وأغمض الرجل عينيه إعياء، وتثاءب، ثم تمطى وهو يقول: أخرجي المصباح إلى الصالة.
ونهضت المرأة قائمة وذهبت إلى الخوان، فتناولت المصباح ومضت إلى الباب، وقبل أن تجوز العتبة سمعت السيد وهو يتجشأ فتمتمت: صحة وعافية.
3
وفي هدوء الصباح الباكر، وذيول الفجر لا تزال ناشبة في أسهم الضياء، تعالى صوت العجين من حجرة الفرن بالفناء في ضربات متتابعة كدوي الطبل، وكانت أمينة قد غادرت الفراش قبل هذا بنحو نصف ساعة. فتوضأت وصلت ثم نزلت إلى حجرة الفرن، فأيقظت أم حنفي - امرأة في الأربعين خدمت وهي صبية بالبيت، وفارقته للزواج، ثم عادت إليه بعد طلاق - وبينما نهضت الخادم لتعجن عكفت أمينة على إعداد الفطور. وكان للبيت فناء متسع، في أقصاه إلى اليمين بئر سدت فوهتها بعارض خشبي مذ دبت أقدام الصغار على الأرض، وما تبع هذا من إدخال مواسير المياه، وفي أقصى اليسار على كثب من مدخل الحريم حجرتان كبيرتان أقيمت الفرن في إحداهما، واستعملت بالتالي مطبخا، وأعدت الأخرى مخزنا. وكان لحجرة الفرن على عزلتها علاقة بقلبها لا تهن، فلو حسب الزمن الذي قضته بين جدرانها لكان عمرا، إلى ما تتزين به الحجرة من مباهج المواسم عند حلولها حين تتطلع إليها القلوب الهاشة لأفراح الحياة، وتتحلب الأفواه لألوان الطعام الشهية التي تقدمها موسما بعد موسم كخشاف رمضان وقطائفه، وكعك عيد الفطر وفطائره، وخروف عيد الأضحى الذي يسمن ويدلل، ثم يذبح على مشهد من الأبناء فلا يعدم دمعة رثاء وسط بهجة شاملة، هنالك تبدو عين الفرن المقوسة يلوح في أعماقها وهج النار كجذوة السرور المشتعلة في السرائر، وكأنها زينة العيد وبشائره. وإذا كانت أمينة تشعر بأنها في أعلى البيت سيدة بالنيابة وممثلة لسلطان لا تملك منه شيئا، فهي في هذا المكان ملكة لا شريك لها في ملكها، فهذه الفرن تموت وتحيا بأمرها، وهذا الوقود من فحم وحطب في الركن الأيمن يتوقف مصيره على كلمة منها، والكانون الذي يحتل الركن المقابل تحت رفوف الحلل والأطباق والصينية النحاسية ينام أو يزغرد بألسنة اللهب بإشارة منها. وهي هنا الأم والزوجة والأستاذة والفنانة التي يترقب الجميع والثقة ملء قلوبهم ما تقدم يداها، وآية ذلك أنها لا تفوز بإطراء سيدها إذا تفضل بإطرائها إلا عن لون من الطعام أحكمت صنعه وطهيه، وأم حنفي كانت اليد اليمنى في هذه المملكة الصغيرة، سواء تصدت للإدارة والعمل أم تخلت عن مكانها لإحدى فتاتيها لتتمرس بفنها تحت إشرافها، وهي امرأة بدينة في غير تنسيق ولا تفصيل، نما لحمها نموا سخيا، فراعى في نموه السمنة فحسب وأهمل اعتبارات الجمال، بيد أنها رضيت عنه كل الرضا؛ لأنها كانت تعد السمنة في ذاتها الجمال كل الجمال. ولا عجب فقد كان كل عمل لها في البيت يكاد يعد ثانويا بالقياس إلى واجبها الأول، وهو تسمين الأسرة - أو بالأحرى إناثها - بما تعد لهن من «بلابيع» سحرية هي رقية الجمال وسره المكنون، ومع أن أثر البلابيع لم يكن ناجعا دائما إلا أنه برهن على جدارته في أكثر من مرة، فاستحق ما يناط به من آمال وأحلام. فليس عجيبا بعد هذا أن تسمن أم حنفي، على أن سمنتها لم تقلل من نشاطها، فما إن أيقظتها سيدتها حتى نهضت بنفس متفتحة للعمل، وخفت إلى «ماجور» العجين. وتعالى صوت العجين الذي يؤدي وظيفة جرس المنبه في هذا البيت، فترامى إلى الأبناء في الدور الأول، ثم تصاعد إلى الأب في الدور الأعلى، منذرا الجميع بأن وقت الاستيقاظ قد أزف. وتقلب السيد أحمد عبد الجواد على جنبيه ثم فتح عينيه، وسرعان ما قطب حانقا على الصوت الذي أزعج منامه، ولكنه كظم حنقه؛ لأنه كان يعلم أنه يجب أن يستيقظ، وتلقى أول إحساس يتلقاه عادة عقب استيقاظه وهو ثقل الرأس، فقاومه بقوة إرادته وجلس في فراشه وإن كانت تغلبه الرغبة في معاودة النوم. ولم تكن لياليه الصاخبة لتنسيه واجب النهار؛ فهو يستيقظ في هذه الساعة الباكرة مهما تأخر به وقت النوم، حتى يتسنى له الذهاب إلى متجره قبيل الثامنة، ثم له في القيلولة فسحة من وقت يعتاض بها عما فاته من نوم، ويستعيد نشاطه للسهرة الجديدة. لهذا كان وقت استيقاظه أسوأ أوقات يومه جميعا، يغادر الفراش مترنحا من الإعياء والدوار. ويستقبل حياة عاطلة من حلو الذكريات ولطيف المشاعر، وكأنها تستحيل دقا في الدماغ والجفون.
وتوالت دقات العجين على رءوس النائمين بالدور الأول، فاستيقظ فهمي، وكان استيقاظه يسيرا على رغم سهره عاكفا على كتب القانون، فإذا استيقظ فأول إحساس يبادره صورة وجه مستدير تتوسط صفحته العاجية عينان سوداوان، فيهمس باطنه قائلا: «مريم»، ولو أذعن لسلطان الإغراء للبث تحت الغطاء طويلا، خاليا إلى الخيال الزائر الذي جاء يصحبه بألطف الهوى، فيرنو إليه ما دعاه الشوق ويبادله الحديث ويبوح له بأسرار وأسرار، ويتدانى إليه بجسارة لا تتأتى في غير هذا الرقاد الدافئ في مطلع الصباح، ولكنه كعادته أجل نجواه إلى صباح الجمعة، وجلس في فراشه، ثم مد بصره إلى أخيه النائم في الفراش الذي يليه وهتف: ياسين ... ياسين ... اصح.
انقطع شخير الشاب، ونفخ فيما يشبه الضيق، وتمتم من أنفه: صاح ... استيقظت قبلك.
فانتظر فهمي مبتسما حتى عاود الآخر شخيره، فصاح به: اصح ...
فتقلب ياسين في فراشه متذمرا فانحسر الغطاء عن جانب من جسمه الذي يضاهي جسم والده ضخامة وبدانة، ثم فتح عينين محمرتين تلوح فيهما نظرة غائبة ارتسمت فوقها تقطيبة تنطق بالتذمر: «أف ... كيف طلع الصبح بهذه السرعة! ... لماذا لا ننام حتى نشبع ... النظام ... دائما النظام ... كأننا عساكر.» ونهض معتمدا على يديه وركبتيه، وهو يحرك رأسه لينفض عنه النعاس، فلاحت منه التفاتة إلى الفراش الثالث، حيث يغط كمال في نومه الذي لن ينتزعه منه أحد قبل نصف ساعة فغبطه عليه «يا له من غلام سعيد!» ولما أفاق قليلا تربع على الفراش وأسند رأسه إلى يديه، ورغب في معابثة الخواطر اللذيذة التي تحلو بها أحلام اليقظة، ولكنه كان يستيقظ - كأبيه - على حال من ثقل الرأس تتعطل معها الأحلام، ولاحت لمخيلته زنوبة العوادة، فلم تترك في حساسيته أثرا مما تترك في صحوه، وإن افترت شفتاه عن ابتسامة.
وفي الحجرة المجاورة كانت خديجة قد غادرت الفراش دون حاجة إلى منبه العجين. كانت أشبه الأسرة بأمها في نشاطها ويقظتها، أما عائشة فتستيقظ عادة على الحركة التي تنبعث في السرير من نهوض شقيقتها وانزلاقها إلى أرض الحجرة في عنف متعمد يجر وراءه جدلا وملاحاة انقلبا مع التكرار نوعا من الدعابة الفظة، فإذا استيقظت وفزعت من النقار لم تنهض، ولكنها تستسلم لحلم طويل من أحلام اليقظة السعيدة قبل أن تغادر فراشها.
ثم دبت الحياة فشملت الدور الأول كله، فتحت النوافذ وتدفق النور إلى الداخل، وعلى أثره هفا الهواء حاملا صلصلة عجلات سوارس وأصوات العمال ونداء بائع البليلة، وتواصلت الحركة ما بين غرفتي النوم والحمام وبدا ياسين في جلبابه الفضفاض بلحمه المتكتل، وفهمي بطوله الفارع وقده النحيف، وكان - فيما عدا نحافته - صورة من أبيه. وهبطت الفتاتان إلى الفناء؛ لتلحقا بأمهما في حجرة الفرن، وكان في صورتيهما اختلاف قل أن يوجد مثله في الأسرة الواحدة، خديجة سمراء وفي قسمات وجهها تنافر ملحوظ، وعائشة شقراء تشع هالة من حسن ورواء.
অজানা পৃষ্ঠা