أتراها أرادت أن تستبقي بينهم المنافسة والخصام بعد موتها؟ وأن تضطرهم إلى أن يحفظوا لها من الود مثل ما كانوا يظهرون لها قبل أن تموت؟ أم تراها أضغاث أحلام قد عبثت بنفوس هؤلاء النفر الثلاثة؟ ولكن كيف يتفق أن يلم الطيف بهم في يوم واحد، ويتراءى لهم في صورة واحدة؟ ويلقي إليهم حديثا واحدا؟ ويضرب لهم موعدا واحدا؟
قلت لصاحبي حين انتهى من حديثه إلى هذه الأسئلة: لا أدري، ولا أستطيع أن أفتح عليك، فسل من شئت من الجامعيين الذين يدرسون دقائق علم النفس؛ فلعلك تجد عندهم غناء.
1945
ضمير حائر
أوى إلى سريره راضيا ناعم البال، وهب من سريره موفورا طيب النفس، ونام بين ذلك نوما هادئا هانئا لم تنغصه مروعات الأحلام، ولم يكد يخرج من غرفته حتى تلقاه الصبية من بنيه وبناته بوجوه مشرقة تتألق فيها نضرة النعيم، وثغور جميلة تبسم عن مثل اللؤلؤ المنضود، وحملت إليه أصواتهم الرخصة العذبة تحية الصباح، فردها عليهم في صوت حلو يجري فيه الحزم الصارم ويشيع فيه الحنان الرفيق، وأنفق معهم ساعة حلوة يداعب هذه ويلاعب ذاك، ثم خلص منهم بعد جهد، وفرغ لنفسه؛ ليصلح من شأنه قبل أن يغدو إلى عمله، وكان عمله خطيرا، وكان اهتمامه لهذا العمل وعنايته به أعظم منه خطرا؛ لأنه كان قوي الضمير حريصا أشد الحرص على أداء الواجب كاملا، وكان أبغض شيء إليه أن يتهمه أحد، أو أن يتهم هو نفسه بأيسر التقصير.
ولم تكن عنايته بحسن زيه وجمال شكله أقل من عنايته بالعمل والواجب، فقد استقر في نفسه منذ بلغ الشباب أن من كمال المروءة أن يكون الرجل حسن المنظر جميل الطلعة ما وسعه ذلك، وأن تقع عليه العين فلا تقتحمه، وتبلغه الأبصار فلا تزور عنه ولا تعدوه إلى سواه، ذلك أدنى أن يحببه إلى النفوس، ويحسن مكانه في القلوب، ويجعل محضره خفيفا، وعشرته شيئا يطلب ويرغب فيه.
وكان الله قد منح صاحبنا حظا من جمال الخلقة، وخلقه في تقويم حسن، فزاده ذلك عناية بنفسه واهتماما بمنظره، وشجعه الناس على ذلك بما كانوا يهدون إليه من ثناء، وشجعه النساء خاصة على ذلك بما كن يحمدن من صورته الرائعة وزيه الأنيق وحسن تلطفه في اللقاء والعشرة والحديث، كل ذلك فرض عليه العناية بجسمه وزيه وشاربه أكثر مما تعود الناس أن يصنعوا، فكان يخلو في غرفته كل صباح، وكان يخلو في غرفته كل مساء وقتا غير قصير، ثم يخرج من غرفته ليغدو إلى عمله، أو ليروح إلى ناديه، فلا يكاد أهله يرونه حتى يحدث منظره الرائع في نفوسهم فجاءة جديدة على كثرة معاشرتهم له ومخالطتهم إياه.
وقد خلا في ذلك الصباح إلى نفسه في غرفته، فأطال الخلوة، وغير وبدل من زيه ما استطاع التغيير والتبديل ، حتى إذا أعد نفسه للناس، أو اعتقد أنه أعد نفسه للناس وهم أن يخرج؛ ألقى إلى المرآة هذه النظرة السريعة الخاطفة التي كان يلقيها إليها دائما كأنما يسألها رأيها الأخير قبل أن يخرج للقاء الناس، وكان رأيها الأخير دائما حسنا مقنعا يشيع في نفسه شيئا من الرضى الهادئ والثقة المنتظرة. ولكن رأي المرآة الأخير في ذلك الصباح لم يكن حسنا ولا مقنعا ولا مشيعا للرضى والثقة، وإنما كان مزعجا مروعا؛ فلم تكد عينه تبلغ المرآة حتى ارتدت عنها مذعورة، ثم عادت إليها مشفقة، وارتدت عنها وقد نقلت إلى قلبه ذعرا يبلغ الهلع، وإذا هو يرتد عن مكانه، ويرجع أدراجه مسرعا، ويحول وجهه عن المرآة تحويلا تاما حتى لا تخطئ عينه فتمتد إليها مرة أخرى.
وقد أخذ قلبه يخفق خفقا شديدا سريعا متصلا، وأخذت جبهته تنضح بشيء من عرق بارد، وأخذت قطرات من هذا العرق تنطبع على وجهه، وجعل الدوار يعبث به وبكل شيء من حوله، حتى خيل إليه أن الغرفة كلها قد استدارت؛ فأصبحت المرآة وراءه، وأصبحت هذه المائدة - التي كان يجلس إليها ليصلح من شأنه - أمامه. وإذا هو مضطر إلى أن يتماسك ويتمالك، وإذا هو عاجز عن ذلك، فيجلس على أول كرسي يبلغه مضطربا ممعنا في الاضطراب حائرا، لا يكاد يتبين حيرته، ولا يكاد يتبين مصدرها، ومع ذلك فقد كان مصدر هذه الحيرة يسيرا جدا غريبا جدا في وقت واحد. كان يسيرا؛ لأنه لم يكن إلا ما رأى في المرآة، وكان غريبا؛ لأنه لم ير في المرآة وجهه؛ وإنما رأى أقبح وجه يمكن أن يكون الله قد خلقه، وأبشع منظر يمكن أن يمتحن الله به الناس أو القرود.
وقد طال جلوسه على كرسيه، وإطراقه إلى الأرض، وإغراقه في الحيرة، ثم أخذ جسمه يهدأ شيئا فشيئا، وجعل قلبه يستقر في صدره قليلا قليلا، وامتدت يده فاترة إلى منديل أمره على وجهه فجفف به العرق، وارتسمت على ثغره ابتسامة هادئة فيها شيء من غموض وشيء من رضى؛ فقد ثابت نفسه إليه وجعل يسخر من هذا الروع الذي ألم به، فأكبر الظن أن شيئا من علة قد ألم بمعدته فأفسد عليه مزاجه شيئا ما. ثم أنشأ يسأل نفسه عما طعم أمس وعما شرب؟ فلم ينكر من طعامه ولا من شرابه شيئا، فقد طعم أمس وشرب كما كان يطعم ويشرب كل يوم، ولكن بمعدته شيئا - من غير شك - هو الذي خيل إليه ما خيل حين مد عينه إلى المرآة.
অজানা পৃষ্ঠা