বায়ন কাসরাইন

নজীব মাহফুজ d. 1427 AH
152

বায়ন কাসরাইন

بين القصرين

জনগুলি

نطق صوت الرجل بالاستنكار العنيف، كأنما عز عليه أن يحاول ابنه اللعب به .. وارتسم الوعيد في تجعدات عبوسته. فسارع فهمي - دفاعا عن النفس - إلى الاعتراف بشيء ذي بال ليقنع أباه بأنه امتثل لأمره كالمتهم الذي يتطوع بالاعتراف طمعا في الرأفة ... قال فيما يشبه الحياء: يحدث أحيانا أن نقوم بتوزيع بعض النداءات الحاثة على الوطنية ...

فتساءل السيد بانزعاج: المنشورات! ... هل تعني المنشورات؟!

ولكن فهمي هز رأسه سلبا، خاف أن يعترف بهذا الاسم الذي يقرن في البلاغات الرسمية بأقصى العقوبات، وقال بعد أن وجد صيغة مقبولة تخفف من خطورة اعترافه: ليست إلا نداءات تحث على حب الوطن.

ترك الرجل السبحة تسقط من يده إلى حجره، وراح يضرب كفا على كف، ويقول وهو لا يتمالك نفسه من الانزعاج: أنت من موزعي المنشورات! ... أنت!

زاغ بصر السيد من شدة الانزعاج والغضب: موزع منشورات! ... من الأصدقاء المجاهدين! ... كلانا يعمل في لجنة واحدة! ... هل بلغ الطوفان مرقده؟! ... طالما راعه فهمي بأدبه وبره وذكائه، لولا أن الثناء في نظره مفسدة، وأن الفظاظة تهذيب وتقويم لأوسعه ثناء، كيف انجلى هذا كله عن موزع منشورات ... مجاهد ... كلانا يعمل في لجنة واحدة؟! ... إنه لا يحتقر المجاهدين، هو أبعد ما يكون عن ذلك، طالما تابع أنباءهم بحماس، ودعا لهم عقب كل صلاة بالتوفيق، طالما ملأته أخبار الإضراب والتخريب والمعارك أملا وإعجابا، ولكن الأمر يختلف كل الاختلاف إذا صدر عمل من هذه الأعمال عن ابن من أبنائه، كأنهم جنس قام بذاته خارج نطاق التاريخ، هو وحده الذي يرسم لهم الحدود لا الثورة ولا الزمن ولا الناس، الثورة وأعمالها فضائل لا شك فيها ما دامت بعيدة عن بيته ... فإذا طرقت بابه، وإذا تهددت أمنه وسلامه وحياة أبنائه، تغير طعمها ولونها ومغزاها، انقلبت هوسا وجنونا وعقوقا وقلة أدب، فلتشتعل الثورة في الخارج، وليشارك فيها هو بقلبه كله، وليبذل لها ما في وسعه من مال ... وقد فعل، ولكن البيت له وحده دون شريك، ومن تحدثه نفسه - فيه - بالاشتراك في الثورة فهو ثائر عليه هو لا على الإنجليز، إنه يترحم ليل نهار على الشهداء، ويعجب كل الإعجاب بالشجاعة التي يتذرع بها آلهم فيما يروي الرواة، ولكنه لن يسمح لابن من أبنائه بأن ينضم إلى الشهداء، ولا تطيب نفسه بهذه الشجاعة التي يتذرع بها آلهم، فكيف سولت نفس فهمي له بالإقدام على هذه الخطوة الجنونية؟ ... كيف ارتضى - وهو خير أبنائه - أن يعرض نفسه إلى الهلاك المبين؟ ... انزعج الرجل انزعاجا لم يشعر بمثله من قبل، فاق انزعاجه في مأزق الجامع نفسه، فلم يتمالك أن يسأله بصرامة ووعيد كأنه أحد مفتشي البوليس الإنجليزي: ألا تعلم ما جزاء الذي يضبط وهو يوزع منشورات؟!

رغم خطورة الموقف وما يقتضيه من تركيز فكره فيه، أيقظ السؤال ذكرى قريبة اهتزت لها نفسه، ذكرى هذا السؤال نفسه بنصه ومعناه، حينما طرحه عليه الرئيس الأعلى للجنة الطلبة التنفيذية - بين جملة أسئلة أخرى - وهو بصدد اختياره عضوا فيها، ثم ذكر بالتالي كيف أجابه وقتذاك بعزم وحماس: «كلنا فداء للوطن»، وقارن بين الظرفين اللذين ألقي فيهما السؤال الواحد، فاعتراه شعور بالسخرية، بيد أنه أجاب والده برقة وبصوت يوحي بالتهوين: إني أقوم بالتوزيع بين الأصدقاء من الزملاء فقط، ولا شأن لي بالتوزيع العام ... فليس ثمة مخاطرة أو خطر ...

فهتف السيد بغلظة، وكأنه يداري خوفه على ابنه بحدة الغضب: إن الله لا يكتب السلامة لمن يعرض نفسه للهلاك، وقد أمرنا سبحانه بألا نعرض أنفسنا للتهلكة ...

ود الرجل أن يستشهد بالآية التي تترجم هذا المعنى، ولكنه لم يكن يحفظ من القرآن إلا السور القصيرة التي يتلوها في صلواته، فخاف أن يسهو عن لفظ أو يحرفه، فيحمل نفسه وزرا لا يغتفر، فاكتفى بترديد المعنى وكرره حتى بلغ مداه، ولكنه ما يدري إلا وفهمي يقول بلهجته المهذبة: ولكن الله يحث المؤمنين على الجهاد كذلك يا بابا.

ساءل فهمي نفسه فيما بعد متعجبا كيف واتته شجاعته على مجابهة السيد بهذا القول الذي فضح ما داراه من استمساك برأيه! ... لعله احتمى بالقرآن فوقف وراء معنى من معانيه مطمئنا إلى أن أباه سيحجم في تلك الحال عن مهاجمته، وقد بوغت السيد مباغتة شديدة بجرأة ابنه وحجته معا، ولكنه لم يستسلم للغضب؛ لأن الغضب ربما أسكت فهمي ولكنه لن يسكت حجته، فتناسى جرأته إلى حين ريثما يقرع حجته بحجة مثلها من القرآن نفسه، حتى تتم الهداية للابن الضال، وله بعد ذلك أن يعود إلى محاسبته كيفما شاء، وفتح الله عليه فقال: ذاك كان جهادا في سبيل الله.

اعتبر فهمي جواب أبيه قبولا للمناقشة والمحاجة، فتشجع مرة أخرى قائلا: جهادنا في سبيل الله كذلك ، كل جهاد شريف فهو في سبيل الله.

অজানা পৃষ্ঠা