فقد أهدى فاتك إلى أبي الطيب دنانير سرته حين تلقاها، ثم اختلطت بما كان عنده من مال، وذهبت فيما ذهب من ماله أثناء حياته أو بعد وفاته. وأهدى إلي لبنان معروفا يتصل بالعقل والقلب جميعا، ضن به علي قوم هم أقرب إلي قرابة من لبنان، وهم أكثر منه حصى، وأوسع منه يدا، وأبعد منه قدرة، وأطول منه باعا، حتى تمثلت - حين انصرف عني مستشار المفوضية اللبنانية بعد أن دعاني باسم حكومته إلى بيروت لألقي فيها محاضرة أثناء شهر «الأونسكو» - قول الحطيئة:
سيري أمامة إن الأكرمين أبا
والأكثرين حصى من آل شماس
نعم، لم ترد الحكومة المصرية أو لم يخطر لها أني أستطيع أن أمثلها بين من مثلها في مؤتمر الأونسكو، وهي تعلم حق العلم أن بين الأونسكو وبيني صلات متصلة وأواصر متينة، وأني كنت من خبرائها مرتين في أقل من نصف عام، وأني مثلت مصر في مجلس التعاون الفكري الذي كان يقوم مقام الأونسكو قبل الحرب العالمية الثانية، أنشأته عصبة الأمم القديمة، كما أنشأت الأونسكو عصبة الأمم الحديثة.
فكنت خليقا أن أشهد باسم مصر مؤتمر الأونسكو في بيروت، ولكن الحكومة المصرية أبت إلا أن تصانع السياسة في أمر لا ينبغي أن تصانع فيه السياسة. وأصبح ذات يوم، فإذا مستشار المفوضية اللبنانية في مصر يطلب إلي موعدا، فإذا تفضل بزيارتي أبلغني أن حكومته تدعوني إلى بيروت؛ لأحاضر أثناء شهر الأونسكو في: «أثر الحضارة العربية في الحضارة الأوروبية».
فأقبل الدعوة شاكرا بعد قليل من التردد في أعماق الضمير، فقد كنت أود لو زرت مؤتمر الأونسكو وحاضرت فيه موفدا من الوطن العزيز، ولكن الوطن العزيز لم يرد، أو لم يستطع، أو لم يخطر له الأمر على بال.
فأسافر إلى بيروت، ولا أكاد أصعد إلى السفينة حتى أرى قنصل لبنان في الإسكندرية يبلغني تحية الوزير وأمانيه، فأتمثل بيت الحطيئة الذي رويته آنفا.
ولا تكاد السفينة تصل إلى بيروت، حتى أرى مندوبا من وزارة الخارجية اللبنانية أقبل يتلقاني باسم الوزير، ويهدي إلي تحيته، فأهبط من السفينة، وأنا أتمثل بيت الحطيئة الذي رويته آنفا.
وهذه السيارة تقلني وتقل من معي إلى أفخم فنادق بيروت، فننزل فيه أحسن منزل وأكرمه، ونلقى فيه خير ما يلقى الضيف من مضيفه من قرى لا يرضي الحياة المادية وحدها، وإنما يرضي حياة العقل والقلب والذوق والشعور.
ثم لا أكاد أستقر في الفندق حتى تتصل الزيارات، كلها كريمة وكلها حفية، وإذا أنا أجد نفسي في بيئة أخص ما توصف به أنها تعرف كيف تبذل الحب، وكيف تهدي العطف، وكيف تكرم الضيف، وكيف تأسو القلب المكلوم.
অজানা পৃষ্ঠা