فلما بلغنا شتورة مجهودين مكدودين جياعا ظماء؛ أسرعنا إلى فندقها الأصيل، فيتلقانا صاحبه بما تعود اللبنانيون أن يتلقوا به الضيف من التأهيل والتسهيل والترحيب، ويسعى بنا إلى غرفة الطعام، وهناك يقدم إلينا ما شاء الله من طعام مختلفة ألوانه، وفاكهة مختلفة فنونها، وشاي لم أشرب مثله قط جودة نوع ودقة صنع. وكان معي صبية جياع ظماء، خلي بينهم وبين الطعام والشراب، فأرسلوا أنفسهم على سجيتها، واندفعوا يأكلون ويشربون لا يلوون على شيء، وأنا أحضهم وأشجعهم، وأمهم توصيهم بالرفق والأناة وتحثهم على القصد والاعتدال، وهم يسمعون لي أكثر مما يسمعون لأمهم، يغريهم بذلك جودة ما بين أيديهم، وصاحب الفندق يذهب ويجيء، يلقي الأمر هنا وهناك، ويحتفي بهؤلاء المندفعين في الطعام والشراب.
حتى إذا أصبنا من هذا كله حاجتنا وفوق حاجتنا وهممنا أن ننصرف، وطلب صاحبي الحساب إلى أحد الخدم؛ قال الخادم مبتسما: هيهات! لا حساب، إنما أنتم ضيف صاحب الفندق. ونحن نلح ونلح، والخدم يلحون في الإباء، حتى اضطررت إلى أن أسعى إلى صاحب الفندق خجلا مستخذيا لكثرة ما أسرفنا على أنفسنا وعلى مضيفنا، كنا نظن أننا سائحون نشتري حاجتنا من أحد الفنادق، ولا نستشير في ذلك إلا طاقتنا على الأكل والشرب، وقدرتنا على أداء الثمن؛ فإذا نحن ضيف قد أسرفنا على من ضيفنا، فأنا حائر بين الشكر والاعتذار، وصاحب الفندق مندفع في تحيته واغتباطه بأنا قد مررنا به، ونزلنا عليه، وأصبنا من طعامه وشرابه، ولولا امتناعنا وإلحاحنا في الامتناع لما صدرنا عنه وأيدينا فارغة من بعض ما كان عنده من الطيبات.
كذلك أنفقت تلك الإجازة في لبنان، فأي غرابة في أن أعود إلى لبنان كلما أتيحت لي العودة إليه؟ حياة ناعمة باسمة، وقوم كرام في غير جهد ولا تكلف، وجو معتدل يعفيك من القيظ، ولا يعرضك لما تتعرض له إذا عبرت البحر إلى أوروبا من المطر المنهمر، والسماء المظلمة، والجو العابس بين حين وحين.
وأشهد، ما تركت لبنان قط إلا تردد في نفسي، وربما تردد على لساني هذان البيتان:
قفا ودعا نجدا ومن حل بالحمى
وقل لنجد عندنا أن يودعا
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربى
وما أحسن المصطاف والمتربعا
1949
الصيف
অজানা পৃষ্ঠা