ثم ألاحظ أن الأمر ليس مقصورا علي ولا على هذه الأحاديث التي أذيعها، ولكنه يتجاوزني ويتجاوز أحاديثي إلى قوم آخرين، وأحاديث أخرى تنشر في الصحف اليومية والأسبوعية، وإلى قوم آخرين وأحاديث أخرى تجري على ألسنتهم حين يلقى بعضهم بعضا؛ فقد كتب فلان هذه الأسطر في هذه الصحيفة أو تلك، وهو قد أراد بها إلى هذا الغرض أو ذاك، وأراد بها إلى أن يمس فلانا من قريب أو بعيد، ولمح بها إلى موقف فلان في السياسة، أو موقف فلان في الإدارة، أو موقف فلان في البيع والشراء؛ حتى استيقن الناس جميعا أنهم لا يتبادلون الحديث بينهم إلا رمزا، وأن الصراحة والوضوح والجلاء؛ كل هذه أمور قد بعد العهد بها حتى نسيت أو كادت تنسى.
وليس موقف الناس مما ينشر أو يقال بأقل تحفظا واحتياطا من موقفهم بإزاء ما يأتيه الساسة من الأعمال، أو ما يكون بينهم من التزاور والتواصل، أو ما يكون بينهم من التنافر والتقاطع. ومن المحقق أن الأمر ليس مقصورا على رجال السياسة وأشباههم من الذين ينهضون بالأعمال العامة، ولكنه يتناول ما يكون بينهم من صلات في حياتهم الخاصة. فالزملاء في ديوان من الدواوين أو معهد من معاهد التعليم يشك بعضهم في بعض، ويسيء بعضهم الظن ببعض، ويحتاط بعضهم من بعض، قد تعقدت منافعهم، وارتبكت مصالحهم، وقرب الرؤساء بعضهم وأبعدوا بعضهم الآخر، فساء ظن أولئك بهؤلاء واحتاط هؤلاء من أولئك، وارتاب الرئيس بهم جميعا، وجرت أحاديثهم حين يتحدثون على الشك والخوف، وجرت صلاتهم حين يتواصلون على الحيطة والتحفظ، وأصبحت حياتهم شيئا لا يطاق.
ولست أدري - بل لعلي أدري، ولعل كثيرا من الناس يدرون - ما مصدر هذا القلق، وما أصل هذا الريب. فقد دفعتنا هذه الأعوام المتصلة إلى ألوان من الحياة لم نكن نألفها ولا نطمئن إليها، وأولها وأظهرها: هذه الأحكام العرفية التي اقتضتها الحرب، والتي استتبعت مراقبة الصحف، والتي ألقت في روع الناس جميعا أن أمورهم لا تجري على ما تعودت أن تجري عليه قبل أن تعلن الأحكام العرفية، وقبل أن تفرض الرقابة على الألسنة والأقلام.
ومما لا شك فيه أن الأحكام العرفية لم تشمل حياتنا كلها، ولعلها لم تشمل إلا أقلها، ولكن الناس قد فرضوا فيما بينهم وبين أنفسهم أنها قد شملت كل شيء. ومما لا شك فيه أيضا أن مراقبة الصحف إن اشتدت على الأنباء الخارجية والداخلية فإنها لم تكلف الأدباء من أمرهم شططا حين أرادوا أن يعرضوا للأدب الخالص، أو حين أرادوا أن يمسوا الأمور العامة مسا رفيقا. فمن حق الصحف أن تضيق بالرقابة، ومن حق الناس جميعا أن يضيقوا بها وبالأحكام العرفية، ولا سيما حين يتصل الخضوع لها والاكتواء بنارها، ولكنها على كل حال لا تكفي لتشيع هذا القلق بين الناس وتملأ نفوسهم شكا وريبا، وتجعل سوء الظن أصلا من أصول الحياة.
غير أن الناس لم يخضعوا منذ أعلنت الحرب للأحكام العرفية والرقابة وحدها، وإنما خضعوا لأشياء أخرى لعلها أن تكون أبعد من ذلك أثرا في إشاعة القلق والريب، خضعوا لحياة الحرب نفسها وما تفرضه من الغموض في أنباء الحرب والسياسة، وما تقتضيه من هذه الأحاديث المتناقضة التي يكذب بعضها بعضا، والتي تذاع في الراديو كل يوم، وما تقتضيه من هذه الإشارات الغامضة التي تنشر في الصحف والمجلات، حتى تعود الناس أن يسمعوا النبأ فلا يصدقوه، أو أن يسمعوا النبأ فيستنبطوا منه غير ظاهره، وربما استنبطوا منه نقيضه، وحتى تعلم الناس أن يقرءوا بين السطور وأن يسمعوا بين السطور؛ إن أمكن أن يسمع الناس بين السطور.
فاتصال هذه الحال التي تخلط بين الصدق والكذب وتغلب الكذب على الصدق أحيانا، وتذيع المتناقضات في غير انقطاع؛ خليق أن يدفع النفوس إلى الريب ويعدها لسوء الظن. ثم خضع الناس بعد ذلك أو مع ذلك في حياتهم العامة والخاصة لخطوب ثقال، فأهوال الحرب من جهة، ومصاعب الحياة الاقتصادية من جهة أخرى، والتغييرات السياسية من جهة ثالثة، والبؤس والحرمان اللذان ينتهيان إلى الجوع والشقاء في بعض الطبقات من جهة رابعة، كل ذلك خليق أن يعقد منافع الناس أشد التعقيد، وأن يقوي الأثرة في نفوس الأفراد والجماعات، وأن يضطر كل واحد من أفرادهم وكل جماعة من جماعاتهم إلى الاحتياط للنفس، والاستكثار من الخير، والاستعداد للمستقبل، والتحفظ من الطوارئ، والتخلص من المشكلات، والنفوذ من الخطوب؛ فليس غريبا أن يدفع هذا كله الناس إلى حياة لا تقوم على أمن الضمائر واطمئنان القلوب، ولا تقوم على الثقة والصراحة، وإنما تقوم على القلق والخوف، وتقوم على الشك والحذر، ولعلها أن تقوم على الكذب وعلى أخلاق أخرى تتصل بالكذب من قريب أو بعيد.
فإذا أضفت إلى هذا كله حياتنا السياسية الخاصة وما يشوبها من هذا العنف الذي يدفع إلى التكلف، ويسوق إلى سوء الظن، ويحمل على المبالغة والتكثر، ويغري بخلق الإشاعات وإذاعة المنكر من القول، ويحرص على تشويه الحسن وتحسين القبيح. وإذا أضفت إلى هذا وذاك أن المثقف المصري محدود الثقافة متوسط العلم في أكثر الأحيان، وأنه من أجل ذلك مستعد للتصديق والتكذيب في غير مقاومة، أو في مقاومة ضئيلة، أقول: إذا أضفت بعض هذا كله إلى بعض، استطعت أن تحقق أسباب هذا القلق الذي يشمل الضمير المصري في هذه الأيام، ويوشك أن يدفعه إلى خطر عظيم.
والشيء المحقق هو أن هذا التساؤل الذي أشرت إليه في أول هذا الحديث، إن دل على شيء فإنما يدل على ظاهرة مؤلمة حقا؛ وهي أن رأي الناس قد ساء في الناس، فلا تكاد تذكر رجلا حائر الضمير حتى يحس كثير من الناس أنه المعني بهذا الضمير الحائر، ومصدر ذلك أنه يجد فيما بينه وبين نفسه أن ضميره مضطرب في شيء من الحيرة، وحتى يسأل الناس بعضهم بعضا: ألا يمكن أن يكون صاحب الضمير الحائر فلانا أو فلانا؟ لأنهم يعتقدون أن فلانا أو فلانا يمكن أن يكون من أصحاب الضمائر الحائرة. ولا تكاد تعرض صورة الرجل الذي يشبه الثعبان، أو يشبه الثعلب، أو يشبه ما شاء الله من هذا الحيوان المقيم في حديقة الحيوان، حتى يحس كثير من الناس أنه هو المعني بهذه الصورة، المراد بهذا الاسم. ومصدر ذلك أنه يجد فيما بينه وبين نفسه أن في أخلاقه وخصاله شيئا من أخلاق الثعبان، أو من أخلاق الثعلب، أو من أخلاق ما شاء الله من الحيوان، وحتى يخلع القراء من عند أنفسهم هذه الصورة أو تلك على هذا الرجل أو ذاك؛ لأنهم يرون في أخلاقه شيئا من أخلاق الثعلب أو الثعبان.
ومن العسير أن تقنع القراء بأن الكاتب إن عرض صورة بعينها، فهو لم يرد شخصا بعينه، ولعله يكون قد كون صورته هذه من أشخاص كثيرين يأخذ من أخلاق كل واحد منهم طرفا، ثم يضيف هذه الأطراف بعضها إلى بعض فينشئ منها صورة قد تعجب أو لا تعجب، ولكنها لا تخلو من عبرة وموعظة، ولعلها أن تحمل الناس على أن يصلحوا من أمورهم ويخفوا من شرورهم، فمن وجد في نفسه شيئا من أخلاق الثعبان أصلحه وأخفاه؛ فكف شره عن الناس قليلا أو كثيرا، وكف شر الناس عنه قليلا أو كثيرا. وقل مثل ذلك فيمن يجد في نفسه شيئا من خصال الثعلب، أو من خصال العقرب، أو من خصال الذباب.
والله قد خلق الأشياء كلها لتكون موضعا للعظة، ومصدرا للعبرة، ووسيلة إلى استكشاف الحق والخير والجمال، والله عز وجل قد خلق الإنسان وعلمه البيان؛ ليكشف الحق والخير والجمال ويدل عليه، وليستكشف الباطل والشر والقبح ويرغب عنه. فليكتب الكتاب، وليقرأ القراء، وليسأل السائلون، وليجب المجيبون، فليس بشيء من هذا كله بأس، وإنما البأس الذي يجب أن نعاون جميعا على علاجه واستئصاله، هو هذا القلق الذي شمل الضمير المصري، والذي يوشك أن يدفعه إلى أكثر من السؤال والجواب.
অজানা পৃষ্ঠা