كانوا يظنون أنهم سيبلغون الاستقلال الكامل، وأن حلفاءهم سيهدون إليهم ما بقي من هذا الاستقلال أداء للحق واعترافا بالجميل؛ فنظروا فإذا حلفاؤهم يؤثرون الصمت، ثم يقولون: سننظر في الوقت الملائم مقدرين لمصالحنا المتبادلة ...
كانوا يظنون أن حكومتهم ستطالب بهذا الحق وستجد في الظفر به لا تريح ولا تستريح، فإذا رئيس حكومتهم يعلن إليهم أنه ينتهز الفرصة ولن يقصر عن انتهازها حين تسنح ...
كانوا يظنون أن السلام سيحمل إليهم أمنا وعدلا ورضى، فإذا السلام يمثلهم فيما كانت الحرب تفرض عليهم من الخوف والجور والظلم، وكانوا يظنون أن السلام سيردهم أحرارا كما ولدتهم أمهاتهم أحرارا؛ فإذا السلام يمسكهم في القيود والأغلال كما أمسكتهم الحرب في القيود والأغلال.
كانوا يقدرون أنهم سيحتفلون في هذا اليوم بكسب الحقول ونيل الآمال، فإذا هم يحتفلون في هذا اليوم بإمضاء المعاهدة التي أكل الدهر عليها وشرب، والتي أبلتها الأعوام القليلة؛ لكثرة ما في هذه الأعوام من الأحداث والخطوب، وإذا هم اليوم كما كانوا في سنة 1937؛ بعد أن مضى عام واحد على إمضاء المعاهدة يرضون بالقليل وينتظرون الكثير كأن الحوادث لم تحدث، وكأن الخطوب لم تلم، وكأن إيطاليا وألمانيا واليابان لم تستسلم بلا قيد ولا شرط.
فهم من أجل هذا كله يحتفلون بوفاء الحلفاء كما يحتفلون بوفاء النيل. يوم من الأيام يمر وتتبعه أيام أخرى ليست خيرا منه، وعسى ألا تكون شرا منه. نعيم قد قسم للقلة، وبؤس قد فرض على الكثرة، وسلطان قد أتيح للقلة، وخضوع قد فرض على الكثرة، ومصالح الحكومة ودواوينها معطلة، والموظفون يستريحون في الدور، ويقطعون الوقت في الأندية، والشمس تشرق باسمة ساخرة، والليل يقبل عابسا مزدريا، والأعلام تخفق، والشعب يعمل، والمتنبي وأمثاله يرسمون على ثغورهم هذه الابتسامة الحزينة الكئيبة المرة، ويسألون في صوت ساخر حزين:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
1944
طيف
ألقى كل واحد منهما إلى صاحبه نظرة دهشة واجمة، فيها كثير من هذه الغفلة الحائرة التي تنشأ من المفاجأة، والتي تلم بالآمن المطمئن حين يفجأه من الأمر ما لم يكن ينتظر، بل ما لم يكن يخطر له ببال. وكانت النظرة التي ألقاها كل منهما إلى صاحبه خاطفة أول الأمر، ولكنها عادت فطالت واستقرت شيئا ما، ولزمت مع ذلك صمتا، إن صور شيئا فإنما يصور انعقاد اللسان حين تسيطر الحيرة على العقل فلا يفكر، وعلى القلب فلا يشعر، وعلى اللسان فلا يقول.
অজানা পৃষ্ঠা