، أمره الله تعالى أن يجيبهم بقوله (سورة الإسراء: 93):
سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا
يريد أن يقول لهم بأن هذه الخوارق للطبيعة من شأن الخالق وحده، ولست إلا بشرا لا قدرة له عليها، وكل أمري أني فقط رسول من الله إليكم وإلى الناس كافة.
وإذا كان رسولنا لم يقم بشيء من ذلك للتدليل على صدقه في أنه نبي، فإن «الذي تحدى به الناس وجعله دليلا على صدقه فيما ادعى من رسالته هو الكتاب العزيز» وحده.
48
ولكن كيف نعرف أن هذا الكتاب معجز، وأنه يدل على كون محمد رسولا وقد سبق أن نقد ابن رشد نفسه طريقة المتكلمين بأن بين ضعف دلالة المعجز على الرسالة، وبخاصة على أول رسالة إلهية؟
هنا يقول فيلسوفنا بأن إعجاز القرآن، الذي يدل دلالة قطعية على صفة النبوة، يتبين لنا بوضوح متى قرأناه وفهمناه حق الفهم، فعرفنا أنه تضمن الإنباء بأمور غيبية لم يكن محمد يعرفها قبل الوحي، وتذوقنا نظمه وأسلوبه الغريبين عن كلام العرب جميعا، إلى آخر ما قال مما لا جديد فيه عما قاله المتكلمون في إعجاز القرآن.
49
لكن الذي أربى به عليهم حقا هو ما ذهب إليه من أن المعجزة يجب لتدل دلالة قاطعة على النبوة، أن تكون مناسبة لرسالة النبي، هذه الرسالة التي هي إرشاد الناس وهدايتهم بالشرع الذي يأتيهم به، كما يدل الإبراء من المرض على صناعة الطب لمن يدعيها، والقرآن هو المعجزة الكبرى من هذه الناحية «فإن الشرائع التي تضمنها من العلم والعمل ليست مما يمكن أن يكتسب بتعلم، بل هي بوحي.» هذه الشرائع التي غايتها سعادة الإنسانية والتي لا تنال إلا بعد معرفة الله والاتصال به، ومعرفة السعادة والشقاوة ما هما، وما هي الأمور التي توصل للأولى وتبعد عن الأخرى، إلى آخر ما يتصل بهذا كله من المعارف التي لا تتبين إلا بوحي أو يكون تبيينها بالوحي أفضل.
وأخيرا لما وجدت هذه الأمور كلها في الكتاب العزيز على أتم وجه، علم أن ذلك بوحي من عند الله، وأنه كلام ألقاه على لسان نبيه؛ ولذلك قال تعالى منبها على هذا (سورة الإسراء: 88):
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .
وإذا ثبت أن القرآن معجز بنظمه وأسلوبه، ومن ناحية مناسبته تماما لرسالة الرسول من لدن الله لتعليم الخلق الشرائع الضرورية لسعادتهم، وأنه موحى به من الله؛ لأنه ما كان ممكنا أن يأتي به الرسول من نفسه كان طبيعيا ومنطقيا أن يكون من جاء على لسانه رسولا، وبخاصة أنه من المعلوم أنه نشأ أميا في أمة أمية، ولم يسبق له أن مارس العلم، ومحاولة فهم الكون كما عرف عن اليونان، وإلى هذا الدليل على أنه رسول أشار الله تعالى بقوله (سورة العنكبوت: 48):
وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون .
ويضاف إلى ذلك كله أن وجود طائفة من الناس اصطفاهم الله لرسالاته لخلقه هو أمر بين معروف بنفسه، وقد اتفق عليه الفلاسفة والناس جميعا ما عدا من لا يعبأ بقولهم وهم الدهرية، وقد نبه القرآن إلى هذا بقوله تعالى (سورة النساء: 163 و164):
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده
إلى قوله:
ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما .
50
وبالجملة إنه متى علمنا مما تقدم أن هناك رسلا من الله لخلقه، وأن الأمور المعجزة لا تكون إلا منهم، كان المعجز دليلا على صدقهم. لكن ابن رشد يفرق بين نوعين من الأمور المعجزة، فهناك المعجز الذي يسميه المعجز البراني، وهو الذي لا يناسب الصفة التي بها سمي النبي نبيا، وهناك المعجز الآخر المناسب لهذه الصفة، والمعجز من النوع الأول هو طريق الجمهور وإيمانه بالنبوة، والثاني هو طريق مشترك بين الجمهور والعلماء كل بحسب طاقته، ولكن إذا تأملنا الشريعة وجدنا أنها اعتمدت المعجز المناسب.
51
هكذا اختتم ابن رشد الكلام في بعثة الرسل، ونقول: لعل الحق هو أن الشريعة اعتمدت في إثبات الرسالات الإلهية على هذين النوعين من الإعجاز أو المعجزات، وبخاصة ما يتعلق بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام، إذا لاحظنا أن ما تقدم به كل منهما دليلا على صدق رسالته، كان من قبيل ما سماه فيلسوفنا بالمعجز البراني، وذلك مثل انقلاب العصا حية، وانفلاق البحر لموسى عليه السلام، وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص لعيسى عليه السلام، ولكن القرآن العظيم وهو معجزة رسولنا
صلى الله عليه وسلم
يعتبر بلا ريب من قبيل المعجز المناسب لرسالته. (8) العدل والجور
هذه مسألة من المسائل الهامة التي ثار من أجلها الخلاف واشتد النزاع بين الأشاعرة وبين المعتزلة والفلاسفة، ومن ثم نرى ابن رشد في بحثه لها لا يذكر المعتزلة في نقده، على حين ينال الأشاعرة بفيض من نقده اللاذع الشديد.
وهي مسألة تقوم في أساسها على مسألة الحسن والقبح في الأفعال، أذلك يرجع إلى العقل، كما يرى المعتزلة والفلاسفة، أم إلى الشرع كما يرى الأشاعرة؟ ولذلك سنرى كل فريق يبني رأيه في مسألة العدل والجور على رأيه في مشكلة الحسن والقبح.
ويبدأ فيلسوف الأندلس البحث بقوله: «قد ذهبت الأشعرية في العدل والجور في حق الله سبحانه إلى رأي غريب جدا في العقل والشرع، أعني أنها صرحت من ذلك بمعنى لم يصرح به الشرع بل صرح بضده.»
52
ثم يلخص ابن رشد هذا الرأي بأن الإنسان يوصف بالعدل تارة، وبالجور أخرى؛ لأن الشرع أمره ببعض الأفعال ونهاه عن البعض الآخر، فمن أتى ما رضيه الشرع كان عادلا، ومن أتى ما نهاه عنه الشرع ووصفه بالجور كان جائرا، أما الله سبحانه وتعالى وهو فوق كل أمر وتكليف، فليس في حقه فعل هو جور أو عدل، بل كل أفعاله عدل، وكان من هذا أن قالوا ليس شيء في نفسه عدلا، ولا شيء في نفسه جورا، بل كل ذلك يرجع إلى الشرع الذي أمر بأي معصية لكان ذلك عدلا، وهذا في غاية الشناعة وخلاف المسموع والمعقول!
53
هكذا يرى فيلسوف الأندلس أن موقف الأشاعرة في هذه المسألة «خلاف المسموع والمعقول»؛ وذلك لأن الله وصف نفسه بأنه القائم بالقسط، وبأنه لا يظلم، وهذا إذ يقول (سورة آل عمران: 18):
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط ، وإذ يقول (سورة فصلت: 46):
وما ربك بظلام للعبيد ، وإذ يقول أيضا (سورة يونس: 44):
إن الله لا يظلم الناس شيئا . يريد فيلسوفنا بهذا أن يقرر على ما نعتقده، بأن هذه الآيات - وأمثالها في القرآن - تشهد بأن من الأفعال ما هو في نفسه عدل كثواب المطيع، وما هو في نفسه ظلم كتعذيب البريء الذي لم يجترح إثما.
ولكن الغزالي مثله في هذا مثل سائر الأشاعرة، يرى هنا أن لله ألا يثيب المطيع كما له أن يعذب الحيوان والطفل البريء بما يشاء، وأنه بهذا وذاك لا يكون ظالما؛ لأنه يتصرف في ملكه بما يريد، وكما يرى هو لا يرى غيره، فلا يتصور في حقه الوصف بالظلم، ما دام شرط هذا الوصف غير موجود في حقه، وهو التصرف في غير الملك أو مخالفة أمر من له عليه حق الأمر.
54
على أن لنا أن نقول بأن الأشاعرة حين ذهبوا هذا المذهب في هذه المسألة، تناسوا أن يقولوا بأنه تعالى وإن كان لا يجب عليه إثابة المطيع إلا أنه سيفعل هذا حتما تحقيقا لوعده به، ومن أوفى بوعده من الله! إنه حين تحل هذه المشكلة هذا الحل الذي يحقق لله العدالة والإرادة والقدرة بإطلاق، يشعر الإنسان أنه تحت حكم إله ليس عادلا كل العدل فحسب، بل ورحيما أيضا إذ وعد بالمغفرة لمن تاب من العصاة، وأنه لن يضيع أجر من أحسن عملا.
55
ومع هذا فإن ابن رشد لم يسلم له رأيه حتى الآن، بل عليه أن ينال بالتأويل آيات من القرآن لا تدل بظاهرها لرأيه، وأن يفسر آيات أخرى تشهد لرأيه، مثلا جاء في سورة المدثر: (آية 31):
كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ، وفي سورة السجدة: (آية 13):
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ، إلى آيات أخرى تدل - إذا أخذت حرفيا ومستلقة عن غيرها - على أن الله أراد إضلال بعض خلقه، وهذا يعتبر جورا طبعا.
وهنا نرى ابن رشد لا يعيا بالجواب عن هذه المشكلة، إنه يرى بحق أن هذه الآيات ظاهرها لا يتفق وآيات أخرى تدل على عكس هذا المعنى، مثل قوله تعالى (سورة الزمر: 7):
ولا يرضى لعباده الكفر ؛ إذ من البين بنفسه أنه متى كان الله لا يرضى الكفر لأحد من عباده، فإنه لا يرضى طبعا أن يوقع أحدا في الضلال المؤدي إليه.
56
والنتيجة لهذا وذاك أنه يجب منعا للتعارض بين آيات القرآن تأويل آيات الضرب الأول بما يجعلها تتفق والآيات الأخرى، فهذا هو اللازم عقلا، وما يتفق وعدل الله الشامل العام.
ولكن كيف يؤول هاتين الآيتين اللتين ذكرناهما آنفا؟ إنه يرى في الآية الأولى التي تقول:
كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ، إشارة إلى أن مشيئة الله الأزلية اقتضت أن يكون في بعض الناس خلق مهيئون للضلال بطباعهم وبأسباب أخرى عرضت لهم، لا أن الله تعالى هو الذي يضلهم.
57
ولكن لنا أن نتساءل: وهذه الطباع التي هيأتهم للضلال، من الذي خلقها فيهم؟ وهذه الأسباب التي قادتهم إليه، من الذي كان السبب الأول فيها؟
على أن فيلسوفنا كان جد موفق في تأويل الآية الأخرى التي تقول:
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها . إنه يرى أن ما يكون خيرا للأكثر من الناس قد يكون سببا لشر - هو هنا الضلال مثلا - يصيب الأقل، فليس من الحكمة ألا يخلق هذا الذي يكون منه الخير للأكثر كي لا يكون بسببه الشر للأقل، بل خلقه والأمر هكذا يكون عدلا كل العدل،
58
ولهذا جاء في آية أخرى (سورة البقرة: 26) قوله تعالى:
يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين .
وفي الحق لو لم يجئ الإسلام وينزل الله القرآن على محمد،
صلى الله عليه وسلم ؛ ليخرج الناس به من الظلمات إلى النور، لما صار من كفر به إلى الضلال الأبدي والخلود في النار، ولكنه كان من أعظم الخير والعدل للبشرية جميعا أن جاء هذا القرآن الذي هدي به أضعاف أضعاف من كان سببا عارضا لإمعانهم في الضلال والكفر، فالله إذن لم يقصد قصدا أوليا أولئك الذين كفروا به، ولكن أراد الخير الكامل والسعادة التامة لأمة رسوله المصطفى، وإن كان سببا لشقاء من كفروا به.
ومن الواضح بعد هذا كما يقول ابن رشد نفسه، أن نتصور «كيف ينسب إلى الله الإضلال مع العدل ونفي الظلم، وأنه إنما خلق أسباب الضلال؛ لأنه يوجد عنها غالبا الهداية أكثر من الضلال.»
59
أما لماذا جاءت في هذا المعنى تلك الآيات المتعارضة بظاهرها؛ حتى احتاج الأمر إلى التأويل، فإن فيلسوف الأندلس يجيب بأنه كان ضروريا أن يفهم الجمهور أن الله مع عدالته المطلقة هو خالق كل شيء: الخير والشر؛ وذلك بسبب ما كان معروفا - قريب عهد بالرسالة - من القول لدى بعض الأمم من وجود إلهين: واحد للخير وآخر للشر، فكان من الضروري تقرير أنه لا خالق لشيء ما إلا الله وحده، ولكن على معنى أن خلقه للشر من أجل ما يكون سببا للخير لأكثر الناس؛ فيكون خلقه للشر إذن عدلا وخيرا حقا.
60
ومهما يكن من شيء، فإن هذا القدر من التأويل ليست معرفته واجبة على جميع الناس في رأي ابن رشد، ولكن هذا واجب لمن عرض لهم فقط الشك في هذا المعنى؛ وذلك لأنه «ليس كل أحد من الجمهور يشعر بالمعارضات التي في تلك العمومات، فمن لم يشعر بذلك فغرضه اعتقاد تلك العمومات على ظاهرها.»
61
حتى لا يكون البحث في هذا سببا لدخول الشك في قلبه.
هكذا سلم لابن رشد التدليل على أن الفعل يصح أن يوصف لنفسه بالحسن والعدل أو بالقبح والجور، وعلى أن أفعال الله تعالى توصف لذلك بالعدل دائما، كما سلم له أيضا الجمع بين الآيات التي يظن إذا أخذت بظاهرها أنها متعارضة في هذا المعنى، وذلك دون أن ينزل إلى رأي الأشاعرة الذي يراه شنيعا وضد الشرع والنظر العقلي الصحيح. (9) المعاد وأحواله
كون الإنسان يبعث بعد موته ليجزى عما عمل في الدار الدنيا، وليحيا حياة أخرى سعيدة أو شقية، هو كما يقول ابن رشد «مما اتفقت عليه الشرائع وقامت عليه البراهين عند العلماء.»
62
ولا نزاع فيه بين الفلاسفة وبين رجال علم الكلام.
وذلك لأن الإنسان لم يخلق عبثا، بل خلق لغاية جليلة يعتبر تحقيقها بأفعاله ثمرة وجوده في الدار الدنيا، فلا بد إذن من أن يؤدي حسابا عما عمل في سبيل هذه الغاية.
وكذلك؛ من الناس من يحيا في هذه الدار الدنيا حياة لا يجد فيها من السعادة ما يكافئ فضيلته وأعماله الخيرة، ومن الناس من هم في متعة من اللذات والخيرات مع بعدهم عن الفضيلة، فلا بد إذن من حياة أخرى، بعد هذه الحياة التي يشقى فيها الفاضل وينعم الرذل الشرير، يجد فيها كل إنسان من الجزاء ما يكون كفاء ما عمل من خير أو شر في هذه الحياة الحاضرة.
ولهذا وذاك كان الاتفاق في هذه المسألة، مسألة المعاد والجزاء، يرتكز على ما جاء به الوحي وقامت عليه البراهين الضرورية عند الجميع، وفي ذلك يقول الله تعالى (سورة المؤمنون: 115):
أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون
ويقول (سورة النجم : 39-41):
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى .
لم يجد ابن رشد إذن أي عناء في التدليل على مبدأ المعاد، وإنما الذي بذل فيه جهده هنا هو بيان أن هذا المعاد وما يتبعه من ثواب أو عقاب سيكون روحانيا لا جسمانيا أيضا كما يرى المتكلمون، وإثبات هذا بطريق يناسب الخاصة والعامة حسب المبدأ الذي أخذه على نفسه في كتابه «كشف الأدلة».
وهذا المجهود الذي بذله ابن رشد في بيان رأيه ورأي أسلافه فلاسفة الإسلام في هذه المسألة، وفي التدليل عليه سيكون الحكم له أو عليه في الفصل التالي الخاص بالخصومة بينه وبين الغزالي، وإنما طريقتنا هنا كما في سائر المسائل التي تقدمت في هذا الفصل، هي عرض رأي فيلسوف الأندلس وتدليله عليه كما أراد، ومقارنته برأي بعض أعيان المتكلمين وبالأخص إمام الحرمين وخريجه أبو حامد الغزالي. •••
ذهب المتكلمون إلى أن بعث الأجسام ثابت بالسمع وجائز عقلا مع هذا، أما السمع ففي القرآن كثير من الآيات التي تثبته، ومنها قوله تعالى (سورة يس: 78-79):
وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم .
والعقل يجيز البعث الجسماني أيضا، فهذا هو إمام الحرمين الجويني يقول مستدلا بالعقل على جوازه: «ووجه تحرير الدليل أننا لا نقدر الإعادة مخالفة للنشأة الأولى على الضرورة، ولو قدرناها مثلا لها لقضي العقل بتجويزها، فإن ما جاز وجوده جاز مثله؛ إذ من حكم المثلين أن يتساويا في الواجب والجائز.»
63
ولا يختلف الغزالي في هذا عن شيخه الجويني، فهو يقرر أن المعاد (يريد الروحاني والجسماني معا) دلت عليه الأدلة القاطعة الشرعية، وأنه ممكن عقلا بدليل الابتداء؛ فإن الإعادة خلق ثان، ولا فرق بينه وبين الابتداء.
ولسنا الآن بسبيل استلهام الغزالي لشيخه إمام الحرمين في هذه المسألة وفي أكثر آرائه الكلامية، وإنما الغرض بيان أن رجال علم الكلام مجمعون على أن المعاد الجسمي لا الروحي فقط سيكون في الدار الأخرى.
64
علينا إذن بعد هذا أن نعرف ماذا يرى ابن رشد في كيفية المعاد، وكيف يثبت رأيه في هذه العقيدة الأساسية في كل الأديان.
إنه يقرر أن الشرائع وإن اتفقت على مبدأ المعاد، فإنها اختلفت في كيفيته، بل «في الشاهدات التي مثلت بها للجمهور تلك الحال الغائبة، وذلك أن من الشرائع من جعله روحانيا، أعني للنفوس، ومنها من جعله للأجسام والنفوس معا.»
65
وذلك بأن مما لا شك فيه أن للنفس بعد الموت إن كانت فاضلة حالا تسمى سعادة، وإلا فحال أخرى تسمى شقاء، والوحي الذي جاء في بيان هذا الحال يختلف باختلاف الأنبياء، ومن ثم كان اختلاف الشرائع في تمثيلها.
66
وفيلسوفنا يذكر سببين لاختلاف الشرائع في التمثيل لتلك الحال:
67
اختلاف ما أدركه الأنبياء من الوحي من هذه الأحوال، أو لأن الذين مثلوا هذه الأحوال بمثل مادية قد «رأوا أن التمثيل بالمحسوسات هو أشد تفهيما للجمهور، والجمهور إليها وعنها أشد تحركا ... وهذه هي حال شريعتنا التي هي الإسلام.»
إنه إذن يذهب كما هو واضح من هذا إلى أن المعاد سيكون روحانيا فقط، إلا أنه لا يعنى هنا بإبراز هذا الرأي ولا بالتدليل عليه؛ وذلك لأن المقام مقام توفيق بين الحكمة والشريعة بالتدليل على العقائد الدينية الأساسية تدليلا يوافق الخاصة والجمهور.
بل إنه يكتفي هنا بعد أن استدل لأصل البعث من القرآن بأن يقول بأن التمثيل الذي في شريعتنا يشبه أن يكون أتم إفهاما لأكثر الناس، وأكثر تحريكا لنفوسهم إلى ما هنالك، والأكثر هم المقصود الأول من الشرائع، وذلك بخلاف التمثيل الروحاني، فهو أشد قبولا عند غير الجمهور، وإنه لهذا المعنى نجد المسلمين فرقا مختلفة في فهم التمثيل الذي جاء في الشريعة للمعاد وأحواله.
68
وتدليل ابن رشد لما ذهب إليه نجده في كتابه «تهافت التهافت»، وسنعرض له في الفصل التالي، وسنرى إن كان يمكنه تأويل كل الآيات القرآنية التي تؤكد المعاد الجسماني والسعادة والشقاء الجسمانيين، أو إنه لن يجد إلى ذلك سبيلا، ولكنه ينتهي من هذه المسألة هنا بقوله: «والحق في هذه المسألة أن فرض كل إنسان فيها هو ما أدى إليه نظره فيها، بعد ألا يكون نظرا يفضي إلى إبطال الأصل جملة، وهو إنكار الوجود جملة؛ فإن هذا النحو من الاعتقاد يوجب تكفير صاحبه؛ لكون العلم بوجود هذه الحال للإنسان معلوما للناس بالشرائع والعقول.»
69 •••
هذا، وإلى هنا انتهى ابن رشد من التدليل على ما رأى التدليل عليه من العقائد الدينية الأساسية، تدليلا يناسب الخاصة والعامة من الناس، وإلى هنا أتم في رأيه عملا كبيرا في سبيل الجمع أو التوفيق بين الشريعة والحكمة، فقد بين أن عقائد الدين يمكن أن يستدل عليها من الشرع ومن العقل معا، وأنه لا يوجد بين هذين المعنيين خلاف في شيء ما.
وإن عليه بعد ذلك كله ليتم له ما أراد، أن يهدم تهافت الغزالي، وهذا ما سنراه في الفصل التالي الذي سيعالج فيه - ضمن ما سيعالجه من مسائل - بالبحث الطويل العميق بعض ما تناوله بإيجاز في كتابه «كشف الأدلة عن عقائد الملة» كما رأينا في هذا الفصل الذي انتهينا منه، نعني بذلك مثلا مسائل: قدم العالم، وعلم الله، والحياة الأخرى وما سيكون فيها من ثواب وعقاب.
الفصل الرابع
بين ابن رشد والغزالي
سنعرض في هذا الفصل الأخير المسائل التي اشتد من أجلها الخلاف بين الغزالي والفلاسفة المسلمين، أو بعبارة أدق بين الغزالي والفارابي وابن سينا، وكانت سببا في أن كتب الغزالي كتابه المعروف «تهافت الفلاسفة»، كما كانت أيضا سببا لأن قام ابن رشد يرد على الغزالي بكتابه المعروف «تهافت التهافت».
فهما معركتان إذن لا يزال لهما أثرهما العميق في التفكير الفلسفي الإسلامي، وقد أثار الأولى الغزالي في كتابه العنيف، وأثار الثانية ابن رشد بكتابه العنيف أيضا الذي أراد به هدم الكتاب الأول، ومن الطبيعي لذلك أن نبدأ بما كان من الغزالي وننتهي بما كان من ابن رشد. (1) الغزالي وتهافت الفلاسفة (1)
كان من قدر الله أن يصير أبو حامد أحمد بن محمد الغزالي (450-505ه) حجة الإسلام، وذلك على الأخص بكتابيه الخالدين: إحياء علوم الدين، وتهافت الفلاسفة.
فالأول يشمل ما به يكون المسلم مسلما حقا أهلا للسعادة في الدنيا والآخرة، من علم الكلام القائم على الكتاب والسنة والسهل الفهم والإقناع، والأمور العملية الأساسية الدينية كالعبادات والعادات الطيبة؛ فيما يتصل بالزواج والاتجار والسفر، وغير ذلك من شئون الحياة، ومن التصوف والأخلاق القائمين على المعرفة بالنفس الإنسانية معرفة أكيدة حقة، ومن غير هذا وذاك كله مما فيه غذاء صالح لقلب الإنسان وعقله وروحه.
ولذلك تقبل المسلمون وما يزالون إلى اليوم هذا العمل الضخم القيم بقبول حسن، والكثير يجد فيه تصحيحا لدينه وغذاء لروحه وطمأنينه لقلبه؛ على أن هذا لم يمنع من أنه لما وصل الكتاب إلى بلاد المغرب رأى بعض الفقهاء المتعصبين أنه يحوي كثيرا من البدع المخالفة لسنة الرسول، فكان من ذلك فتن كثيرة انتهت بالأمر بإحراق نسخ الكتاب، وربما أحرق فعلا بعضها.
1
والكتاب الثاني جاء وقد بلغت الفلسفة الإسلامية ذروتها أو كادت على يدي الشيخ الرئيس ابن سينا، ووجد كثير من المسلمين أنها حوت آراء كثيرة لا تتفق وما يعرفون من العقائد الدينية الأساسية، فظهر الغزالي بهذا الكتاب «والناس - كما يقول تاج الدين السبكي - إلى رد فرية الفلاسفة أحوج من الظلماء لمصابيح السماء، وأفقر من الجدباء إلى قطرات الماء.»
2 (2)
ولكن لا ينبغي أن نفهم من هذا أن الغزالي هو الذي بدأ الهجوم على الفلاسفة، ذلك بأن المتكلمين من أهل السنة، وقد رأوا ضرورة خصومة المعتزلة لإعطائهم العقل حرية أكثر مما ينبغي في فهم بعض العقائد الدينية (صفات الله، والصلاح، والأصلح مثلا)، رأوا بالأولى ضرورة حرب الفلاسفة منذ بدء تكون المدرسة الفلسفية في الإسلام، ونستطيع أن نذكر من هؤلاء المتكلمين بعد الإمام أبي الحسن الأشعري الأشهر، إمام الحرمين الجويني شيخ الغزالي وبخاصة في علم الكلام والجدل.
حقيقة إن الغزالي يذكر لنا في كتابه «المنقذ من الضلال» أنه لم يعرف أحدا من علماء الإسلام صرف همته لتحصيل الفلسفة والرد عليها قبله، ولكنا سنرى الآن أنه كان قبل الغزالي من عني في كثير من المسائل الدينية النقدية بالرد على أصحاب الآراء الضالة في رأيهم، سواء أكانوا عرفوا بأنهم فلاسفة أم ملاحدة.
هذا هو إمام الحرمين يذكر في كلامه على «حدوث العالم»: «والأصل الرابع يشتمل على إيضاح حوادث لا أول لها، والاعتناء بهذا الركن حتم، فإن إثبات الغرض منه يزعزع جملة مذاهب الملحدة، فأصل مذهبهم أن العالم لم يزل على ما هو عليه، ولم تزل دورة للفلك قبل دورة إلى غير أول، ثم لم تزل الحوادث في عالم الكون والفساد تتعاقب إلى غير مفتتح، فكل ذلك مسبوق بمثله.»
3
كما نراه أيضا يذكر في معرض كلامه عن إثبات العلم بالصانع: «وباطل أن يكون (يريد المخصص الذي خصص العالم بالوجود في وقت دون آخر بدل استمرار العدم) جاريا مجرى العلل، فإن العلة توجب معلولها على الاقتران؛ فلو قدر المخصص علة لم يخل من أن تكون قديمة أو حادثة، فإن كانت قديمة، فيجب أن توجب وجود العالم أزلا، وذلك يفضي إلى القول بقدم العالم، وقد أقمنا الأدلة على حدوثه، وإن كانت حادثة افتقرت إلى مخصص ثم يتسلل القول في مقتضى المقتضى.»
4
وهذا النوع وذاك من الجدل والاستدلال، في معرض الرد على من قال بقدم العالم وعدم حاجته إلى صانع، سنجدهما قريبا لدى الغزالي.
ومثل ثان يدلنا على استمداد الغزالي من سابقيه، نأخذه من كلام أبي الحسين الخياط المعتزلي في رده على ابن الراوندي الملحد؛ إنه يذكر في صدد الكلام عن علم الله تعالى: «الصحيح من القول هو أن الله، جل ثناؤه، كان ولا شيء معه، وأنه لم يزل يعلم أنه سيخلق الأجسام وأنها ستتحرك بعد خلقه إياها وتسكن، فهو جل ذكره لم يزل يعلم أن الجسم قبل حلول الحركة فيه سيتحرك، ويعلم أنه في حال حلول الحركة فيه متحرك، ومما يبين ذلك أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لو أعلمنا يوم السبت أن زيدا يموت يوم الأحد، لكنا يوم السبت نعلم أن زيدا قبل حلول الموت فيه سيموت يوم الأحد، ونعلم أيضا أنه ميت يوم الأحد إذا حل الموت فيه.»
5
وسنجد هذا الضرب من الاستدلال لدى الغزالي في مسألة إبطال قول الفلاسفة بأن الله لا يعلم الجزئيات الحادثة.
6
وكذلك يوجد تشابه كبير بين رد الخياط في مسألة علم الله أيضا، على هشام بن الحكم الرافضي الذي يزعم أن علم الله تعالى حادث بحدوث المعلومات
7
وبين استدلال الغزالي على ما زعمه من تلبيس الفلاسفة حين يرون أن الله فاعل العالم وصانعه مع قولهم بأنه صادر عنه صدور المعلول عن علته، فالله إذن لم يرده ولا يعلم به.
8
ويطول بنا القول لو أردنا الإشارة لمن سبقوا الغزالي في الرد على الفرق المنحرفة عن سواء السبيل، ولكن نذكر أخيرا مثالا ثالثا في هذه الناحية؛ إن أبا محمد بن حزم الظاهري يرد على الذين قالوا بأن العالم قديم وله فاعل يعتبر علة له، وهو الله، فيذكر أن «المفعول هو المنتقل من العدم إلى الوجود، بمعنى من ليس إلى شيء، فهذا هو المحدث، ومعنى المحدث هو ما لم يكن ثم كان، وهم يقولون إنه هو الذي لم يزل، وهو خلاف المعقول.»
9
وهذا الرد والاستدلال من ابن حزم غير بعيد مما ذكره الغزالي في مسألة تلبيس الفلاسفة بقولهم إن الله صانع العالم مع قولهم بقدمه.
10
ومعروف أن ابن حزم توفي سنة 456ه وأن الغزالي قرأه وأعجب ببعض ما كتب.
11
ومهما يكن من شيء؛ فإنه ما ينبغي أن يفهم من هذا أننا نريد الغض من قدر الغزالي، أو الانتقاص من قيمة عمله في هذه الناحية أو نريد أن نسويه في الرد على الفلاسفة بسابقيه، إنما الذي نريد بهذه الإشارات هو أن نثبت أن حجة الإسلام كان له سلف في هذا الكفاح، وأنه طبعا قد أفاد مما عرفه عن هؤلاء الأسلاف.
إن الغزالي وقد ولد بعد عشرين عاما من وفاة ابن سينا، رأى أن هذا قد أعطى للفلسفة قوة ومنزلة بالنسبة لعلم الكلام، لم يكونا لها من قبل، فرأى فرضا عليه أن ينتدب نفسه للرد على الفلاسفة وأن يشن عليهم حربا لا هوادة فيها، وكان على هذا قادرا.
لقد كان فقيها، ومتكلما، وصوفيا، ومتبحرا في الدراسات الفلسفية، فرأى أن القدر أعده ليكون الرجل الذي يربح المعركة الفاصلة ضد الفلسفة والفلاسفة، وقد كان يحس فعلا بهذه الرسالة التي يجب أن يضطلع بها دون تريث، فاندفع إلى أدائها بضمير يقظ وعقل قوي محيط.
هذا بإجمال دقيق هو الغزالي الذي أعدبغرضه نفسه لحرب الفلسفة ورجالها، فكتب في ذلك كتابه «تهافت الفلاسفة» فماذا كان بدقة غرضه وغايته من هذا العمل الكبير، وماذا كانت خطته التي اصطنعها للوصول إلى الغاية التي ندب نفسه لها؟ (3)
يرى «شمولدير
Schmoslders » أن غرض الغزالي من كتابه هو بيان تهافت الفلاسفة وتناقضهم بعضهم مع بعض، وأن المذهب الفلسفي للواحد منهم يضاد فلسفة الآخر، ومعنى هذا أن الغزالي لم يكن له في عمله مجهود إيجابي يدلل به على تهافت الفلاسفة وتداعي مذاهبهم، بل كل ما كان له هو بيان تناقض هذه المذاهب فيما بينها.
12
ولذلك لم يرض «مونك» هذا الرأي، بل إن غرضه كان هدم تلك المذاهب الفلسفية بنقد عنيف عام.
13
ونحن مع موافقتنا المستشرق «مونك» على أن ما ذكره كان غرضا للغزالي من تهافته، نرى أنه لم يكن الغرض الوحيد من كتابته، إن الغرض أو الأغراض التي أرادها حجة الإسلام من حربه الفلاسفة بهذا الكتاب، تبين لنا من كلامه نفسه، وبخاصة من افتتاحه لهذا الكتاب.
إنه قد هاله أن المتفلسفين المسلمين، وبخاصة الفارابي وابن سينا، قد تركوا الدين - كما يقول - اغترارا بعقولهم، وتقليدا للفلاسفة القدماء الذين لهم أسماء مدوية مثل سقراط وأبقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس؛ ولهذا فرض على نفسه الرد على هؤلاء «الفلاسفة القدماء»،
14
مبينا تهافت آرائهم وتناقضها فيما يتعلق بالإلهيات، وذلك «ليكف من غلوائه من يظن أن التجمل بالكفر تقليدا يدل على حسن رأيه، أو يشعر بفطنته وذكائه.»
15
وهو حين يرد على الفلاسفة اليونان يعتمد في شأنهم على ما نقله عنهم الفارابي وابن سينا معترفين بصحته وراضين به.
على أن لحجة الإسلام بجانب ذلك غرضا آخر، وهو نزع الثقة من الفلاسفة المسلمين، و«تنبيه من حسن اعتقادهم فيهم فظن أن مسالكهم تقيه عن التناقض، ببيان وجوه تهافتهم؛ فأبطل عليهم ما اعتقدوه مقطوعا به.»
16
ولعل هذا هو الغرض الأخير للغزالي والغاية التي أعد العدة للوصول إليها، بعد أن رأى شدة أسر الفلسفة وذيوع اسم الفلاسفة وقوة أثرهم.
ومن أجل هذا نراه وهو يجادلهم يصفهم تنفيرا للناس منهم، بأنهم أغبياء،
17
زاغوا عن سبيل الله الحق،
18
وبأن بعض نظرياتهم ظلمات فوق ظلمات،
19
إلى نحو هذا كله من الصفات التي تزري حقا بمن اتصف بها، والتي تنفر الناس منه وتصرف عنه حتى من يثق به.
على أننا بعد هذا نرى أن الغزالي يتخذ بادئ ذي بدء من اختلاف الفلاسفة اليونان في المسائل الإلهية فيما بينهم، دليلا على أن آراءهم فيها محتملة للشك؛ ولذلك نراه يقول: «ولو كانت علومهم الإلهية متقنة البراهين، نقية عن التخمين، كعلومهم الحسابية والمنطقية، لما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابية.»
20
وهذه حجة نجدها بعد أكثر من خمسة قرون لدى «ديكارت» الفيلسوف الفرنسي المشهور، وذلك عندما أخذ في نقد ما بعد الطبيعة. (4)
وإذا كانت تلك هي الأغراض التي قصدها الغزالي من حربه الفلاسفة، فإن الطريقة التي سلكها لبلوغها يجب أن تكون مناسبة معها، فكذلك يصنع الخصم الماهر اللبيب.
حقيقة، إنه في مقدمته الثانية لكتابه لا ينازع الفلاسفة في بعض المصطلحات التي اصطنعوها، مثل تسميتهم «الله» جوهرا ما داموا يريدون بالجوهر ما يقوم بنفسه، وكذلك لا ينازعهم في بعض نظرياتهم في الطبيعة التي لا تعارض الدين بحال، مثل تفسيرهم للكسوف، ما دام ذلك مبنيا على أصول رياضية يقينية، بل إن الشك في هذا ونحوه يضر الدين نفسه ويظهره متعارضا مع الرياضيات التي لا ريب فيها مطلقا، كما لا ينازعهم أيضا في المنطق؛ إذ لا بد منه لدراسة العلوم الإلهية.
إنما ينازعهم بعنف وشدة فيما يتعلق بأصول الدين، وفيما يرجع إلى الطبيعة وما بعد الطبيعة، إذا ما رأى ما ذهبوا إليه لا يتفق والعقائد الدينية الصحيحة، مثل قولهم في قدم العالم أو حدوثه، وإنكارهم البعث الجسماني.
وهكذا لم يهاجم الغزالي ما كان موثوقا به من فلسفة اليونان، نعني الرياضيات والطبيعة القائمة عليها والمنطق، وركز حملته بعد هذا فيما بعد الطبيعة ينقدها بشدة؛ ليقيم بدلها ما جاء به الدين الذي نجد فيه ما يعجز العقل عن الوصول إليه من المسائل الإلهية، وحجة الإسلام في هذا وذاك يذكرنا بما سيكون من «كانط» الفيلسوف الألماني الأشهر المتوفى سنة 1804م.
والغزالي حين ينازع الفلاسفة في تلك المسائل ونحوها، لا يتناولها جملة، بل يعرض الرأي الذي لا يرضاه مع الأدلة التي ساقها الفلاسفة لتأييده، ومع ما يراه هو من أدلة أخرى فاتت الفلاسفة، وبعد هذه المرحلة يأخذ في الرد والاعتراض على هذه الأدلة ويتصور لهم إجابات على اعتراضاته، ويأخذ في الرد عليها من جديد.
وبهذا نرى الغزالي لا يسير في المعركة على طريقة المحامي الذي لا يعنيه أن يظهر أدلة خصمه، بل إنه يسير سير من يريد الوصول إلى الحقيقة، مع إنصاف خصمه وتقدير أدلته وبراهينه ثم نقدها، وهذه طريقة نجدها ماثلة في كثير من المؤلفات التي تدرس حتى اليوم بالأزهر، وهي طريقة فيها إنصاف للخصم إلى حد كبير.
على أن هذا أو ذاك ليس كل الطابع الذي يسم طريقة الغزالي في كتابه وخصومته، إنه وقد أراد نزع الثقة من الفلاسفة، والحد من اعتزازهم بالعقل وقدرته، ينازعهم أيضا في بعض مسائل يتفق معهم فيها.
ومن المثل لذلك مسألة روحانية النفس وعدم فنائها، هذه المسألة التي قدم الفلاسفة للاستدلال لها أدلة عقلية قوية حرية بالإقناع ومن شأنها تقوية العقيدة الدينية، والتي لا ينازع الغزالي في الرأي الذي وصل إليه للفلاسفة فيها، ولكنه يرد على هذه الأدلة والبراهين، وذلك ليبين للفلاسفة عجز عقولهم عن الاستدلال لما ذهبوا إليه مع أنه حق، وأن الخير الاستدلال بالشرع وحده فيها.
21
ثم بعد هذا وذاك، سنرى - وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك - أن الغزالي يبيح لنفسه أن يرمي خصومه بالجهل الفاضح والتخبط في الظلمات، وبالكفر تقليدا للفلاسفة اليونان الذين اعتقدوا عصمتهم من الخطأ، إلى نحو هذه التشنيعات التي تتم له تحقيق التشويش على الفلاسفة المسلمين وتسويء سمعتهم، وهو بعض ما قصده من حملته العنيفة.
والآن بعد أن عرفنا أغراض الغزالي من تهافته، وكيف سلك لبلوغ هذه الأغراض، ننتقل إلى الناحية المهمة من البحث، وهي عرض بعض المسائل التي يتركز حولها الخصام بين الغزالي والفلاسفة.
على أننا نشير من الآن إلى أن حجة الإسلام لم يكن من غرضه في تهافته بيان الرأي الحق في المسائل التي دار حولها النزاع، هذه المسائل التي - كما يقول - سيخصص لها كتابا يعنى فيه بالإثبات كما عني في «التهافت» بالهدم.
22 (5)
ونرى بعد ما تقدم أن نعرض المسائل التي دار فيها النزاع بين الغزالي وبين الفلاسفة، سواء ما كان منها متعارضا مع ما قرره الدين في رأي حجة الإسلام، أو ما كان منها حقا في نفسه، ولكن عجز الفلاسفة في رأيه عن إقامة الدليل العقلي عليه، ونكتفي هنا بأن نورد بإيجاز ما أراد الغزالي بيانه في كل مسألة من هذه المسائل بكتابه «تهافت الفلاسفة»، مرجئين الجدل فيها إلى القسم الثاني من هذا الفصل الخاص بردود ابن رشد عليه، وهذه المسائل هي: (1)
قدم العالم أو حدوثه. (2)
صدور العالم عن الله أو تعجيز الفلاسفة عن إثبات أنه الصانع له. (3)
علم الله بنفسه وبالعالم، ومدى هذا العلم. (4)
مشكلة الأسباب والمسببات. (5)
البعث والجزاء الأخروي.
في المسألة الأولى:
التي استنفدت الجانب الأكبر من جهد الغزالي، أراد أن يبطل قول الفلاسفة بأن العالم يوجد دائما ما دام هو معلول الله القديم الأزلي، وذلك بالتدليل على استحالة زمن لا ينتهي، وبإدخاله فكرة أن الإرادة الإلهية قدرت في الأزل أن يوجد العالم في الوقت الذي أراده الله، وهكذا وجد العالم محدثا عن الله بعد أن لم يكن، دون المساس بما يحافظ الفلاسفة عليه من عدم التغير في إرادة الله تعالى.
23
وفي الثانية:
حاول أن يدلل على أن الفلاسفة لا يرون أن الله صانع العالم، وأنهم يعجزون عن إثبات ذلك حسب ما ذهبوا إليه: من أن العالم قديم؛ فلا يمكن أن يكون مخلوقا، وأن الله ليس مريدا حتى يكون فاعلا، ومن أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، والعالم مركب من مختلفات؛ فلا يمكن صدوره عن الله الواحد.
24
وفي الثالثة:
حاول إلزام الفلاسفة القول بأن الله لا يعرف ذاته ولا غيره، ما دام العالم صدر عنه بلا إرادة بل بالضرورة كصدور الحرارة عن النار والنور عن الشمس.
25
كما عني بإبطال قولهم بأن الله لا يعلم الجزئيات.
26
وفي المسألة الرابعة:
عمل على التدليل على أن الارتباط بين ما يسمى سببا وما يسمى مسببا ليس ضروريا على خلاف ما يرى الفلاسفة، وهذا لتكون المعجزات النبوية ممكنة، وذلك ببيان أن احتراق القطن - مثلا - إذا لامس النار لا يدل على أن الاحتراق هو من النار وبها حقيقة، بل لا يدل إلا على حدوث الاحتراق عند الملامسة، أما السبب فهو الله الذي خلق الاحتراق عند الملامسة، والذي يجوز أن يخلق ما يسمى مسببا بدون ما يسمى سببا.
27
ويذكرنا ما ذهب الغزالي إليه في هذه المشكلة بما ذهب إليه كل من مالبرانش في القرن السابع عشر وهيوم من بعده، أي: نفي الارتباط الضروري بين ما يسمى سببا وما يسمى مسببا.
إن «هيوم» يقول بأن التجربة ترينا فقط أن واقعة ما ينتج عنها أخرى دون أن يبين لنا ارتباطا ضروريا بينهما، أي: الارتباط الذي يراد بهذا التعبير: علاقة السببية.
28
بل إن «مالبرانش» يصرح بأن السبب الحقيقي الذي يوجد الشيء به هو الله وحده، فإن السبب الحقيقي في رأيه هو ما يرى العقل ارتباطا ضروريا بينه وبين ما ينتج عنه، وهذا ما لا يراه العقل إلا لله الذي يكون عن إرادته وحدها كل شيء، ولا يمكن أن يجعل الله هذه القوة لشيء مما خلق ، وإلا لتعددت الآلهة الخالقة.
29
ومن ثم فإن الإنسان حين يحرك ذراعيه مثلا، يفعل هذا بقوة ليست في الحق منه.
ومع اشتداد حجة الإسلام في نصرة ما ذهب إليه في مشكلة السببية، فإنه يشعرنا بأن إنكار لزوم المسببات عن أسبابها وإضافتها إلى الله وحده دون منهج متعين، يجر إلى الفوضى في الطبيعة، وذلك بتجويز انقلاب غلام كلبا، أو كتاب فرسا، أو غير ذلك وذاك من انقلاب أعيان الموجودات إلى بعض.
ولهذا نجده يتدارك هذا الزعم، أي: تجويز الانقلابات في الطبيعة، بأن قرر أن الله خلق فينا علما بأن انقلاب الشيء إلى شيء آخر دون ما يسمى سببا أمر ممكن في نفسه ولكنه لا يقع، وبخاصة أن استمرار عادة ترتب الأشياء بعضها عن بعض، بإرادة الله وسببيته وحده، رسخ في أذهاننا أنها ستجري دائما وفق هذه العادة والنظام.
30
هذا، وفكرة هذه «العادة» التي خلقت فينا هذا «العلم» نجدها أيضا كذلك لدى «هيوم». فإنه يعلل بها اطراد ما نراه من النظام في الطبيعة، ووجود شيء عن شيء دائما باطراد.
31
وأخيرا في المسألة الخامسة:
وهي المسألة العشرون التي ختم بها الغزالي كتابه تهافت الفلاسفة، نجده يعنى بإبطال ما ذهب إليه الفلاسفة من إنكار البعث الجسماني الثواب والعقاب الجسمانيين، مستندا في هذا بحق إلى ما جاء عن ذلك في الشريعة من نصوص لا تحتمل التأويل تثبت البعث والجزاء الجسمي والروحي معا، كما نراه يعنى بعد هذا بإبطال المحالات التي رأى الفلاسفة أنها تمنع من بعث الأجساد.
32
وهكذا حدد حجة الإسلام أغراضه وغايته من كتابه، وسلك في سبيل تحقيق ما أراد الطريق التي ارتضاها ورأى أنها تحقق غايته، وحدد ميدان المعركة بينه وبين الفلاسفة.
فلننظر بعد ذلك ماذا سيكون من خصمه ابن رشد نصير الفلسفة، ثم علينا بعد هذا كله أن نتقدم برأينا الخاص في هذه المعركة التي ما تزال آثارها ماثلة في التفكير الفلسفي حتى هذه الأيام. (2) ابن رشد وتهافت التهافت
إذا كان قد كتب للغزالي كما رأينا أن يشن المعركة حامية ضد فلاسفة الإسلام ، أو بعبارة أدق ضد الفارابي وابن سينا، وأن يصير بذلك «حجة الإسلام»، فقد كتب كذلك لابن رشد الذي ظهر بعده بقليل من الزمن.
33
أن يهدم تهافته، وأن يصير بهذا نصير الفلسفة في الإسلام. (1)
على أنه ما ينبغي أن نظن أنه كان أول من أحس بثقل وطأة الغزالي على الفلاسفة ووجوب الرد عليه، فقد كان قبله من أحس هذه الشدة، ونعني به «ابن طفيل».
لقد عاب أبو بكر بن طفيل على الغزالي أنه «بحسب مخاطبته للجمهور يربط في موضع ويحل في آخر، ويكفر بأشياء ثم ينتحلها.» وضرب لهذا مثلا مسألة إنكار البعث الجسدي التي كانت من أسباب تكفيره للفلاسفة، مع أنه لا يبعد أن يكون هذا هو رأيه الخاص على ما يؤخذ من كتابيه: ميزان العمل، والمنقذ من الضلال.
34
وابن طفيل يذكر بعد هذا أن الغزالي يعتذر عن اتخاذه آراء مختلفة في المسألة الواحدة بقوله في آخر كتاب «ميزان العمل» بأن الآراء ثلاثة أقسام: رأي يشارك فيه الجمهور فيما هم عليه، ورأي يكون بحسب ما يخاطب به كل سائل ومسترشد، ورأي يكون بين الإنسان وبين نفسه لا يطلع عليه إلا من هو شريكه في اعتقاده.
وهذا المعنى الذي أحسه ابن طفيل في الغزالي، نجد ابن رشد يحسه أيضا حين يرى - كما سيجيء - أنه اضطر لأن يقول ما لا يعتقد من أجل زمانه ومكانه، وملاحظة فيلسوف الأندلس هذه هي التي جعلت «مونك» يؤكد أن للغزالي مؤلفات مضنونا بها على غير أهلها
ésotéripues .
35 (2)
ويفصح ابن رشد عن غرضه من كتابته «تهافت الفلاسفة» في وضوح وإيجاز، فيفتتحه بقوله: «وبعد حمد الله الواجب، والصلاة على جميع رسله وأنبيائه، فإن الغرض في هذا القول أن نبين مراتب الأقاويل المثبتة في كتاب «التهافت» في التصديق والإقناع، وقصور أكثرها عن مرتبة اليقين والبرهان.»
36
وهذا الغرض مع تأكيد ابن رشد إياه في مواضع كثيرة أخرى من كتابه، ليس في رأينا إلا وسيلة يصل بها إلى غرضه الأخير، وهو أن يرد عدوان الغزالي ويجعل حملته على الفلسفة باطلة، وبذلك يتم له ما نصب نفسه له من الانتصار للفلسفة وإزالة الجفاء بينها وبين الشريعة، إن لم نقل التوفيق بينهما. (3)
وسنرى من عرض مسائل النزاع المهمة بين فيلسوف الأندلس وحجة الإسلام، أن «تهافت التهافت» كما يقول بحق الأب بويج، ليس دفاعا قام به ابن رشد ليعيد للفلسفة منزلتها، ولكنه فحص دقيق وتفسير أو تأويل عميق متبصر لكتاب الغزالي.
37
بيد أن هذا لا يمنعنا من القول بأننا سنرى أيضا أن ابن رشد كان يعمل جهده على عدم توسيع شقة الخلاف بين المتكلمين والفلاسفة، كما كان يصدر - وهو يكتب كتابه - عن هذا المبدأ الذي سبق بيانه وهو: للجمهور تعليم غير التعليم الذي يكون للخاصة، وإن مخالفة هذا حرام؛ لأنه يضر بالناس جميعا وبالحكمة والشريعة معا.
38
ولشعور أبي الوليد بثقل ما يحمل من مسئولية، وبأن الأمر جد كل الجد، نراه ينعى بحرارة من كل قلبه على الغزالي حين يصرح - كما عرفنا من قبل - بأنه لم يقصد من تهافته بيان الحق في نفسه، وإنما قصد التشويش على الفلاسفة ونزع الثقة منهم، إلى آخر ما قال في هذه الناحية.
وفي هذا يقول فيلسوفنا بحق: «إنه لا يليق هذا الغرض به، وهي هفوة من هفوات العالم، فإن العالم بما هو عالم إنما قصده مطلق الحق لا إيقاع الشكوك وتحيير العقول.»
39
كما يقول في موضع آخر:
40 «إن هذا قصد لا يليق به، بل بالذين في غاية الشر! وكيف لا يكون ذلك كذلك ومعظم ما استفاد هذا الرجل من النباهة إنما استفادها من كتب الفلاسفة ومن تعليمهم (يريد فلاسفة اليونان)! وهبك إذا أخطئوا في شيء، فليس من الواجب أن ننكر فضلهم في النظر وما راضوا به عقولنا! أفيجوز لمن استفاد من كتبهم وتعاليمهم مقدار ما استفاد هو منها، حتى فاق أهل زمانه وعظم في ملة الإسلام صيته وذكره، أن يقول فيهم هذا القول، وأن يصرح بذمهم على الإطلاق وذم علومهم!
وإن وضعنا أنهم مخطئون في أشياء من العلوم الإلهية، فإنا إنما نحتج على خطئهم من القوانين التي علمونا إياها من القوانين المنطقية، ونقطع أنهم لا يلوموننا على التوقيف على خطأ إن كان في آرائهم، فإن قصدهم إنما هو معرفة الحق، ولو لم يكن لهم إلا هذا القصد، لكان ذلك كافيا في مدحهم، فلا أدري ما حمل هذا الرجل على مثل هذه الأقوال»!
ولأن غرض ابن رشد هو كما عرفنا بيان ما هو حق من آراء الغزالي، نراه يقر له بما يكون في آرائه من صواب، وينقد أحيانا وبشدة الفارابي وابن سينا على ما ذهبوا إليه من خطأ، وذلك صنيع العالم الباحث الطالب للحقيقة وحدها.
والآن، بعد هذا التمهيد الذي عرفنا منه ما كان من جهد في الرد على الغزالي، نأخذ في صميم الموضوع، نعني في بيان رأي فيلسوفنا في أهم المسائل التي عرضناها عن الغزالي من قبل، والتي رأينا تركيز المعركة بينهما فيها وحولها. (3) مسائل النزاع (3-1) قدم العالم
ليس من المبالغة في شيء أن نقول بأن هذه المسألة أهم المسائل التي كانت وما تزال سبب الخصومة العنيفة بين الفلاسفة والمتكلمين، هؤلاء يرون أن القول بقدم العالم على أي نحو كان وصدوره ضرورة عن الله كالمعلول عن العلة، ومساوقته له تعالى في الزمن يعتبر إنكارا للخلق وتعريضا لوجود الله للجحود!
ذلك بأنهم يرون أن الخلق والإحداث هما الكون عن عدم فلا يتصور كون العالم مخلوقا لله إلا إذا أوجده بعد مدة كان معدوما فيها، بل كان الله هو الموجود وحده.
41
لكن الفلاسفة لا يرون في القول بالقدم إنكارا للخلق، ولا تعريضا لوجود الله للجحود، فإنهم يرون أن من العسير حقا تصور «الخلق والحدوث» للعالم دون أن يسبقه «العدم» أو بعبارة أخرى، دون أن يسبق وجود العالم «زمان» كان معدوما فيه.
إلا أنهم يرون فيما يتصل بالعدم أنه يكفي أن يتقرر عقلا أن العالم ما كان يمكن أن يوجد من نفسه لو لم يوجده الله، فهذا الوجود من غيره معناه عدمه لو لم يوجد عن سببه وعلته.
42
وكذلك رفع الزمان بين وجود الله ووجود العالم عنه، لا يرفع أن هذا حادث عن ذاك ، وكل ما في الأمر أنه يجعل من العسير تصور أسبقية الله ووجود العالم عنه بعد ذلك، وأما مسألة الخلق والإحداث وثبوت هذا العمل عن الله، فيكفي في هذا أن يقال بحق بأن المخلوق هو المعلول عن الخالق، وإن لم يتقدم الفاعل عنه بزمان.
43
وفيلسوف الأندلس حين يدافع عن رأي الفلاسفة في تلك المشكلة، اختار لنفسه في دفاعه وتدليله لما يذهب إليه ما يمكن أن يلخص هكذا: (أ)
قبول ما رآه صحيحا من الأدلة التي تقدم بها الغزالي في كتابه التهافت، ذاكرا أنها أدلة الفلاسفة لمذهبهم، ورفض ما لا يراه صحيحا منها. (ب)
الرد على ما وجهه الغزالي من اعتراضات على تلك الأدلة. (ج)
التقدم بأدلة أخرى لتأييد رأي الفلاسفة. (د)
بيان أن كتابه «تهافت التهافت» ليس مخصصا للبرهنة، بل لرد هجوم الغزالي وبيان أن أكثر ما جاء به لا يرتفع إلى مرتبة اليقين والبرهان.
هذا، وليس من الميسور ولا من الضروري في رأينا أن نورد هنا سجلا لما كان من جدل طويل في هذه المسألة بين ابن رشد وبين خصمه اللدود، ويكفي أن نذكر بإيجاز دقيق أهم ما استند إليه فيلسوف الأندلس في دحض مذهب المتكلمين، وهو حدوث العالم بعد زمان كان معدوما فيه، والبرهنة على أنه قديم بما يتفق والغرض الذي كتب كتابه من أجله. (1)
يرى الفلاسفة أنه يستحيل صدور حادث عن قديم، وذلك أننا لو فرضنا زمنا كان العالم ممكن الوجود فيه لكنه لم يوجد؛ لأنه لم يكن لوجوده مرجح على عدمه، كان لنا أن نتساءل: هل جد مرجح اقتضى وجوده حين وجد، أم لا؟ فإن كان الثاني، كان الواجب أن يظل العالم ممكنا غير موجود؛ إذ لا يوجد شيء بلا مرجح، وإن كان الأول سألنا عن السبب الذي جعل المرجح يجد الآن لا قبل، ومع هذا فيكون الله تعالى محلا للتغير بسبب هذا المرجح الذي جد وبسببه وجد العالم بعد ما كان معدوما.
وهذا القول وإن حكاه الغزالي دليلا للفلاسفة لا يعده ابن رشد إلا جدلا عاليا لا يصل إلى مرتبة البرهان.
44
على أن الغزالي يعترض على هذا الدليل؛ فيقول: ما الذي يمنعنا من أن نعتقد أن الله أراد أزلا أن يستمر العالم معدوما طول مدة عدمه، وأن يوجد بعد هذا الزمن في الوقت الذي وجد فيه، وحينئذ لم يكن وجوده قبل مرادا فلم يحدث، ثم حدث بعد في الوقت الذي عينه الله بإرادته القديمة لوجوده، وظل الله منزها عن كل تغير .
45
وفي رأينا أن هذا يعتبر من جانب الغزالي حلا موفقا للمسألة، ولكن ابن رشد يرى - في سبيل نقده وعدم التسليم به - أن المتكلمين لا بد لهم حينئذ من التسليم بأن حالة الفاعل في وقت عدم الفعل ليست هي حالته وقت الفعل،
46
بل لا بد حين الفعل من أمر جد إما في الفاعل نفسه أو في المفعول، وإذن هذه الحالة الجديدة لا بد لها من فاعل، وهذا إما أن يكون غيره، فلا يكون الموجد مكتفيا في الإيجاد بذاته وحده، وإما هو ذاته، فلا يكون العالم أول مخلوق له، بل أول مخلوق هو تلك الحالة، مع أن المتفق عليه أن العالم هو أول ما خلق الله.
47
ثم كيف يتصور فعل حادث عن إرادة قديمة من غير أن تتغير حالة الفاعل وقت الفعل عن حالته قبله، بأن تزيد رغبته في تحقيق الفعل، وهذا ما يعتبر نقصا في حقه تعالى.
48
ولا ندري كيف يصح هذا من ابن رشد بالنسبة لله تعالى، إنه يصح في الإنسان الذي إن أراد مثلا أن يفعل كذا بعد عام لا بد له من أن يباشر بنفسه ما أراد سابقا فعله، وحينئذ يقال إن حالة جديدة حصلت له.
أما صانع العالم، أي: الله، فقد سبق أن عبر الغزالي عن رأي المتكلمين حين ذهب إلى أن الله أراد أزلا أن يوجد العالم في وقت كذا، وفي هذا الوقت وجد بسبب الإرادة القديمة دون أن تتغير حالة الفاعل - أي: الله - في الحالتين: حالة عدم الفعل وحالة الفعل.
على أن هناك اعتراضا آخر للفلاسفة على حل الغزالي تقدم به حجة الإسلام نفسه، وهو أقوى من اعتراض ابن رشد، ولهذا رضيه تماما، وهو يتلخص في أنه كما يستحيل وجود حادث ومسبب بلا سبب، يستحيل تأخر وجود المسبب عن سببه الكامل شروط الإيجاد والإيجاد، وهنا مثلا كان الله وما يزال موجودا، وإرادته موجودة ونسبتها إلى المراد موجودة وثابتة، فكيف يتأخر وجود العالم عن وجود الله الذي هو علته التامة وسببه الكامل!
49
وهذا ما يذكرنا بما سيقوله البغدادي فيما بعد عن القائلين بقدم العالم؛ إذ يقررون أن الله إذا كان لم يزل موجودا عالما مريدا قادرا، كان لا بد أن يكون العالم موجودا أزلا أيضا، ولا يعقل أن تكون مدة قبل العالم يكون الله فيها عاطلا غير خالق ولا موجد.
50
وقد قلنا آنفا إن ابن رشد رضي تماما ذلك الرد الذي تقدم به الغزالي عن الفلاسفة، إلا أن هذا لم يسلمه، بل أخذ في الإمعان في الجدل، إنه يطالب الفلاسفة ببيان أن استحالة تأخر وجود المفعول عن فاعله الكامل شروط الخلق والإيجاد، أمر معروف بداهة، أو بإقامة الدليل البرهاني عليه إن لم يكن من المعارف الأولى، فإن القائلين بحدوث العالم عن إرادة قديمة أكثر بكثير جدا من الفلاسفة المخالفين.
51
وفي الرد على هذا الجدل يرى ابن رشد بحق أنه ليس من شرط المعرف بنفسه أن يعترف به جميع الناس؛ إذ المراد به أنه مشهور.
52
على أن الغزالي أراد بعد هذا إلزام الفلاسفة بأن يقروا بما جعلوه محالا من صدور حادث عن قديم، إنه يقول بأنه من المعروف والمتفق عليه؛ لأنه مشاهد أن في العالم أمورا حادثة تجد آنا فآنا، وهذه الأمور لها بلا ريب أسباب تصدر عنها، وإذن هذه الأسباب إن كانت آخر الأمر حادثة كان معناه الاستغناء عن الخالق القديم، وإن انتهت إلى هذا الخالق كان معنى صدور الحادث عن القديم، فلم لا يكون الأمر هكذا بالنسبة للعالم.
53
وهنا يرى ابن رشد - كسائر أنصار القول بقدم العالم مثل الفارابي وابن سينا - أن هذه الأمور الحادثة تنتهي آخر الأمر إلى سبب قديم، ولكنها حادثة الأجزاء أزلية الجنس، فلا يلزمنا القول بصدور حادث بجنسه عن القديم.
54
وهذا الغموض الذي نجده عند فيلسوف الأندلس في هذا الجواب، يوضحه البغدادي حين يشرح مذهب أنصار قدم العالم في كيفية صدور الحادث عن القديم.
إنه يقول في هذا الصدد بأن القديم بذاته يوجد أزلا حركة مستمرة، وباستمرار هذه الحركة تكون الحوادث التي يجيء بعضها بعد بعض عن أسباب قديمة، حادثة السببية بحركاتها التي تتجدد منها كل آن حالة تصير سببا لحادث، وذلك مثل الشمس التي بذاتها القديمة لا يجب عنها النهار والليل والفصول الأربعة، بل إن ذلك يحدث عنها بسبب حركتها الطولية والعرضية.
55
وفي رأينا أن هذا وذاك يرجع إلى ما هو معروف من أن الفلاسفة حين قالوا بقدم العالم أرادوا قدم بعضه، أي: أرادوا فقط قدم العقول السماوية، والنفوس الفلكية، والأفلاك بذواتها دون حركاتها، والعنصريات بمادتها لا بالصور التي تطرأ عليها، وبهذا يكون لا مانع في رأيهم أن يصدر حادث عن قديم من هذه الأشياء، لا عن قديم هو الله سبحانه وتعالى. (2)
وبعد هذا الدليل الذي ذكره الغزالي في تهافته للفلاسفة، للاستدلال به على ما يرون من قدم العالم، وبعد ما عرفنا ما ثار عليه من اعتراضات وإجابات على هذه الاعتراضات، ذكر كذلك دليلا ثانيا ثم أخذ في الرد عليه.
وهذا الدليل يتلخص في أن تقدم الله تعالى عن العالم إما أن يكون بالعلية فقط، فيكون العالم قديما مثله لتلازم العلة والمعلول في الزمان، أو يكون تقدم الله عن العالم بالزمان، فيكون إذن قبل العالم زمان قديم كان الله فيه دون العالم، وإذا كان الزمان قديما وجب قدم الحركة التي لا يفهم إلا بها، ومن ثم وجب قدم المتحرك بها أيضا.
56
لكن ابن رشد لم يرض هذا دليلا صحيحا للفلاسفة:
57
وإذن فلا ضرورة فيما نرى للكلام فيه، ولنتجاوزه إلى الدليل الأخير الذي نختم الحديث به في مشكلة قدم العالم. (3)
لا بد لكل حادث من مادة يقوم بها؛ وذلك لأنه ممكن قبل حدوثه، والإمكان يستلزم موضوعا يقوم به ويكون قابلا له، وإذن هذه المادة - أو الموضوع أو المحل - لا يمكن أن تكون حادثة، وإلا لاحتاجت إلى مادة أخرى، وهكذا من غير نهاية، فيجب إذن أن تكون قديمة، ويكون الحادث هو ما يطرأ عليها من الأعراض والصور المختلفة، وذلك هو المطلوب.
58
والغزالي وقد ساق هذا الدليل يعترض عليه بأن إمكان هذا الشيء أو وجوبه أو استحالة الآخر، أمور يرجع فيها إلى قضاء العقل، بمعنى أن ما قدر العقل وجوده؛ فلم يمتنع عليه تقديره سميناه ممكنا، فإن امتنع تقدير وجوده سميناه مستحيلا، وإن لم يقدر على تقدير عدمه سميناه واجبا، وإذن هذه قضايا عقلية لا تحتاج إلى موجود سابق تجعل وصفا له.
59
ولو كان الإمكان يستدعي مادة يقوم بها لاستدعى الامتناع مادة كذلك، مع أنه ليس للشيء الممتنع مادة يطرأ الامتناع عليها؛ لأن الممتنع محال وجوده.
60
وابن رشد لا يعيا هنا بالجواب، إنه يؤكد أن استدعاء الإمكان مادة يقوم بها أمر بين، ما دام كل منا عندما يسمع مثلا أن هذا الشيء ممكن يفهم شيئا يقوم به هذا الإمكان، وكذلك الممتنع يستدعي موضوعا مثل ما يستدعي الإمكان، وهذا واضح أيضا ما دام الممتنع مقابل الممكن، والأضداد المتقابلة يقتضي كل منها ولا شك موضوعا، فإن الامتناع هو سلب الإمكان عن شيء ما، فكما يقتضي هذا الإمكان موضوعا يقتضي الامتناع كذلك موضوعا يسلب عنه إمكان الوجود كقولنا: الخلاء ممتنع، ونحوه.
61
هذا، ونعتقد أن هذا القدر كاف في تعرف وجهة نظر كل من الخصمين في مشكلة ليس من السهل أن يقوم دليل عقلي قاطع فيها، إن فيلسوف الأندلس يرى أن أدلة المتكلمين على حدوث العالم، كما حكاها الغزالي ليست برهانية ولا يقينية، وكذلك الأدلة التي حكاها عن الفلاسفة في كتابه «تهافت الفلاسفة» للاستدلال بها على قدمه، ومع هذا وذاك نحن نرى أن ابن رشد نفسه لم يقدم دليلا برهانيا يقينيا على ما يدعيه هو والفلاسفة من قدم العالم.
إنه نفسه يصرح بأن كتابه «تهافت التهافت» ليس محل التقدم بهذا النوع من الدليل،
62
وأن على من يريد البرهان الحق أن ينظره في مواضعه الأخرى.
وإن لنا أخيرا أن نقول بأن القول بالحدوث يجعل من السهل تصور النسبة بين الله وبين العالم، أي: بين الخالق والمخلوق، وإنه مع هذا لنا أن نقول أيضا بأن الوحي وإن جاء بحدوث العالم في الزمان، فإن للعقل منطقيا أن يجيز لا أن يوجب - كما يدعي ابن رشد وأمثاله - كون العالم قديما ومخلوقا لله تعالى.
ثم لنا أن نقول أيضا بأن ما ذهب الفلاسفة إليه، من أن العلة التامة يجب أن يوجد معها معلولها في نفس الزمان، يكون أمرا ضروريا في العلة التي تفعل من طبعها دون إرادة لها، كالنار والحرارة مثلا.
أما الفاعل الذي له إرادة وهو علة تامة لشيء ما، فإن له أن يوجد ما يريد في الزمن الذي يريده ويعينه، وبكلمة واحدة إننا لا نستطيع أن نسلم للفلاسفة بأن المعلول يتبع دائما في زمن وجوده علته وإن كانت تامة. (3-2) وجود الله وصدور العالم عنه
هنا نتكلم عما أراد الغزالي إثباته من أن الفلاسفة لا يريدون الحقيقة حين يقولون إن الله صانع العالم، بل إن هذا القول مجاز عندهم وتلبيس منهم، ومعنى ذلك أن الفلاسفة لا يرون أن الله هو خالق العالم حسب مذهبهم.
العالم لا يتصور كما يقول الغزالي أن يكون من صنع الله في رأيهم وحسب أصلهم الذي ذهبوا إليه، وذلك من ثلاثة أوجه: الفاعل لا بد أن يكون مريدا مختارا، والله ليس كذلك في مذهبهم، والعالم قديم، والمصنوع هو الحادث، والله واحد من كل وجه؛ فلا يصدر عنه إلا واحد كذلك عندهم، والعالم فيه كثير من المختلقات فلا يكون واحدا من كل وجه.
63
وهذا البيان من الغزالي يجعل من اليسير حصر الخلاف بين المتكلمين والفلاسفة على هذا النحو: ما هو الفاعل؟ وما هو الفعل؟ وما المراد بما ذهب إليه الفلاسفة من أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد؟ (أ)
يرى الغزالي كما عرفنا أن الفاعل ليكون فاعلا يجب أن يكون عالما بما يفعل ، ومريدا له عن اختيار، ويفرق بين مجرد السبب لشيء، كالشخص للظل والشمس للضوء والحرارة، وبين ما يكون سببا على نحو خاص هو الإرادة، فالأول ليس فاعلا ولا صانعا، والثاني هو الفاعل حقا ما دام يعلم ما يفعل ويريده. أي إن الأول إن سمي فاعلا كان بطريق المجاز لا الحقيقة، ومثاله من ألقى شخصا في النار فمات كان هو القاتل دون النار التي ليست إلا سببا لا فاعلا حقا.
64
ويريد الغزالي بهذا كله أن يقرر ضرورة عنصر الإرادة والاختيار في الفعل حتى يكون من صدر عنه فاعلا حقا، وما دام العالم صدر عن الله بالضرورة عند الفلاسفة، يكون الله غير مريد، وإذن فلا يكون فاعلا ولا خالقا للعالم، ويكون إطلاق وصف «الفاعل أو الصانع» عليه إطلاقا غير حقيقي يراد به موافقة ما جاء به الإسلام!
65
وفي الرد على ذلك كله يبدأ ابن رشد بالقول بأن اشتراط الإرادة والاختيار، على النحو الذي يريده المتكلمون، في الفاعل للعالم - أي: في الخالق - ليس من المعروف بنفسه أو المعترف به، إلا إذا قام الدليل عليه أو صح نقل حكم الشاهد فيه إلى الغائب.
وهذا، بأن الفاعل في الأمور المشاهدة إما فاعل بذاته وطبعه شيئا واحدا فقط لا يتغير، ونستطيع أن نمثل لها بالنار تكون عنها الحرارة، والثلج تكون عنه البرودة، وإما فاعل عن علم وروية، فهو يفعل هذا الشيء اليوم مثلا ويفعل ضده غدا، والله منزه عن أن يكون فاعلا بالمعنى الأول وهو واضح، وكذلك بالمعنى الثاني على النحو الذي يوصف به الإنسان؛ لأن الإرادة انفعال، والله منزه عنه، والمريد من ينقصه المراد، والله لا ينقصه شيء، والمريد من إذا حصل المراد كفت إرادته، وهذا ما لا يصح أن يفهم في جانب الله، وإذن كيف يقال إن الفاعل الحق هو من يفعل عن إرادة واختيار، ويجعل هذا الحد مطردا في الشاهد والغائب على السواء!
66
ولكن إذا كان الله ليس فاعلا بالطبع ولا بالإرادة والاختيار على النحو المعروف في الشاهد، فعلى أي نحو هو فاعل إذن عند فيلسوف قرطبة؟ إنه في مذهبه ومذهب الفلاسفة أمثاله، مخرج للعالم من العدم، ومريد لوجوده، وعالم به، وكل ذلك على نحو أشرف مما هو في الإنسان حين يريد فعل شيء من الأشياء؛ بمعنى أن العالم وجد عنه من غير ضرورة داعية إليه لا من ذاته ولا لشيء من خارج، بل بسبب وجوده وفضله؛ ولهذا لا يلحقه النقص الذي يلحق المريد في الشاهد.
67
وهو لذلك علة لوجود العالم لولاه لما وجد، وكل من كان علة لشيء فهو فاعل له.
ومن خلق الله وإيجاده على هذا النحو، فهو الذي يحفظه دائما موجودا على أتم وجه، ولولاه لما استمر وجوده طرفة عين، فهو لهذا أحق بوصف الفاعل بإطلاق، وذلك بأن من الفاعلين من يستغني عنه الفعل متى وجد عنه كوجود البيت بالنسبة للبناء، ومن يظن الفعل محتاجا إليه لدوام وجوده وحفظه، كالعالم بالنسبة لخالقه وموجده، وهذا الصنف الثاني هو أحق باسم الفاعل الحق.
68
وهذا كله معناه أن الله فاعل للعالم على نحو لا يصح أن يقال فيه بالطبع ولا بالاختيار على ما هو معروف في الشاهد، بل بإرادة لا تشبه في شيء إرادة البشر، كما يقال إنه يعلم الأمور بعلم لا يشبه علم البشر. (ب)
وفيما يختص بالفعل، يرى الغزالي أن معناه هو إخراج الشيء من العدم إلى الوجود بإحداثه، وإذا كان العالم موجودا في القدم فلا يتصور إحداثه لأن الموجود لا يمكن إيجاده، وإذن لهذا لا يمكن أن يكون العالم فعلا لله تعالى.
69
وهنا نلاحظ أن حجة الإسلام كما اشترط في الفاعل الحقيقي أن يكون مريدا، اشترط كذلك في الفعل أن يكون إخراجا من العدم إلى الوجود.
وابن رشد في الجواب عن ذلك يفرق بين القديم بذاته فلا يحتاج في وجوده إلى غيره، وهو الله تعالى الذي لا يتعلق به «الإحداث» من الغير لأنه موجود فعلا بذاته، وبين من لم يكن كذلك كالعالم، فإنه ليس لحدوثه أول، فهو لهذا قديم، ولكنه مع هذا في حدوث دائم ومتجدد، وهذا الحدوث في حاجة دائمة إلى محدث.
وإذن، فلا تناقض ولا عجب في أن يكون العالم وهذا شأنه محدثا عن الله تعالى، فإن الذي أفاد الإحداث الدائم أحق بوصف الخلق والإحداث من الذي أفاد الإحداث المنقطع، وهذا مثل البناء بالنسبة إلى البيت، ومعنى هذا أن ابن رشد يجعل «الفعل» الكائن من الله للعالم هو الخلق أو الإحداث الدائم، وإن لم يكن بعد عدم، أي: وإن لم يكن له أول.
70
والنتيجة أن يكون العالم «فعلا» لله تعالى، ويكون حاله مع الله غير حال المصنوعات مع الصانع، هذه المصنوعات التي إذا وجدت لا يقترن بها عدم تحتاج من أجله إلى فاعل يستمر به وجودها.
71 (ج)
وأخيرا؛ فيما يتعلق بمبدأ أن الواحد من كل وجه لا يمكن أن يصدر عنه إلا واحد، وهي النقطة الأخيرة من النقط التي تركز الخلاف فيها في هذه المشكلة، نرى الغزالي يقرر استحالة أن يكون العالم صادرا عن الله تعالى بناء على هذا الأصل بسبب مشترك بين الفاعل والفعل، وذلك بأن الله واحد من كل وجه، والعالم مركب من أشياء كثيرة مختلفة، فلا يتصور إذن أن يكون فعلا الله بناء على أصل الفلاسفة هذا.
72
وهنا نجد الخلاف يزول تقريبا بين حجة الإسلام وفيلسوف قرطبة الذي يقرر أنه «إذا سلم هذا الأصل والتزم فيعسر الجواب عنه، لكنه شيء لم يقله إلا المتأخرة من فلاسفة الإسلام.»
73
ومعنى هذا أن ابن رشد لا يرى أن ذلك الأصل صحيح، وإذن فليس ما يمنع من هذه الجهة أن يكون العالم فعلا صادرا عن الله باعتباره خالقا له.
حقيقة إن ابن رشد يذكر أنه لا يعترف بصحة ما اتفق عليه الفلاسفة القدماء من «أن الواحد لا يصدر عنه إلا موجود واحد.» وحينئذ اختلفوا في بيان من أين جاءت الكثرة وتعليلها، ثم يذكر أن المشهور اليوم هو ضد هذا، أي إن الموجود الأول صدر عنه صدورا أولا جميع الموجودات المتغايرة.
74
وهو لهذا ينتقد بشدة ذلك الرأي الذي ذهب إليه ابن سينا ومن أخذ أخذه حتى رتبوا صدور الموجودات عن الله على نحو خاص، فلا يصدر عنه مباشرة إلا العقل الأول، ثم تصدر باقي الموجودات بعضها عن بعض على ما هو معروف حسب نظرية العقول العشرة.
75
وابن رشد بعد نقده لابن سينا الذي أثار الغزالي ضد الفلاسفة بسبب رأيه الخاطئ، لم ينس أن يشير في «تهافت التهافت» إلى كيفية فهم صدور الكثرة عن الله، إنه يرى مستلهما أرسطو، أن العالم بجميع أجزائه مرتبط بعضه ببعض، وأن وجوده تابع لهذا الرباط الذي يؤلف بين أجزائه، وأن هذا الرباط هو الذي يوجب كون هذه الأجزاء «معلولة بعضها عن بعض، وجميعها (معلول) عن المبدأ الأول، وأنه ليس يفهم من الفاعل والمفعول والخالق والمخلوق في ذلك الوجود إلا هذا المعنى فقط.»
76
وإذا كان الأمر هكذا، يكون من الحق القول بأن العالم بجميع أجزائه المختلفة فعل لله، وصادر عنه باعتباره خالقا له؛ لأنه هو الذي أعطاه الرباط الذي يؤلف بين أجزائه ويجعلها وحدة بعضها معلول عن بعض، «ومعطى الرباط هو معطى الوجود» كما يقول فيلسوف الأندلس، وبهذا المعنى نفهم ما أثر عن أرسطو من أن «العالم واحد صدر عن واحد»، وليس على المعنى الذي فهمه الفارابي وابن سينا فاستوجبا نقد الغزالي العنيف.
وهكذا أخيرا يرى ابن رشد أنه قد صح له القول بأن الله هو خالق العالم بإرادته واختياره، وحقيقة لا مجازا ولا تلبيسا، وإن كان العالم قديما مساوقا لله تعالى في الوجود، وإن كان أيضا مختلف الأجزاء. (3-3) العلم الإلهي
رأى الغزالي أن يكون الكلام في هذه المسألة على مراحل ثلاث: مناقشة ابن سينا في أن الله يعلم ذاته وغيره، تعجيز الفلاسفة عن إثبات أن الله يعرف ذاته حسب مذهبهم في كيفية صدور العالم عنه، إبطال قولهم بأن الله لا يعلم الجزئيات. (أ)
يبدأ حجة الإسلام ببيان أن المسلمين، ما عدا الفلاسفة، مجمعون على أن الله يعلم كل شيء؛ إذ يرون أن كل الموجودات حادثة بإرادته، وأن كل ما يكون في العالم يحصل بإرادته كذلك، فمن الطبيعي أن يكون الكل معلوما له؛ لأن المراد لا بد أن يكون معلوما للمريد.
أما الفلاسفة؛ وقد نفوا الفعل الإرادي لله بما ذهبوا إليه من قدم العالم وصدوره عن الله صدور المعلول عن علته، فلا يمكنهم إثبات العلم لله تعالى.
77
وأما ادعاء ابن سينا أن الله عقل محض فمن الضروري والبديهي أن يعقل غيره؛ لأن المادة هي التي تمنع من إدراك الأشياء فليس بديهيا، وإلا لما خالفه الفارابي قبله فيه، ثم بعد هذا لا دليل عليه.
78
وهنا يرد ابن رشد ببيان أن الموجودات يجب - كما ظهر بالدليل - أن تنتهي إلى جوهر عري عن المادة وهو بالفعل دائما، أي إلى جوهر هو فعل محض، وأن علة الإدراك هي حقيقة التبري من المادة، وإذن يكون هذا الجوهر وهو الله تعالى عقلا محضا، ويكون عقله لذاته معناه عقله كل الموجودات الصادرة عنه.
79
على أن الله كما يقول ابن سينا أيضا قبل ابن رشد، لا يزال فاعلا وإن كان على نحو أشرف مما في الإنسان، وكل فاعل لا بد ضرورة أن يكون عالما بما يفعل.
ولكن أبا حامد لا يترك هذا الاستدلال بلا اعتراض، وإن من الحق أن الفاعل لا بد أن يعلم فعله إذا كان هذا منه عن إرادة واختيار، ولكن أنتم معشر الفلاسفة ترون، أو يلزمكم أن تروا أن الله فاعل «بطريق اللزوم عن ذاته بالطبع والاضطرار»، كما يكون الضوء والحرارة عن النار، وإذن فلا يكون الله فاعلا حقا، ولا يكون لذلك عالما بالموجودات.
80
ويرد فيلسوف قرطبة على هذا بنفي قسمة «الفعل» إلى ما يكون بالإرادة والاختيار، أو ما يكون بالطبع والاضطرار فقط، إنه يرى أن هذه القسمة صحيحة في الفاعلين غير الله تعالى، أما الله ففعله عند الفلاسفة لا طبعي بوجه من الوجوه، ولا إرادي بإطلاق، بل هو إرادي منزه عن النقص الموجود في إرادة الإنسان، يريد أن يقول إن الإرادة في الإنسان هي انفعال ومعلولة عن المراد، والله منزه عن أن يكون فيه صفة معلولة.
81
إن الإرادة إذن، إذا تكلمنا عن الله، لا يصح أن يفهم منها إلا صدور الفعل عنه مقترنا بالعلم.
82
ثم عدم فعل الله الضدين معا، وهو يعلمهما جميعا، دليل على اختياره، أي: على أن له صفة أخرى هي الإرادة.
هكذا يرد ابن رشد على الغزالي ليصل إلى إثبات العلم لله تعالى بذاته وبغيره، على أن لنا أن نلاحظ أنه وهو بسبيل هذا الرد حاول أن يثبت لله الإرادة والاختيار ليجعل هذا أساسا للقول بأن الله يعلم ما يوجد عنه بالإرادة والاختيار كذلك، وجعل وهو يستدل على الإرادة «أن الله يعلم الضدين» أمرا مسلما به مع أنه جانب من المسألة موضوع النزاع!
ومع هذا؛ فقد بقي للغزالي اعتراض آخر، إنه يرى أنه مع التسليم بأن فعل الله على النحو الذي ذهب إليه الفلاسفة يقتضي العلم بما صدر عنه، فإن لنا أن نقول بأنه في رأي الفلاسفة لم يصدر عن الله مباشرة إلا العقل الأول، فيجب ألا يعلم شيئا غيره.
83
وعلى هذا الاعتراض يرد ابن رشد بسهولة ويسر، إنه يرى أن علم الله يسبق المعلوم فهو علة له، وليس كعلم الإنسان الذي هو متأخر عن المعلوم ومعلول عنه، وإذن يكون علم الله في غاية التمام والكمال، كما يكون شاملا لكل ما كان عنه مباشرة أو بطريق غير مباشر.
84
ونحن نرى أن هذا حق وواضح وبخاصة أن كل هذه الكائنات المتوسطة يرجع وجودها لله نفسه. (ب)
وفي هذه الثانية نجد الخطب يسيرا حقا، إن الغزالي يعود إلى ما سبق له قوله من أن الفلاسفة لا يرون أن الله فاعل بالاختيار بل بالطبع، فأي بعد إذن أن يكون الله ذاتا من شأنها أن يصدر عنها المعلول الأول، وهذا يصدر عنه وهكذا، دون أن تشعر بنفسها، كما لا نشعر بالنار التي تكون عنها الحرارة بذاتها، ولا الشمس بما يصدر عنها من حرارة وضياء!
وهنا كما كرر الغزالي ما سبق أن اعترض به، لم يجد ابن رشد إلا أن يعيد ما سبق له أن قرره، أي: من بيان أن فعل الله هو على نحو آخر غير الطبع، وغير ما نعرف من الإرادة في الإنسان، وإذن لا معنى أن نطيل نحن القول في ذلك. (ج)
وأخيرا، وهذه هي المرحلة الثالثة يقرر الغزالي أنه حتى ما ذهب إليه ابن سينا من أن الله يعلم ذاته وغيره أيضا ولكن بنوع كلي، فيه استئصال للشرائع بالكلية، فإن هذا يئول إلى أنه تعالى يعلم الأسباب التي تكون عنها أشياء هذا العالم وأحواله، ولكنه لا يعلم الأمور الجزئية مثل طاعة هذا الإنسان أو عصيانه وإيمانه أو كفره.
85
ولم ينس الغزالي أن يبين بوضوح السبب الذي من أجله ذهب ابن سينا وأمثاله إلى هذا الرأي، إنهم يرون كما يذكر حجة الإسلام أن اختلاف العلم يوجب التغير في العالم، وهذا ما لا يصح في حق الله.
ولنضرب لهذا مثلا، إذا كنا لا نكتفي فيما يتعلق بكسوف الشمس أن نعتقد أن الله يعلمه على نحو كلي؛ إذ يعلم بوجود الشمس والقمر وأنهما يتحركان، وبأنه لأسباب معروفة يحصل حتما أن يتوسط جرم القمر بين الشمس والأرض؛ فيكون من هذا كسوف الشمس كليا أو جزئيا مدة كذا من الزمن، إلا أن علمه بهذا كله قبل الكسوف وفي أثنائه وبعد زواله، يكون هو هو لا يختلف ولا يوجب تغيرا في ذاته؛ لأنه علم بالأسباب فقط لا بالأحوال التي تحدث وتتجدد من آن إلى آخر.
نقول: إذا كنا لا نكتفي بعلم الله على هذا النحو، بل نذهب إلى أنه تعالى يعلم قبل كسوف الشمس فعلا أنها ستنكسف يوم كذا، ويعلم في هذا اليوم أنه حاصل فعلا، ويعلم بعده أنه قد كان ومضى، فقد أثبتنا لله علما متجددا مختلفا، وينتج من ذلك اختلاف في ذات الله نفسه وتغير فيها؛ إذ لا معنى للتغير إلا اختلاف العلم، وهذا ما لا يصح أن ينسب إلى الله تعالى.
86
ويأخذ الغزالي بعد هذا البيان في الاعتراض على الفلاسفة فيما ذهبوا إليه فيقول: «بم تنكرون على من يقول إن الله تعالى له علم واحد، بوجود الكسوف مثلا في وقت معين، وذلك العلم قبل وجوده علم بأنه سيكون، وهو بعينه عند الوجود علم بالكون، وهو بعينه بعد الانجلاء علم بالانقضاء، وإن هذه الاختلافات ترجع إلى إضافات له لا توجب تبدلا في ذات العلم، فلا توجب تغيرا في ذات العالم ...»
87
ثم يذكر صاحب «تهافت التهافت» أيضا بعد هذا، أنه ما دام الفلاسفة يرون أن الله يعلم أجناس الموجودات وأنواعها كلها - وإن كان هذا على نحو كلي كما يقولون - ولا يوجب هذا اختلافا في علمه ولا تغيرا في ذاته ، فلم لا يجوز أن يعلم الله أيضا الحالات والأمور الجزئية للشيء الواحد دون أن يجر هذا إلى ما يخشون من التعدد في العلم والتغير في الذات، وخاصة أنه ثبت بالبرهان أن اختلاف الشيء الواحد باختلاف الأزمان أدنى من اختلاف الأجناس والأنواع!
وهذا الاعتراض القوي من الغزالي الذي من اليسير تعزيزه بكثير من آيات القرآن، قد استوجب مجهودا غير قليل من ابن رشد في سبيل إبطاله ودفعه، إنه يوجب أولا أن نفرق بين علم الله بالكليات بما هو عقل، وبين علم الإنسان بالأمور الجزئية بالحواس، هذا من ناحية، وأن نفرق من ناحية أخرى بين علم الله الذي هو سبب وجود الموجودات، وبين علم الإنسان الذي هو مسبب عن وجود الموجودات، أي: معلول عن المعلول نفسه، فهذه التفرقة هي التي تنجينا من الخطأ الكبير والجدل الكثير.
ومتى فهمنا هذه التفرقة بناحيتيها، لم يكن لنا أن نقيس علم الله على علمنا، ولا يكون من المستطاع إلزام الفلاسفة إجازة علم الله بالأشخاص وأحوالها العديدة، ما داموا قد أجازوا علمه تعالى بالأجناس والأنواع العديدة، وذلك بأن العلم بالجزئيات يكون بالحس، ويوجب - مع تعدد العلم - تغير الإدراك بتغير الحالة المدركة! على أن العلم بالكليات (الأجناس والأنواع) لا يوجب التغير في العالم، لعلمه إياها بسبب علمه بأسبابها العامة والثابتة التي لا تتغير.
88
ونحن نكاد نفهم من هذا أن فيلسوف قرطبة يمس برفق مسألة حرية الإنسان في أعماله، إنه وإن كان من أنصار حرية الإنسان فيما يعمل، حتى يكون مسئولا عما يصدر عنه، يرى أن العمل الذي يكون عن المرء هو نتيجة أو مسبب عن إرادته التي يجب أن تكون متفقة آخر الأمر مع القدر الإلهي الثابت أزلا.
ومهما يكن من شيء؛ فإن ابن رشد يقر بأن الغزالي مصيب فيما لاحظه من أن التعدد في الأجناس والأنواع يوجب التعدد في العلم، وهذا ما يحذره ابن سينا وأمثاله؛ ولهذا ينتهي إلى تقرير «أن المحققين من الفلاسفة لا يصفون علم الله سبحانه بالموجودات لا بكلي ولا بجزئي» إلا أن هذا من علم الراسخين في العلم، ولا يجب أن يكتب ولا أن يكلف الناس اعتقاده.
89
وأخيرا هاتان الفكرتان: كون علم الله هو سبب وجود الموجودات وعلم الإنسان معلول عنها، وأن علم الله لا يصح وصفه بأنه كلي أو جزئي، نجد ابن رشد يتناولهما بالإيضاح في مواضع عدة من تهافته؛ ولهذا نراه يؤكد أن العلم الذي ينفيه الفلاسفة عن الله، هو ما يكون تعلم الإنسان ناتجا عن المعلوم لا علة له، وبعد هذا لا يرون مانعا من القول بأنه تعالى يعلم كل شيء حتى الأمور الجزئية من جهة أنه علة لها، كما جاء في قوله تعالى في سورة الملك:
ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير
ومن فهم هذه التفرقة بين علم الله وعلم الإنسان، فهم معنى قوله تعالى:
لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ،
90
وغير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى.
91
وهكذا ينتهي فيلسوف الأندلس من مسألة العلم الإلهي ببيان أن الفلاسفة يرون خلافا لما ذكر الغزالي، أن الله عالم بكل شيء، ولكن على نحو خاص يغاير علم الإنسان، أي: على نحو أشرف ما دام أن علمه تعالى هو سبب وجود الأشياء، لا أنه معلول عنها كما هو الحال في علم الإنسان القاصر المحدود. (3-4) مشكلة السببية
بينا في القسم الأول من هذا الفصل رأي الغزالي في هذه المشكلة، هذا الرأي الذي يمكن أن يلخص في إنكار أن يكون هناك علاقة ضرورية بين ما يعتقد في العادة سببا، وبين ما يعتقد في العادة مسببا عنه، والآن نشير إلى أن اهتمام حجة الإسلام بهذه المسألة يرجع إلى أنه يترتب على القول بالسببية إنكار المعجزات التي لا بد منها لإثبات النبوات، هذه المعجزات التي تقوم على إلغاء ما يقال من الرابطة الضرورية بين المسبب والسبب، مثل «قلب العصا ثعبانا وإحياء الموتى وشق القمر.»
92
وقد رأى ابن رشد من الضروري أن يؤكد قبل الدخول في صميم الموضوع أمرين: أن الفلاسفة القدماء لم يتكلموا في المعجزات لاعتبارهم إياها من أصول الشرائع التي لا يجب بحثها ويعاقب من يشكك فيها، وأن المعجزة ليست أمرا يمتنع عقلا أن يكون، بل هو ممكن في نفسه لأن له سببه، ولكنه يمتنع على الإنسان العادي ويمكن الأنبياء، كما هو الأمر في القرآن معجزة رسولنا عليه الصلاة والسلام.
93
على أنا لا ندري كيف جاز لفيلسوفنا أن يذكر أن «الفلاسفة القدماء»، ويريد بهم كما نعرف فلاسفة اليونان، لم يتعرضوا للمعجزات؛ للسبب الذي تقدم به! إنه لم يكن عندهم نبوات إلهية، ولا شرائع سماوية تحتاج للمعجزات في إثباتها، فكيف رأوا مع هذا ألا يتكلموا في المعجزات والمسألة لم توضع بالنسبة إليهم! ثم من الممكن أن نقول معه إن بعض المعجزات كالقرآن أمر ممكن في نفسه ممتنع على غير النبي، ولكن البعض الآخر كإحياء الموتى وانقلاب العصا حية، لا يصح أن يقال فيه في رأينا إنه ممكن في نفسه!
هذا؛ وصاحب «تهافت التهافت» يبني رده على الغزالي في هذه المشكلة، على أن الأشياء تختلف فيما بينها بما لكل شيء من ذات خاصة وطبيعة خاصة، بها يصدر عنه فعله الخاص، بمعنى أن الماء مثلا مادة سائلة بها يكون الري والرطوبة، على حين أن النار جسم شفاف به يكون الإحراق والضوء، وذلك أمر بدهي كما يقول، وإلا فلو لم يكن لكل موجود فعل يخصه لم يكن له طبيعة تخصه، ولو لم يكن له طبيعة تخصه لما كان له اسم يخصه ولا حد، ولكانت الأشياء كلها شيئا واحدا.
94
والنتيجة اللازمة لهذا هو أنه من السفسطة إنكار الأسباب التي يكون عنها أفعالها الخاصة بها كما نشاهدها في الأمور المحسوسة. بل إن العقل كما يقول أيضا فيلسوفنا «ليس هو شيئا أكثر من إدراكه الموجودات بأسبابها، وبه (أي: بهذا الإدراك) يفترق عن سائر القوى المدركة، فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل.»
95
أما كون هذه الأسباب تفعل أفعالها الخاصة بها مستقلة بنفسها، أو راجعة في آخر الأمر إلى سبب أعلى وحيد خارج عنها، فأمر ليس معروفا بنفسه ويحتاج إلى البحث الكثير.
وبعد هذا لم ينس ابن رشد أنه فيلسوف مؤمن؛ ولهذا نراه يؤكد لنا أنه ما ينبغي أن يشك أحد في أن الأسباب لا تكتفي بنفسها في أن تكون عنها مسبباتها، بل لا بد لها في هذا من «فاعل من خارج فعله شرط في فعلها، بل في وجودها فضلا عن فعلها.» أما تحديد جوهر هذا الفعل بالذات، هل هو الله تعالى نفسه أو كائن آخر وسط بينه وبين الموجودات الأخرى؟ فهذه مسألة ليس هنا موضع فحصها، كما يقول فيلسوفنا نفسه.
96
وقد كان في هذا مقنع، ولكن الغزالي لم يسكت عنه، إنه يسلم ولو جدلا أن لكل شيء طبيعة خاصة به يكون سببا لآخر يصدر عنه، ولكنه يجوز أيضا كسائر رجال علم الكلام أن يلقى نبي في النار فلا يحترق كما حصل لسيدنا إبراهيم عليه السلام، وهذا يكون إما بتغيير صفة النار أو صفة النبي، وذلك بأن يحدث الله بنفسه أو بواسطة ملك صفة في النار تجعل حرارتها لا تتعداها إلى أن طرح فيها، وإما بأن يحدث في جسم هذا صفة تدفع أثر النار عنه.
97
وفيما يختص بالمعجزات الأخرى يرى أن المادة قابلة لكل ما يتعاقب عليها من صور بعضها في أثر بعض، ولكن لم لا يجوز أن تأخذ المادة صورة ما لا تأخذها عادة إلا بتوسط صور أخرى قبلها، وذلك كانقلاب التراب حيوانا خاصا بدل صيرورته أولا نباتا ثم غذاء لحيوان يكون عنه بطريق التناسل ذلك الحيوان الخاص؟ ومن هذا القبيل انقلاب العصا حية تسعى معجزة لموسى عليه السلام. وغاية ما في الأمر أن هذا مستنكر لاطراد العادة بخلافه.
98
وليرد على هذا ابن رشد، يذكر أن الفلاسفة لا يبعد عندهم التسليم بأن المسبب قد يتخلف عما هو سببه عادة إذا وجد مانع خارجي يمنع من صدوره عنه، كما إذا كانت هناك مادة إذا قارنت الجسم القابل للاحتراق بطبعه منعت أن تؤثر النار فيه.
99
على أن لنا هنا فيما نرى أن نلاحظ أن هذا الوضع الذي يفترضه ابن رشد ليس هو ما يراه المتكلمون، وذلك بأنه لم يدع أحد أن سيدنا إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار كان جسده قد طلي أولا بمادة منعت النار من أن تفعل فعلها، بل القرآن صريح في أن الله هو الذي أمر النار أن تكون بردا وسلاما على إبراهيم معجزة له.
أما الأمر الثاني الذي يجوزه الغزالي، وهو أن تأخذ المادة صورة خاصة دون الصور التي يجب أن تكون من قبل، فأمر يدفعه ابن رشد تماما؛ إنه يرى أنه لو كان ممكنا أن ينقلب التراب إنسانا، من غير أن يكون أولا نباتا يغتذي منه إنسان ثم هذا يكون منه مني في رحم امرأة يتحول آخر الأمر إلى إنسان «لكانت الحكمة في أن يخلق الإنسان دون هذه الوسائط، ولكان خالقه بهذه الصفة هو أحسن الخالقين.»
100
على أن فيلسوفنا يذكر بعد ذلك بحق أنه ليس لا للمتكلمين ولا للفلاسفة دليل من العقل على ما ذهبوا إليه، وأنه يجب أن يعتقد كل إنسان ما يفتيه به قلبه، وذلك كما أمر الرسول
صلى الله عليه وسلم
في المشكلات من الأمور التي ترجع إلى ما هو حلال أو حرام.
وأخيرا، إنه مع أن الخلاف بين المتكلمين والفلاسفة في مشكلة السببية شديد كما رأينا، فإن الإمام الشيخ محمد عبده (توفي عام 1323ه/1905م) - بعد أن بين أن المتكلمين المعتزلة مع الفلاسفة في هذه المسألة، وأن أهل السنة ومنهم الغزالي لا ينكرون العلاقة الضرورية بين الأسباب ومسبباتها، ولكنهم يرجعونها إلى الله مباشرة، بمعنى أن الشبع مثلا يحدث عند الري ولكن من الله - يقرر أنه ليس لمسلم أن يذهب إلى إنكار ما بين حوادث الكون من الترتيب في السببية والمسببية إلا إذا كفر بدينه، قبل أن يكفر بعقله!
101
وهذا صحيح وحسن، ولكن الذي لا نستطيع الموافقة عليه هو ما انتهى إليه بعد هذا؛ إذ يقول: «فالفلاسفة وجمهور المتكلمين واللاهوتيون على وفاق في حقيقة المسألة، وإن اختلفت العبارات.»
102
ويكفينا دليلا على عدم صحة هذا، ما تقدم في هذا الفصل خاصا بمذهب أهل السنة المتكلمين الذين يمثلهم الغزالي. (3-5) البعث والحياة الأخرى
نتناول الآن هذه المسألة بالتفصيل، بعد أن أشرنا إليها في القسم الأول من هذا الفصل؛ لنعرف كيف عمل ابن رشد في الرد على الغزالي الذي أنكر إنكارا شديدا على الفلاسفة أن يكون البعث وما يتبعه من جزاء روحانيا فقط: (أ)
إن الغزالي لا يخالف الفلاسفة في أن الروح لا تفنى بفناء البدن، ولها في الحياة الأخرى لذائذ أو آلام روحانية وعقلية تفوق كثيرا اللذائذ والآلام الحسية، ولكنه يرى أولا معرفة هذا من الشرع لعجز العقل وحده عن معرفته، كما يرى ثانيا أن إنكار الجزاء الجسدي لا يتفق بحال مع الشرع، كما تدل عليه آيات كثيرة من القرآن، وهذه الآيات لا يمكن تأويلها كلها من ناحية، وليس يجب هذا التأويل من ناحية أخرى كما وجب تأويل الآيات التي توهم الجسمية والتشبيه لله تعالى.
103
أما ما يعترض به الفلاسفة على تجويز البعث الجسدي بأنه من المحال أن تعود روح كل امرئ إلى بدنه الذي كان له في الحياة الأولى، هذا البدن الذي تحلل إلى عناصر مختلفة، ربما صار بعضها جزءا من بدن إنسان آخر؛ فيكون متعذرا أن يعاد بدن كل منهما كاملا، فإن الغزالي يجيب عنه بأن روح المرء تعاد إلى بدن أي بدن كان، سواء أكان مواد بدنه الأول أم غيرها، أم مواد استؤنف خلقها، فإن الإنسان بنفسه لا بجسمه.
104
وهذا ما نؤمن به نحن، ويتضح هذا إذا لاحظنا أن الواحد منا هو هو مع أن جسمه يتغير دائما بسبب تبدل الغذاء وبالسمنة والهزال مثلا، وإذن يكون الغزالي على حق في قوله بأن البعث الجسدي ليس محالا من تلك الجهة، ويكون في القول به تصديق للقرآن الذي ورد كثير من آياته بالجزاء الروحي والجسمي معا بوضوح لا يحتمل التأويل. (ب)
والآن ماذا سيفعل ابن رشد وقد رأينا خصمه فوق اعتماده على النظر العقلي يجد له من القرآن سندا أي سند في إثبات البعث الجسدي؟
إنه يبدأ بالقول بأن الفلاسفة لا يرون إنكار البعث والجزاء الجسديين، ويؤكد كما ذكرنا من قبل أن الشرائع كلها قالت بذلك، وإذا كانت الشرائع جميعها، من شريعة بني إسرائيل إلى شريعة الإسلام، قالت به وجعلته من المبادئ الأولى العامة التي تقوم عليها، لما ينبغي عليه من الدفع إلى طيبات الأعمال؛ فإن من المعروف أن الفلاسفة لا يرون التعرض بقول مثبت أو مبطل للمبادئ العامة للشرائع.
105
على أنه بالنسبة إلى البعث خاصة، فقد اتفقت الشرائع جميعا - كما يذكر ابن رشد أيضا - على وجود أخروي بعد الموت وإن اختلفت في صفة ذلك الوجود
106
فمنها من جعله روحانيا فقط، ومنها من جعله جسمانيا أيضا بالأمثال التي ضربتها له، على أن تمثيل الجزاء جسمانيا، كما جاء بالشريعة الإسلامية، أدفع للعمل والفضيلة بالنسبة للجمهور، وهذا ما سبق تفصيله في الفصل الثالث من هذا القسم.
وإذا كان الأمر كذلك فمن الضروري كما يقول فيلسوفنا أن يقال إن الأرواح ستعاد في الدار الأخرى إلى أجسام مثل أجسامها التي كانت لها في الدار الدنيا، لا لهذه الأجسام نفسها التي عدمت بالموت؛ لأن المعدم يستحيل إعادته بعينه، وهنا نجد ضروريا أن نشير إلى ما سبق أن بيناه في هذه المشكلة من أن فيلسوفنا يرى أن المعاد سيكون روحانيا فقط.
هذا، وبعد الكلام على مسألة المعاد ينتهي ابن رشد من رد هجوم الغزالي العنيف على الفلاسفة بسبب ما ذهبوا إليه في المسائل التي ذكرنا أهمها، ثم يختم كتابه «تهافت التهافت» بأن الغزالي كفر الفلاسفة بهذه المسائل الثلاث: (1)
المعاد الروحاني لا الجسدي، مع أنهم لم ينكروا المعاد الجسماني، ومع أن منكره لا يكفر لأنه غير مجمع عليه بدليل تردد الغزالي نفسه فيه. (2)
علم الله بالكليات دون الجزئيات، وقد تبين أنهم لا يرون ما فهم الغزالي، بل يرون القول بعلم الله الشامل لكل شيء على نحو خاص. (3)
قدم العالم، وقد وضح أنهم لا يعنون المعنى الذي كفرهم من أجله المتكلمون.
ثم يختم أخيرا الحديث ببيان أن الغزالي قد «أخطأ على الشريعة، كما أخطأ على الحكمة.» وبالاعتذار عن التكلم في هذه الأشياء ، بأنه إنما اضطر لذلك لضرورة طلب الحق مع أهله، وهو واحد من ألف، والتصدي لمن يتكلم فيه ممن ليس من أهله، ولولا هذا وذاك ما تكلم فيه بحرف.
النتيجة
نرى من الضروري، وقد انتهينا من البحث الذي قصدنا إليه، أن نستخلص أخيرا منه نتائجه الهامة، وأن نبين مدى نجاح ابن رشد في محاولته التوفيق بين الدين والفلسفة، والعوامل التي حالت دون أن يصل عمله إلى النجاح الذي كان يرجوه. (1)
بينا أن روح الإسلام روح توفيقية بين الجهات التي بينها خلاف، وأن هذه الروح مع عوامل أخرى هي التي دفعت فلاسفة الإسلام إلى العمل على التوفيق بينه وبين فلسفة اليونان كما عرفوها، وإن عملهم لهذا التوفيق ليس فقط كما يقول الأستاذ «جوتييه»: «معقد الطرافة في هذه الفلسفة اليونانية الإسلامية»، بل إن محاولة هذا التوفيق كانت إلى حد كبير السبب في أن صار للإسلام فلسفة إلهية وطبيعية.
ولكنه، برغم الجهود التي بذلها في هذا السبيل الفارابي وابن سينا قبل ابن رشد، ظلت الفلسفة اليونانية على خلاف مع ما جاء به الإسلام فيما يتعلق بالله وصلته بالعالم، وآية هذا تلك الحرب التي شنها الغزالي عليهما وعلى الفلاسفة جميعا.
ثم جاء ابن رشد فكان همه الإلحاح أولا على وجوب الفصل بين العامة والخاصة وتعاليم كل طائفة بينهما، وفي هذا سعادة الجميع؛ لأن الحقيقة الواحدة يعبر عنها بطرق مختلفة باختلاف العقول والاستعدادات.
وهذا ما جعل بعض الباحثين المعاصرين يذهب إلى أن توفيق ابن رشد بين الحكمة والشريعة لم يكن - على خلاف ما كان من الفارابي وابن سينا - توفيقا «داخليا»، ولكنه فقط فصل ظاهري بين السلطات.
1
ولكن الحقيقة هي أن ابن رشد اضطر كما عرفنا بسبب حملة الغزالي إلى أن يترك لنا محاولة عملية للتوفيق بين الحكمة والشريعة توفيقا داخليا حقا؛ ولهذا نراه في أكثر من موضع من كتاباته يعتذر من كل قلبه عما اضطر إليه من الكلام في مسائل الشريعة والفلسفة على ذلك النحو الذي لم يكن يوده.
وهنا نشير إلى أن فيلسوف قرطبة رأى في كتابه «مناهج الأدلة»، الذي خصصه للاستدلال على العقائد الدينية بما يناسب العامة والخاصة من الناس، أن يجعل عماده في هذا الاستدلال هو النوع الذي رضيه القرآن، دون الاستدلال المنطقي الذي لا تطيقه العامة ومن إليهم؛ ولهذا المنهج أثره القوي في التوفيق. (2)
وفي تقدير مدى النجاح الذي أصابه فيلسوف الأندلس: نرى أولا أنه مع ما بذل من مجهود لم ينجح عمليا النجاح الذي كان يرجوه ويرغب فيه رغبة صادقة؛ إذ بقيت الفلسفة بعده زمنا طويلا وهي مضيئة، والفلاسفة وهم معتبرون خارجين عن الدين.
ويكفي أن نشير في هذا إلى فتوى ابن الصلاح المتوفى عام 643ه، إذ يقرر تحريم المنطق والفلسفة تعليما وتعلما؛ لما يؤديان إليه من الزندقة والضلال،
2
وإلى الذهبي في القرن الثامن الهجري؛ إذ يقرر أن الفلسفة الإلهية في شق وما جاءت به الرسل في شق.
3
ونشير أيضا إلى رأي ابن خلدون (توفي سنة 808ه) بأن الفلسفة مخالفة للشريعة،
4
وإلى المقريزي (توفي سنة 845ه) إذ يرى أن الفلسفة جرت على الإسلام ما لا يوصف من البلاء،
5
وأخيرا إلى طاش كبرى زاده (توفي عام 962ه) الذي وصف حكماء الإسلام بأنهم أعداء الله ورسله.
6
وبعد هذا نستطيع أن نقرر عن علم ومعرفة شخصية أن هذه النظرة السيئة للفلسفة والفلاسفة بقي من آثارها حتى هذه الأيام التي نعيش فيها، أن نفرا من رجال الدين بالأزهر لا يزال يرى أن بعض الفلاسفة المسلمين صاروا إلى الإلحاد بسبب ما ذهبوا إليه في الله تعالى وصلته بالعالم، كما نقرر أنه كان من نتائج ذلك ركود الدراسات الفلسفية في العالم الإسلامي، هذه الدراسات التي لم تأخذ في الانتعاش والازدهار من جديد إلا في هذه السنين الأخيرة.
ذلك ما كان من الناحية العملية الواقعية، أما من ناحية الحق في نفسه، فإننا نستطيع أن نقول بأن ابن رشد نجح في التوفيق بين الدين والفلسفة، وهذا في كثير من المسائل التي تناولها، ولكنه لم ينجح بصفة خاصة في مسألة البعث والجزاء في الدار الأخرى؛ وذلك؛ لأنه لم يستطيع بل ليس من المستطاع لأحد ، تأويل كل الآيات القرآنية بله الأحاديث أيضا، التي تدل صراحة على أنه في الحياة الأخرى ستكون لذائذ وآلام جسمية بجانب الأخرى الروحية.
وإذن فإن المؤمن الذي يعتقد أنه لا بد من التصديق بصريح القرآن الذي لا يحتمل التأويل يرى أنه لا يستطيع بحال أن يوفق في هذه الناحية بين القرآن ومذهب الفلاسفة؛ ولهذا نجد أن الإمام الشيخ محمد عبده، مع شدة رغبته في التوفيق بين الدين والفلسفة وعدم تكفير الفلاسفة بشيء مما ذهبوا إليه، يرى أن اعتقاد البعث الجسدي واجب شرعا، ويكفر منكره، وإن كان من الممكن تأويل ما سيكون من آلام ولذائذ جسمانية على نحو أعلى مما يتصور العوام من غير أن نخشى الوقوع في الكفر.
7
ولكن لنا أن نقول: ما هو هذا النحو؟ إنه لا يمكن حسب كتاب الله وحديث رسوله الصحيح إلا أن يكون البعث والجزاء روحيين وجسميين معا.
ومهما يكن من إصابة ابن رشد الحق أو خطئه في بعض ما ذهب إليه، فإن الإسلام لا يبيح ما كان من بعض رجاله من عداء للفلسفة واضطهاد لرجالها في بعض الأزمان التي خلت، الإسلام الذي يأمرنا كتابه بألا نجادل «أهل الكتاب» إلا بالتي هي أحسن، والذي حث على استعمال العقل لفهم الكون وسائر ما خلق الله، لا يرضى بكل ما صنع رجاله برجال التفكير الحر ورميهم بالكفر والإلحاد؛ لأنهم أخطئوا في بعض ما ذهبوا إليه.
لقد كان من نتائج هذا العداء، أن وجدت هوة بين الفلاسفة ورجال الدين ظلت دهرا طويلا فاصلا بينهم، وأن رمي رجال الدين الفلاسفة بالإلحاد إن لم نقل بالكفر، وجازاهم هؤلاء شرا بشر فرموهم بالجهل وعدم فهم الدين! وكان من هذا وذاك أن حرم الدين من جهود كثير من أبنائه المفكرين، فانكمش التفكير الحر الصحيح وخاصة بعد وفاة ابن رشد سنة 590ه، فقد فقدت به الفلسفة الإسلامية أكبر ممثل ونصير لها من المسلمين، وتضافرت عوامل مختلفة لسيادة روح التقليد.
بقيت كلمة واحدة، لقد رأينا تشابها إلى حد كثير أو قليل بين بعض آراء مفكري الإسلام ومفكري الغرب، ومن مثل ذلك الغزالي من ناحية ومالبرانش وهيوم وديكارت وكانط من ناحية أخرى، في مشكلة السببية، وبين ابن رشد نفسه من ناحية، وسبينوزا من ناحية أخرى، في ضرورة فصل الفلسفة عن الدين بالنظر إلى العامة، وبصفة عامة بين جمهرة مفكري الإسلام من ناحية، وجمهرة مفكري اليهودية والمسيحية من ناحية أخرى، في ضرورة تأويل بعض ما جاء في الكتب المقدسة تأويلا مجازيا.
ونحن لا نزعم بسبب هذا التشابه الذي اكتفينا بالإشارة إلى بعض المثل له، أنه كان هناك انتقال لبعض الآراء من مفكر إلى آخر عن معرفة وعلم، ولكن نريد بالإشارة إلى ذلك أن نذكر أنه من الخير عدم إقامة الحدود الفاصلة بصفة قاطعة بين العقل في الشرق والغرب، فإن العقل لا يعرف فواصل الجنس والزمن، وكذلك نذكر أنه من الخير فيما نعتقد أن يعاد النظر في الفلسفة الإسلامية على هذا الأساس، لنستطيع بالقدر الممكن لمؤرخ الفلسفة تقدير ما أسهم به الفكر الإسلامي في إقامة صرح التفكير الفلسفي العالمي كله، وبالله التوفيق.
روضة القاهرة في شعبان 1378ه/فبراير 1959م.
অজানা পৃষ্ঠা