فذهبت أمينة لترتدي ملاءتها وتصر ثيابها وكمال في أعقابها، وهنا خاطبت الجدة الشابين متسائلة بلهجة انتقادية خففتها بابتسامة رقيقة: أما كان الأخلق بأبيكما أن يأتي بنفسه؟!
فأجابها فهمي كالمعتذر قائلا: أنت أدرى يا جدتي بطبع أبينا.
على حين قال ياسين ضاحكا: فلنحمد الله على ما كان!
فهمهمت الجدة بأصوات غير مفهومة ثم تنهدت قائلة كأنما ترد على همهمتها: على أي حال السيد أحمد رجل ولا كل الرجال.
وغادروا البيت ودعاء الجدة لهم بالبركة يتردد في آذانهم، وقطعوا الطريق لأول مرة في حياتهم، حتى بدا المنظر في أعينهم بالغا في غرابته، فتبادل فهمي وياسين نظرات باسمة. وتذكر كمال يوم سار - كما يسير الآن - ممسكا بيد أمه يقودها من عطفة إلى عطفة، ثم ما تلا ذلك من آلام ومخاوف لا يحيط بها الكابوس نفسه، فتعجب طويلا، بيد أنه تناسى سريعا أحزان الماضي في فرحة الساعة، ووجد من نفسه ميلا للدعابة، فقال لأمه ضاحكا: تعالي نخطف أرجلنا إلى سيدنا الحسين!
فضحك ياسين بلهجة ذات معنى: رضي الله عنه، إنه شهيد يحب الشهداء.
ولاحت لهم المشربية وشبحان يتحركان وراء خصاصها فهفا قلب الأم إليهما في حنو واشتياق، ثم وجدت وراء الباب أم حنفي في استقبالها، فغمرت يدي سيدتها بالقبل، والتقت في فناء الدار بخديجة وعائشة اللتين تعلقتا بها كالأطفال، ورقوا السلم في مظاهرة صاخبة، ونشوة من الفرح مطربة، حتى استقروا جميعا في حجرتها، فتبادروا إلى نزع ملابسها - رمز الفراق البغيض - وهم يضجون بالضحك، فلما جلست بينهم كانت تلهث من الانفعال والتأثر، وأراد كمال أن يعبر عن فرحه بها، فلم يجد خيرا من أن يقول لها: هذا اليوم أعز عندي من المحمل نفسه!
واجتمع شمل الأسرة لأول مرة منذ زمن غير يسير في مجلس القهوة، فعادوا إلى السمر في جو من المسرة ضاعف من بهجته ما سبقه من أيام فراق وكآبة تزداد لذة اليوم الدفيء يجيء في أعقاب أسبوع من الزمهرير، ولم تنس الأم - التي استيقظت غرائزها رغم فرحة اللقيا - أن تسأل الفتاتين عن شئون البيت متدرجة من حجرة الفرن حتى اللبلاب والياسمين، كما سألت كثيرا عن الأب، وكم سرها أن تعلم أنه لم يسمح لأحد بمعاونته عند خلع ملابسه أو عند ارتدائها، فمهما يكن من أمر الراحة التي تهيأت له في غيابها، فثمة تغيير قد طرأ على نظام حياته حمله بلا ريب عناء سيزول بعودتها، عودتها التي تكفل له - وحدها - الحياة التي يألفها ويرتاح إليها! الشيء الوحيد الذي لم يخطر لأمينة على بال أن تكون بعض القلوب السعيدة بعودتها قد وجدت في هذه العودة بالذات مبررا لاجترار الحزن والأسى! ولكن هكذا كان، فهذه القلوب التي شغلت بحزن الأم عن أحزانها عادت إلى التفكير في أشجانها بعد أن اطمأنت على سلامة الأم كالمغص الشديد الطارئ ننسى به رمدا مزمنا حتى إذا ذهب عادتنا آلام الجفون، عاد فهمي يقول لنفسه: «لكل حزن - فيما يبدو - نهاية، هذه أمي قد رفع عنها الهم، ولكن حزني يبدو كأن لا نهاية له.» ورجعت عائشة إلى أفكارها التي لا يطلع على سرها أحد، تتراءى لها الأحلام وتلم بها الذكريات، وإن عدت بالقياس إلى أخيها أهدأ حالا، وأسرع إلى النسيان خطوة، ولكن أمينة لم تكن تقرأ الأفكار فلم ينغص عليها صفوها منغص، ولما آوت إلى حجرتها ليلا تبين لها أن النوم لا يجد متسعا في نفسها التي أفعمها الفرح فلم تذقه إلا لماما، حتى انتصف الليل، فغادرت الفراش إلى المشربية تنتظر كعهدها مسرحة البصر من خصاص النوافذ إلى الطريق الساهر، حتى جاءت العربة تتهادى حاملة بعلها إلى بيته، خفق قلبها بشدة، وتورد وجهها حياء وارتباكا، كأنها ستلقاه لأول مرة، وكأنها لم تفكر طويلا في هذه اللحظة ... لحظة اللقاء المنتظر، كيف تقابله؟ كيف يعاملها بعد هذه الغيبة الطويلة؟ ... ما عسى أن تقول له أو يقول لها؟ لو يسعها أن تتصنع النوم! ولكنها لا تجيد التمثيل قط، ولا تطيق أن يدخل عليها وهي مستلقية، بل لا يسعها أن تهمل واجب الخروج إلى السلم بالمصباح لتضيء له، وأكثر من هذا كله أنها بعد ظفرها بالعودة، وزوال السخط عنها - شاعت أريحية الرضا في قلبها، فعفت عما سلف، بل وحملت نفسها الذنب كله، حتى رأت بعلها - بالرغم من أنه لم يعن بالذهاب إلى بيت أمها لمصالحتها - حقيقا بالاسترضاء، فتناولت المصباح ومضت إلى السلم، ومدت ذراعها من فوق الدرابزين، ووقفت تتابع وقع القدمين المقتربتين بفؤاد خافق حتى صعد إليها، لقيته برأس مطأطأ فلم تر وجهه عند اللقاء، ولم تدر أي تغير طرأ عليه حين مرآها، حتى سمعته يقول لها بلهجة طبيعية لا أثر فيها من الماضي القريب الأسيف: مساء الخير.
فغمغمت: مساء الخير يا سيدي.
وذهب إلى الحجرة وهي في أثره رافعة يدها بالمصباح، وبدأ يخلع ملابسه صامتا، فتقدمت منه لمعاونته، وباشرت عملها وقلبها يردد أنفاس الراحة. ومع أنها ذكرت صباح القطيعة المشئوم حين نهض لارتداء ملابسه، وقال لها بجفاء: «سأرتدي ملابسي بنفسي.» إلا أن ذكراه خطرت عارية عن أحاسيس الألم واليأس التي غشيتها وقتذاك، وشعرت وهي تتعهده بهذه الخدمة التي لم يسمح بها لسواها بأنها تسترد أعز ما تملك في الوجود. واتخذ مجلسه على الكنبة فتربعت على الشلتة عند قدميه دون أن ينبس أحدهما بكلمة، وكانت تتوقع أن يشيع «الماضي الأسيف» بكلمة، نصيحة أو تحذير أو ما شابه ذلك، وعملت لذلك ألف حساب، ولكنه سألها ببساطة: كيف حال أمك؟
অজানা পৃষ্ঠা